بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مختارات من فتح البارى
شرح صحيح البخارى
كتاب الإيمان
باب: الْحَيَاءَ مِنْ الْإِيمَانِ وباب: فإن تابوا
باب: الْحَيَاءَ مِنْ الْإِيمَانِ
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ - وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِى الْحَيَاءِ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنْ الْإِيمَانِ "
الشرح
قوله: (حدثنا عبد الله بن يوسف) هو التنيسى نزيل دمشق، ورجال الإسناد سواه من أهل المدينة.
قوله: (أخبرنا) وللأصيلى حدثنا مالك، ولكريمة ابن أنس، والحديث فى الموطأ.
قوله: (عن أبيه) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب.
قوله: (مر على رجل) لمسلم من طريق معمر " مر برجل " ومر بمعنى: اجتاز يعدى بعلى وبالباء، ولم أعرف اسم هذين الرجلين الواعظ وأخيه. وقوله: " يعظ " أى: ينصح أو يخوف أو يذكر، كذا شرحوه، والأولى أن يشرح بما جاء عند المصنف فى الأدب من طريق عبد العزيز بن أبى سلمة عن ابن شهاب ولفظه: " يعاتب أخاه فى الحياء " يقول: إنك لتستحى، حتى كأنه يقول: قد أضر بك. انتهى. ويحتمل أن يكون جمع له العتاب والوعظ فذكر بعض الرواة ما لم يذكره الآخر، لكن المخرج متحد، فالظاهر أنه من تصرف الراوى بحسب ما اعتقد أن كل لفظ منهما يقوم مقام الآخر، و" فى " سببية فكأن الرجل كان كثير الحياء فكان ذلك يمنعه من استيفاء حقوقه، فعاتبه أخوه على ذلك، فقال له النبى - صلى الله عليه وسلم -: " دعه " أى: اتركه على هذا الخلق السنى، ثم زاده فى ذلك ترغيبا لحكمه بأنه من الإيمان، وإذا كان الحياء يمنع صاحبه من استيفاء حق نفسه جر له ذلك تحصيل أجر ذلك الحق، لا سيما إذا كان المتروك له مستحقا. وقال ابن قتيبة: معناه أن الحياء يمنع صاحبه من ارتكاب المعاصى كما يمنع الإيمان، فسمى إيمانا كما يسمى الشيء باسم ما قام مقامه. وحاصله أن إطلاق كونه من الإيمان مجاز، والظاهر أن الناهى ما كان يعرف أن الحياء من مكملات الإيمان، فلهذا وقع التأكيد، وقد يكون التأكيد من جهة أن القضية فى نفسها مما يهتم به وإن لم يكن هناك منكر. قال الراغب: الحياء: انقباض النفس عن القبيح، وهو من خصائص الإنسان ليرتدع عن ارتكاب كل ما يشتهى فلا يكون كالبهيمة. وهو مركب من جبن وعفة فلذلك لا يكون المستحى فاسقا، وقلما يكون الشجاع مستحيا، وقد يكون لمطلق الانقباض كما فى بعض الصبيان. انتهى ملخصا.
وقال غيره: هو انقباض النفس خشية ارتكاب ما يكره، أعم من أن يكون شرعيا أو عقليا أو عرفيا،
(1/75) ومقابل الأول فاسق، والثانى مجنون، والثالث أبله. قال: وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " الحياء شعبة من الإيمان " أى: أثر من آثار الإيمان.
وقال الحليمى: حقيقة الحياء خوف الذم بنسبة الشر إليه. وقال غيره: إن كان فى محرم فهو واجب، وإن كان فى مكروه فهو مندوب، وإن كان فى مباح فهو العرفى، وهو المراد بقوله: " الحياء لا يأتى إلا بخير ". ويجمع كل ذلك أن المباح إنما هو ما يقع على وفق الشرع إثباتا ونفيا، وحكى عن بعض السلف: رأيت المعاصى مذلة، فتركتها مروءة، فصارت ديانة. وقد يتولد الحياء من الله تعالى من التقلب فى نعمه، فيستحى العاقل أن يستعين بها على معصيته، وقد قال بعض السلف: خف الله على قدر قدرته عليك، واستحى منه على قدر قربه منك. والله أعلم.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مختارات من فتح البارى
شرح صحيح البخارى
كتاب الإيمان
باب: فإن تابوا وأقاموا الصلاة واتوا الزكاة فخلوا سبيلهم
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُسْنَدِى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو رَوْحٍ الْحَرَمِى بْنُ عُمَارَةَ قَالَ:
حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِى يُحَدِّثُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -قَالَ: " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ. فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّى دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ."
