بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مختارات من فتح البارى
شرح صحيح البخارى
باب : كيف كان بدء الوحى
تابع حديث ما كان من أمر هِرَقْل.َ
تابع الشرح
(1/38) قوله: (دحية) بكسر الدال، وحكى فتحها لغتان، ويقال إنه الرئيس بلغة أهل اليمن، وهو ابن خليفة الكلبى، صحابى جليل كان أحسن الناس وجها، وأسلم قديما، وبعثه النبى -صلى الله عليه وسلم - فى آخر سنة ست بعد أن رجع من الحديبية بكتابه إلى هرقل، وكان وصوله إلى هرقل فى المحرم سنة سبع، قاله الواقدى. ووقع فى تاريخ خليفة أن إرسال الكتاب إلى هرقل كان سنة خمس، والأول أثبت، بل هذا غلط لتصريح أبى سفيان بأن ذلك كان فى مدة الهدنة، والهدنة كانت فى آخر سنة ست اتفاقا، ومات دحية فى خلافة معاوية. وبصرى بضم أوله والقصر مدينة بين المدينة ودمشق، وقيل هى حوران، وعظيمها هو الحارث بن أبى شمر الغسانى. وفى الصحابة لابن السكن أنه أرسل بكتاب النبى -صلى الله عليه وسلم -إلى هرقل مع عدى بن حاتم، وكان عدى إذ ذاك نصرانيا، فوصل به هو ودحية معا، وكانت وفاة الحارث المذكور عام الفتح.
قوله: (من محمد) فيه أن السنة أن يبدأ الكتاب بنفسه، وهو قول الجمهور، بل حكى فيه النحاس إجماع الصحابة. والحق إثبات الخلاف. وفيه أن " من " التى لابتداء الغاية تأتى من غير الزمان والمكان كذا قاله أبو حيان، والظاهر أنها هنا أيضا لم تخرج عن ذلك، لكن بارتكاب مجاز. زاد فى حديث دحية: وعنده ابن أخ له أحمر أزرق سبط الرأس. وفيه: لما قرأ الكتاب سخر فقال: لا تقرأه، إنه بدأ بنفسه. فقال قيصر: لتقرأنه. فقرأه. وقد ذكر البزار فى مسنده عن دحية الكلبى أنه هو ناول الكتاب لقيصر، ولفظه " بعثنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكتابه إلى قيصر فأعطيته الكتاب ".
قوله: (عظيم الروم) فيه عدول عن ذكره بالملك أو الإمرة، لأنه معزول بحكم الإسلام، لكنه لم يخله من إكرام لمصلحة التألف. وفى حديث دحية أن ابن أخى قيصر أنكر أيضا كونه لم يقل ملك الروم.
قوله: (سلام على من اتبع الهدى) فى رواية المصنف فى وقد ذكرت فى قصة موسى وهارون مع فرعون. وظاهر السياق يدل على أنه من جملة ما أمرا به أن يقولاه. فإن قيل: كيف يبدأ الكافر بالسلام؟ فالجواب أن المفسرين قالوا: ليس المراد من هذا التحية، إنما معناه سلم من عذاب الله من أسلم. ولهذا جاء بعده أن العذاب على من كذب وتولى. وكذا جاء فى بقية هذا الكتاب " فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ". فمحصل الجواب أنه لم يبدأ الكافر بالسلام قصدا وإن كان اللفظ يشعر به، لكنه لم يدخل فى المراد لأنه ليس ممن اتبع الهدى فلم يسلم عليه.
قوله: (أما بعد) فى قوله " أما " معنى الشرط، وتستعمل لتفصيل ما يذكر بعدها غالبا، وقد ترد مستأنفة لا لتفصيل كالتى هنا، وللتفصيل والتقرير.
وقال الكرمانى: هى هنا للتفصيل وتقديره: أما الابتداء فهو اسم الله، وأما المكتوب فهو من محمد رسول الله الخ، كذا قال. ولفظة"بعد"مبنية على الضم، وكان الأصل أن تفتح لو استمرت على الإضافة، لكنها قطعت عن الإضافة فبنيت على الضم، وسيأتى مزيد فى الكلام عليها فى كتاب الجمعة.
قوله: (بدعاية الإسلام) بكسر الدال، من قولك دعا يدعو دعاية نحو شكا يشكو شكاية . ولمسلم: " بداعية الإسلام " أى: بالكلمة الداعية إلى الإسلام، وهى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والباء موضع إلى.
وقوله: " أسلم تسلم " غاية فى البلاغ، وفيه نوع من البديع وهو الجناس الاشتقاقى .
قوله: (يؤتك) جواب ثان للأمر. وفى الجهاد للمؤلف " أسلم أسلم يؤتك " بتكرار أسلم، فيحتمل التأكيد، ويحتمل أن يكون الأمر الأول للدخول فى الإسلام والثانى للدوام عليه كما فى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله) الآية. وهو موافق لقوله تعالى: (أولئك يؤتون أجرهم مرتين) الآية. وإعطاؤه الأجر مرتين لكونه كان مؤمنا بنبيه ثم آمن بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، ويحتمل أن يكون تضعيف الأجر له من جهة إسلامه ومن جهة أن إسلامه يكون سببا لدخول أتباعه. وسيأتى التصريح بذلك فى موضعه من حديث الشعبى من كتاب العلم إن شاء الله تعالى. واستنبط منه شيخنا شيخ الإسلام أن كل من دان بدين أهل الكتاب كان فى حكمهم فى المناكحة والذبائح، لأن هرقل هو وقومه ليسوا من بنى إسرائيل، وهم ممن دخل فى النصرانية بعد التبديل. وقد قال له ولقومه: (يا أهل الكتاب) فدل على أن لهم حكم أهل الكتاب
(1/39) خلافا لمن خص ذلك بالإسرائيليين أو بمن علم أن سلفه ممن دخل فى اليهودية أو النصرانية قبل التبديل. والله أعلم.
قوله: (فإن توليت) أى: أعرضت عن الإجابة إلى الدخول فى الإسلام. وحقيقة التولى إنما هو بالوجه، ثم استعمل مجازا فى الإعراض عن الشيء، وهى استعارة تبعية.
قوله: (الأريسيين) هو جمع أريسى، وهو منسوب إلى أريس بوزن فعيل، وقد تقلب همزته ياء كما جاءت به رواية أبى ذر والأصيلى وغيرهما هنا، قال ابن سيده: الأريس الأكار، أى: الفلاح عند ثعلب، وعند كراع: الأريس هو الأمير. وقال الجوهرى: هى لغة شامية، وأنكر ابن فارس أن تكون عربية، وقيل فى تفسيره غير ذلك لكن هذا هو الصحيح هنا، فقد جاء مصرحا به فى رواية ابن إسحاق عن الزهرى بلفظ " فإن عليك إثم الأكارين " زاد البرقانى فى روايته: يعنى الحراثين، ويؤيده أيضا ما فى رواية المدائنى من طريق مرسلة " فإن عليك إثم الفلاحين "، وكذا عند أبى عبيد فى كتاب الأموال من مرسل عبد الله بن شداد " وإن لم تدخل فى الإسلام فلا تحل بين الفلاحين وبين الإسلام " قال أبو عبيدة: المراد بالفلاحين أهل مملكته، لأن كل من كان يزرع فهو عند العرب فلاح، سواء كان يلى ذلك بنفسه أو بغيره. قال الخطابى: أراد أن عليك إثم الضعفاء والأتباع إذا لم يسلموا تقليدا له، لأن الأصاغر أتباع الأكابر. قلت: وفى الكلام حذف دل المعنى عليه وهو: فإن عليك مع إثمك إثم الأريسيين، لأنه إذا كان عليه إثم الأتباع بسبب أنهم تبعوه على استمرار الكفر فلأن يكون عليه إثم نفسه أولى، وهذا يعد من مفهوم الموافقة، ولا يعارض بقوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) لأن وزر الآثم لا يتحمله غيره، ولكن الفاعل المتسبب والمتلبس بالسيئات يتحمل من جهتين جهة فعله وجهة تسببه. وقد ورد تفسير الأريسيين بمعنى آخر، فقال الليث بن سعد عن يونس فيما رواه الطبرانى فى الكبير من طريقه: الأريسيون العشارون يعنى أهل المكس. والأول أظهر. وهذا إن صح أنه المراد، فالمعنى المبالغة فى الإثم، ففى الصحيح فى المرأة التى اعترفت بالزنا"لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لقبلت".
قوله: (ويا أهل الكتاب الخ) هكذا وقع بإثبات الواو فى أوله، وذكر القاضى عياض أن الواو ساقطة من رواية الأصيلى وأبى ذر، وعلى ثبوتها فهى داخلة على مقدر معطوف على قوله: " أدعوك "، فالتقدير: أدعوك بدعاية الإسلام، وأقول لك ولأتباعك امتثالا لقول الله تعالى: (يا أهل الكتاب) . ويحتمل أن تكون من كلام أبى سفيان لأنه لم يحفظ جميع ألفاظ الكتاب، فاستحضر منها أول الكتاب فذكره، وكذا الآية. وكأنه قال فيه: كان فيه كذا وكان فيه يا أهل الكتاب. فالواو من كلامه لا من نفس الكتاب، وقيل إن النبى -صلى الله عليه وسلم -كتب ذلك قبل نزول الآية فوافق لفظه لفظها لما نزلت، والسبب فى هذا أن هذه الآية نزلت فى قصة وفد نجران، وكانت قصتهم سنة الوفود سنة تسع، وقصة سفيان كانت قبل ذلك سنة ست، وسيأتى ذلك واضحا فى المغازى، وقيل: بل نزلت سابقة فى أوائل الهجرة، وإليه يومئ كلام ابن إسحاق. وقيل: نزلت فى اليهود. وجوز بعضهم نزولها مرتين، وهو بعيد.
