بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مختارات من فتح البارى
شرح صحيح البخارى
باب : كيف كان بدء الوحى
حدبث فِى قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ)
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَبِى عَائِشَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَالِجُ مِنْ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَكُمْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَرِّكُهُمَا. وَقَالَ سَعِيدٌ : أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ- فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) قَالَ : جَمْعُهُ لَكَ فِى صَدْرِكَ وَتَقْرَأَهُ. (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) قَالَ : فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ. (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ، فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كَمَا قَرَأَهُ.
الشرح
قوله: (حدثنا موسى بن إسماعيل) هو أبو سلمة التبوذكى، وكان من حفاظ المصريين.
قوله: (حدثنا أبو عوانة) هو الوضاح بن عبد الله اليشكرى مولاهم البصرى، كان كتابه فى غاية الإتقان. وموسى بن أبى عائشة لا يعرف اسم أبيه، وقد تابعه على بعضه عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير.
قوله: (كان مما يعالج) المعالجة محاولة الشيء بمشقة، أى: كان العلاج ناشئا من تحريك الشفتين، أى: مبدأ العلاج منه، أو " ما " موصولة وأطلقت على من يعقل مجازا، هكذا قرره الكرمانى، وفيه نظر لأن الشدة حاصلة له قبل التحرك، والصواب ما قاله ثابت السرقسطى أن المراد كان كثيرا ما يفعل ذلك، وورودهما فى هذا كثير ومنه حديث الرؤيا " كان مما يقول لأصحابه: من رأى منكم رؤيا " ومنه قول الشاعر: وإنا لمما نضرب الكبش ضربة * على وجهه يلقى اللسان من الفم قلت: ويؤيده أن رواية المصنف فى التفسير من طريق جرير عن موسى بن أبى عائشة ولفظها " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل جبريل بالوحى فكان مما يحرك به لسانه وشفتيه". فأتى بهذا اللفظ مجردا عن تقدم العلاج الذى قدره الكرمانى، فظهر ما قال ثابت، ووجه ما قال غيره: إن " من " إذا وقع بعدها " ما"كانت بمعنى ربما، وهى تطلق على القليل والكثير. وفى كلام سيبويه مواضع من هذا منها قوله: اعلم أنهم مما يحذفون كذا. والله أعلم. ومنه حديث البراء: " كنا إذا صلينا خلف النبى -صلى الله عليه وسلم -مما نحب أن نكون عن يمينه " الحديث، ومن حديث سمرة " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الصبح مما يقول لأصحابه: من رأى منكم رؤيا ".
قوله: (فقال ابن عباس فأنا أحركهما) جملة معترضة بالفاء، وفائدة هذا زيادة البيان فى الوصف على القول، وعبر فى الأول بقوله " كان يحركهما " وفى الثانى برأيت، لأن ابن عباس لم ير النبى -صلى الله عليه وسلم -فى تلك الحالة، لأن سورة القيامة مكية باتفاق، بل الظاهر أن نزول هذه الآيات كان فى أول الأمر، وإلى هذا جنح البخارى فى إيراده هذا الحديث فى بدء الوحى، ولم يكن ابن عباس إذ ذاك ولد، لأنه ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، لكن يجوز أن يكون النبى - صلى الله عليه وسلم - أخبره بذلك بعد، أو بعض الصحابة أخبره أنه شاهد النبى -صلى الله عليه وسلم -، الأول هو الصواب، فقد ثبت ذلك صريحا فى مسند أبى داود الطيالسى قال: حدثنا أبو عوانة بسنده. وأما سعيد بن جبير فرأى ذلك من ابن عباس بلا نزاع.
