بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مختارات من فتح البارى
شرح صحيح البخارى
كتاب الإيمان
بَاب مِنْ الْإِيمَانِ أَنْ يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ
بَاب مِنْ الْإِيمَانِ أَنْ يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ، حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِى اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَعَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ قَالَ : حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال َ: ( لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ).
الشرح
(1/57) قوله : (باب من الإيمان) قال الكرمانى: قدم لفظ الإيمان بخلاف أخواته حيث قال : " إطعام الطعام من الإيمان " إما للاهتمام بذكره أو للحصر، كأنه قال : المحبة المذكورة ليست إلا من الإيمان. قلت : وهو توجيه حسن، إلا أنه يرد عليه أن الذى بعده أليق بالاهتمام والحصر معا، وهو قوله : " باب حب الرسول من الإيمان ". فالظاهر أنه أراد التنويع فى العبارة، ويمكن أنه اهتم بذكر حب الرسول فقدمه. والله أعلم.
قوله : (يحيى) هو ابن سعيد القطان. قوله: (وعن حسين المعلم) هو ابن ذكوان، وهو معطوف على شعبة. فالتقدير عن شعبة وحسين كلاهما عن قتادة، وإنما لم يجمعهما لأن شيخه أفردهما، فأورده المصنف معطوفا اختصارا، ولأن شعبة قال: عن قتادة، وقال حسين: حدثنا قتادة. وأغرب بعض المتأخرين فزعم أنه طريق حسين معلقة، وهو غلط، فقد رواه أبو نعيم فى المستخرج من طريق إبراهيم الحربى عن مسدد شيخ المصنف عن يحيى القطان عن حسين المعلم. وأبدى الكرمانى كعادته بحسب التجويز العقلى أن يكون تعليقا أو معطوفا على قتادة، فيكون شعبة رواه عن حسين عن قتادة، إلى غير ذلك مما ينفر عنه من مارس شيئا من علم الإسناد. والله المستعان.
(تنبيه) المتن المساق هنا لفظ شعبة، وأما لفظ حسين من رواية مسدد التى ذكرناها فهو : ( لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه ولجاره )، وللإسماعيلى من طريق روح عن حسين : ( حتى يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير ) فبين المراد بالأخوة، وعين جهة الحب. وزاد مسلم فى أوله عن أبى خيثمة عن يحيى القطان : ( والذى نفسى بيده )، وأما طريق شعبة فصرح أحمد والنسائى فى روايتهما بسماع قتادة له من أنس، فانتفت تهمة تدليسه.
قوله: (لا يؤمن) أى: من يدعى الإيمان، أحد" ولابن عساكر:"عبد"وكذا لمسلم عن أبى خيثمة، والمراد بالنفى كمال الإيمان، ونفى اسم الشيء - على معنى نفى الكمال عنه - مستفيض فى كلامهم كقولهم : فلان ليس بإنسان. فإن قيل : فيلزم أن يكون من حصلت له هذه الخصلة مؤمنا كاملا وإن لم يأت ببقية الأركان. أجيب: بأن هذا ورد مورد المبالغة، أو يستفاد من قوله لأخيه المسلم ) ملاحظة بقية صفات المسلم. وقد صرح ابن حبان من رواية ابن أبى عدى عن حسين المعلم بالمراد ولفظه لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان ) ومعنى الحقيقة هنا الكمال، ضرورة أن من لم يتصف بهذه الصفة لا يكون كافرا، وبهذا يتم استدلال المصنف على أنه يتفاوت، وأن هذه الخصلة من شعب الإيمان، وهى داخلة فى التواضع على ما سنقرره. قوله : (حتى يحب) بالنصب لأن حتى جارة وأن بعدها مضمرة، ولا يجوز الرفع فتكون حتى عاطفة فلا يصح المعنى، إذ عدم الإيمان ليس سببا للمحبة.