الشرح
قوله: (حدثنا عبد الله بن محمد) زاد ابن عساكر"المسندى"وهو بفتح النون كما مضى، قال: حدثنا أبو روح هو بفتح الراء.
قوله: (الحرمى) هو بفتح المهملتين، وللأصيلى حرمى، وهو اسم بلفظ النسب تثبت فيه الألف واللام وتحذف، مثل مكى بن إبراهيم الآتى بعد. وقال الكرمانى: أبو روح كنيته، واسمه ثابت والحرمى نسبته، كذا قال. وهو خطأ من وجهين: أحدهما فى جعله اسمه نسبته، والثانى فى جعله اسم جده اسمه، وذلك أنه حرمى بن عمارة بن أبى حفصة، واسم أبى حفصة نابت، وكأنه رأى فى كلام بعضهم واسمه نابت فظن أن الضمير يعود على حرمى لأنه المتحدث عنه، وليس كذلك بل الضمير يعود على أبى حفصة لأنه الأقرب، وأكد ذلك عنده وروده فى هذا السند " الحرمى " بالألف واللام وليس هو منسوبا إلى الحرم بحال، لأنه بصرى الأصل والمولد والمنشأ والمسكن والوفاة. ولم يضبط نابتا كعادته وكأنه ظنه بالمثلثة كالجادة، والصحيح أن أوله نون.
قوله: (عن واقد بن محمد) زاد الأصيلى: يعنى ابن زيد بن عبد الله بن عمر فهو من رواية الأبناء عن الأباء، وهو كثير لكن رواية الشخص عن أبيه عن جده أقل، وواقد هنا روى عن أبيه عن جد أبيه، وهذا الحديث غريب الإسناد تفرد بروايته شعبة عن واقد قاله ابن حبان، وهو عن شعبة عزيز تفرد بروايته عنه حرمى هذا وعبد الملك بن الصباح، وهو عزيز عن حرمى تفرد به عنه المسندى وإبراهيم بن محمد بن عرعرة، ومن جهة إبراهيم أخرجه أبو عوانة وابن حبان والإسماعيلى وغيرهم.
(1/ 76) وهو غريب عن عبد الملك تفرد به عنه أبو غسان مالك بن عبد الواحد شيخ مسلم، فاتفق الشيخان على الحكم بصحته مع غرابته، وليس هو فى مسند أحمد على سعته. وقد استبعد قوم صحته، بأن الحديث لو كان عند ابن عمر لما ترك أباه ينازع أبا بكر فى قتال مانعى الزكاة، ولو كانوا يعرفونه لما كان أبو بكر يقر عمر على الاستدلال بقوله - عليه الصلاة والسلام -: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله"، وينتقل عن الاستدلال بهذا النص إلى القياس إذ قال: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، لأنها قرينتها فى كتاب الله. والجواب: أنه لا يلزم من كون الحديث المذكور عند ابن عمر أن يكون استحضره فى تلك الحالة، ولو كان مستحضرا له فقد يحتمل أن لا يكون حضر المناظرة المذكورة، ولا يمتنع أن يكون ذكره لهما بعد، ولم يستدل أبو بكر فى قتال مانعى الزكاة بالقياس فقط، بل أخذه أيضا من قوله - عليه الصلاة والسلام -فى الحديث الذى رواه: " إلا بحق الإسلام "، قال أبو بكر: والزكاة حق الإسلام. ولم ينفرد ابن عمر بالحديث المذكور. بل رواه أبو هريرة أيضا بزيادة الصلاة والزكاة فيه، كما سيأتى الكلام عليه إن شاء الله تعالى فى كتاب الزكاة.