قوله: (فحرك شفتيه) وقوله: فأنزل الله (لا تحرك به لسانك) لا تنافى بينهما، لأن تحريك الشفتين، بالكلام المشتمل على الحروف التى لا ينطق بها إلا اللسان يلزم منه تحريك اللسان،
(1/30) أو اكتفى بالشفتين وحذف اللسان لوضوحه لأنه الأصل فى النطق إذ الأصل حركة الفم، وكل من الحركتين ناشئ عن ذلك، وقد مضى أن فى رواية جرير فى التفسير"يحرك به لسانه وشفتيه"فجمع بينهما، وكان النبى - صلى الله عليه وسلم - فى ابتداء الأمر إذا لقن القرآن نازع جبريل القراءة، ولم يصبر حتى يتمها مسارعة إلى الحفظ لئلا ينفلت منه شيء، قاله الحسن وغيره. ووقع فى رواية للترمذى " يحرك به لسانه يريد أن يحفظه "، وللنسائى " يعجل بقراءته ليحفظه "، ولابن أبى حاتم " يتلقى أوله، ويحرك به شفتيه خشية أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من آخره "، وفى رواية الطبرى عن الشعبى " عجل يتكلم به من حبه إياه " وكلا الأمرين مراد، ولا تنافى بين محبته إياه والشدة التى تلحقه فى ذلك، فأمر بأن ينصت حتى يقضى إليه وحيه، ووعد بأنه آمن من تفلته منه بالنسيان أو غيره، ونحوه قوله تعالى (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) أى: بالقراءة.
قوله: (جمعه لك صدرك) كذا فى أكثر الروايات وفيه إسناد الجمع إلى الصدر بالمجاز، كقوله: أنبت الربيع البقل، أى: أنبت الله فى الربيع البقل، واللام فى " لك " للتبيين أو للتعليل. وفى رواية كريمة والحموى " جمعه لك فى صدرك " وهو توضيح للأول، وهذا من تفسير ابن عباس. وقال فى تفسير (فاتبع) أى: فاستمع وأنصت، وفى تفسير (بيانه) أى: علينا أن تقرأه. ويحتمل أن يراد بالبيان بيان مجملاته وتوضيح مشكلاته، فيستدل به على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب كما هو الصحيح فى الأصول، والكلام فى تفسير الآيات المذكورة أخرته إلى كتاب التفسير فهو موضعه. والله أعلم.
فتح البارى . للإمام ابن حجر العسقلانى
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَبِى عَائِشَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَالِجُ مِنْ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَكُمْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَرِّكُهُمَا. وَقَالَ سَعِيدٌ : أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ- فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) قَالَ : جَمْعُهُ لَكَ فِى صَدْرِكَ وَتَقْرَأَهُ. (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) قَالَ : فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ. (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ، فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كَمَا قَرَأَهُ.
الشرح
قوله: (حدثنا موسى بن إسماعيل) هو أبو سلمة التبوذكى، وكان من حفاظ المصريين.
قوله: (حدثنا أبو عوانة) هو الوضاح بن عبد الله اليشكرى مولاهم البصرى، كان كتابه فى غاية الإتقان. وموسى بن أبى عائشة لا يعرف اسم أبيه، وقد تابعه على بعضه عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير.
قوله: (كان مما يعالج) المعالجة محاولة الشيء بمشقة، أى: كان العلاج ناشئا من تحريك الشفتين، أى: مبدأ العلاج منه، أو " ما " موصولة وأطلقت على من يعقل مجازا، هكذا قرره الكرمانى، وفيه نظر لأن الشدة حاصلة له قبل التحرك، والصواب ما قاله ثابت السرقسطى أن المراد كان كثيرا ما يفعل ذلك، وورودهما فى هذا كثير ومنه حديث الرؤيا " كان مما يقول لأصحابه: من رأى منكم رؤيا " ومنه قول الشاعر: وإنا لمما نضرب الكبش ضربة * على وجهه يلقى اللسان من الفم قلت: ويؤيده أن رواية المصنف فى التفسير من طريق جرير عن موسى بن أبى عائشة ولفظها " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل جبريل بالوحى فكان مما يحرك به لسانه وشفتيه". فأتى بهذا اللفظ مجردا عن تقدم العلاج الذى قدره الكرمانى، فظهر ما قال ثابت، ووجه ما قال غيره: إن " من " إذا وقع بعدها " ما"كانت بمعنى ربما، وهى تطلق على القليل والكثير. وفى كلام سيبويه مواضع من هذا منها قوله: اعلم أنهم مما يحذفون كذا. والله أعلم. ومنه حديث البراء: " كنا إذا صلينا خلف النبى -صلى الله عليه وسلم -مما نحب أن نكون عن يمينه " الحديث، ومن حديث سمرة " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الصبح مما يقول لأصحابه: من رأى منكم رؤيا ".
