بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مختارات من فتح البارى
شرح صحيح البخارى
كتاب الإيمان
باب حُبُّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْإِيمَانِ
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رَضِى اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ ).
الشرح
قوله: (شعيب) هو ابن أبى حمزة الحمصى، واسم أبى حمزة دينار. وقد أثمر المصنف من تخريج حديثه عن الزهرى وأبى الزناد. ووقع فى غرائب مالك للدار قطنى إدخال رجل - وهو أبو سلمة بن عبد الرحمن - بين الأعرج وأبى هريرة فى هذا الحديث. وهى زيادة شاذة. فقد رواه الإسماعيلى بدونها من حديث مالك، ومن حديث إبراهيم بن طهمان. وروى ابن منده من طريق أبى حاتم الرازى عن أبى اليمان شيخ البخارى هذا الحديث مصرحا فيه بالتحديث فى جميع الإسناد، وكذا النسائى من طريق على بن عياش عن شعيب.
قوله: (والذى نفسى بيده) فيه جواز الحلف على الأمر المهم توكيدا وإن لم يكن هناك مستحلف.
قوله: (لا يؤمن) أى: إيمانا كاملا.
قوله: (أحب) هو أفعل بمعنى المفعول، وهو مع كثرته على خلاف القياس، وفصل بينه وبين معموله بقوله: "إليه" لأن الممتنع الفصل بأجنبى.
قوله: (من والده وولده) قدم الوالد للأكثرية لأن كل أحد له والد من غير عكس. وفى رواية النسائى فى حديث أنس تقديم الولد على الوالد، وذلك لمزيد الشفقة. ولم تختلف الروايات فى ذلك فى حديث أبى هريرة هذا، وهو من أفراد البخارى عن مسلم.
حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . ح و حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:( لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ).
الشرح
قوله: (أخبرنا يعقوب بن إبراهيم) هو الدورقى. والتفريق بين"حدثنا"و"أخبرنا"لا يقول به المصنف كما يأتى فى العلم.
(1/59) وقد وقع فى غير رواية أبى ذر"حدثنا يعقوب".
قوله: (وحدثنا آدم) عطف الإسناد الثانى على الأول قبل أن يسوق المتن فأوهم استواءهما، فإن لفظ قتادة مثل لفظ حديث أبى هريرة، لكن زاد فيه: " والناس أجمعين "، ولفظ عبد العزيز مثله إلا أنه قال كما رواه ابن خزيمة فى صحيحه عن يعقوب شيخ البخارى بهذا الإسناد: " من أهله وماله " بدل من والده وولده، وكذا لمسلم من طريق ابن علية، وكذا للإسماعيلى من طريق عبد الوارث بن سعيد عن عبد العزيز ولفظه: " لا يؤمن الرجل " وهو أشمل من جهة، و" أحدكم " أشمل من جهة، وأشمل منهما رواية الأصيلى: " لا يؤمن أحدكم ". فإن قيل: فسياق عبد العزيز مغاير لسياق قتادة، وصنيع البخارى يوهم اتحادهما فى المعنى وليس كذلك. فالجواب: أن البخارى يصنع مثل هذا نظرا إلى أصل الحديث لا إلى خصوص ألفاظه، واقتصر على سياق قتادة لموافقته لسياق حديث أبى هريرة، ورواية شعبة عن قتادة مأمون فيها من تدليس قتادة، لأنه كان لا يسمع منه إلا ما سمعه، وقد وقع التصريح به فى هذا الحديث فى رواية النسائى، وذكر الولد والوالد أدخل فى المعنى لأنهما أعز على العاقل من الأهل والمال، بل ربما يكونان أعز من نفسه، ولهذا لم يذكر النفس أيضا فى حديث أبى هريرة، وهل تدخل الأم فى لفظ الوالد إن أريد به من له الولد فيعم، أو يقال: اكتفى بذكر أحدهما كما يكتفى عن أحد الضدين بالآخر، ويكون ما ذكر على سبيل التمثيل والمراد الأعزة، كأنه قال: أحب إليه من أعزته، وذكر الناس بعد الوالد والولد من عطف العام على الخاص وهو كثير، وقدم الوالد على الولد فى رواية لتقدمه بالزمان والإجلال، وقدم الولد فى أخرى لمزيد الشفقة. وهل تدخل النفس فى عموم