بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مختارات من فتح البارى
شرح صحيح البخارى
كتاب الإيمان
باب عَلَامَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَبْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا عَنْ النَّبِى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( آيَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ )
الشرح
(63/ 1) قوله: (حدثنا أبو الوليد) هو الطيالسى.
قوله: (جبر) بفتح الجيم وسكون الموحدة، وهو ابن عتيك الأنصارى، وهذا الراوى ممن وافق اسمه اسم أبيه.
قوله: (آية الإيمان) هو بهمزة ممدودة وياء تحتانية مفتوحة وهاء تأنيث، والإيمان مجرور بالإضافة، هذا هو المعتمد فى ضبط هذه الكلمة فى جميع الروايات، فى الصحيحين والسنن والمستخرجات والمسانيد. والآية: العلامة كما ترجم به المصنف، ووقع فى إعراب الحديث لأبى البقاء العكبرى: " إنه الإيمان " بهمزة مكسورة ونون مشددة وهاء، والإيمان مرفوع، وأعربه فقال: إن للتأكيد، والهاء ضمير الشأن، والإيمان مبتدأ وما بعده خبر، ويكون التقدير: إن الشأن الإيمان حب الأنصار. وهذا تصحيف منه. ثم فيه نظر من جهة المعنى لأنه يقتضى حصر الإيمان فى حب الأنصار، وليس كذلك. فإن قيل: واللفظ المشهور أيضا يقتضى الحصر، وكذا ما أورده المصنف فى فضائل الأنصار من حديث البراء بن عازب: " الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن " فالجواب عن الأول: أن العلامة كالخاصة تطرد ولا تنعكس، فإن أخذ من طريق المفهوم فهو مفهوم لقب لا عبرة به. سلمنا الحصر لكنه ليس حقيقيا بل ادعائيا للمبالغة، أو هو حقيقى لكنه خاص بمن أبغضهم من حيث النصرة. والجواب عن الثانى: أن غايته أن لا يقع حب الأنصار إلا لمؤمن. وليس فيه نفى الإيمان عمن لم يقع منه ذلك، بل فيه أن غير المؤمن لا يحبهم. فإن قيل: فعلى الشق الثانى هل يكون من أبغضهم منافقا وإن صدق وأقر، فالجواب: أن ظاهر اللفظ يقتضيه، لكنه غير مراد، فيحمل على تقييد البغض بالجهة، فمن أبغضهم من جهة هذه الصفة - وهى كونهم نصروا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أثر ذلك فى تصديقه فيصح أنه منافق. ويقرب هذا الحمل زيادة أبى نعيم فى المستخرج فى حديث البراء بن عازب: " من أحب الأنصار فبحبى أحبهم، ومن أبغض الأنصار فببغضى أبغضهم "، ويأتى مثل هذا الحب كما سبق. وقد أخرج مسلم من حديث أبى سعيد رفعه: " لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر "، ولأحمد من حديثه: " حب الأنصار إيمان وبغضهم نفاق ". ويحتمل أن يقال: إن اللفظ خرج على معنى التحذير فلا يراد ظاهره، ومن ثم لم يقابل الإيمان بالكفر الذى هو ضده، بل قابله بالنفاق إشارة إلى أن الترغيب والترهيب إنما خوطب به من يظهر الإيمان، أما من يظهر الكفر فلا، لأنه مرتكب ما هو أشد من ذلك.
قوله: (الأنصار) هو جمع ناصر كأصحاب وصاحب، أو جمع نصير كأشراف وشريف، واللام فيه للعهد أى: أنصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والمراد الأوس والخزرج، وكانوا قبل ذلك يعرفون ببنى قيلة بقاف مفتوحة وياء تحتانية ساكنة وهى الأم التى تجمع القبيلتين، فسماهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " الأنصار " فصار ذلك علما عليهم، وأطلق أيضا على أولادهم وحلفائهم ومواليهم. وخصوا بهذه المنقبة العظمى لما فازوا به دون غيرهم من القبائل من إيواء النبى - صلى الله عليه وسلم -ومن معه والقيام بأمرهم ومواساتهم بأنفسهم وأموالهم وإيثارهم إياهم فى كثير من الأمور على أنفسهم، فكان صنيعهم لذلك موجبا لمعاداتهم جميع الفرق الموجودين من عرب وعجم، والعداوة تجر البغض، ثم كان ما اختصوا به مما ذكر موجبا للحسد، والحسد يجر البغض، فلهذا جاء التحذير من بغضهم والترغيب فى حبهم حتى جعل ذلك آية الإيمان والنفاق، تنويها بعظيم فضلهم، وتنبيها على كريم فعلهم، وإن كان من شاركهم فى معنى ذلك مشاركا لهم فى الفضل المذكور كل بقسطه. وقد ثبت فى صحيح مسلم عن على أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال له: " لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق "، وهذا جار بإطراد فى أعيان الصحابة، لتحقق مشترك الإكرام، لما لهم من حسن الغناء فى الدين. قال صاحب المفهم: وأما الحروب الواقعة بينهم فإن وقع من بعضهم بغض لبعض فذاك من غير هذه الجهة، بل للأمر الطارئ الذى اقتضى المخالفة، ولذلك لم يحكم بعضهم على بعض بالنفاق، وإنما كان حالهم فى ذاك حال المجتهدين فى الأحكام: للمصيب أجران وللمخطئ أجر واحد. والله أعلم.