وفى القصة دليل على أن السنة قد تخفى على بعض أكابر الصحابة، ويطلع عليها آحادهم، ولهذا لا يلتفت إلى الآراء ولو قويت مع وجود سنة تخالفها، ولا يقال: كيف خفى ذا على فلان، والله الموفق.
قوله: (أمرت) أى: أمرنى الله، لأنه لا آمر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا الله، وقياسه فى الصحابى إذا قال: أمرت، فالمعنى: أمرنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يحتمل أن يريد أمرنى صحابى آخر، لأنهم من حيث أنهم مجتهدون لا يحتجون بأمر مجتهد آخر، وإذا قاله التابعى احتمل. والحاصل أن من اشتهر بطاعة رئيس إذا قال ذلك فهم منه أن الآمر له هو ذلك الرئيس.
قوله: (أن أقاتل) أى: بأن أقاتل، وحذف الجار من " أن " كثير.
قوله: (حتى يشهدوا) جعلت غاية المقاتلة وجود ما ذكر، فمقتضاه: أن من شهد وأقام وآتى، عصم دمه ولو جحد باقى الأحكام. والجواب: أن الشهادة بالرسالة تتضمن التصديق بما جاء به، مع أن نص الحديث وهو قوله: " إلا بحق الإسلام " يدخل فيه جميع ذلك. فإن قيل: فلم لم يكتف به ونص على الصلاة والزكاة، فالجواب: أن ذلك لعظمهما والاهتمام بأمرهما، لأنهما أما العبادات البدنية والمالية.
قوله: (ويقيموا الصلاة) أى: يداوموا على الإتيان بها بشروطها، من قامت السوق إذا نفقت، وقامت الحرب إذا اشتد القتال. أو المراد بالقيام: الأداء - تعبيرا عن الكل بالجزء - إذ القيام بعض أركانها. والمراد بالصلاة: المفروض منها، لا جنسها، فلا تدخل سجدة التلاوة مثلا وإن صدق اسم الصلاة عليها. وقال الشيخ محيى الدين النووى: فى هذا الحديث، أن من ترك الصلاة عمدا يقتل. ثم ذكر اختلاف المذاهب فى ذلك. وسئل الكرمانى هنا عن حكم تارك الزكاة، وأجاب: بأن حكمهما واحد لاشتراكهما فى الغاية، وكأنه أراد فى المقاتلة، أما فى القتل فلا. والفرق أن الممتنع من إيتاء الزكاة يمكن أن تؤخذ منه قهرا، بخلاف الصلاة، فإن انتهى إلى نصب القتال ليمنع الزكاة قوتل، وبهذه الصورة قاتل الصديق مانعى الزكاة، ولم ينقل أنه قتل أحدا منهم صبرا . وعلى هذا ففى الاستدلال بهذا الحديث على قتل تارك الصلاة نظر، للفرق بين صيغة أقاتل وأقتل. والله أعلم. وقد أطنب ابن دقيق العيد فى شرح العمدة فى الإنكار على من استدل بهذا الحديث على ذلك، وقال: لا يلزم من إباحة المقاتلة إباحة القتل، لأن المقاتلة مفاعلة تستلزم وقوع القتال من الجانبين، ولا كذلك القتل. وحكى البيهقى عن الشافعى أنه قال: ليس القتال من القتل بسبيل، قد يحل قتال الرجل ولا يحل قتله.
قوله: (فإذا فعلوا ذلك) فيه التعبير بالفعل عما بعضه قول، إما على سبيل التغليب، وإما على إرادة المعنى الأعم، إذ القول فعل اللسان.
قوله: (عصموا) أى: منعوا،(1/77) وأصل العصمة من العصام وهو الخيط الذى يشد به فم القربة ليمنع سيلان الماء.