قوله " والناس أجمعين " الظاهر دخوله. وقيل: إضافة المحبة إليه تقتضى خروجه منهم، وهو بعيد، وقد وقع التنصيص بذكر النفس فى حديث عبد الله بن هشام كما سيأتى . والمراد بالمحبة هنا: حب الاختيار لا حب الطبع، قاله الخطابى. وقال النووى: فيه تلميح إلى قضية النفس الأمارة والمطمئنة، فإن من رجح جانب المطمئنة كان حبه للنبى - صلى الله عليه وسلم - راجحا، ومن رجح جانب الأمارة كان حكمه بالعكس. وفى كلام القاضى عياض أن ذلك شرط فى صحة الإيمان، لأنه حمل المحبة على معنى التعظيم والإجلال. وتعقبه صاحب المفهم بأن ذلك ليس مرادا هنا، لأن اعتقاد الأعظمية ليس مستلزما للمحبة، إذ قد يجد الإنسان إعظام شيء مع خلوه من محبته. قال: فعلى هذا من لم يجد من نفسه ذلك الميل لم يكمل إيمانه، وإلى هذا يومئ قول عمر الذى رواه المصنف فى" الأيمان والنذور " من حديث عبد الله بن. هشام أن عمر بن الخطاب قال للنبى - صلى الله عليه وسلم: " لأنت يا رسول الله أحب إلى من كل شيء إلا من نفسى. فقال: لا والذى نفسى بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك. فقال له عمر: فإنك الآن والله أحب إلى من نفسى. فقال: الآن يا عمر " انتهى. فهذه المحبة ليست باعتقاد الأعظمية فقط، فإنها كانت حاصلة لعمر قبل ذلك قطعا. ومن علامة الحب المذكور أن يعرض على المرء أن لو خير بين فقد غرض من أغراضه أو فقد رؤية النبى - صلى الله عليه وسلم - أن لو كانت ممكنة، فإن كان فقدها أن لو كانت ممكنة أشد عليه من فقد شيء من أغراضه فقد اتصف بالأحبية المذكورة، ومن لا فلا. وليس ذلك محصورا فى الوجود والفقد، بل يأتى مثله فى نصرة سنته، والذب عن شريعته، وقمع مخالفيها. ويدخل فيه باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. وفى هذا الحديث إيماء إلى فضيلة التفكر، فإن الأحبية المذكورة تعرف به، وذلك أن محبوب الإنسان إما نفسه وإما غيرها. أما نفسه: فهو أن يريد دوام بقائها سالمة من الآفات، هذا هو حقيقة المطلوب. وأما غيرها: فإذا حقق الأمر فيه فإنما هو بسبب تحصيل نفع ما على وجوهه المختلفة حالا ومآلا. فإذا تأمل النفع الحاصل له من جهة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذى أخرجه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، إما بالمباشرة وإما بالسبب،
(1/60) علم أنه سبب بقاء نفسه البقاء الأبدى فى النعيم السرمدى، وعلم أن نفعه بذلك أعظم من جميع وجوه الانتفاعات، فاستحق لذلك أن يكون حظه من محبته أوفر من غيره، لأن النفع الذى يثير المحبة حاصل منه أكثر من غيره، ولكن الناس يتفاوتون فى ذلك بحسب استحضار ذلك والغفلة عنه. ولا شك أن حظ الصحابة - رضى الله عنهم - هذا المعنى أتم، لأن هذا ثمرة المعرفة، وهم بها أعلم، والله الموفق.
وقال القرطبى: كل من آمن بالنبى -صلى الله عليه وسلم -إيمانا صحيحا لا يخلو عن وجدان شيء من تلك المحبة الراجحة، غير أنهم متفاوتون. فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظ الأوفى، ومنهم من أخذ منها بالحظ الأدنى، كمن كان مستغرقا فى الشهوات محجوبا فى الغفلات فى أكثر الأوقات، لكن الكثير منهم إذا ذكر النبى - صلى الله عليه وسلم - اشتاق إلى رؤيته، بحيث يؤثرها على أهله وولده وماله ووالده، ويبذل نفسه فى الأمور الخطيرة ، ويجد مخبر ذلك من نفسه وجدانا لا تردد فيه. وقد شوهد من هذا الجنس من يؤثر زيارة قبره، ورؤية مواضع آثاره على جميع ما ذكر، لما وقر فى قلوبهم من محبته. غير أن ذلك سريع الزوال بتوالى الغفلات، والله المستعان. انتهى ملخصا.
