منتديات الرسالة الخاتمة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    ضفحة رقم [ 2 ] من كتاب الصداقة والصديق

    avatar
    الرسالة
    Admin


    عدد المساهمات : 3958
    تاريخ التسجيل : 01/01/2014

    ضفحة رقم [ 2 ] من كتاب الصداقة والصديق Empty ضفحة رقم [ 2 ] من كتاب الصداقة والصديق

    مُساهمة من طرف الرسالة الأربعاء 2 أبريل 2014 - 10:11

    ضفحة رقم [ 2 ] من كتاب الصداقة والصديق Sadaka10

    بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
    مكتبة ألأسرة الثقافية
    الصداقة والصديق
    ضفحة رقم [ 2 ] من كتاب الصداقة والصديق 1410

    قال عبد الملك بن صالح: مشاهدة الإخوان أحسن من إقبال الزمان، وألذ من نيل الأمان، وأحلى من رضا السلطان.
    وقال بزرجمهر: الإخوان كالسلاح، فمنهم من يجب ان يكون كالرمح يطعن به من بعيد، ومنهم كالسهم يرمى به ولا يعود إليك، ومنهم كالسيف الذي لا ينبغي أن يفارقك.
    شاعر:
    وأبثثت عمراً بعض ما في جوانحي ... وجرعته من مر ما أتجرع
    ولابد من شكوى إلى ذي حفيظة ... إذا جعلت أسرار نفس تطلع
    وسمعت أبا عثمان أحد الخالديين يحكي أن عياراً سمع رجلاً يقول: إذا عز أخحوك فهن، فقال للقائل: أخطأت، إذا عز أخوك فأهن شأنه وأنا أقول: لو كان هذا الحكم من رجل نبيه له في الحكمة قدم، وفي الفضل قدم، لتأوله متأول على وجه بعيد أو قريب، ولكنه روى عن عيار، وهذا الرهط ليس لأحد فيهم أسوة، ولا هم لأحد قدوة، لغلبة الباطل عليهم، وبعد الحق عنهم، ولأن الدين لا يلتاط بهم، والفتوة التي يدعونها بالاسم لا يحلون بها في الحقيقة، وكيف تصح الفتوة إذا خالفها الدين، وكيف يستقر الدين إذا فارقته الفتوة، الدين تكاليف من الله تعالى، والفتوة أخلاق بين الناس، ولا خلق إلا ما هذبه الدين، ولا دين إلا ما هذبه الخلق، على أن ابن المعتز أبا العباس قال: لست لمن خاشنني ألين، ولا إذا عز أخي أهون، ولعل هذا مسلم لأبي العباس لسموق رتبته، وشرف نسبه، ومستفيض أدبه وكرمه، وبعد فالصراخ ممن يظن به أنه صديق ثم يخرج في مسك عدو قديم، والتشكي منه مردد، وليس إلا الصبر والإغضاء، ودفع الوقت، وطرح الأذى عن الفكر، وأنا أقول هذا لأني نظرت في حال الإنسان، وصوبت طرفي فيه وصعدت، وحسبت ماله وما عليه وحصلت، وأجملت ما به وفيه وفصلت، فلم أجد له شيئاً خيراً من الصبر، فيه يقاوم المكروه، وتستدفع، البلية، وبه يؤدى شكر النعمة، وما أحلى ما أشار إليه الشاعر حين قال:
    إن الزمان على اختلاف مروره ... ما زال يخلط حزنه بسروره
    لم يصف عيشاً منذ كان لمعشر ... إلا وعاد يجد في تكديره
    فالعاقل النحرير يلزم نفسه ... صبراً عليه في جميع أموره
    وأحق ما صبر امرؤ من أجله ... ما لا سبيل له إلى تغييره
    وحكى العلماء أن رجلاً كتب على باب داره: جزى الله من لم نعرفه ولم يعرفنا خيراً. فإننا ما أتينا في نكبتنا هذه إلا من المعارف، وقد قال الآخر:
    كفاني الله شرك يا ابن عمي ... فأما الخير منك فقد كفاني
    نظرت فلم أجد أشفى لغيظي ... من أني لا أراك ولا تراني
    ولقد قلت لابن أبي كانون: لم لا تخالط أصحاب ابن الرازي فأنشد:
    إن السلامة من سلمى وجارتها ... أن لا تمر بواديها على حال
    وإذا أردت الحق علمت أن الصداقة، والألفة، والأخوة، والمودة، والرعاية، والمحافظة قد نبذت نبذاً، ورفضت رفضاً، ووطئت بالأقدام، ولويت دونها الشفاه، وصرفت عنها الرغبات.