(فائدة): قيل فى هذا دليل على جواز قراءة الجنب للآية أو الآيتين، وبإرسال بعض القرآن إلى أرض العدو وكذا بالسفر به. وأغرب ابن بطال فادعى أن ذلك نسخ بالنهى عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو ويحتاج إلى إثبات التاريخ بذلك. ويحتمل أن يقال: إن المراد بالقرآن فى حديث النهى عن السفر به أى المصحف، وسيأتى الكلام على ذلك فى موضعه. وأما الجنب فيحتمل أن يقال إذا لم يقصد التلاوة جاز، على أن فى الاستدلال بذلك من هذه القصة نظرا، فإنها واقعة عين لا عموم فيها، فيقيد الجواز على ما إذا وقع احتياج إلى ذلك كالإبلاغ والإنذار كما فى هذه القصة، وأما الجواز مطلقا حيث لا ضرورة فلا يتجه، وسيأتى مزيدا لذلك فى كتاب الطهارة إن شاء الله تعالى. وقد اشتملت هذه الجمل القليلة التى تضمنها هذا الكتاب على الأمر بقوله:" أسلم"والترغيب بقوله: " تسلم ويؤتك " والزجر بقوله: " فإن توليت "
(40 / 1) والترهيب بقوله: " فإن عليك " والدلالة بقوله: " يا أهل الكتاب " وفى ذلك من البلاغة ما لا يخفى، وكيف لا وهو كلام من أوتى جوامع الكلم -صلى الله عليه وسلم-.
قوله: (فلما قال ما قال) يحتمل أن يشير بذلك إلى الأسئلة والأجوبة، ويحتمل أن يشير بذلك إلى القصة التى ذكرها ابن الناطور بعد، والضمائر كلها تعود على هرقل. والصخب: اللغط، وهو اختلاط الأصوات فى المخاصمة، زاد فى الجهاد: فلا أدرى ما قالوا.
قوله: (فقلت لأصحابى) زاد فى الجهاد: حين خلوت بهم.
قوله: (أمر) هو بفتح الهمزة وكسر الميم أى: عظم، وسيأتى فى تفسير سبحان. وابن أبى كبشة أراد به النبى -صلى الله عليه وسلم - لأن أبا كبشة أحد أجداده، وعادة العرب إذا انتقصت نسبت إلى جد غامض، قال أبو الحسن النسابة الجرجانى: هو جد وهب جد النبى -صلى الله عليه وسلم - لأمه. وهذا فيه نظر، لأن وهبا جد النبى -صلى الله عليه وسلم -اسم أمه عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال، ولم يقل أحد من أهل النسب إن الأوقص يكنى أبا كبشة. وقيل: هو جد عبد المطلب لأمه، وفيه نظر أيضا لأن أم عبد المطلب سلمى بنت عمرو بن زيد الخزرجى، ولم يقل أحد من أهل النسب إن عمرو بن زيد يكنى أبا كبشة. ولكن ذكر ابن حبيب فى المجتبى جماعة من أجداد النبى -صلى الله عليه وسلم -من قبل أبيه ومن قبل أمه كل واحد منهم يكنى أبا كبشة، وقيل هو أبوه من الرضاعة واسمه الحارث بن عبد العزى، قاله أبو الفتح الأزدى وابن ماكولا، وذكر يونس ابن بكير عن ابن إسحاق عن أبيه عن رجال من قومه أنه أسلم وكانت له بنت تسمى كبشة يكنى بها. وقال ابن قتيبة والخطابى والدارقطنى: هو رجل من خزاعة خالف قريشا فى عبادة الأوثان فعبد الشعرى فنسبوه إليه للاشتراك فى مطلق المخالفة، وكذا قاله الزبير، قال: واسمه وجز بن عامر بن غالب.
قوله: (إنه يخافه) هو بكسر الهمزة استئنافا تعليليا لا بفتحها ولثبوت اللام فى " ليخافه " فى رواية أخرى.
قوله: (ملك بنى الأصفر) هم الروم، ويقال إن جدهم روم بن عيص تزوج بنت ملك الحبشة فجاء لون ولده بين البياض والسواد فقيل له الأصفر، حكاه ابن الأنبارى. وقال ابن هشام فى التيجان: إنما لقب الأصفر لأن جدته سارة زوج إبراهيم حلته بالذهب.
قوله: (فما زلت موقنا) زاد فى حديث عبد الله بن شداد عن أبى سفيان"فما زلت مرعوبا من محمد حتى أسلمت"أخرجه الطبرانى.
قوله: (حتى أدخل الله على الإسلام) أى: فأظهرت ذلك اليقين، وليس المراد أن ذلك اليقين ارتفع.
قوله: (وكان ابن الناطور) هو بالطاء المهملة. وفى رواية الحموى بالظاء المعجمة، وهو بالعربية حارس البستان. ووقع فى رواية الليث عن يونس " ابن ناطورا " بزيادة ألف فى آخره. فعلى هذا هو اسم أعجمى.
(تنبيه): الواو فى قوله:"وكان" عاطفة، والتقدير عن الزهرى أخبرنى عبيد الله فذكر الحديث، ثم قال الزهرى: وكان ابن الناطور يحدث فذكر هذه القصة، فهى موصولة إلى ابن الناطور لا معلقة كما زعم بعض من لا عناية له بهذا الشأن، وكذلك أغرب بعض المغاربة فزعم أن قصة ابن الناطور مروية بالإسناد المذكور عن أبى سفيان عنه لأنه لما رآها لا تصريح فيها بالسماع حملها على ذلك، وقد بين أبو نعيم فى دلائل النبوة أن الزهرى قال: لقيته بدمشق فى زمن عبد الملك بن مروان. وأظنه لم يتحمل عنه ذلك إلا بعد أن أسلم، وإنما وصفه بكونه كان سقفا لينبه على أنه كان مطلعا على أسرارهم عالما بحقائق أخبارهم، وكأن الذى جزم بأنه من رواية الزهرى عن عبيد الله اعتمد على ما وقع فى سيرة ابن إسحاق فإنه قدم قصة ابن الناطور هذه على حديث أبى سفيان، فعنده عن عبيد الله عن ابن عباس أن هرقل أصبح خبيث النفس، فذكر نحوه. وجزم الحفاظ بما ذكرته أولا، وهذا مما ينبغى أن يعد فيما وقع من الإدراج أول الخبر. والله أعلم.
قوله: (صاحب إيلياء) أى: أميرها، هو منصوب على الاختصاص أو الحال، أو مرفوع على الصفة، وهى رواية أبى ذر، والإضافة التى فيه تقوم مقام التعريف.
(41/ 1) وقول من زعم أنها فى تقدير الانفصال فى مقام المنع، وهرقل معطوف على إيلياء، وأطلق عليه الصحبة له إما بمعنى اتبع، وإما بمعنى الصداقة، وفيه استعمال صاحب فى معنيين مجازى وحقيقى، لأنه بالنسبة إلى إيلياء أمير وذاك مجاز، وبالنسبة إلى هرقل تابع وذلك حقيقة. قال الكرمانى: وإرادة المعنيين الحقيقى والمجازى من لفظ واحد جائز عند الشافعى، وعند غيره محمول على إرادة معنى شامل لهما وهذا يسمى عموم المجاز.
وقوله: " سقفا " بضم السين والقاف كذا فى رواية غير أبى ذر، وهو منصوب على أنه خبر كان، و " يحدث " خبر بعد خبر. وفى رواية الكشميهنى سقف بكسر القاف على ما لم يسم فاعله. وفى رواية المستملى والسرخسى مثله لكن بزيادة ألف فى أوله، والأسقف والسقف لفظ أعجمى ومعناه رئيس دين النصارى، وقيل: عربى وهو الطويل فى انحناء، وقيل: ذلك للرئيس لأنه يتخاشع. وقال بعضهم: لا نظير له فى وزنه إلا الأسرب وهو الرصاص، لكن حكى ابن سيده ثالثا وهو الأسكف للصانع، ولا يرد الأترج لأنه جمع والكلام إنما هو فى المفرد، وعلى رواية أبى ذر يكون الخبر الجملة التى هى: " يحدث أن هرقل "، فالواو فى قوله: " وكان " عاطفة والتقدير عن الزهرى: أخبرنى عبيد الله بن عبد الله، فذكر حديث أبى سفيان بطوله ثم قال الزهرى: وكان ابن الناطور يحدث. وهذا صورة الإرسال.
قوله: (حين قدم إيلياء) يعنى فى هذه الأيام، وهى عند غلبة جنوده على جنود فارس وإخراجهم، وكان ذلك فى السنة التى اعتمر فيها النبى -صلى الله عليه وسلم - عمرة الحديبية، وبلغ المسلمين نصرة الروم على فارس ففرحوا. وقد ذكر الترمذى وغيره القصة مستوفاة فى تفسير قوله تعالى: (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله) ، وفى أول الحديث فى الجهاد عند المؤلف الإمارة إلى ذلك.
قوله: (خبيث النفس) أى: رديء النفس غير طيبها، أى مهموما. وقد تستعمل فى كسل النفس، وفى الصحيح: " لا يقولن أحدكم خبثت نفسى " كأنه كره اللفظ، والمراد بالخطاب المسلمون، وأما فى حق هرقل فغير ممتنع. وصرح فى رواية ابن إسحاق بقولهم له:" لقد أصبحت مهموما". والبطارقة: جمع بطريق بكسر أوله وهم خواص دولة الروم.