فتح البارى . للإمام ابن حجر العسقلانى
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَبْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا عَنْ النَّبِى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( آيَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ )
الشرح
(63/ 1) قوله: (حدثنا أبو الوليد) هو الطيالسى.
قوله: (جبر) بفتح الجيم وسكون الموحدة، وهو ابن عتيك الأنصارى، وهذا الراوى ممن وافق اسمه اسم أبيه.
قوله: (آية الإيمان) هو بهمزة ممدودة وياء تحتانية مفتوحة وهاء تأنيث، والإيمان مجرور بالإضافة، هذا هو المعتمد فى ضبط هذه الكلمة فى جميع الروايات، فى الصحيحين والسنن والمستخرجات والمسانيد. والآية: العلامة كما ترجم به المصنف، ووقع فى إعراب الحديث لأبى البقاء العكبرى: " إنه الإيمان " بهمزة مكسورة ونون مشددة وهاء، والإيمان مرفوع، وأعربه فقال: إن للتأكيد، والهاء ضمير الشأن، والإيمان مبتدأ وما بعده خبر، ويكون التقدير: إن الشأن الإيمان حب الأنصار. وهذا تصحيف منه. ثم فيه نظر من جهة المعنى لأنه يقتضى حصر الإيمان فى حب الأنصار، وليس كذلك. فإن قيل: واللفظ المشهور أيضا يقتضى الحصر، وكذا ما أورده المصنف فى فضائل الأنصار من حديث البراء بن عازب: " الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن " فالجواب عن الأول: أن العلامة كالخاصة تطرد ولا تنعكس، فإن أخذ من طريق المفهوم فهو مفهوم لقب لا عبرة به. سلمنا الحصر لكنه ليس حقيقيا بل ادعائيا للمبالغة، أو هو حقيقى لكنه خاص بمن أبغضهم من حيث النصرة. والجواب عن الثانى: أن غايته أن لا يقع حب الأنصار إلا لمؤمن. وليس فيه نفى الإيمان عمن لم يقع منه ذلك، بل فيه أن غير المؤمن لا يحبهم. فإن قيل: فعلى الشق الثانى هل يكون من أبغضهم منافقا وإن صدق وأقر، فالجواب: أن ظاهر اللفظ يقتضيه، لكنه غير مراد، فيحمل على تقييد البغض بالجهة، فمن أبغضهم من جهة هذه الصفة - وهى كونهم نصروا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أثر ذلك فى تصديقه فيصح أنه منافق. ويقرب هذا الحمل زيادة أبى نعيم فى المستخرج فى حديث البراء بن عازب: " من أحب الأنصار فبحبى أحبهم، ومن أبغض الأنصار فببغضى أبغضهم "، ويأتى مثل هذا الحب كما سبق. وقد أخرج مسلم من حديث أبى سعيد رفعه: " لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر "، ولأحمد من حديثه: " حب الأنصار إيمان وبغضهم نفاق ". ويحتمل أن يقال: إن اللفظ خرج على معنى التحذير فلا يراد ظاهره، ومن ثم لم يقابل الإيمان بالكفر الذى هو ضده، بل قابله بالنفاق إشارة إلى أن الترغيب والترهيب إنما خوطب به من يظهر الإيمان، أما من يظهر الكفر فلا، لأنه مرتكب ما هو أشد من ذلك.
قوله: (الأنصار) هو جمع ناصر كأصحاب وصاحب، أو جمع نصير كأشراف وشريف، واللام فيه للعهد أى: أنصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والمراد الأوس والخزرج، وكانوا قبل ذلك يعرفون ببنى قيلة بقاف مفتوحة وياء تحتانية ساكنة وهى الأم التى تجمع القبيلتين، فسماهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " الأنصار " فصار ذلك علما عليهم، وأطلق أيضا على أولادهم وحلفائهم ومواليهم. وخصوا بهذه المنقبة العظمى لما فازوا به دون غيرهم من القبائل من إيواء النبى - صلى الله عليه وسلم -ومن معه والقيام بأمرهم ومواساتهم بأنفسهم وأموالهم وإيثارهم إياهم فى كثير من الأمور على أنفسهم، فكان صنيعهم لذلك موجبا لمعاداتهم جميع الفرق الموجودين من عرب وعجم، والعداوة تجر البغض، ثم كان ما اختصوا به مما ذكر موجبا للحسد، والحسد يجر البغض، فلهذا جاء التحذير من بغضهم والترغيب فى حبهم حتى جعل ذلك آية الإيمان والنفاق، تنويها بعظيم فضلهم، وتنبيها على كريم فعلهم، وإن كان من شاركهم فى معنى ذلك مشاركا لهم فى الفضل المذكور كل بقسطه. وقد ثبت فى صحيح مسلم عن على أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال له: " لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق "، وهذا جار بإطراد فى أعيان الصحابة، لتحقق مشترك الإكرام، لما لهم من حسن الغناء فى الدين. قال صاحب المفهم: وأما الحروب الواقعة بينهم فإن وقع من بعضهم بغض لبعض فذاك من غير هذه الجهة، بل للأمر الطارئ الذى اقتضى المخالفة، ولذلك لم يحكم بعضهم على بعض بالنفاق، وإنما كان حالهم فى ذاك حال المجتهدين فى الأحكام: للمصيب أجران وللمخطئ أجر واحد. والله أعلم.
فتح البارى . للإمام ابن حجر العسقلانى