    ولما غنى علويه المأمون قول الشاعر:
    وإني لمشتاق إلى ظل صاحب ... يرق ويصفو إن كدرت عليه
    عذيري من الإنسان لا إن جفوته ... صفا لي ولا إن صرت طوع يديه
    استعاده المأمون مرات ثم قال: هات يا علويه هذا الصاحب، وخذ الخلافة، قد صرنا، ولله الحمد نرضى اليوم من الصاحب، والجار، والمعامل، والتابع، والمتبوع أن يكون فضلهم غامراً لنقصهم، وخيرهم زائداً على شرهم، وعدلهم أرجح من ظلمهم، وأنهم إن لم يبذلوا الخير كله لم يستقصوا الشر كله، بل قد رضينا بدون هذا، وهو أن نهب خيرهم لشرهم، وإحسانهم لإساءتهم، وعدلهم لجورهم، فلا نفرح بهذا، ولا نحزن لذاك، ونخرج بعد اللتيا والتي بالكفاف والعفاف!.
    أخبرنا ابن مقسم النحوي، أخبرنا ثعلب عن أبي زيد عمر بن شيبة قال: قال مطيع بن إياس في صديق كان له يصفه بالنميمة:
    إن مما يزيدني فيك زهداً ... أنني لا أراك تصدق حرفا
    لا ولا تكتم الحديث ولا تن ... طق جداً ولا تمازح ظرفاً
    وإذا منصف أرادك للنص ... ف أبيت الوفاء وازددت خلفا
    وإذا قال عارفاً قلت سوءاً ... وإذا قال منكراً قلت عرفا
    وأنشد ابن الأعرابي فيما روى ابن مقسم عن ثعلب:
    وصلتكم جهدي وزدت على جهدي ... فلم أر فيكم من يدوم على العهد
    تأنيتكم جهد الصديق لتقصدوا ... وتأبون إلا أن تحيدوا عن القصد
    فإن أمس فيكم زاهداً بعد رغبة ... فبعد اختبار كان في وصلكم زهدي
    إذا خنتم بالغيب عهدي فما لكم ... تدلون إدلال المقيم على العهد
    صلوا وافعلوا فعل المدل بوصله ... وإلا فصدوا وافعلوا فعل ذي الضد
    فكم من نذير كان لي قبل فيكم ... وها أنا ذا فيكم نذيراً لمن بعدي
    تعزوا بيأس عن هواي فإنني ... إذا انصرفت نفسي فهيهات من رد
    أرى الغدر ضداً للوفاء وإنني ... لأعلم أن الضد ينبو عن الضد
    قال لقمان: من يصحب صاحب الصلاح يسلم، ومن يصحب صاحب السوء لا يسلم.
    وقال أيضاً: جالس العلماء، وزاحمهم بركبتيك فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل السماء.
    قال الفضيل بن عياض: قال لي ابن المبارك: ما أعياني شيء كما أعياني أني لا أجد أخاً في الله قال: فقلت له: لا يهيدنك هذا فقد خبثت السرائر، وتنكرت الظواهر، وفني ميراث النبوة، وفقد ما كان عليه أهل الفتوة.
    قال بكر بن عبد الله المزني: إذا انقطع شسع نعل صاحبك فلم تقف عليه فلست له بصاحب، وإذا جلس يبول فلم تلبث له فلست له برفيق.