قوله: (حزاء) بالمهملة وتشديد الزاى آخره همزة منونة أى كاهنا، يقال حزا بالتخفيف يحزو حزوا أى تكهن،
وقوله: " ينظر فى النجوم " إن جعلتها خبرا ثانيا صح لأنه كان ينظر فى الأمرين، وإن جعلتها تفسيرا للأول فالكهانة تارة تستند إلى إلقاء الشياطين وتارة تستفاد من أحكام النجوم، وكان كل من الأمرين فى الجاهلية شائعا ذائعا، إلى أن أظهر الله الإسلام فانكسرت شوكتهم وأنكر الشرع الاعتماد عليهم، وكان ما اطلع عليه هرقل من ذلك بمقتضى حساب المنجمين، أنهم زعموا أن المولد النبوى كان بقران العلويين ببرج العقرب، وهما يقترنان فى كل عشرين سنة مرة إلا أن تستوفى المثلثة بروجها فى ستين سنة، فكان ابتداء العشرين الأولى المولد النبوى فى القرآن المذكور، وعند تمام العشرين الثانية مجيء جبريل بالوحى، وعند تمام الثالثة فتح خيبر وعمرة القضية التى جرت فتح مكة وظهور الإسلام، وفى تلك الأيام رأى هرقل ما رأى. ومن جملة ما ذكروه أيضا أن برج العقرب مائى وهو دليل ملك القوم الذين يختتنون، فكان ذلك دليلا على انتقال الملك إلى العرب، وأما اليهود فليسوا مرادا هنا لأن هذا لمن ينقل إليه الملك لا لمن انقضى ملكه. فإن قيل: كيف ساغ للبخارى إيراد هذا الخبر المشعر بتقوية أمر المنجمين والاعتماد على ما تدل عليه أحكامهم؟ فالجواب: أنه لم يقصد ذلك، بل قصد أن يبين أن الإشارات بالنبى -صلى الله عليه وسلم - جاءت من كل طريق وعلى لسان كل فريق من كاهن أو منجم محق أو مبطل أنسى أو جنى، وهذا من أبدع ما يشير إليه عالم أو يجنح إليه محتج. وقد قيل: إن الحزاء هو الذى ينظر فى الأعضاء وفى خيلان الوجه فيحكم على صاحبها بطريق الفراسة. وهذا إن ثبت فلا يلزم منه حصره فى ذلك بل اللائق بالسياق فى حق هرقل ما تقدم.
(42/ 1) قوله: (ملك الختان) بضم الميم وإسكان اللام، وللكشميهنى بفتح الميم وكسر اللام.
قوله: (قد ظهر) أى: غلب، يعنى دله نظره فى حكم النجوم على أن ملك الختان قد غلب، وهو كما قال، لأن فى تلك الأيام كان ابتداء ظهور النبى -صلى الله عليه وسلم - إذ صالح كفار مكة بالحديبية وأنزل الله تعالى عليه: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) إذ فتح مكة كان سببه نقض قريش العهد الذى كان بينهم بالحديبية، ومقدمة الظهور ظهور.
قوله: (من هذه الأمة) أى: من أهل هذا العصر، وإطلاق الأمة على أهل العصر كلهم فيه تجوز، وهذا بخلاف قوله: بعد هذا ملك هذه الأمة قد ظهر، فإن مراده به العرب خاصة، والحصر فى قولهم إلا اليهود هو بمقتضى علمهم، لأن اليهود كانوا بإيلياء وهى بيت المقدس كثيرين تحت الذلة مع الروم، بخلاف العرب فإنهم وإن كان منهم من هو تحت طاعة ملك الروم كآل غسان لكنهم كانوا ملوكا برأسهم.
قوله: (فلا يهمنك) بضم أوله، من أهم: أثار الهم. وقوله: " شأنهم " أى: أمرهم. و " مدائن ": جمع مدينة قال أبو على الفارسى: من جعله فعليه من قولك مدن بالمكان أى: أقام به، همزه كقبائل، ومن جعله مفعلة من قولك دين أى: ملك، لم يهمز كمعايش. انتهى. وما ذكره فى معايش هو المشهور، وقد روى خارجة عن نافع القارئ الهمز فى معايش. وقال القزاز: من همزها توهمها من فعيلة لشبهها بها فى اللفظ. انتهى.
قوله: (فبينما هم على أمرهم) أى: فى هذه المشورة.
قوله: (أتى هرقل برجل) لم يذكر من أحضره . وملك غسان هو صاحب بصرى الذى قدمنا ذكره، وأشرنا إلى أن ابن السكن روى أنه أرسل من عنده عدى بن حاتم، فيحتمل أن يكون هو المذكور. والله أعلم.
قوله: (عن خبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) فسر ذلك ابن إسحاق فى روايته فقال: خرج من بين أظهرنا رجل يزعم أنه نبى، فقد اتبعه ناس، وخالفه ناس، فكانت بينهم ملاحم فى مواطن، فتركتهم وهم على ذلك. فبين ما أجمل فى حديث الباب لأنه يوهم أن ذلك كان فى أوائل ما ظهر النبى -صلى الله عليه وسلم-. وفى رواية أنه قال: جردوه، فإذا هو مختتن، فقال: هذا والله الذى رأيته، أعطه ثوبه.
قوله: (هم يختتنون) فى رواية الأصيلى" هم مختتنون " بالميم والأول أفيد وأشمل.
قوله: (هذا ملك هذه الأمة قد ظهر) كذا لأكثر الرواة بالضم ثم السكون، وللقابسى بالفتح ثم الكسر، ولأبى ذر عن الكشميهنى وحده يملك فعل مضارع، قال القاضى: أظنها ضمة الميم اتصلت بها فتصحفت، ووجهه السهيلى فى أماليه بأنه مبتدأ وخبر، أى هذا المذكور بملك هذه الأمة. وقيل يجوز أن يكون يملك نعتا، أى: هذا رجل بملك هذه الأمة. وقال شيخنا: يجوز أن يكون المحذوف هو الموصول على رأى الكوفيين، أى هذا الذى يملك، وهو نظير
قوله: " وهذا تحملين طليق ". على أن الكوفيين يجوزون استعمال اسم الإشارة بمعنى الاسم الموصول، فيكون التقدير: الذى يملك، من غير حذف، قلت: لكن اتفاق الرواة على حذف الياء فى أوله دال على ما قال القاضى فيكون شاذا. على أننى رأيت فى أصل معتمد وعليه علامة السرخسى بباء موحدة فى أوله، وتوجيهها أقرب من توجيه الأول، لأنه حينئذ تكون الإشارة بهذا إلى ما ذكره من نظره فى حكم النجوم، والباء متعلقة بظهر، أى هذا الحكم ظهر بملك هذه الأمة التى تختتن.
قوله: (برومية) بالتخفيف، وهى مدينة معروفة للروم. وحمص مجرور بالفتحة منع صرفه للعلمية والتأنيث. ويحتمل أن يجوز صرفه.
قوله: (فلم يرم) بفتح أوله وكسر الراء أى: لم يبرح من مكانه، هذا هو المعروف. وقال الداودى: لم يصل إلى حمص وزيفوه.
قوله: (حتى أتاه كتاب من صاحبه) وفى حديث دحية الذى أشرت إليه قال: فلما خرجوا أدخلنى عليه وأرسل إلى الأسقف وهو صاحب أمرهم فقال: هذا الذى كنا ننتظر، وبشرنا به عيسى، أما أنا فمصدقه ومتبعه . فقال له قيصر: أما أنا إن فعلت ذلك ذهب ملكى، فذكر القصة، وفى آخره: فقال لى الأسقف: خذ هذا الكتاب واذهب إلى صاحبك فاقرأ عليه السلام وأخبره أنى أشهد أن لا إله إ لا الله وأن محمدا رسول الله، وأنى قد آمنت به وصدقته، وأنهم قد أنكروا على ذلك.
(1/43) ثم خرج إليهم فقتلوه. وفى رواية ابن إسحاق أن هرقل أرسل دحية إلى ضغاطر الرومى وقال: إنه فى الروم أجوز قولا منى، وإن ضغاطر المذكور أظهر إسلامه وألقى ثيابه التى كانت عليه ولبس ثيابا بيضا وخرج على الروم فدعاهم إلى الإسلام وشهد شهادة الحق، فقاموا إليه فضربوه حتى قتلوه. قال: فلما رجع دحية إلى هرقل قال له: قد قلت لك إنا نخافهم على أنفسنا، فضغاطر كان أعظم عندهم منى. قلت: فيحتمل أن يكون هو صاحب رومية الذى أبهم هنا، لكن يعكر عليه ما قيل: إن دحية لم يقدم على هرقل بهذا الكتاب المكتوب فى سنة الحديبية، وإنما قدم عليه بالكتاب المكتوب فى غزوة تبوك، فالراجح أن دحية قدم على هرقل أيضا فى الأولى، فعلى هذا يحتمل أن تكون وقعت لكل من الأسقف ومن ضغاطر قصة قتل كل منهما بسببها، أو وقعت لضغاطر قصتان إحداهما التى ذكرها ابن الناطور وليس فيها أنه أسلم ولا أنه قتل، والثانية التى ذكرها ابن إسحاق فإن فيها قصته مع دحية وأنه أسلم وقتل. والله أعلم.
قوله: (وسار هرقل إلى حمص) لأنها كانت دار ملكه كما قدمناه، وكانت فى زمانهم أعظم من دمشق. وكان فتحها على يد أبى عبيدة بن الجراح سنة ست عشرة بعد هذه القصة بعشر سنين.
قوله: (وأنه نبى) يدل على أن هرقل وصاحبه أقرا بنبوة نبينا -صلى الله عليه وسلم-، لكن هرقل كما ذكرنا لم يستمر على ذلك بخلاف صاحبه.
قوله: (فأذن) هى: بالقصر من الإذن. وفى رواية المستملى وغيره بالمد ومعناه أعلم. و"الدسكرة"بسكون السين المهملة: القصر الذى حوله بيوت، وكأنه دخل القصر ثم أغلقه وفتح أبواب البيوت التى حوله وأذن للروم فى دخولها ثم أغلقها ثم اطلع عليهم فخاطبهم، وإنما فعل ذلك خشية أن يثبوا به كما وثبوا بضغاطر.
قوله: (والرشد) فتحتين (وأن يثبت ملككم) لأنهم إن تمادوا على الكفر كان سببا لذهاب ملكهم، كما عرف هو ذلك من الأخبار السابقة.
قوله: (فتبايعوا) بمثناة ثم موحدة، وللكشميهنى بمثناتين وموحدة، وللأصيلى" فنبايع"بنون وموحدة (لهذا النبى) كذا لأبى ذر وللباقين بحذف اللام.