قوله: (وحسابهم على الله) أى: فى أمر سرائرهم، ولفظة " على " مشعرة بالإيجاب، وظاهرها غير مراد، فإما أن تكون بمعنى اللام أو على سبيل التشبيه، أى: هو كالواجب على الله فى تحقق الوقوع. وفيه دليل على قبول الأعمال الظاهرة والحكم بما يقتضيه الظاهر، والاكتفاء فى قبول الإيمان بالاعتقاد الجازم خلافا لمن أوجب تعلم الأدلة، وقد تقدم ما فيه. ويؤخذ منه ترك تكفير أهل البدع المقرين بالتوحيد الملتزمين للشرائع، وقبول توبة الكافر من كفره، من غير تفصيل بين كفر ظاهر أو باطن. فإن قيل: مقتضى الحديث قتال كل من امتنع من التوحيد، فكيف ترك قتال مؤدى الجزية والمعاهد، فالجواب من أوجه، أحدها: دعوى النسخ بأن يكون الإذن بأخذ الجزية والمعاهدة متأخرا عن هذه الأحاديث، بدليل أنه متأخر عن قوله تعالى (اقتلوا المشركين). ثانيها: أن يكون من العام الذى خص منه البعض، لأن المقصود من الأمر حصول المطلوب، فإذا تخلف البعض لدليل لم يقدح فى العموم. ثالثها: أن يكون من العام الذى أريد به الخاص، فيكون المراد بالناس فى قوله: " أقاتل الناس " أى: المشركين من غير أهل الكتاب، ويدل عليه رواية النسائى بلفظ " أمرت أن أقاتل المشركين ". فإن قيل: إذا تم هذا فى أهل الجزية، لم يتم فى المعاهدين، ولا فيمن منع الجزية أجيب: بأن الممتنع فى ترك المقاتلة رفعها لا تأخيرها مدة كما فى الهدنة، ومقاتلة من امتنع من أداء الجزية بدليل الآية. رابعها: أن يكون المراد بما ذكر من الشهادة وغيرها: التعبير عن إعلاء كلمة الله وإذعان المخالفين، فيحصل فى بعض بالقتل، وفى بعض بالجزية، وفى بعض بالمعاهدة. خامسها: أن يكون المراد بالقتال هو، أو ما يقوم مقامه، من جزية أو غيرها. سادسها: أن يقال: الغرض من ضرب الجزية اضطرارهم إلى الإسلام، وسبب السبب سبب، فكأنه قال: حتى يسلموا أو يلتزموا ما يؤديهم إلى الإسلام، وهذا أحسن، ويأتى فيه ما فى الثالث وهو آخر الأجوبة، والله أعلم.
فتح البارى . للإمام ابن حجر العسقلانى
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ - وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِى الْحَيَاءِ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنْ الْإِيمَانِ "
الشرح
قوله: (حدثنا عبد الله بن يوسف) هو التنيسى نزيل دمشق، ورجال الإسناد سواه من أهل المدينة.
قوله: (أخبرنا) وللأصيلى حدثنا مالك، ولكريمة ابن أنس، والحديث فى الموطأ.
قوله: (عن أبيه) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب.
قوله: (مر على رجل) لمسلم من طريق معمر " مر برجل " ومر بمعنى: اجتاز يعدى بعلى وبالباء، ولم أعرف اسم هذين الرجلين الواعظ وأخيه. وقوله: " يعظ " أى: ينصح أو يخوف أو يذكر، كذا شرحوه، والأولى أن يشرح بما جاء عند المصنف فى الأدب من طريق عبد العزيز بن أبى سلمة عن ابن شهاب ولفظه: " يعاتب أخاه فى الحياء " يقول: إنك لتستحى، حتى كأنه يقول: قد أضر بك. انتهى. ويحتمل أن يكون جمع له العتاب والوعظ فذكر بعض الرواة ما لم يذكره الآخر، لكن المخرج متحد، فالظاهر أنه من تصرف الراوى بحسب ما اعتقد أن كل لفظ منهما يقوم مقام الآخر، و" فى " سببية فكأن الرجل كان كثير الحياء فكان ذلك يمنعه من استيفاء حقوقه، فعاتبه أخوه على ذلك، فقال له النبى - صلى الله عليه وسلم -: " دعه " أى: اتركه على هذا الخلق السنى، ثم زاده فى ذلك ترغيبا لحكمه بأنه من الإيمان، وإذا كان الحياء يمنع صاحبه من استيفاء حق نفسه جر له ذلك تحصيل أجر ذلك الحق، لا سيما إذا كان المتروك له مستحقا. وقال ابن قتيبة: معناه أن الحياء يمنع صاحبه من ارتكاب المعاصى كما يمنع الإيمان، فسمى إيمانا كما يسمى الشيء باسم ما قام مقامه. وحاصله أن إطلاق كونه من الإيمان مجاز، والظاهر أن الناهى ما كان يعرف أن الحياء من مكملات الإيمان، فلهذا وقع التأكيد، وقد يكون التأكيد من جهة أن القضية فى نفسها مما يهتم به وإن لم يكن هناك منكر. قال الراغب: الحياء: انقباض النفس عن القبيح، وهو من خصائص الإنسان ليرتدع عن ارتكاب كل ما يشتهى فلا يكون كالبهيمة. وهو مركب من جبن وعفة فلذلك لا يكون المستحى فاسقا، وقلما يكون الشجاع مستحيا، وقد يكون لمطلق الانقباض كما فى بعض الصبيان. انتهى ملخصا.