    كان عامر بن قيس إذا توجه للغزو توسم الرفاق، فإذا رأى قوماً لهم هدى قال: يا قوم إني أريد أن أصحبكم على ثلاث خلال فيقال له: ما هن؟ قال: أكون خادماً لكم، ومؤذناً بينكم، وأنفق عليكم. فإذا قالوا: نعم صحبهم وإلا تركهم.
    قيل لفيلسوف: من أطول الناس سفراً؟ قال: من سافر في طلب صديق.
    سمع ابن عطاء رجلاً يقول: أنا في طلب صديق منذ ثلاثين سنة فلا أجده، فقال له: لعلك في طلب صديق تأخذ منه شيئاً، ولو طلبت صديقاً تعطيه شيئاً لوجدت! قال أبو سليمان: هذا كلام ظالم، الصديق لا يراد ليؤخذ منه شيء، أو ليعطي شيئاً، ولكن ليسكن إليه، ويعتمد عليه، ويستأنس به، ويستفاد منه، ويستشار في الملم، وينهض في المهم، ويتزين به إذا حضر، ويتشوق إليه إذا سفر، والأخذ والإعطاء في عرض ذلك جاريان على مذهب الجود والكرم، بلا حسد، ولا نكد، ولا صدد، ولا حدد، ولا تلوم، ولا تلاوم، ولا كلوح، ولا فتوح، ولا تعريض بنكير، ولا نكاية بتغيير.
    قيل لأرسطاطاليس الحكيم معلم الإسكندر الملك من الصديق؟ قال: إنسان هو أنت، إلا أنه بالشخص غيرك
    سئل أبو سليمان عن هذه الكلمة وقيل له: فسرها لنا فإنها وإن كانت رشيقة فلسنا نظفر منها بحقيقة. فقال: هذا رجل دقيق الكلام، بعيد المرام، صحيح المعاني، قد طاعت له الأمور بأعيانها، وحضرته بغيبها وشهادتها، وكان ملهماً مؤيداً، وإنما أشار بكلمته هذه إلى آخر درجات الموافقة التي يتصادق المتصادقان بها، ألا ترى أن لهذه الموافقة أولاً، منه يبتدئانها، كذلك لها آخر ينتهيان إليه، وأول هذه الموافقة توحد، وآخرها وحدة، وكما أن الأنسان واحد بما هو به إنسان، كذلك يصير بصديقه واحداً بما هو صديق، لأن العادتين تصيران عادة واحدة، والإرادتين تحولان إرادة واحدة، ولا عجب من هذا، فقد أشار إلى هذه الغريبة الشاعر بقوله:
    روحه روحي، وروحي روحه ... إن يشأ شئت، وإن شئت يشا
    وليس يبعد هذا عليكم إلا لأنكم لم ترو صديقاً لصديق، ولا كنتم أصدقاء على التحقيق، بل أنتم معارف يجمعكم الجنس المقتبس، وينظمكم النوع المقتبس من الإنسان، ويؤلفكم بعد ذلك البلد أو الجوار أو الصناعة أو النسب، ثم أنتم في كل ذلك الذي اجتمعتم عليه، وانتظمتم به، وتألفتم له على غاية الافتراق، للحسد الذي يدب بينكم، والتنافس الذي يقطع علائقكم، والتدابر الذي يثير البينونة منكم، ولو استصحبتم ما شملتكم به الطبيعة الكبرى في الأول، لم تميلوا إلى ما حابتكم فيه الطبيعة الصغرى في الثاني، أعني أنكم معمومون بصورة الإنسان من ناحية النوع، كما أنكم معمومون بصورة الحيوان من ناحية الجنس، ومعرضون لنيل صورة الملائكة بالاختيار الجيد، كما أنكم معرضون لنيل صورة الشياطين بالاختيار الرديء، فلو ثبتم على الصراط المستقيم، وعلقتم حبل العقل المتين المستبين، واعتصمتم بالعروة الوثقى من الهدى والدين، كنتم كنفس واحدة في كل حال، ذلت أو صعبت، تجمعت أو تشعبت، تعرفت أو تنكرت، وكانت هذه الشريفة أعني الموافقة والوحدة تسري في الصديق والصديق، ثم في الثاني والثالث، ثم في الصغير والكبير، وفي