قوله: (فحاصوا) بمهملتين أى: نفروا، وشبههم بالوحوش لأن نفرتها أشد من نفرة البهائم الإنسية، وشبههم بالحمر دون غيرها من الوحوش لمناسبة الجهل وعدم الفطنة بل هم أضل.
قوله: (وأيس) فى رواية الكشميهنى والأصيلى " ويئس"بيائين تحتانيتين وهما بمعنى قنط والأول مقلوب من الثانى.
قوله: (من الإيمان) أى من إيمانهم لما أظهروه، ومن إيمانه لأنه شح بملكه كما قدمنا، وكان يحب أن يطيعوه فيستمر ملكه ويسلم ويسلموا بإسلامهم، فما أيس من الإيمان إلا بالشرط الذى أراده، وإلا فقد كان قادرا على أن يفر عنهم ويترك ملكه رغبة فيما عند الله والله الموفق.
قوله: (آنفا) أى: قريبا، وهو منصوب على الحال.
قوله: (فقد رأيت) زاد فى التفسير: فقد رأيت منكم الذى أحببت.
قوله: (فكان ذلك آخر شأن هرقل) أى: فيما يتعلق بهذه القصة المتعلقة بدعائه إلى الإيمان خاصة لأنه انقضى أمره حينئذ ومات، أو أنه أطلق الآخرية بالنسبة إلى ما فى علمه، وهذا أوجه، لأن هرقل وقعت له قصص أخرى بعد ذلك، منها ما أشرنا إليه من تجهيزه الجيوش إلى مؤتة ومن تجهيزه الجيوش أيضا إلى تبوك، ومكاتبة النبى -صلى الله عليه وسلم -له ثانيا، وإرساله إلى النبى -صلى الله عليه وسلم -بذهب فقسمه بين أصحابه كما فى رواية ابن حبان التى أشرنا إليها قبل وأبى عبيد، وفى المسند من طريق سعيد بن أبى راشد التنوخى رسول هرقل قال: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - تبوك فبعث دحية إلى هرقل، فلما جاءه الكتاب دعا قسيسى الروم وبطارقتها، فذكر الحديث، قال فتحيروا حتى إن بعضهم خرج من برنسه، فقال: اسكتوا، فإنما أردت أن أعلم تمسككم بدينكم. وروى ابن إسحاق عن خالد بن بشار عن رجل من قدماء الشام: أن هرقل لما أراد الخروج من الشام إلى القسطنطينية عرض على الروم أمورا:
(1/44) إما الإسلام وإما الجزية، وإما أن يصالح النبى -صلى الله عليه وسلم -ويبقى لهم ما دون الدرب، فأبوا، وأنه انطلق حتى إذا أشرف على الدرب استقبل أرض الشام ثم قال: السلام عليك أرض سورية - يعنى الشام - تسليم المودع، ثم ركض حتى دخل القسطنطينية. واختلف الإخباريون هل هو الذى حاربه المسلمون فى زمن أبى بكر وعمر أو ابنه؟ والأظهر أنه هو. والله أعلم.
(تنبيه) لما كان أمر هرقل فى الإيمان عند كثير من الناس مستبهما، لأنه يحتمل أن يكون عدم تصريحه بالإيمان للخوف على نفسه من القتل، ويحتمل أن يكون استمر على الشك حتى مات كافرا. وقال الراوى فى آخر القصة: فكان ذلك آخر شأن هرقل، ختم به البخارى هذا الباب الذى استفتحه بحديث الأعمال بالنيات، كأنه قال إن صدقت نيته انتفع بها فى الجملة، وإلا فقد خاب وخسر. فظهرت مناسبة إيراد قصة ابن الناطور فى بدء الوحى لمناسبتها حديث الأعمال المصدر الباب به. ويؤخذ للمصنف من آخر لفظ فى القصة براعة الاختتام، وهو واضح مما قررناه. فإن قيل: ما مناسبة حديث أبى سفيان فى قصة هرقل ببدء الوحى؟ فالجواب أنها تضمنت كيفية حال الناس مع النبى -صلى الله عليه وسلم -فى ذلك الابتداء، ولأن الآية المكتوبة إلى هرقل للدعاء إلى الإسلام ملتئمة مع الآية التى فى الترجمة وهى قوله تعالى: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح) الآية. وقال تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا) الآية، فبان أنه أوحى إليهم كلهم أن أقيموا الدين، وهو معنى قوله تعالى: (سواء بيننا وبينكم) الآية. (تكميل) ذكر السهيلى أنه بلغه أن هرقل وضع الكتاب فى قصبة من ذهب تعظيما له، وأنهم لم يزالوا يتوارثونه حتى كان عند ملك الفرنج الذى تغلب على طليطلة، ثم كان عند سبطه، فحدثنى بعض أصحابنا أن عبد الملك بن سعد أحد قواد المسلمين اجتمع بذلك الملك فأخرج له الكتاب، فلما رآه استعبر وسأل أن يمكنه من تقبيله، فامتنع. قلت: وأنبأنى غير واحد عن القاضى نور الدين بن الصائغ الدمشقى قال: حدثنى سيف الدين فليح المنصورى قال: أرسلنى الملك المنصور قلاوون إلى ملك الغرب بهدية، فأرسلنى ملك الغرب إلى ملك الفرنج فى شفاعة فقبلها، وعرض على الإقامة عنده فامتنعت، فقال لى: لأتحفنك بتحفة سنية، فأخرج لى صندوقا مصفحا بذهب، فأخرج منه مقلمة ذهب، فأخرج منها كتابا قد زالت أكثر حروفه وقد التصقت عليه خرقة حرير فقال: هذا كتاب نبيكم إلى جدى قيصر، ما زلنا نتوارثه إلى الآن، وأوصانا آباؤنا أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا، فنحن نحفظه غاية الحفظ ونعظمه ونكتمه عن النصارى ليدوم الملك فينا. انتهى. ويؤيد هذا ما وقع فى حديث سعيد بن أبى راشد الذى أشرت إليه آنفا أن النبى -صلى الله عليه وسلم -عرض على التنوخى رسول هرقل الإسلام فامتنع، فقال له: يا أخا تنوخ إنى كتبت إلى ملككم بصحيفة فأمسكها، فلن يزال الناس يجدون منه بأسا ما دام فى العيش خير. وكذلك أخرج أبو عبيد فى كتاب الأموال من مرسل عمير بن إسحاق قال: كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -إلى كسرى وقيصر، فأما كسرى فلما قرأ الكتاب مزقه، وأما قيصر فلما قرأ الكتاب طواه ثم رفعه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أما هؤلاء فيمزقون، وأما هؤلاء فستكون لهم بقية، ويؤيده ما روى أن النبى -صلى الله عليه وسلم -لما جاءه جواب كسرى قال: مزق الله ملكه. ولما جاءه جواب هرقل قال: ثبت الله ملكه. والله أعلم.
قوله: (رواه صالح بن كيسان ويونس ومعمر عن الزهرى) قال الكرمانى يحتمل ذلك وجهين: أن يروى البخارى عن الثلاثة بالإسناد المذكور كأنه قال: أخبرنا أبو اليمان أخبرنا هؤلاء الثلاثة عن الزهرى، وأن يروى عنهم بطريق آخر. كما أن الزهرى يحتمل أيضا فى رواية الثلاثة أن يروى لهم عن عبيد الله عن ابن عباس، وأن يروى لهم عن غيره. هذا ما يحتمل اللفظ، وإن كان الظاهر الاتحاد.
(1/45) قلت: هذا الظاهر كاف لمن شم أدنى رائحة من علم الإسناد. والاحتمالات العقلية المجردة لا مدخل لها فى هذا الفن، وأما الاحتمال الأول فأشد بعدا لأن أبا اليمان لم يلحق صالح بن كيسان ولا سمع من يونس، وهذا أمر يتعلق بالنقل المحض فلا يلتفت إلى ما عداه، ولو كان من أهل النقل لاطلع على كيفية رواية الثلاثة لهذا الحديث بخصوصه فاستراح من هذا التردد، وقد أوضحت ذلك فى كتابى تعليق التعليق وأشير هنا إليه إشارة مفهمة: فرواية صالح وهو ابن كيسان أخرجها المؤلف فى كتاب الجهاد بتمامها، من طريق إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن الزهرى عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس، وفيها من الفوائد الزوائد ما أشرت إليه فى أثناء الكلام على هذا الحديث من قبل، ولكنه انتهى حديثه عند قول أبى سفيان:"حتى أدخل الله على الإسلام " زاد هنا: " وأنا كاره " ولم يذكر قصة ابن الناطور. وكذا أخرجه مسلم بدونها من حديث إبراهيم المذكور، و رواية يونس أيضا عن الزهرى بهذا الإسناد أخرجها المؤلف فى الجهاد مختصرة من طريق الليث، وفى الاستئذان مختصرة أيضا من طريق ابن المبارك كلاهما عن يونس عن الزهرى بسنده بعينه، ولم يسقه بتمامه، وقد ساقه بتمامه الطبرانى من طريق عبد الله بن صالح عن الليث، وذكر فيه قصة ابن الناطور، ورواية معمر عن الزهرى كذلك ساقها المؤلف بتمامها فى التفسير، وقد أشرنا إلى بعض فوائد زائدة فيما مضى أيضا، وذكر فيه من قصة ابن الناطور قطعة مختصرة عن الزهرى مرسلة. فقد ظهر لك أن أبا اليمان ما روى هذا الحديث عن واحد من الثلاثة، وأن الزهرى إنما رواه لأصحابه بسند واحد عن شيخ واحد وهو عبيد الله بن عبد الله، وأن أحاديث الثلاثة عند المصنف عن غير أبى اليمان، ولو احتمل أن يرويه لهم أو لبعضهم عن شيخ آخر لكان ذلك اختلافا قد يفضى إلى الاضطراب الموجب للضعف، فلاح فساد ذلك الاحتمال، والله سبحانه وتعالى الموفق والهادى إلى الصواب لا إله إلا هو
فتح البارى . للإمام ابن حجر العسقلانى
تابع الشرح
(1/38) قوله: (دحية) بكسر الدال، وحكى فتحها لغتان، ويقال إنه الرئيس بلغة أهل اليمن، وهو ابن خليفة الكلبى، صحابى جليل كان أحسن الناس وجها، وأسلم قديما، وبعثه النبى -صلى الله عليه وسلم - فى آخر سنة ست بعد أن رجع من الحديبية بكتابه إلى هرقل، وكان وصوله إلى هرقل فى المحرم سنة سبع، قاله الواقدى. ووقع فى تاريخ خليفة أن إرسال الكتاب إلى هرقل كان سنة خمس، والأول أثبت، بل هذا غلط لتصريح أبى سفيان بأن ذلك كان فى مدة الهدنة، والهدنة كانت فى آخر سنة ست اتفاقا، ومات دحية فى خلافة معاوية. وبصرى بضم أوله والقصر مدينة بين المدينة ودمشق، وقيل هى حوران، وعظيمها هو الحارث بن أبى شمر الغسانى. وفى الصحابة لابن السكن أنه أرسل بكتاب النبى -صلى الله عليه وسلم -إلى هرقل مع عدى بن حاتم، وكان عدى إذ ذاك نصرانيا، فوصل به هو ودحية معا، وكانت وفاة الحارث المذكور عام الفتح.