قوله: (ما يحب لنفسه) أى: من الخير كما تقدم عن الإسماعيلى، وكذا هو عند النسائى، وكذا عند ابن منده من رواية همام عن قتادة أيضا. و"الخير ": كلمة جامعة تعم الطاعات والمباحات الدنيوية والأخروية، وتخرج المنهيات لأن اسم الخير لا يتناولها. والمحبة: إرادة ما يعتقده خيرا، قال النووى: المحبة الميل إلى ما يوافق المحب، وقد تكون بحواسه كحسن الصورة، أو بفعله إما لذاته كالفضل والكمال، وإما لإحسانه كجلب نفع أو دفع ضرر. انتهى ملخصا.
(1/58) والمراد بالميل هنا: الاختيارى دون الطبيعى والقسرى، والمراد أيضا أن يحب أن يحصل لأخيه نظير ما يحصل له، لا عينه، سواء كان فى الأمور المحسوسة أو المعنوية، وليس المراد أن يحصل لأخيه ما حصل له لا مع سلبه عنه ولا مع بقائه بعينه له، إذ قيام الجوهر أو العرض بمحلين محال. وقال أبو الزناد بن سراج: ظاهر هذا الحديث طلب المساواة، وحقيقته تستلزم التفضيل. لأن كل أحد يحب أن يكون أفضل من غيره، فإذا أحب لأخيه مثله فقد دخل فى جملة المفضولين. قلت : أقر القاضى عياض هذا، وفيه نظر. إذ المراد الزجر عن هذه الإرادة، لأن المقصود الحث على التواضع. فلا يحب أن يكون أفضل من غيره، فهو مستلزم للمساواة. ويستفاد ذلك من قوله تعالى : (تلك الدار الآخرة تجعلها للذين لا يريدون علوا فى الأرض ولا فسادا) ، ولا يتم ذلك إلا بترك الحسد والغل والحقد والغش، وكلها خصال مذمومة.
(فائدة) قال الكرمانى : ومن الإيمان أيضا أن يبغض لأخيه ما يبغض لنفسه من الشر، ولم يذكره لأن حب الشيء مستلزم لبغض نقيضه، فترك التنصيص عليه اكتفاء. والله أعلم.
فتح البارى . للإمام ابن حجر العسقلانى
بَاب مِنْ الْإِيمَانِ أَنْ يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ، حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِى اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَعَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ قَالَ : حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال َ: ( لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ).
الشرح
(1/57) قوله : (باب من الإيمان) قال الكرمانى: قدم لفظ الإيمان بخلاف أخواته حيث قال : " إطعام الطعام من الإيمان " إما للاهتمام بذكره أو للحصر، كأنه قال : المحبة المذكورة ليست إلا من الإيمان. قلت : وهو توجيه حسن، إلا أنه يرد عليه أن الذى بعده أليق بالاهتمام والحصر معا، وهو قوله : " باب حب الرسول من الإيمان ". فالظاهر أنه أراد التنويع فى العبارة، ويمكن أنه اهتم بذكر حب الرسول فقدمه. والله أعلم.
قوله : (يحيى) هو ابن سعيد القطان. قوله: (وعن حسين المعلم) هو ابن ذكوان، وهو معطوف على شعبة. فالتقدير عن شعبة وحسين كلاهما عن قتادة، وإنما لم يجمعهما لأن شيخه أفردهما، فأورده المصنف معطوفا اختصارا، ولأن شعبة قال: عن قتادة، وقال حسين: حدثنا قتادة. وأغرب بعض المتأخرين فزعم أنه طريق حسين معلقة، وهو غلط، فقد رواه أبو نعيم فى المستخرج من طريق إبراهيم الحربى عن مسدد شيخ المصنف عن يحيى القطان عن حسين المعلم. وأبدى الكرمانى كعادته بحسب التجويز العقلى أن يكون تعليقا أو معطوفا على قتادة، فيكون شعبة رواه عن حسين عن قتادة، إلى غير ذلك مما ينفر عنه من مارس شيئا من علم الإسناد. والله المستعان.