المطيع والمطاع، والسائس والمسوس، وفي الجار والجار، وفي المحلة والمحلة، والبلد والبلد، حتى تبلغ الأغوار والنجود، وتشتمل على الأداني، والأقاصي، فحينئذ ترى كلمة الله العليا، وطاعته العالية، إلا أن هذا لما كان متعذراً جداً لأن المادة الأولى لا تنقاد لهذه الصورة، والصورة الأولى لا تلابس هذه المادة، طلب هذا المتعذر في الواحد مع الواحد، في الزمان بعد الزمان، على السنن بعد السنن، على المكان بعد المكان، بالدعوة بعد الدعوة، والهيئة بعد الهيئة، بالتعاون بعد التعاون، وإذا بعد المطلوب من جهة عامة لعلة مانعة فليس ينبغي أن يقنط من الظفر به من جهة خاصه لعله معطية، ومن المحال أن يكون المطلوب يدل على صحته العقل ثم لا يوجد في أحد المعدنين اللذين له، ولو استحال الوصول إليه، والتمكن منه، لكان العقل لا يدل على صحته، والرأي لا يشتاق إلى تحصيله، والطبيعة لا تنحو نحو مظنته، والاختيار لا يحول في طلبه، قال فعلى هذا يحمل رمز الحكيم في قوله: الصديق إنسان هو أنت، إلا أنه بالشخص غيرك.
    وكان كلامه أتم من هذا وأنفس، ولكني ظفرت بهذا القدر فرويته على ذلك، وقول هذا الحكيم شبيه بقول روح بن زنباع وقد سئل عن الصديق فقال: لفظ بلا معنى، أي هو شيء عزيز، ولعزته كأنه ليس بموجود، ولو جهل معنى الصديق لجهل معنى الصاحب، لجهل معنى الخليل، وعلى هذا، الحبيب، والرفيق، والأليف، والوديد، والموآخي، والمساعد، وهذه كلها على رزدق واحد، وإنما تختلف بالمرتبة في الأخص، والأعم، والألطف، والأكثف، والأقرب، والأبعد، والأخلص، والأريب.
    قال الإسكندر لديوجانس: بم يعرف الرجل أصدقاءه، قال: بالشدائد، لأن كل أحد في الرخاء صديق.
    قيل لديوخانس: ما الذي ينبغي للرجل أن يتحفظ منه؟ قال: من حسد أصدقائه، ومكر أعدائه.
    قيل لثيفانوس الفيلسوف: من صديقك؟ قال: الذي إذا صرت إليه في حاجة وجدته أشد مسارعة إلى قضائها مني إلى طلبها منه.
    قال فيلسوف: ليس يحسر العاقل على الصديق، لأنه إن كان فاضلاً تزين به، وإن كان سفيهاً راض حلمه به.
    قال انكساغورس: كيف تريد من صديقك خلقاً واحداً وهو ذو طبائع أربع وفي مثله قال الشاعر:
    وأنى له خلق واحد ... وفيه طبائعه الأربع
    قال أبو سليمان: يعني ألبسته على هذه الحال التي هو عليها من ناحية الطبيعة، فإنك في مسكه، وخلط على مسلكه، فاجتهد بالاختيار الرشيد، والرأي السديد أن تجعل طبائعك الأربع طباقاً لطبائعه الأربع، أو طبائعه الأربع، طباقاً لطبائعك الأربع، فإنك إذا قدرت على ذلك، قدرت بعده على أن تتعرف روائد هذه الأربع، ذاهباً بها نحو الاعتدال الذي هو صورة من صور الوحدة، فإذا أنت صديقك، وصديقك أنت، على ما صرح به كانياً، أو على ما كنى عنه مصرحاً، فقد بان هذا الحديث من ناحية اللفظ، والنطق، والعبارة، والإشارة، وإن كان قد بقي علينا أن نجد هذا المطلوب من ناحية العيان والمشاهدة فإنا إن وجدنا ذلك غنينا عن الخبر والاستخبار، لأن الأثر لا يطلب بعد العين، والحلم لا يتمنى بعد اليقظة، والسكر لا يحمد بعد الصحو.
