بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مكتبة علوم القرآن
المواعظ الإيمانية من الآيات القرآنية
● [ سورة القلم ] ●
[ القلم -1 ]
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول تعالى "ن والقلم وما يسطرون (1) ما أنت بنعمة ربك بمجنون (2) وإن لك لأجرا غير ممنون (3) وإنك لعلى خلق عظيم (4) فستبصر ويبصرون (5) بأيكم المفتون (6) إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين (7)
سورةٌ مكيّة، شأنُها شأنُ السّور المكيّة، في الاهتمام ببيان أصول الدين وأركان الإيمان، التي أهمّها التوحيد والرسالة والبعث. لكنّ محورَ السورة وموضوعَها الرئيسيَّ هو الرسالةُ والرسول وموقف المشركين منهما.
استفتحت السورة بالقسَم من الربّ - عز وجل - على براءة نبيّه - صلى الله عليه وسلم - مما اتّهمه المشركون بقولهم شاعرٌ مجنون. ثم أثنى اللهُ على نبيّه لأخلاقه الحميدة وشهد له أنه بلغ أعلى درجات الأخلاق. ثم نهاه عن الاستجابة للمشركين فيما يدعونه إليه من أنصاف الحلول: ودوا لو تدهن فيدهنون.
ولقد كانت بعثةَ النبي - صلى الله عليه وسلم - نعمةً على قومه فكفروا بها، فضرب الله لهم مثلا بأصحاب الجنّة، وخوّفهم عاقبةَ الكفر والطغيان. ثم نفى التسويةَ بين المؤمنين والكافرين، وذكر شيئًا من أهوال اليوم الآخر، التي يظهر فيها الفرْقُ بين المؤمنين والكافرين جليّا.
وخُتمت السورة بأمرِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالصبر، وحذّرته من أن ينفد صبره فيكون كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم *لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم *فاجتباه ربه فجعله من الصالحين.
(ن) هذا حرف من الحروف الأبجدية المعروفة، وقد اختلف المفسرون في سرّ استفتاح الله - تعالى - بعض سور القرآن الكريم بمثل هذا الحرف، والراجح والله أعلم بأسرار كلامه أن الله - عز وجل - أراد أن يبطل زعمهم أن القرآن كلام محمد - صلى الله عليه وسلم - افتراه من عند نفسه، فقال لهم: إن القرآن مؤلف من هذه الحروف (ن)، (ق)، (ص)، (حم)، (طس) ونحوها وهي نفسها التي يتألف منها كلامكم، ومحمد واحد منكم، ولغته لغتكم، فإن كان افتراه فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين {الطور: 34}، فإن عجزوا فمحمد أعجز منهم، فليعلموا أنه كلام الله رب العالمين نزل به الروح الأمين، على قلب محمد ليكون من المنذرين.
قال - تعالى -: وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين (23) فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين {البقرة: 24}.
قوله - تعالى -: والقلم وما يسطرون (1) ما أنت بنعمة ربك بمجنون. هذا قَسَمٌ من الله - تعالى - بالقلم وبالكتابة. والله - سبحانه - يُقْسِمُ ببعض مخلوقاته إشارةً إلى عظمتها ومكانتها، فهذا القَسَمُ فيه إشارةٌ إلى الاهتمام بالكتابة التي هي أساسُ التعليم، لأنَّ هذا الدينَ الإسلام يقومُ على أساسٍ من العلم، ولذا كانت أول آياتِ القرآن نزولا: اقرأ باسم ربك الذي خلق *خلق الإنسان من علق *اقرأ وربك الأكرم *الذي علم بالقلم *علم الإنسان ما لم يعلم {العلق: 51}.
وقد كثرت الآياتُ والأحاديث في الحث على طلب العلم، وبيان فضلِه وشرفِه، وشرفِ حملته. وسبق في سورة المجادلة طرفٌ من ذلك.