قوله: (فقال ابن عباس فأنا أحركهما) جملة معترضة بالفاء، وفائدة هذا زيادة البيان فى الوصف على القول، وعبر فى الأول بقوله " كان يحركهما " وفى الثانى برأيت، لأن ابن عباس لم ير النبى -صلى الله عليه وسلم -فى تلك الحالة، لأن سورة القيامة مكية باتفاق، بل الظاهر أن نزول هذه الآيات كان فى أول الأمر، وإلى هذا جنح البخارى فى إيراده هذا الحديث فى بدء الوحى، ولم يكن ابن عباس إذ ذاك ولد، لأنه ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، لكن يجوز أن يكون النبى - صلى الله عليه وسلم - أخبره بذلك بعد، أو بعض الصحابة أخبره أنه شاهد النبى -صلى الله عليه وسلم -، الأول هو الصواب، فقد ثبت ذلك صريحا فى مسند أبى داود الطيالسى قال: حدثنا أبو عوانة بسنده. وأما سعيد بن جبير فرأى ذلك من ابن عباس بلا نزاع.
قوله: (فحرك شفتيه) وقوله: فأنزل الله (لا تحرك به لسانك) لا تنافى بينهما، لأن تحريك الشفتين، بالكلام المشتمل على الحروف التى لا ينطق بها إلا اللسان يلزم منه تحريك اللسان،
(1/30) أو اكتفى بالشفتين وحذف اللسان لوضوحه لأنه الأصل فى النطق إذ الأصل حركة الفم، وكل من الحركتين ناشئ عن ذلك، وقد مضى أن فى رواية جرير فى التفسير"يحرك به لسانه وشفتيه"فجمع بينهما، وكان النبى - صلى الله عليه وسلم - فى ابتداء الأمر إذا لقن القرآن نازع جبريل القراءة، ولم يصبر حتى يتمها مسارعة إلى الحفظ لئلا ينفلت منه شيء، قاله الحسن وغيره. ووقع فى رواية للترمذى " يحرك به لسانه يريد أن يحفظه "، وللنسائى " يعجل بقراءته ليحفظه "، ولابن أبى حاتم " يتلقى أوله، ويحرك به شفتيه خشية أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من آخره "، وفى رواية الطبرى عن الشعبى " عجل يتكلم به من حبه إياه " وكلا الأمرين مراد، ولا تنافى بين محبته إياه والشدة التى تلحقه فى ذلك، فأمر بأن ينصت حتى يقضى إليه وحيه، ووعد بأنه آمن من تفلته منه بالنسيان أو غيره، ونحوه قوله تعالى (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) أى: بالقراءة.
قوله: (جمعه لك صدرك) كذا فى أكثر الروايات وفيه إسناد الجمع إلى الصدر بالمجاز، كقوله: أنبت الربيع البقل، أى: أنبت الله فى الربيع البقل، واللام فى " لك " للتبيين أو للتعليل. وفى رواية كريمة والحموى " جمعه لك فى صدرك " وهو توضيح للأول، وهذا من تفسير ابن عباس. وقال فى تفسير (فاتبع) أى: فاستمع وأنصت، وفى تفسير (بيانه) أى: علينا أن تقرأه. ويحتمل أن يراد بالبيان بيان مجملاته وتوضيح مشكلاته، فيستدل به على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب كما هو الصحيح فى الأصول، والكلام فى تفسير الآيات المذكورة أخرته إلى كتاب التفسير فهو موضعه. والله أعلم.
فتح البارى . للإمام ابن حجر العسقلانى