(تنبيه) المتن المساق هنا لفظ شعبة، وأما لفظ حسين من رواية مسدد التى ذكرناها فهو : ( لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه ولجاره )، وللإسماعيلى من طريق روح عن حسين : ( حتى يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير ) فبين المراد بالأخوة، وعين جهة الحب. وزاد مسلم فى أوله عن أبى خيثمة عن يحيى القطان : ( والذى نفسى بيده )، وأما طريق شعبة فصرح أحمد والنسائى فى روايتهما بسماع قتادة له من أنس، فانتفت تهمة تدليسه.
قوله: (لا يؤمن) أى: من يدعى الإيمان، أحد" ولابن عساكر:"عبد"وكذا لمسلم عن أبى خيثمة، والمراد بالنفى كمال الإيمان، ونفى اسم الشيء - على معنى نفى الكمال عنه - مستفيض فى كلامهم كقولهم : فلان ليس بإنسان. فإن قيل : فيلزم أن يكون من حصلت له هذه الخصلة مؤمنا كاملا وإن لم يأت ببقية الأركان. أجيب: بأن هذا ورد مورد المبالغة، أو يستفاد من قوله لأخيه المسلم ) ملاحظة بقية صفات المسلم. وقد صرح ابن حبان من رواية ابن أبى عدى عن حسين المعلم بالمراد ولفظه لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان ) ومعنى الحقيقة هنا الكمال، ضرورة أن من لم يتصف بهذه الصفة لا يكون كافرا، وبهذا يتم استدلال المصنف على أنه يتفاوت، وأن هذه الخصلة من شعب الإيمان، وهى داخلة فى التواضع على ما سنقرره. قوله : (حتى يحب) بالنصب لأن حتى جارة وأن بعدها مضمرة، ولا يجوز الرفع فتكون حتى عاطفة فلا يصح المعنى، إذ عدم الإيمان ليس سببا للمحبة.
قوله: (ما يحب لنفسه) أى: من الخير كما تقدم عن الإسماعيلى، وكذا هو عند النسائى، وكذا عند ابن منده من رواية همام عن قتادة أيضا. و"الخير ": كلمة جامعة تعم الطاعات والمباحات الدنيوية والأخروية، وتخرج المنهيات لأن اسم الخير لا يتناولها. والمحبة: إرادة ما يعتقده خيرا، قال النووى: المحبة الميل إلى ما يوافق المحب، وقد تكون بحواسه كحسن الصورة، أو بفعله إما لذاته كالفضل والكمال، وإما لإحسانه كجلب نفع أو دفع ضرر. انتهى ملخصا.
(1/58) والمراد بالميل هنا: الاختيارى دون الطبيعى والقسرى، والمراد أيضا أن يحب أن يحصل لأخيه نظير ما يحصل له، لا عينه، سواء كان فى الأمور المحسوسة أو المعنوية، وليس المراد أن يحصل لأخيه ما حصل له لا مع سلبه عنه ولا مع بقائه بعينه له، إذ قيام الجوهر أو العرض بمحلين محال. وقال أبو الزناد بن سراج: ظاهر هذا الحديث طلب المساواة، وحقيقته تستلزم التفضيل. لأن كل أحد يحب أن يكون أفضل من غيره، فإذا أحب لأخيه مثله فقد دخل فى جملة المفضولين. قلت : أقر القاضى عياض هذا، وفيه نظر. إذ المراد الزجر عن هذه الإرادة، لأن المقصود الحث على التواضع. فلا يحب أن يكون أفضل من غيره، فهو مستلزم للمساواة. ويستفاد ذلك من قوله تعالى : (تلك الدار الآخرة تجعلها للذين لا يريدون علوا فى الأرض ولا فسادا) ، ولا يتم ذلك إلا بترك الحسد والغل والحقد والغش، وكلها خصال مذمومة.
(فائدة) قال الكرمانى : ومن الإيمان أيضا أن يبغض لأخيه ما يبغض لنفسه من الشر، ولم يذكره لأن حب الشيء مستلزم لبغض نقيضه، فترك التنصيص عليه اكتفاء. والله أعلم.
فتح البارى . للإمام ابن حجر العسقلانى