    سمعت برهان الصوفي الدينوري يقول: سمعت الجنيد يقول: لو صحبني فاجر حسن الخلق كان أحب إلي من أن يصحبني عابد سيء الخلق. قال برهان: لأن الفاجر الحسن الخلق يصلحني بحسن خلقه، ولا يضرني فجوره، والعابد السيىء الخلق يفسدني بسوء خلقه، ولا ينفعني بعبادته، لأن عبادة العابد له، وسوء خلقه علي، وفجور الفاجر عليه، وحسن خلقه لي.
    وفي الأخلاق كلام واسع نفيس على غير ما وجدت كثيراً من الحكماء يطيلون الخوض فيه، ويعوصون المرام منه، بتأليف محرف عن المنهج المألوف، ولو ساعد نشاط، والتأم عتاد، وقيض معين، وزال الهم بتعذر القوت لعلنا كنا نحرر في الأخلاق رسالة واسطة بين الطويلة والقصيرة نفيد فيها ما وضح لنا بالمشاهدة والعيان، وبالنظر والاستنباط، ولكن دون ذلك أوق ثقيل، وعوق طويل، والله المستعان.
    شاعر:
    إذا أنت صاحبت الرجال فكن فتى ... كأنك مملوك لكل رفيق
    وكن مثل طعم الماء عذباً وبارداً ... على كبد حرى لكل صديق
    أخبرنا علي بن عيسى النحوي الشيخ الصالح، حدثنا ابن دريد قال: أنشدنا عبد الأول لرجل من بني تميم:
    كم من أخ لست تنكره ... ما دمت من دنياك في يسر
    متصنع لك في مودته ... يلقاك بالترحيب والبشر
    يطري الوفاء وذا الوفاء ويل ... حى الغدر مجتهداً وذا الغدر
    فإن عدا، والدهر ذو غير، ... دهر عليك عدا مع الدهر
    فارفض بإجمال مودة من ... يقلي المقل ويعشق المثري
    وعليك من حالاه واحدة ... في العسر إما كنت واليسر
    لا تخلطنهم بغيرهم ... من يخلط العقيان بالصفر؟
    رأيت الزهيري أبا بكر يعاتب العوامي على هجر جماعة كان يألفهم ويألفونه، ويعيد القول في ذاك ويبدي، والعوامي لا ينبس بحرف، فقال له الزهيري: إن كنت تسكت استهانة بخطابي عذلتك؟ فقال العوامي: لا ولكني كما قال إسماعيل بن يسار النسائي:
    إني لصعب على الأقوام لو جعلوا ... رضوى لأنفي خشاشاً لم يقودوني
    نفسي هي النفس آبى أن أواتيها ... على الهوان وتأبى أن توآتيني
    وقال: والله ما يفي أنسي بهم بالغداة باستيحاشي منهم بالعشي.
    قال الزهيري: اعلم أن النداراة مطية وطيئة، وروضة موبقة، ما لبس أحد ثوبها إلا وجده فضفاضاً، وقد قال صاحب الشريعة صلى الله عليه وآله وسلم: مداراة الناس صدقة، وقالت العرب: من لم يدار عيشه ضل، قال العوامي: لو كانت المداراة تثنيهم لي، أو تعطفهم علي كانت مبذولة، ولكنها مضرة لهم على ما أنكر منهم، ومضرة لي فيما أعرف، ولا خير في بث خير لا يورث خيراً.