قوله: (من محمد) فيه أن السنة أن يبدأ الكتاب بنفسه، وهو قول الجمهور، بل حكى فيه النحاس إجماع الصحابة. والحق إثبات الخلاف. وفيه أن " من " التى لابتداء الغاية تأتى من غير الزمان والمكان كذا قاله أبو حيان، والظاهر أنها هنا أيضا لم تخرج عن ذلك، لكن بارتكاب مجاز. زاد فى حديث دحية: وعنده ابن أخ له أحمر أزرق سبط الرأس. وفيه: لما قرأ الكتاب سخر فقال: لا تقرأه، إنه بدأ بنفسه. فقال قيصر: لتقرأنه. فقرأه. وقد ذكر البزار فى مسنده عن دحية الكلبى أنه هو ناول الكتاب لقيصر، ولفظه " بعثنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكتابه إلى قيصر فأعطيته الكتاب ".
قوله: (عظيم الروم) فيه عدول عن ذكره بالملك أو الإمرة، لأنه معزول بحكم الإسلام، لكنه لم يخله من إكرام لمصلحة التألف. وفى حديث دحية أن ابن أخى قيصر أنكر أيضا كونه لم يقل ملك الروم.
قوله: (سلام على من اتبع الهدى) فى رواية المصنف فى وقد ذكرت فى قصة موسى وهارون مع فرعون. وظاهر السياق يدل على أنه من جملة ما أمرا به أن يقولاه. فإن قيل: كيف يبدأ الكافر بالسلام؟ فالجواب أن المفسرين قالوا: ليس المراد من هذا التحية، إنما معناه سلم من عذاب الله من أسلم. ولهذا جاء بعده أن العذاب على من كذب وتولى. وكذا جاء فى بقية هذا الكتاب " فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ". فمحصل الجواب أنه لم يبدأ الكافر بالسلام قصدا وإن كان اللفظ يشعر به، لكنه لم يدخل فى المراد لأنه ليس ممن اتبع الهدى فلم يسلم عليه.
قوله: (أما بعد) فى قوله " أما " معنى الشرط، وتستعمل لتفصيل ما يذكر بعدها غالبا، وقد ترد مستأنفة لا لتفصيل كالتى هنا، وللتفصيل والتقرير.
وقال الكرمانى: هى هنا للتفصيل وتقديره: أما الابتداء فهو اسم الله، وأما المكتوب فهو من محمد رسول الله الخ، كذا قال. ولفظة"بعد"مبنية على الضم، وكان الأصل أن تفتح لو استمرت على الإضافة، لكنها قطعت عن الإضافة فبنيت على الضم، وسيأتى مزيد فى الكلام عليها فى كتاب الجمعة.
قوله: (بدعاية الإسلام) بكسر الدال، من قولك دعا يدعو دعاية نحو شكا يشكو شكاية . ولمسلم: " بداعية الإسلام " أى: بالكلمة الداعية إلى الإسلام، وهى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والباء موضع إلى.
وقوله: " أسلم تسلم " غاية فى البلاغ، وفيه نوع من البديع وهو الجناس الاشتقاقى .
قوله: (يؤتك) جواب ثان للأمر. وفى الجهاد للمؤلف " أسلم أسلم يؤتك " بتكرار أسلم، فيحتمل التأكيد، ويحتمل أن يكون الأمر الأول للدخول فى الإسلام والثانى للدوام عليه كما فى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله) الآية. وهو موافق لقوله تعالى: (أولئك يؤتون أجرهم مرتين) الآية. وإعطاؤه الأجر مرتين لكونه كان مؤمنا بنبيه ثم آمن بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، ويحتمل أن يكون تضعيف الأجر له من جهة إسلامه ومن جهة أن إسلامه يكون سببا لدخول أتباعه. وسيأتى التصريح بذلك فى موضعه من حديث الشعبى من كتاب العلم إن شاء الله تعالى. واستنبط منه شيخنا شيخ الإسلام أن كل من دان بدين أهل الكتاب كان فى حكمهم فى المناكحة والذبائح، لأن هرقل هو وقومه ليسوا من بنى إسرائيل، وهم ممن دخل فى النصرانية بعد التبديل. وقد قال له ولقومه: (يا أهل الكتاب) فدل على أن لهم حكم أهل الكتاب
(1/39) خلافا لمن خص ذلك بالإسرائيليين أو بمن علم أن سلفه ممن دخل فى اليهودية أو النصرانية قبل التبديل. والله أعلم.
قوله: (فإن توليت) أى: أعرضت عن الإجابة إلى الدخول فى الإسلام. وحقيقة التولى إنما هو بالوجه، ثم استعمل مجازا فى الإعراض عن الشيء، وهى استعارة تبعية.
قوله: (الأريسيين) هو جمع أريسى، وهو منسوب إلى أريس بوزن فعيل، وقد تقلب همزته ياء كما جاءت به رواية أبى ذر والأصيلى وغيرهما هنا، قال ابن سيده: الأريس الأكار، أى: الفلاح عند ثعلب، وعند كراع: الأريس هو الأمير. وقال الجوهرى: هى لغة شامية، وأنكر ابن فارس أن تكون عربية، وقيل فى تفسيره غير ذلك لكن هذا هو الصحيح هنا، فقد جاء مصرحا به فى رواية ابن إسحاق عن الزهرى بلفظ " فإن عليك إثم الأكارين " زاد البرقانى فى روايته: يعنى الحراثين، ويؤيده أيضا ما فى رواية المدائنى من طريق مرسلة " فإن عليك إثم الفلاحين "، وكذا عند أبى عبيد فى كتاب الأموال من مرسل عبد الله بن شداد " وإن لم تدخل فى الإسلام فلا تحل بين الفلاحين وبين الإسلام " قال أبو عبيدة: المراد بالفلاحين أهل مملكته، لأن كل من كان يزرع فهو عند العرب فلاح، سواء كان يلى ذلك بنفسه أو بغيره. قال الخطابى: أراد أن عليك إثم الضعفاء والأتباع إذا لم يسلموا تقليدا له، لأن الأصاغر أتباع الأكابر. قلت: وفى الكلام حذف دل المعنى عليه وهو: فإن عليك مع إثمك إثم الأريسيين، لأنه إذا كان عليه إثم الأتباع بسبب أنهم تبعوه على استمرار الكفر فلأن يكون عليه إثم نفسه أولى، وهذا يعد من مفهوم الموافقة، ولا يعارض بقوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) لأن وزر الآثم لا يتحمله غيره، ولكن الفاعل المتسبب والمتلبس بالسيئات يتحمل من جهتين جهة فعله وجهة تسببه. وقد ورد تفسير الأريسيين بمعنى آخر، فقال الليث بن سعد عن يونس فيما رواه الطبرانى فى الكبير من طريقه: الأريسيون العشارون يعنى أهل المكس. والأول أظهر. وهذا إن صح أنه المراد، فالمعنى المبالغة فى الإثم، ففى الصحيح فى المرأة التى اعترفت بالزنا"لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لقبلت".
قوله: (ويا أهل الكتاب الخ) هكذا وقع بإثبات الواو فى أوله، وذكر القاضى عياض أن الواو ساقطة من رواية الأصيلى وأبى ذر، وعلى ثبوتها فهى داخلة على مقدر معطوف على قوله: " أدعوك "، فالتقدير: أدعوك بدعاية الإسلام، وأقول لك ولأتباعك امتثالا لقول الله تعالى: (يا أهل الكتاب) . ويحتمل أن تكون من كلام أبى سفيان لأنه لم يحفظ جميع ألفاظ الكتاب، فاستحضر منها أول الكتاب فذكره، وكذا الآية. وكأنه قال فيه: كان فيه كذا وكان فيه يا أهل الكتاب. فالواو من كلامه لا من نفس الكتاب، وقيل إن النبى -صلى الله عليه وسلم -كتب ذلك قبل نزول الآية فوافق لفظه لفظها لما نزلت، والسبب فى هذا أن هذه الآية نزلت فى قصة وفد نجران، وكانت قصتهم سنة الوفود سنة تسع، وقصة سفيان كانت قبل ذلك سنة ست، وسيأتى ذلك واضحا فى المغازى، وقيل: بل نزلت سابقة فى أوائل الهجرة، وإليه يومئ كلام ابن إسحاق. وقيل: نزلت فى اليهود. وجوز بعضهم نزولها مرتين، وهو بعيد.