وقال غيره: هو انقباض النفس خشية ارتكاب ما يكره، أعم من أن يكون شرعيا أو عقليا أو عرفيا،
(1/75) ومقابل الأول فاسق، والثانى مجنون، والثالث أبله. قال: وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " الحياء شعبة من الإيمان " أى: أثر من آثار الإيمان.
وقال الحليمى: حقيقة الحياء خوف الذم بنسبة الشر إليه. وقال غيره: إن كان فى محرم فهو واجب، وإن كان فى مكروه فهو مندوب، وإن كان فى مباح فهو العرفى، وهو المراد بقوله: " الحياء لا يأتى إلا بخير ". ويجمع كل ذلك أن المباح إنما هو ما يقع على وفق الشرع إثباتا ونفيا، وحكى عن بعض السلف: رأيت المعاصى مذلة، فتركتها مروءة، فصارت ديانة. وقد يتولد الحياء من الله تعالى من التقلب فى نعمه، فيستحى العاقل أن يستعين بها على معصيته، وقد قال بعض السلف: خف الله على قدر قدرته عليك، واستحى منه على قدر قربه منك. والله أعلم.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مختارات من فتح البارى
شرح صحيح البخارى
كتاب الإيمان
باب: فإن تابوا وأقاموا الصلاة واتوا الزكاة فخلوا سبيلهم
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُسْنَدِى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو رَوْحٍ الْحَرَمِى بْنُ عُمَارَةَ قَالَ:
حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِى يُحَدِّثُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -قَالَ: " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ. فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّى دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ."
الشرح
قوله: (حدثنا عبد الله بن محمد) زاد ابن عساكر"المسندى"وهو بفتح النون كما مضى، قال: حدثنا أبو روح هو بفتح الراء.
قوله: (الحرمى) هو بفتح المهملتين، وللأصيلى حرمى، وهو اسم بلفظ النسب تثبت فيه الألف واللام وتحذف، مثل مكى بن إبراهيم الآتى بعد. وقال الكرمانى: أبو روح كنيته، واسمه ثابت والحرمى نسبته، كذا قال. وهو خطأ من وجهين: أحدهما فى جعله اسمه نسبته، والثانى فى جعله اسم جده اسمه، وذلك أنه حرمى بن عمارة بن أبى حفصة، واسم أبى حفصة نابت، وكأنه رأى فى كلام بعضهم واسمه نابت فظن أن الضمير يعود على حرمى لأنه المتحدث عنه، وليس كذلك بل الضمير يعود على أبى حفصة لأنه الأقرب، وأكد ذلك عنده وروده فى هذا السند " الحرمى " بالألف واللام وليس هو منسوبا إلى الحرم بحال، لأنه بصرى الأصل والمولد والمنشأ والمسكن والوفاة. ولم يضبط نابتا كعادته وكأنه ظنه بالمثلثة كالجادة، والصحيح أن أوله نون.
قوله: (عن واقد بن محمد) زاد الأصيلى: يعنى ابن زيد بن عبد الله بن عمر فهو من رواية الأبناء عن الأباء، وهو كثير لكن رواية الشخص عن أبيه عن جده أقل، وواقد هنا روى عن أبيه عن جد أبيه، وهذا الحديث غريب الإسناد تفرد بروايته شعبة عن واقد قاله ابن حبان، وهو عن شعبة عزيز تفرد بروايته عنه حرمى هذا وعبد الملك بن الصباح، وهو عزيز عن حرمى تفرد به عنه المسندى وإبراهيم بن محمد بن عرعرة، ومن جهة إبراهيم أخرجه أبو عوانة وابن حبان والإسماعيلى وغيرهم.