فتح البارى . للإمام ابن حجر العسقلانى
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رَضِى اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ ).
الشرح
قوله: (شعيب) هو ابن أبى حمزة الحمصى، واسم أبى حمزة دينار. وقد أثمر المصنف من تخريج حديثه عن الزهرى وأبى الزناد. ووقع فى غرائب مالك للدار قطنى إدخال رجل - وهو أبو سلمة بن عبد الرحمن - بين الأعرج وأبى هريرة فى هذا الحديث. وهى زيادة شاذة. فقد رواه الإسماعيلى بدونها من حديث مالك، ومن حديث إبراهيم بن طهمان. وروى ابن منده من طريق أبى حاتم الرازى عن أبى اليمان شيخ البخارى هذا الحديث مصرحا فيه بالتحديث فى جميع الإسناد، وكذا النسائى من طريق على بن عياش عن شعيب.
قوله: (والذى نفسى بيده) فيه جواز الحلف على الأمر المهم توكيدا وإن لم يكن هناك مستحلف.
قوله: (لا يؤمن) أى: إيمانا كاملا.
قوله: (أحب) هو أفعل بمعنى المفعول، وهو مع كثرته على خلاف القياس، وفصل بينه وبين معموله بقوله: "إليه" لأن الممتنع الفصل بأجنبى.
قوله: (من والده وولده) قدم الوالد للأكثرية لأن كل أحد له والد من غير عكس. وفى رواية النسائى فى حديث أنس تقديم الولد على الوالد، وذلك لمزيد الشفقة. ولم تختلف الروايات فى ذلك فى حديث أبى هريرة هذا، وهو من أفراد البخارى عن مسلم.
حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . ح و حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:( لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ).
الشرح
قوله: (أخبرنا يعقوب بن إبراهيم) هو الدورقى. والتفريق بين"حدثنا"و"أخبرنا"لا يقول به المصنف كما يأتى فى العلم.
(1/59) وقد وقع فى غير رواية أبى ذر"حدثنا يعقوب".
قوله: (وحدثنا آدم) عطف الإسناد الثانى على الأول قبل أن يسوق المتن فأوهم استواءهما، فإن لفظ قتادة مثل لفظ حديث أبى هريرة، لكن زاد فيه: " والناس أجمعين "، ولفظ عبد العزيز مثله إلا أنه قال كما رواه ابن خزيمة فى صحيحه عن يعقوب شيخ البخارى بهذا الإسناد: " من أهله وماله " بدل من والده وولده، وكذا لمسلم من طريق ابن علية، وكذا للإسماعيلى من طريق عبد الوارث بن سعيد عن عبد العزيز ولفظه: " لا يؤمن الرجل " وهو أشمل من جهة، و" أحدكم " أشمل من جهة، وأشمل منهما رواية الأصيلى: " لا يؤمن أحدكم ". فإن قيل: فسياق عبد العزيز مغاير لسياق قتادة، وصنيع البخارى يوهم اتحادهما فى المعنى وليس كذلك. فالجواب: أن البخارى يصنع مثل هذا نظرا إلى أصل الحديث لا إلى خصوص ألفاظه، واقتصر على سياق قتادة لموافقته لسياق حديث أبى هريرة، ورواية شعبة عن قتادة مأمون فيها من تدليس قتادة، لأنه كان لا يسمع منه إلا ما سمعه، وقد وقع التصريح به فى هذا الحديث فى رواية النسائى، وذكر الولد والوالد أدخل فى المعنى لأنهما أعز على العاقل من الأهل والمال، بل ربما يكونان أعز من نفسه، ولهذا لم يذكر النفس أيضا فى حديث أبى هريرة، وهل تدخل الأم فى لفظ الوالد إن أريد به من له الولد فيعم، أو يقال: اكتفى بذكر أحدهما كما يكتفى عن أحد الضدين بالآخر، ويكون ما ذكر على سبيل التمثيل والمراد الأعزة، كأنه قال: أحب إليه من أعزته، وذكر الناس بعد الوالد والولد من عطف العام على الخاص وهو كثير، وقدم الوالد على الولد فى رواية لتقدمه بالزمان والإجلال، وقدم الولد فى أخرى لمزيد الشفقة. وهل تدخل النفس فى عموم قوله " والناس أجمعين " الظاهر دخوله. وقيل: إضافة المحبة إليه تقتضى خروجه منهم، وهو بعيد، وقد