(فائدة): قيل فى هذا دليل على جواز قراءة الجنب للآية أو الآيتين، وبإرسال بعض القرآن إلى أرض العدو وكذا بالسفر به. وأغرب ابن بطال فادعى أن ذلك نسخ بالنهى عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو ويحتاج إلى إثبات التاريخ بذلك. ويحتمل أن يقال: إن المراد بالقرآن فى حديث النهى عن السفر به أى المصحف، وسيأتى الكلام على ذلك فى موضعه. وأما الجنب فيحتمل أن يقال إذا لم يقصد التلاوة جاز، على أن فى الاستدلال بذلك من هذه القصة نظرا، فإنها واقعة عين لا عموم فيها، فيقيد الجواز على ما إذا وقع احتياج إلى ذلك كالإبلاغ والإنذار كما فى هذه القصة، وأما الجواز مطلقا حيث لا ضرورة فلا يتجه، وسيأتى مزيدا لذلك فى كتاب الطهارة إن شاء الله تعالى. وقد اشتملت هذه الجمل القليلة التى تضمنها هذا الكتاب على الأمر بقوله:" أسلم"والترغيب بقوله: " تسلم ويؤتك " والزجر بقوله: " فإن توليت "
(40 / 1) والترهيب بقوله: " فإن عليك " والدلالة بقوله: " يا أهل الكتاب " وفى ذلك من البلاغة ما لا يخفى، وكيف لا وهو كلام من أوتى جوامع الكلم -صلى الله عليه وسلم-.
قوله: (فلما قال ما قال) يحتمل أن يشير بذلك إلى الأسئلة والأجوبة، ويحتمل أن يشير بذلك إلى القصة التى ذكرها ابن الناطور بعد، والضمائر كلها تعود على هرقل. والصخب: اللغط، وهو اختلاط الأصوات فى المخاصمة، زاد فى الجهاد: فلا أدرى ما قالوا.
قوله: (فقلت لأصحابى) زاد فى الجهاد: حين خلوت بهم.
قوله: (أمر) هو بفتح الهمزة وكسر الميم أى: عظم، وسيأتى فى تفسير سبحان. وابن أبى كبشة أراد به النبى -صلى الله عليه وسلم - لأن أبا كبشة أحد أجداده، وعادة العرب إذا انتقصت نسبت إلى جد غامض، قال أبو الحسن النسابة الجرجانى: هو جد وهب جد النبى -صلى الله عليه وسلم - لأمه. وهذا فيه نظر، لأن وهبا جد النبى -صلى الله عليه وسلم -اسم أمه عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال، ولم يقل أحد من أهل النسب إن الأوقص يكنى أبا كبشة. وقيل: هو جد عبد المطلب لأمه، وفيه نظر أيضا لأن أم عبد المطلب سلمى بنت عمرو بن زيد الخزرجى، ولم يقل أحد من أهل النسب إن عمرو بن زيد يكنى أبا كبشة. ولكن ذكر ابن حبيب فى المجتبى جماعة من أجداد النبى -صلى الله عليه وسلم -من قبل أبيه ومن قبل أمه كل واحد منهم يكنى أبا كبشة، وقيل هو أبوه من الرضاعة واسمه الحارث بن عبد العزى، قاله أبو الفتح الأزدى وابن ماكولا، وذكر يونس ابن بكير عن ابن إسحاق عن أبيه عن رجال من قومه أنه أسلم وكانت له بنت تسمى كبشة يكنى بها. وقال ابن قتيبة والخطابى والدارقطنى: هو رجل من خزاعة خالف قريشا فى عبادة الأوثان فعبد الشعرى فنسبوه إليه للاشتراك فى مطلق المخالفة، وكذا قاله الزبير، قال: واسمه وجز بن عامر بن غالب.
قوله: (إنه يخافه) هو بكسر الهمزة استئنافا تعليليا لا بفتحها ولثبوت اللام فى " ليخافه " فى رواية أخرى.
قوله: (ملك بنى الأصفر) هم الروم، ويقال إن جدهم روم بن عيص تزوج بنت ملك الحبشة فجاء لون ولده بين البياض والسواد فقيل له الأصفر، حكاه ابن الأنبارى. وقال ابن هشام فى التيجان: إنما لقب الأصفر لأن جدته سارة زوج إبراهيم حلته بالذهب.
قوله: (فما زلت موقنا) زاد فى حديث عبد الله بن شداد عن أبى سفيان"فما زلت مرعوبا من محمد حتى أسلمت"أخرجه الطبرانى.
قوله: (حتى أدخل الله على الإسلام) أى: فأظهرت ذلك اليقين، وليس المراد أن ذلك اليقين ارتفع.
قوله: (وكان ابن الناطور) هو بالطاء المهملة. وفى رواية الحموى بالظاء المعجمة، وهو بالعربية حارس البستان. ووقع فى رواية الليث عن يونس " ابن ناطورا " بزيادة ألف فى آخره. فعلى هذا هو اسم أعجمى.
(تنبيه): الواو فى قوله:"وكان" عاطفة، والتقدير عن الزهرى أخبرنى عبيد الله فذكر الحديث، ثم قال الزهرى: وكان ابن الناطور يحدث فذكر هذه القصة، فهى موصولة إلى ابن الناطور لا معلقة كما زعم بعض من لا عناية له بهذا الشأن، وكذلك أغرب بعض المغاربة فزعم أن قصة ابن الناطور مروية بالإسناد المذكور عن أبى سفيان عنه لأنه لما رآها لا تصريح فيها بالسماع حملها على ذلك، وقد بين أبو نعيم فى دلائل النبوة أن الزهرى قال: لقيته بدمشق فى زمن عبد الملك بن مروان. وأظنه لم يتحمل عنه ذلك إلا بعد أن أسلم، وإنما وصفه بكونه كان سقفا لينبه على أنه كان مطلعا على أسرارهم عالما بحقائق أخبارهم، وكأن الذى جزم بأنه من رواية الزهرى عن عبيد الله اعتمد على ما وقع فى سيرة ابن إسحاق فإنه قدم قصة ابن الناطور هذه على حديث أبى سفيان، فعنده عن عبيد الله عن ابن عباس أن هرقل أصبح خبيث النفس، فذكر نحوه. وجزم الحفاظ بما ذكرته أولا، وهذا مما ينبغى أن يعد فيما وقع من الإدراج أول الخبر. والله أعلم.
قوله: (صاحب إيلياء) أى: أميرها، هو منصوب على الاختصاص أو الحال، أو مرفوع على الصفة، وهى رواية أبى ذر، والإضافة التى فيه تقوم مقام التعريف.
(41/ 1) وقول من زعم أنها فى تقدير الانفصال فى مقام المنع، وهرقل معطوف على إيلياء، وأطلق عليه الصحبة له إما بمعنى اتبع، وإما بمعنى الصداقة، وفيه استعمال صاحب فى معنيين مجازى وحقيقى، لأنه بالنسبة إلى إيلياء أمير وذاك مجاز، وبالنسبة إلى هرقل تابع وذلك حقيقة. قال الكرمانى: وإرادة المعنيين الحقيقى والمجازى من لفظ واحد جائز عند الشافعى، وعند غيره محمول على إرادة معنى شامل لهما وهذا يسمى عموم المجاز.
وقوله: " سقفا " بضم السين والقاف كذا فى رواية غير أبى ذر، وهو منصوب على أنه خبر كان، و " يحدث " خبر بعد خبر. وفى رواية الكشميهنى سقف بكسر القاف على ما لم يسم فاعله. وفى رواية المستملى والسرخسى مثله لكن بزيادة ألف فى أوله، والأسقف والسقف لفظ أعجمى ومعناه رئيس دين النصارى، وقيل: عربى وهو الطويل فى انحناء، وقيل: ذلك للرئيس لأنه يتخاشع. وقال بعضهم: لا نظير له فى وزنه إلا الأسرب وهو الرصاص، لكن حكى ابن سيده ثالثا وهو الأسكف للصانع، ولا يرد الأترج لأنه جمع والكلام إنما هو فى المفرد، وعلى رواية أبى ذر يكون الخبر الجملة التى هى: " يحدث أن هرقل "، فالواو فى قوله: " وكان " عاطفة والتقدير عن الزهرى: أخبرنى عبيد الله بن عبد الله، فذكر حديث أبى سفيان بطوله ثم قال الزهرى: وكان ابن الناطور يحدث. وهذا صورة الإرسال.
قوله: (حين قدم إيلياء) يعنى فى هذه الأيام، وهى عند غلبة جنوده على جنود فارس وإخراجهم، وكان ذلك فى السنة التى اعتمر فيها النبى -صلى الله عليه وسلم - عمرة الحديبية، وبلغ المسلمين نصرة الروم على فارس ففرحوا. وقد ذكر الترمذى وغيره القصة مستوفاة فى تفسير قوله تعالى: (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله) ، وفى أول الحديث فى الجهاد عند المؤلف الإمارة إلى ذلك.
قوله: (خبيث النفس) أى: رديء النفس غير طيبها، أى مهموما. وقد تستعمل فى كسل النفس، وفى الصحيح: " لا يقولن أحدكم خبثت نفسى " كأنه كره اللفظ، والمراد بالخطاب المسلمون، وأما فى حق هرقل فغير ممتنع. وصرح فى رواية ابن إسحاق بقولهم له:" لقد أصبحت مهموما". والبطارقة: جمع بطريق بكسر أوله وهم خواص دولة الروم.