وجواب القسم ما أنت بنعمة ربك بمجنون والمراد بالنعمة النّبوّة، وهي فضلُ الله يؤتيه من يشاء، و الله أعلم حيث يجعل رسالته {الأنعام: 124}، وما كان الله يبعث في الناس مجنونًا. والعجيبَ أنّ القومَ حين قالوا ما قالوا كانوا يعلمون كَذِبَ أنفسهم، إذ كيف يكونُ مجنونًا من كانوا يحكّمونه بينهم؟! وكيف يكون مجنونًا من لقبّوه دون عظمائهم بالصادق الأمين؟! ولكنّه البغي، والحسد، ولذا قال - تعالى - لنبيّه: قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون {الأنعام: 33} وفي قولهم هذا، وشهادة اللهِ لرسولِه - صلى الله عليه وسلم - بالبراءة منه، عزاءُ لكلّ مَنْ يُقالُ فيه من الدعاة ما ليس فيه، فليوّطنْ الدّعاةُ أنفسُهم على الصبر، وأن يحتسبوا الأجرَ عند الله على أيِّ أذًى يلحقهم بسبب الدعوة، فإنها سُنّةٌ مطّردَةٌ في الدعاة، ولذا قال لقمانُ لابنِه وهو يعظُه: يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور {لقمان: 17}. وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
[ القلم -2 ]
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :يقول - تعالى -: وإن لك لأجرا غير ممنون أي إنّ لك أجرًا دائمًا مستمرا لا ينقطع، على صبرك عليهم، وتبليغك رسالة ربك إليهم، مع تكذيبهم لك، وإعراضهم عنك. وإنك لعلى خلق عظيم وإنها لشهادةٌ عظيمةٌ من العليّ العظيم، لنبيّه العظيم، بعظمةِ أخلاقه، فلئن جاز لحملةِ الشهادات أن يعلّقوها على الجدران، فإن هذه الشهادة تستحقّ أن تكتب بسبائك الذهب وتعلق على جدران الفضة، لأنها من الله وكفى بالله شهيدا {النساء: 166}. عن سعيد بن هشام قال: سألت عائشة فقلت: أخبريني يا أمّ المؤمنين عن خُلُقِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. فقالت: أتقرأ القرآنَ؟ فقلت: نعم. فقالت: كان خُلُقُه القرآن. {صحيح،
ومعنى هذا أنه - عليه الصلاة والسلام - صار امتثالُ القرآن أمرًا ونهيا سجيةً له، وخُلُقًا تطبّعه وترك طَبْعَه الجبلّي، فمهما أمره القرآنُ فعله، ومهما نهاه عنه تركه، هذا مع ما جَبَله الله عليه من الخلق العظيم، من الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم وكلِّ خُلُقٍ جميل، كما ثبت عن أنس قال خدمت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عَشْرَ سنين، فما قال لي أُفٍّ قط، ولا قال لشيءٍ فعلتُه: لم فعلته، ولا لشيءٍ لم أفعلْه ألا فعلتَه؟ وكان - صلى الله عليه وسلم - أحسنَ الناس خُلُقًا، ولا مسستُ خزا ولا حريرًا ولا شيئًا كان ألينَ مِنْ كفّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا شممتُ مِسْكًا ولا عِطْرًا كان أطيبَ مِنْ عَرَقِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. {حسن صحيح،
والأحاديث في هذا كثيرة. ولأبي عيسى الترمذي في هذا كتاب الشمائل.
ولقد كان - صلى الله عليه وسلم - يحثُّ على مكارم الأخلاق ويرغب فيها، فكان يقول: "أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنهم خُلُقًا، وخيارُكم خيارُكم لنسائهم. {حسن صحيح )
وكان يقول: "إن المؤمن ليدركُ بحسن خُلُقِه درجة الصائم القائم". {صحيح، رواه: د(4777-154-13)}وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما مِنْ شيءٍ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حُسْنِ الخُلُق، وإن الله يُبغض الفاحش البذيء{صحيح،
وهو الذي يتكلم بالفحش ورديء الأخلاق. فعليك يا عبد الله بحسن الخلق، وإياك وسوء الخلق، واعلم أنه لا يهدي لأحسن الأخلاق إلا الله، ولا يصرف شيئًا إلا هو، ففر إلى الله بالدعاء الدائم وقُلْ: اللّهمّ كما حسّنَتَ خَلْقي حسّن خُلُقي.
وبعد هذا الثناء الكريم على عبده يطمئنُه إلى غده مع المشركين الذين رموه بذلك البهتُ اللئيم، ويهدّدهم بافتضاح أمرهم وانكشافِ بطلانهم وضلالهم المبين، فيقول: فستبصر ويبصرون *بأيكم المفتون أي: فستعلم يا نبينا ويعلم مخالفوك ومكذّبوك مَنِ الضَّالُّ أنت أم هم؟ لقد قال قومُ ثمود من قبل لنبيهم صالح: بل هو كذاب أشر {القمر: 25}، فقال - تعالى -: سيعلمون غدا من الكذاب الأشر {القمر: 26} هم أم صالح؟. وها هم المشركون يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم - شاعرٌ مجنون؟ أتواصوا به بل هم قوم طاغون {الذاريات: 53}، والله - تعالى - يتوعدهم بالفضيحة على رءوسِ الأشهاد يوم القيامة، فيقول لنبيّه - صلى الله عليه وسلم -: فستبصر ويبصرون *بأيكم المفتون "وهذا الوعد من الله يشير إلى أن الغد سيكشفُ عن حقيقة النبي وحقيقة مكذبيه، ويثبت أيّهم الممتحن بما هو فيه، أو أيّهم الضال فيما يدعيه. ويطمئنه إلى أن ربه هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين وربه هو الذي أوحى إليه، فهو يعلم أنه المهتدي ومن معه، وفي هذا ما يطمئنه وما يقلق أعداءه، وما يبعث في قلوبهم التوجّس والقلق لما سيجئ".