    ورأيت ابن سعدان ينشد يوماً وقد أنكر شيئاً في بعض الندماء:
    عدو راح في ثوب الصديق ... شريك في الصبوح وفي الغبوق
    له وجهان: ظاهره ابن عم ... وباطنه ابن زانية عتيق
    يسرك ظاهراً ويسوء سراً ... كذاك تكون أبناء الطريق
    وأنا أسمي لك، وأروي كلاماً له وصفهم به منهم: أبو علي عيسى بن زرعة النصراني المتفلسف، وابن عبيد الكاتب، وابن الحجاج الشاعر، وأبو الوفاء المهندس، وأبو بكر، ومسكويه، وأبو القاسم الأهوازي، وأبو سعد بهرام بن أردشير.
    وكان أوزنهم عنده وألصقهم بقلبه هو ابن شاهويه. هؤلاء أهل المجلس، سوى الطارئين من أهل الدولة، لا فائدة في ذكرهم. قال زيد بن رفاعة، وكان قريباً له من جهة الخوف له: رأيت الوزير اليوم يصف ندماءه بكلام يصلح أن يكتب على الأحداق، ويعرض على أهل الآفاق، ليستفيده الصغير والكبير.
    قال: أصحابي طرائق قدد، كما قال عبد الحميد الكاتب: الناس أخياف مختلفون: وأصناف متباينون، فمنهم علق مضنة لا يباع، ومنهم غل مظنة لا ينباع، وكما قال الآخر:
    الناس أخياف وشتى في الشيم ... وكلهم يجمعهم بيت الأدم
    وأما ابن زرعة فكبره بالحكمة، وخيلاؤه بالثروة، قد قدحا في حافة عقله، وهو لا يحس بذلك القدح، فليس لنا منه إذا جالسنا إلا النفج، والتعظيم، والتهويل بأرسطاطاليس، وأفلاطون، وسقراط، وبقراط، وفلان وفلان، ومجالس الشراب تتجافى عن هؤلاء، وهؤلاء يجلون عن مجالس الشراب، يا نائم، يا غافل، يا ساهي، وأين أنت من هؤلاء الحكماء القدماء، أسيرتك سيرتهم، أحالك حالهم؟ إنما تدعي عقائدهم باللسان، وتنتحل أسماءهم باللفظ، فإذا جاءت الحقيقة كنت على الشط تلعب بالرمل، ولولا أنه يكدر هزل جدنا بجد هزله، لكان محمولاً مقبولاً، ولكنه يأبى إلا ما ألفه، وأفاد المران عليه، وما أخوفنا أن يمل الجماعة، وإن لم تمله الجماعة.
    وأما ابن عبيد فكلفه بالخطابة، والبلاغة، والرسائل، والفصاحة، قد طرحه في عمق لج لا مطمع في انتقاذه منه، ولا طريق إلى صرفه عنه، هذا مع حركات غير متناسبة، وشمائل غير دمثة، ومناظرة مخلوطة بذلة أهل الذمة، ودالة أصحاب الحجة.
    وأما ابن الحجاج فقد جمع بين جد القاضي أبي عمر في جلسته، وحديثه، وقيامه، وتخطئته مع حياء كأنه مستعار من الغانية الشريفة، وبين سخف شعره الذي لا يجوز أن يكون لراويه مروءة به فكيف لقائله، فنحن إذا نظرنا إليه تخلينا صورة سخف شوهاء في صورة عقل حسناء، ولا تخلص هذه من هذه، ولا جرم استمتاعنا به قاصر عن مرادنا منه، ودنوه منا ناب عن مراده له.
    وأما أبو الوفاء فهو والله ما يقعد به عن الموآنسة الطيبة، والمساعدة المطربة، والمفاكهة اللذيذة، والمواتاة الشهية، إلا أن لفظه خراساني، وإشارته ناقصة، هذا مع استفاده بمقامه الطويل ببغداد، والبغدادي إذا تخرسن كان أحلى وأظرف من الخراساني إذا تبغدد، وإن شئت فضع الاعتبار على من أردت، فإنك تجد هذا القول حقاً، وهذه الدعوى مسموعة.