قوله: (حزاء) بالمهملة وتشديد الزاى آخره همزة منونة أى كاهنا، يقال حزا بالتخفيف يحزو حزوا أى تكهن،
وقوله: " ينظر فى النجوم " إن جعلتها خبرا ثانيا صح لأنه كان ينظر فى الأمرين، وإن جعلتها تفسيرا للأول فالكهانة تارة تستند إلى إلقاء الشياطين وتارة تستفاد من أحكام النجوم، وكان كل من الأمرين فى الجاهلية شائعا ذائعا، إلى أن أظهر الله الإسلام فانكسرت شوكتهم وأنكر الشرع الاعتماد عليهم، وكان ما اطلع عليه هرقل من ذلك بمقتضى حساب المنجمين، أنهم زعموا أن المولد النبوى كان بقران العلويين ببرج العقرب، وهما يقترنان فى كل عشرين سنة مرة إلا أن تستوفى المثلثة بروجها فى ستين سنة، فكان ابتداء العشرين الأولى المولد النبوى فى القرآن المذكور، وعند تمام العشرين الثانية مجيء جبريل بالوحى، وعند تمام الثالثة فتح خيبر وعمرة القضية التى جرت فتح مكة وظهور الإسلام، وفى تلك الأيام رأى هرقل ما رأى. ومن جملة ما ذكروه أيضا أن برج العقرب مائى وهو دليل ملك القوم الذين يختتنون، فكان ذلك دليلا على انتقال الملك إلى العرب، وأما اليهود فليسوا مرادا هنا لأن هذا لمن ينقل إليه الملك لا لمن انقضى ملكه. فإن قيل: كيف ساغ للبخارى إيراد هذا الخبر المشعر بتقوية أمر المنجمين والاعتماد على ما تدل عليه أحكامهم؟ فالجواب: أنه لم يقصد ذلك، بل قصد أن يبين أن الإشارات بالنبى -صلى الله عليه وسلم - جاءت من كل طريق وعلى لسان كل فريق من كاهن أو منجم محق أو مبطل أنسى أو جنى، وهذا من أبدع ما يشير إليه عالم أو يجنح إليه محتج. وقد قيل: إن الحزاء هو الذى ينظر فى الأعضاء وفى خيلان الوجه فيحكم على صاحبها بطريق الفراسة. وهذا إن ثبت فلا يلزم منه حصره فى ذلك بل اللائق بالسياق فى حق هرقل ما تقدم.
(42/ 1) قوله: (ملك الختان) بضم الميم وإسكان اللام، وللكشميهنى بفتح الميم وكسر اللام.
قوله: (قد ظهر) أى: غلب، يعنى دله نظره فى حكم النجوم على أن ملك الختان قد غلب، وهو كما قال، لأن فى تلك الأيام كان ابتداء ظهور النبى -صلى الله عليه وسلم - إذ صالح كفار مكة بالحديبية وأنزل الله تعالى عليه: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) إذ فتح مكة كان سببه نقض قريش العهد الذى كان بينهم بالحديبية، ومقدمة الظهور ظهور.
قوله: (من هذه الأمة) أى: من أهل هذا العصر، وإطلاق الأمة على أهل العصر كلهم فيه تجوز، وهذا بخلاف قوله: بعد هذا ملك هذه الأمة قد ظهر، فإن مراده به العرب خاصة، والحصر فى قولهم إلا اليهود هو بمقتضى علمهم، لأن اليهود كانوا بإيلياء وهى بيت المقدس كثيرين تحت الذلة مع الروم، بخلاف العرب فإنهم وإن كان منهم من هو تحت طاعة ملك الروم كآل غسان لكنهم كانوا ملوكا برأسهم.
قوله: (فلا يهمنك) بضم أوله، من أهم: أثار الهم. وقوله: " شأنهم " أى: أمرهم. و " مدائن ": جمع مدينة قال أبو على الفارسى: من جعله فعليه من قولك مدن بالمكان أى: أقام به، همزه كقبائل، ومن جعله مفعلة من قولك دين أى: ملك، لم يهمز كمعايش. انتهى. وما ذكره فى معايش هو المشهور، وقد روى خارجة عن نافع القارئ الهمز فى معايش. وقال القزاز: من همزها توهمها من فعيلة لشبهها بها فى اللفظ. انتهى.
قوله: (فبينما هم على أمرهم) أى: فى هذه المشورة.
قوله: (أتى هرقل برجل) لم يذكر من أحضره . وملك غسان هو صاحب بصرى الذى قدمنا ذكره، وأشرنا إلى أن ابن السكن روى أنه أرسل من عنده عدى بن حاتم، فيحتمل أن يكون هو المذكور. والله أعلم.
قوله: (عن خبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) فسر ذلك ابن إسحاق فى روايته فقال: خرج من بين أظهرنا رجل يزعم أنه نبى، فقد اتبعه ناس، وخالفه ناس، فكانت بينهم ملاحم فى مواطن، فتركتهم وهم على ذلك. فبين ما أجمل فى حديث الباب لأنه يوهم أن ذلك كان فى أوائل ما ظهر النبى -صلى الله عليه وسلم-. وفى رواية أنه قال: جردوه، فإذا هو مختتن، فقال: هذا والله الذى رأيته، أعطه ثوبه.
قوله: (هم يختتنون) فى رواية الأصيلى" هم مختتنون " بالميم والأول أفيد وأشمل.
قوله: (هذا ملك هذه الأمة قد ظهر) كذا لأكثر الرواة بالضم ثم السكون، وللقابسى بالفتح ثم الكسر، ولأبى ذر عن الكشميهنى وحده يملك فعل مضارع، قال القاضى: أظنها ضمة الميم اتصلت بها فتصحفت، ووجهه السهيلى فى أماليه بأنه مبتدأ وخبر، أى هذا المذكور بملك هذه الأمة. وقيل يجوز أن يكون يملك نعتا، أى: هذا رجل بملك هذه الأمة. وقال شيخنا: يجوز أن يكون المحذوف هو الموصول على رأى الكوفيين، أى هذا الذى يملك، وهو نظير
قوله: " وهذا تحملين طليق ". على أن الكوفيين يجوزون استعمال اسم الإشارة بمعنى الاسم الموصول، فيكون التقدير: الذى يملك، من غير حذف، قلت: لكن اتفاق الرواة على حذف الياء فى أوله دال على ما قال القاضى فيكون شاذا. على أننى رأيت فى أصل معتمد وعليه علامة السرخسى بباء موحدة فى أوله، وتوجيهها أقرب من توجيه الأول، لأنه حينئذ تكون الإشارة بهذا إلى ما ذكره من نظره فى حكم النجوم، والباء متعلقة بظهر، أى هذا الحكم ظهر بملك هذه الأمة التى تختتن.
قوله: (برومية) بالتخفيف، وهى مدينة معروفة للروم. وحمص مجرور بالفتحة منع صرفه للعلمية والتأنيث. ويحتمل أن يجوز صرفه.
قوله: (فلم يرم) بفتح أوله وكسر الراء أى: لم يبرح من مكانه، هذا هو المعروف. وقال الداودى: لم يصل إلى حمص وزيفوه.
قوله: (حتى أتاه كتاب من صاحبه) وفى حديث دحية الذى أشرت إليه قال: فلما خرجوا أدخلنى عليه وأرسل إلى الأسقف وهو صاحب أمرهم فقال: هذا الذى كنا ننتظر، وبشرنا به عيسى، أما أنا فمصدقه ومتبعه . فقال له قيصر: أما أنا إن فعلت ذلك ذهب ملكى، فذكر القصة، وفى آخره: فقال لى الأسقف: خذ هذا الكتاب واذهب إلى صاحبك فاقرأ عليه السلام وأخبره أنى أشهد أن لا إله إ لا الله وأن محمدا رسول الله، وأنى قد آمنت به وصدقته، وأنهم قد أنكروا على ذلك.
(1/43) ثم خرج إليهم فقتلوه. وفى رواية ابن إسحاق أن هرقل أرسل دحية إلى ضغاطر الرومى وقال: إنه فى الروم أجوز قولا منى، وإن ضغاطر المذكور أظهر إسلامه وألقى ثيابه التى كانت عليه ولبس ثيابا بيضا وخرج على الروم فدعاهم إلى الإسلام وشهد شهادة الحق، فقاموا إليه فضربوه حتى قتلوه. قال: فلما رجع دحية إلى هرقل قال له: قد قلت لك إنا نخافهم على أنفسنا، فضغاطر كان أعظم عندهم منى. قلت: فيحتمل أن يكون هو صاحب رومية الذى أبهم هنا، لكن يعكر عليه ما قيل: إن دحية لم يقدم على هرقل بهذا الكتاب المكتوب فى سنة الحديبية، وإنما قدم عليه بالكتاب المكتوب فى غزوة تبوك، فالراجح أن دحية قدم على هرقل أيضا فى الأولى، فعلى هذا يحتمل أن تكون وقعت لكل من الأسقف ومن ضغاطر قصة قتل كل منهما بسببها، أو وقعت لضغاطر قصتان إحداهما التى ذكرها ابن الناطور وليس فيها أنه أسلم ولا أنه قتل، والثانية التى ذكرها ابن إسحاق فإن فيها قصته مع دحية وأنه أسلم وقتل. والله أعلم.
قوله: (وسار هرقل إلى حمص) لأنها كانت دار ملكه كما قدمناه، وكانت فى زمانهم أعظم من دمشق. وكان فتحها على يد أبى عبيدة بن الجراح سنة ست عشرة بعد هذه القصة بعشر سنين.
قوله: (وأنه نبى) يدل على أن هرقل وصاحبه أقرا بنبوة نبينا -صلى الله عليه وسلم-، لكن هرقل كما ذكرنا لم يستمر على ذلك بخلاف صاحبه.
قوله: (فأذن) هى: بالقصر من الإذن. وفى رواية المستملى وغيره بالمد ومعناه أعلم. و"الدسكرة"بسكون السين المهملة: القصر الذى حوله بيوت، وكأنه دخل القصر ثم أغلقه وفتح أبواب البيوت التى حوله وأذن للروم فى دخولها ثم أغلقها ثم اطلع عليهم فخاطبهم، وإنما فعل ذلك خشية أن يثبوا به كما وثبوا بضغاطر.
قوله: (والرشد) فتحتين (وأن يثبت ملككم) لأنهم إن تمادوا على الكفر كان سببا لذهاب ملكهم، كما عرف هو ذلك من الأخبار السابقة.
قوله: (فتبايعوا) بمثناة ثم موحدة، وللكشميهنى بمثناتين وموحدة، وللأصيلى" فنبايع"بنون وموحدة (لهذا النبى) كذا لأبى ذر وللباقين بحذف اللام.