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
[ القلم -3 ]
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
وقوله - تعالى -: ولا تطع كل حلاف مهين وكثرةُ الحلف عنوانُ الكذب، فلا يلجأ إلى كثرة الحلف إلا الكذّاب، أما الصادق فلا يلجأ إلى الحلق أبدا، ولاسيما إذا رُفع ذكرُه، وعُرفَ بين الناس بصدقه. والكذّاب يكذّب نفسّه قبل أن يكذّبه غيرُه، فيلجأ إلى الأَيمان الكاذبة ليصدّقه الناس، وهو يعلم أنّه كاذب. وقد وصف الله كل حلاف بأنه مهين، أي حقير ذليل، قال الحسن: كلّ حلاف مكابر مهين ضعيف. "والمهانة صفةٌ نفسية لا تفارق النفس الكريمة ولو تجردت من كل أعراض الحياة الدنيا". وقوله - تعالى -: هماز أي يهمز الناس ويعيبهم، وقد توعده الله - سبحانه - بالحُطمة، فقال: ويل لكل همزة لمزة *الذي جمع مالا وعدده *يحسب أن ماله أخلده *كلا لينبذن في الحطمة *وما أدراك ما الحطمة *نار الله الموقدة *التي تطلع على الأفئدة *إنها عليهم مؤصدة *في عمد ممددة {الهمزة: 1-9}. والهمز واللمز خُلُقٌ ذميم، نهى الله - تعالى - عنه فقال: يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون {الحجرات: 11}.
وأما قوله - تعالى -: مشاء بنميم فهو الذي يمشي بين الناس، ويحرّش بينهم وينقل كلام الناس ليوقع بينهم، وهذا من شر الناس عند الله يوم القيامة، كما جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أنبئكم بشراركم؟ المشّاءون بالنميمة، المفرقون بين الأحبّة، الباغون للبرءاء العنت". وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن النميمةَ من الأسباب الموجبة لعذاب القبر، ففي الصحيحين عن ابن عباس قال: مرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقبرين فقال: "إنّهما يعذبان، وما يعذّبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة". {متفق عليه،
كما أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن الذي يمشي بالنميمة لا يدخل الجنة، فقال: "لا يدخل الجنة قتّات". {متفق عليه، )
وقوله - تعالى -: مناع للخير أي يمنع الخير عن نفسه وعن غيره، لقد منع عن نفسه الإيمان وهو جماع الخير، كما منعه عن غيره، بالصدّ عنه والنهي عنه. والمنَّاع للخير من أهل جهنم، كما يقول الله - تعالى - لملائكته يوم القيامة: ألقيا في جهنم كل كفار عنيد *مناع للخير معتد مريب *الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد {ق: 24-26}. وهو مع منعه الخير عن الناس معتد أثيم فلم يسلم الناس من شرّه وأذاه، حين منعهم خيره، بل جمع بين الشرين: فمنع عنهم الخير وأوصل إليهم الضرر والأذى. وقوله - تعالى -: عتل وهو الفظّ الغليظ، الصحيح، الجموع، المنوع، وهذه صفة أهل النار والعياذ بالله، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أنبّئكم بأهل الجنة: كلُّ ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره. ألا أنبئكم بأهل النار: كل عُتُلٍّ جَوّاظٍ مستكبر". {متفق عليه،
وقوله - تعالى -: بعد ذلك زنيم أي بعد هذه الصفات الذميمة فهو زنيم، وقد ذكر المفسرون في معنى هذه الصفة أقوالا كثيرة أرجحها قولان:
الأول: الزنيم هو الرجل المعروف بلُؤْمِه وخُبْثِه، حتى كأنّ به علامةً يعرف بها.
والثاني: أن الزنيم هو الدعيُّ الذي لا يُعْرَفُ نسبُه.
وقوله - تعالى -: أن كان ذا مال وبنين *إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين؟! معناه هل هذا جزاء إنعامي عليه بالمال والبنين؟ و هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ فبدلا من أن يبادر إلى شكري بالإيمان لي وتصديق رسولي، جعل شكره التكذيب بآياتي، وقال أساطير الأولين! ومِنْ ثَمّ يجيء التهديد: سنسمه على الخرطوم على الأنف والعرب تعبّر عن العّزة والذِلّة بوصف الأنف، فتقول: أَنْفٌ أَشَمّ. للعزيز. وأَنْفٌ في الرّغام. للذليل.ومنه قولهم: رَغِمَ أَنْفُ فُلانِ، أي: ذُل، لأن أكرمَ ما في الإنسان وَجْهُه، وأَعْلَى ما في الوجه الأَنْفُ، فإذا رَغِمَ الأنفُ أي لَصِقَ بالتراب فذلك عُنوان الذّلة.أعاذنا الله وسائر المسلمين من ذلّ الدنيا وعذاب الآخرة.
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
● [ سورة المنافقون ] ●
[ المنافقون -1 ]
[ المنافقون -1 ]