(1/ 76) وهو غريب عن عبد الملك تفرد به عنه أبو غسان مالك بن عبد الواحد شيخ مسلم، فاتفق الشيخان على الحكم بصحته مع غرابته، وليس هو فى مسند أحمد على سعته. وقد استبعد قوم صحته، بأن الحديث لو كان عند ابن عمر لما ترك أباه ينازع أبا بكر فى قتال مانعى الزكاة، ولو كانوا يعرفونه لما كان أبو بكر يقر عمر على الاستدلال بقوله - عليه الصلاة والسلام -: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله"، وينتقل عن الاستدلال بهذا النص إلى القياس إذ قال: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، لأنها قرينتها فى كتاب الله. والجواب: أنه لا يلزم من كون الحديث المذكور عند ابن عمر أن يكون استحضره فى تلك الحالة، ولو كان مستحضرا له فقد يحتمل أن لا يكون حضر المناظرة المذكورة، ولا يمتنع أن يكون ذكره لهما بعد، ولم يستدل أبو بكر فى قتال مانعى الزكاة بالقياس فقط، بل أخذه أيضا من قوله - عليه الصلاة والسلام -فى الحديث الذى رواه: " إلا بحق الإسلام "، قال أبو بكر: والزكاة حق الإسلام. ولم ينفرد ابن عمر بالحديث المذكور. بل رواه أبو هريرة أيضا بزيادة الصلاة والزكاة فيه، كما سيأتى الكلام عليه إن شاء الله تعالى فى كتاب الزكاة.
وفى القصة دليل على أن السنة قد تخفى على بعض أكابر الصحابة، ويطلع عليها آحادهم، ولهذا لا يلتفت إلى الآراء ولو قويت مع وجود سنة تخالفها، ولا يقال: كيف خفى ذا على فلان، والله الموفق.
قوله: (أمرت) أى: أمرنى الله، لأنه لا آمر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا الله، وقياسه فى الصحابى إذا قال: أمرت، فالمعنى: أمرنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يحتمل أن يريد أمرنى صحابى آخر، لأنهم من حيث أنهم مجتهدون لا يحتجون بأمر مجتهد آخر، وإذا قاله التابعى احتمل. والحاصل أن من اشتهر بطاعة رئيس إذا قال ذلك فهم منه أن الآمر له هو ذلك الرئيس.
قوله: (أن أقاتل) أى: بأن أقاتل، وحذف الجار من " أن " كثير.
قوله: (حتى يشهدوا) جعلت غاية المقاتلة وجود ما ذكر، فمقتضاه: أن من شهد وأقام وآتى، عصم دمه ولو جحد باقى الأحكام. والجواب: أن الشهادة بالرسالة تتضمن التصديق بما جاء به، مع أن نص الحديث وهو قوله: " إلا بحق الإسلام " يدخل فيه جميع ذلك. فإن قيل: فلم لم يكتف به ونص على الصلاة والزكاة، فالجواب: أن ذلك لعظمهما والاهتمام بأمرهما، لأنهما أما العبادات البدنية والمالية.