قوله: (فحاصوا) بمهملتين أى: نفروا، وشبههم بالوحوش لأن نفرتها أشد من نفرة البهائم الإنسية، وشبههم بالحمر دون غيرها من الوحوش لمناسبة الجهل وعدم الفطنة بل هم أضل.
قوله: (وأيس) فى رواية الكشميهنى والأصيلى " ويئس"بيائين تحتانيتين وهما بمعنى قنط والأول مقلوب من الثانى.
قوله: (من الإيمان) أى من إيمانهم لما أظهروه، ومن إيمانه لأنه شح بملكه كما قدمنا، وكان يحب أن يطيعوه فيستمر ملكه ويسلم ويسلموا بإسلامهم، فما أيس من الإيمان إلا بالشرط الذى أراده، وإلا فقد كان قادرا على أن يفر عنهم ويترك ملكه رغبة فيما عند الله والله الموفق.
قوله: (آنفا) أى: قريبا، وهو منصوب على الحال.
قوله: (فقد رأيت) زاد فى التفسير: فقد رأيت منكم الذى أحببت.
قوله: (فكان ذلك آخر شأن هرقل) أى: فيما يتعلق بهذه القصة المتعلقة بدعائه إلى الإيمان خاصة لأنه انقضى أمره حينئذ ومات، أو أنه أطلق الآخرية بالنسبة إلى ما فى علمه، وهذا أوجه، لأن هرقل وقعت له قصص أخرى بعد ذلك، منها ما أشرنا إليه من تجهيزه الجيوش إلى مؤتة ومن تجهيزه الجيوش أيضا إلى تبوك، ومكاتبة النبى -صلى الله عليه وسلم -له ثانيا، وإرساله إلى النبى -صلى الله عليه وسلم -بذهب فقسمه بين أصحابه كما فى رواية ابن حبان التى أشرنا إليها قبل وأبى عبيد، وفى المسند من طريق سعيد بن أبى راشد التنوخى رسول هرقل قال: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - تبوك فبعث دحية إلى هرقل، فلما جاءه الكتاب دعا قسيسى الروم وبطارقتها، فذكر الحديث، قال فتحيروا حتى إن بعضهم خرج من برنسه، فقال: اسكتوا، فإنما أردت أن أعلم تمسككم بدينكم. وروى ابن إسحاق عن خالد بن بشار عن رجل من قدماء الشام: أن هرقل لما أراد الخروج من الشام إلى القسطنطينية عرض على الروم أمورا:
(1/44) إما الإسلام وإما الجزية، وإما أن يصالح النبى -صلى الله عليه وسلم -ويبقى لهم ما دون الدرب، فأبوا، وأنه انطلق حتى إذا أشرف على الدرب استقبل أرض الشام ثم قال: السلام عليك أرض سورية - يعنى الشام - تسليم المودع، ثم ركض حتى دخل القسطنطينية. واختلف الإخباريون هل هو الذى حاربه المسلمون فى زمن أبى بكر وعمر أو ابنه؟ والأظهر أنه هو. والله أعلم.
(تنبيه) لما كان أمر هرقل فى الإيمان عند كثير من الناس مستبهما، لأنه يحتمل أن يكون عدم تصريحه بالإيمان للخوف على نفسه من القتل، ويحتمل أن يكون استمر على الشك حتى مات كافرا. وقال الراوى فى آخر القصة: فكان ذلك آخر شأن هرقل، ختم به البخارى هذا الباب الذى استفتحه بحديث الأعمال بالنيات، كأنه قال إن صدقت نيته انتفع بها فى الجملة، وإلا فقد خاب وخسر. فظهرت مناسبة إيراد قصة ابن الناطور فى بدء الوحى لمناسبتها حديث الأعمال المصدر الباب به. ويؤخذ للمصنف من آخر لفظ فى القصة براعة الاختتام، وهو واضح مما قررناه. فإن قيل: ما مناسبة حديث أبى سفيان فى قصة هرقل ببدء الوحى؟ فالجواب أنها تضمنت كيفية حال الناس مع النبى -صلى الله عليه وسلم -فى ذلك الابتداء، ولأن الآية المكتوبة إلى هرقل للدعاء إلى الإسلام ملتئمة مع الآية التى فى الترجمة وهى قوله تعالى: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح) الآية. وقال تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا) الآية، فبان أنه أوحى إليهم كلهم أن أقيموا الدين، وهو معنى قوله تعالى: (سواء بيننا وبينكم) الآية. (تكميل) ذكر السهيلى أنه بلغه أن هرقل وضع الكتاب فى قصبة من ذهب تعظيما له، وأنهم لم يزالوا يتوارثونه حتى كان عند ملك الفرنج الذى تغلب على طليطلة، ثم كان عند سبطه، فحدثنى بعض أصحابنا أن عبد الملك بن سعد أحد قواد المسلمين اجتمع بذلك الملك فأخرج له الكتاب، فلما رآه استعبر وسأل أن يمكنه من تقبيله، فامتنع. قلت: وأنبأنى غير واحد عن القاضى نور الدين بن الصائغ الدمشقى قال: حدثنى سيف الدين فليح المنصورى قال: أرسلنى الملك المنصور قلاوون إلى ملك الغرب بهدية، فأرسلنى ملك الغرب إلى ملك الفرنج فى شفاعة فقبلها، وعرض على الإقامة عنده فامتنعت، فقال لى: لأتحفنك بتحفة سنية، فأخرج لى صندوقا مصفحا بذهب، فأخرج منه مقلمة ذهب، فأخرج منها كتابا قد زالت أكثر حروفه وقد التصقت عليه خرقة حرير فقال: هذا كتاب نبيكم إلى جدى قيصر، ما زلنا نتوارثه إلى الآن، وأوصانا آباؤنا أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا، فنحن نحفظه غاية الحفظ ونعظمه ونكتمه عن النصارى ليدوم الملك فينا. انتهى. ويؤيد هذا ما وقع فى حديث سعيد بن أبى راشد الذى أشرت إليه آنفا أن النبى -صلى الله عليه وسلم -عرض على التنوخى رسول هرقل الإسلام فامتنع، فقال له: يا أخا تنوخ إنى كتبت إلى ملككم بصحيفة فأمسكها، فلن يزال الناس يجدون منه بأسا ما دام فى العيش خير. وكذلك أخرج أبو عبيد فى كتاب الأموال من مرسل عمير بن إسحاق قال: كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -إلى كسرى وقيصر، فأما كسرى فلما قرأ الكتاب مزقه، وأما قيصر فلما قرأ الكتاب طواه ثم رفعه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أما هؤلاء فيمزقون، وأما هؤلاء فستكون لهم بقية، ويؤيده ما روى أن النبى -صلى الله عليه وسلم -لما جاءه جواب كسرى قال: مزق الله ملكه. ولما جاءه جواب هرقل قال: ثبت الله ملكه. والله أعلم.
قوله: (رواه صالح بن كيسان ويونس ومعمر عن الزهرى) قال الكرمانى يحتمل ذلك وجهين: أن يروى البخارى عن الثلاثة بالإسناد المذكور كأنه قال: أخبرنا أبو اليمان أخبرنا هؤلاء الثلاثة عن الزهرى، وأن يروى عنهم بطريق آخر. كما أن الزهرى يحتمل أيضا فى رواية الثلاثة أن يروى لهم عن عبيد الله عن ابن عباس، وأن يروى لهم عن غيره. هذا ما يحتمل اللفظ، وإن كان الظاهر الاتحاد.
(1/45) قلت: هذا الظاهر كاف لمن شم أدنى رائحة من علم الإسناد. والاحتمالات العقلية المجردة لا مدخل لها فى هذا الفن، وأما الاحتمال الأول فأشد بعدا لأن أبا اليمان لم يلحق صالح بن كيسان ولا سمع من يونس، وهذا أمر يتعلق بالنقل المحض فلا يلتفت إلى ما عداه، ولو كان من أهل النقل لاطلع على كيفية رواية الثلاثة لهذا الحديث بخصوصه فاستراح من هذا التردد، وقد أوضحت ذلك فى كتابى تعليق التعليق وأشير هنا إليه إشارة مفهمة: فرواية صالح وهو ابن كيسان أخرجها المؤلف فى كتاب الجهاد بتمامها، من طريق إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن الزهرى عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس، وفيها من الفوائد الزوائد ما أشرت إليه فى أثناء الكلام على هذا الحديث من قبل، ولكنه انتهى حديثه عند قول أبى سفيان:"حتى أدخل الله على الإسلام " زاد هنا: " وأنا كاره " ولم يذكر قصة ابن الناطور. وكذا أخرجه مسلم بدونها من حديث إبراهيم المذكور، و رواية يونس أيضا عن الزهرى بهذا الإسناد أخرجها المؤلف فى الجهاد مختصرة من طريق الليث، وفى الاستئذان مختصرة أيضا من طريق ابن المبارك كلاهما عن يونس عن الزهرى بسنده بعينه، ولم يسقه بتمامه، وقد ساقه بتمامه الطبرانى من طريق عبد الله بن صالح عن الليث، وذكر فيه قصة ابن الناطور، ورواية معمر عن الزهرى كذلك ساقها المؤلف بتمامها فى التفسير، وقد أشرنا إلى بعض فوائد زائدة فيما مضى أيضا، وذكر فيه من قصة ابن الناطور قطعة مختصرة عن الزهرى مرسلة. فقد ظهر لك أن أبا اليمان ما روى هذا الحديث عن واحد من الثلاثة، وأن الزهرى إنما رواه لأصحابه بسند واحد عن شيخ واحد وهو عبيد الله بن عبد الله، وأن أحاديث الثلاثة عند المصنف عن غير أبى اليمان، ولو احتمل أن يرويه لهم أو لبعضهم عن شيخ آخر لكان ذلك اختلافا قد يفضى إلى الاضطراب الموجب للضعف، فلاح فساد ذلك الاحتمال، والله سبحانه وتعالى الموفق والهادى إلى الصواب لا إله إلا هو
فتح البارى . للإمام ابن حجر العسقلانى