وقع التنصيص بذكر النفس فى حديث عبد الله بن هشام كما سيأتى . والمراد بالمحبة هنا: حب الاختيار لا حب الطبع، قاله الخطابى. وقال النووى: فيه تلميح إلى قضية النفس الأمارة والمطمئنة، فإن من رجح جانب المطمئنة كان حبه للنبى - صلى الله عليه وسلم - راجحا، ومن رجح جانب الأمارة كان حكمه بالعكس. وفى كلام القاضى عياض أن ذلك شرط فى صحة الإيمان، لأنه حمل المحبة على معنى التعظيم والإجلال. وتعقبه صاحب المفهم بأن ذلك ليس مرادا هنا، لأن اعتقاد الأعظمية ليس مستلزما للمحبة، إذ قد يجد الإنسان إعظام شيء مع خلوه من محبته. قال: فعلى هذا من لم يجد من نفسه ذلك الميل لم يكمل إيمانه، وإلى هذا يومئ قول عمر الذى رواه المصنف فى" الأيمان والنذور " من حديث عبد الله بن. هشام أن عمر بن الخطاب قال للنبى - صلى الله عليه وسلم: " لأنت يا رسول الله أحب إلى من كل شيء إلا من نفسى. فقال: لا والذى نفسى بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك. فقال له عمر: فإنك الآن والله أحب إلى من نفسى. فقال: الآن يا عمر " انتهى. فهذه المحبة ليست باعتقاد الأعظمية فقط، فإنها كانت حاصلة لعمر قبل ذلك قطعا. ومن علامة الحب المذكور أن يعرض على المرء أن لو خير بين فقد غرض من أغراضه أو فقد رؤية النبى - صلى الله عليه وسلم - أن لو كانت ممكنة، فإن كان فقدها أن لو كانت ممكنة أشد عليه من فقد شيء من أغراضه فقد اتصف بالأحبية المذكورة، ومن لا فلا. وليس ذلك محصورا فى الوجود والفقد، بل يأتى مثله فى نصرة سنته، والذب عن شريعته، وقمع مخالفيها. ويدخل فيه باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. وفى هذا الحديث إيماء إلى فضيلة التفكر، فإن الأحبية المذكورة تعرف به، وذلك أن محبوب الإنسان إما نفسه وإما غيرها. أما نفسه: فهو أن يريد دوام بقائها سالمة من الآفات، هذا هو حقيقة المطلوب. وأما غيرها: فإذا حقق الأمر فيه فإنما هو بسبب تحصيل نفع ما على وجوهه المختلفة حالا ومآلا. فإذا تأمل النفع الحاصل له من جهة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذى أخرجه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، إما بالمباشرة وإما بالسبب،
(1/60) علم أنه سبب بقاء نفسه البقاء الأبدى فى النعيم السرمدى، وعلم أن نفعه بذلك أعظم من جميع وجوه الانتفاعات، فاستحق لذلك أن يكون حظه من محبته أوفر من غيره، لأن النفع الذى يثير المحبة حاصل منه أكثر من غيره، ولكن الناس يتفاوتون فى ذلك بحسب استحضار ذلك والغفلة عنه. ولا شك أن حظ الصحابة - رضى الله عنهم - هذا المعنى أتم، لأن هذا ثمرة المعرفة، وهم بها أعلم، والله الموفق.
وقال القرطبى: كل من آمن بالنبى -صلى الله عليه وسلم -إيمانا صحيحا لا يخلو عن وجدان شيء من تلك المحبة الراجحة، غير أنهم متفاوتون. فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظ الأوفى، ومنهم من أخذ منها بالحظ الأدنى، كمن كان مستغرقا فى الشهوات محجوبا فى الغفلات فى أكثر الأوقات، لكن الكثير منهم إذا ذكر النبى - صلى الله عليه وسلم - اشتاق إلى رؤيته، بحيث يؤثرها على أهله وولده وماله ووالده، ويبذل نفسه فى الأمور الخطيرة ، ويجد مخبر ذلك من نفسه وجدانا لا تردد فيه. وقد شوهد من هذا الجنس من يؤثر زيارة قبره، ورؤية مواضع آثاره على جميع ما ذكر، لما وقر فى قلوبهم من محبته. غير أن ذلك سريع الزوال بتوالى الغفلات، والله المستعان. انتهى ملخصا.
فتح البارى . للإمام ابن حجر العسقلانى