قوله: (ويقيموا الصلاة) أى: يداوموا على الإتيان بها بشروطها، من قامت السوق إذا نفقت، وقامت الحرب إذا اشتد القتال. أو المراد بالقيام: الأداء - تعبيرا عن الكل بالجزء - إذ القيام بعض أركانها. والمراد بالصلاة: المفروض منها، لا جنسها، فلا تدخل سجدة التلاوة مثلا وإن صدق اسم الصلاة عليها. وقال الشيخ محيى الدين النووى: فى هذا الحديث، أن من ترك الصلاة عمدا يقتل. ثم ذكر اختلاف المذاهب فى ذلك. وسئل الكرمانى هنا عن حكم تارك الزكاة، وأجاب: بأن حكمهما واحد لاشتراكهما فى الغاية، وكأنه أراد فى المقاتلة، أما فى القتل فلا. والفرق أن الممتنع من إيتاء الزكاة يمكن أن تؤخذ منه قهرا، بخلاف الصلاة، فإن انتهى إلى نصب القتال ليمنع الزكاة قوتل، وبهذه الصورة قاتل الصديق مانعى الزكاة، ولم ينقل أنه قتل أحدا منهم صبرا . وعلى هذا ففى الاستدلال بهذا الحديث على قتل تارك الصلاة نظر، للفرق بين صيغة أقاتل وأقتل. والله أعلم. وقد أطنب ابن دقيق العيد فى شرح العمدة فى الإنكار على من استدل بهذا الحديث على ذلك، وقال: لا يلزم من إباحة المقاتلة إباحة القتل، لأن المقاتلة مفاعلة تستلزم وقوع القتال من الجانبين، ولا كذلك القتل. وحكى البيهقى عن الشافعى أنه قال: ليس القتال من القتل بسبيل، قد يحل قتال الرجل ولا يحل قتله.
قوله: (فإذا فعلوا ذلك) فيه التعبير بالفعل عما بعضه قول، إما على سبيل التغليب، وإما على إرادة المعنى الأعم، إذ القول فعل اللسان.
قوله: (عصموا) أى: منعوا،(1/77) وأصل العصمة من العصام وهو الخيط الذى يشد به فم القربة ليمنع سيلان الماء.
قوله: (وحسابهم على الله) أى: فى أمر سرائرهم، ولفظة " على " مشعرة بالإيجاب، وظاهرها غير مراد، فإما أن تكون بمعنى اللام أو على سبيل التشبيه، أى: هو كالواجب على الله فى تحقق الوقوع. وفيه دليل على قبول الأعمال الظاهرة والحكم بما يقتضيه الظاهر، والاكتفاء فى قبول الإيمان بالاعتقاد الجازم خلافا لمن أوجب تعلم الأدلة، وقد تقدم ما فيه. ويؤخذ منه ترك تكفير أهل البدع المقرين بالتوحيد الملتزمين للشرائع، وقبول توبة الكافر من كفره، من غير تفصيل بين كفر ظاهر أو باطن. فإن قيل: مقتضى الحديث قتال كل من امتنع من التوحيد، فكيف ترك قتال مؤدى الجزية والمعاهد، فالجواب من أوجه، أحدها: دعوى النسخ بأن يكون الإذن بأخذ الجزية والمعاهدة متأخرا عن هذه الأحاديث، بدليل أنه متأخر عن قوله تعالى (اقتلوا المشركين). ثانيها: أن يكون من العام الذى خص منه البعض، لأن المقصود من الأمر حصول المطلوب، فإذا تخلف البعض لدليل لم يقدح فى العموم. ثالثها: أن يكون من العام الذى أريد به الخاص، فيكون المراد بالناس فى قوله: " أقاتل الناس " أى: المشركين من غير أهل الكتاب، ويدل عليه رواية النسائى بلفظ " أمرت أن أقاتل المشركين ". فإن قيل: إذا تم هذا فى أهل الجزية، لم يتم فى المعاهدين، ولا فيمن منع الجزية أجيب: بأن الممتنع فى ترك المقاتلة رفعها لا تأخيرها مدة كما فى الهدنة، ومقاتلة من امتنع من أداء الجزية بدليل الآية. رابعها: أن يكون المراد بما ذكر من الشهادة وغيرها: التعبير عن إعلاء كلمة الله وإذعان المخالفين، فيحصل فى بعض بالقتل، وفى بعض بالجزية، وفى بعض بالمعاهدة. خامسها: أن يكون المراد بالقتال هو، أو ما يقوم مقامه، من جزية أو غيرها. سادسها: أن يقال: الغرض من ضرب الجزية اضطرارهم إلى الإسلام، وسبب السبب سبب، فكأنه قال: حتى يسلموا أو يلتزموا ما يؤديهم إلى الإسلام، وهذا أحسن، ويأتى فيه ما فى الثالث وهو آخر الأجوبة، والله أعلم.
فتح البارى . للإمام ابن حجر العسقلانى