    وأما مسكويه فإنه يسترد بدمامة خلقه ما يتكلفه من تهذيب خلقه، وأكره له المشاغبة في كل ما يجري، لا يجد في نفسه من المكانة والقرار ما يعلم معه أن مضاءه في فن آخر هو فيه قصير الباع، بليد الطباع، وصاحب هذا المذهب ممكور به، مصاب بجيد رأيه، وقد أفسدهن قال المهلبي، وسمعت المهلبي، كما لم يصلحه، قال ابن العميد، وفعل ابن العميد، وما ذكره لهذين إلا استطالة على الحاضرين، والتشيع بذكر الرجال واضع من قدر الرجال.
    وأما أبو بكر فهو تميمة المجلس، ولا بد للدار وإن كانت قوراء من مخرج، وهو بجهله مع خفة روحه، وقبح وجهه أدخل في العين، وألصق بالقلب من غيره مع علمه، وثقل روحه، وحسن ظاهره.
    وأما الأهوازي أبو القاسم فلا حلاوة، ولا مرارة، ولا حموضة، ولا ملوحة، وإنما هو كالبصل في القدر، وكالإصبع الزائدة في اليد، على أنا نرعى فيه حقاً قديماً، ونرحمه الآن رحمة حديثة.
    وأما سيدي أبو سعيد فو الله إني لأجد به وجداً أتهم فيه نفسي، وما وجدت ألم سهر معه قط، وإني أرى حديثه آنق من المنى إذا أدركت، ومن الدنيا إذا ملكت، وإن تمازجنا بالعقل، والروح، والرأي، والتدبير، والنظر، والإرادة، والاختيار، والعادة ليزيد على حال توأمين تراكضا في رحم، وتراضعا من ثدي، ونوغيا في مهد، وما أخوفني أن يؤتى من جهتي، أو أوتى من جهته، وإن عاقبته موصولة بعاقبتي، لأني مأمنه وهو مأمني، وما أكثر ما يؤتى الإنسان من مأمنه، والله المستعان.
    وأما ابن شاهويه فشيخ ليس لنا فيه فائدة إلا ما يلقي إلينا من تجاربه ومشاهداته، ولولا زيادته التي يضع بها من نفسه، وبعض من تجاربه لكان هدك من رجل ولكن من لك بالمهذب، ألم يقل الأول: أي الرجال المهذب
    قال زيد بن رفاعة: قلت أيها الوزير إن طلوعك على ثنايا ضمائرهم، وعلمك بخفايا سرائرهم يطالبانك بالإفراج عنهم، وقلة الاكتراث بهم قال: لا نفعل، والله ما لهذه الجماعة بالعراق شكل ولا نظير، وإنهم لأعيان أهل الفضل، وسادة ذوي العقل، وإذا خلا العراق منهم، فرقن على الحكمة المروية، والأدب المتهادى، أتظن أن جميع ندماء المهلبي يفون بواحد من هؤلاء، أو تقدر أن جميع أصحاب ابن العميد يشتهون أقل من فيهم؟ قال: قلت: هذا ابن عباد بالري وهو من يعرف ويسمع قال: ويحك! وهل عند ابن عباد إلا أصحاب الجدل الذين يشغبون، ويحمقون، ويتصايحون إلى أن تبح حلوقهم، وهو فيما بينهم يصيح ويقول: قال شيخانا أبو علي وأبو هاشم، دعنا من حديثه، وغثاثته، وسعبذته، فما أحب أن أزيد في وصفه على ما أشرت إليه، والله لو تصدى إنسان متوسط في العلم، والأدب، والحنكة، والإنصاف، لذكر شأنه وسيرته، ووصف حاله وطريقته، لحكي كل غريبة، وأتى بكل أعجوبة، الرجل مجدود، وفي زمرة أهل الفضل معدود.
    رويت هذا الخبر على ما اتفق، وكنت أطلب له مكاناً مذ زمان فلم أجد إلا هذه الرسالة الآتية على حديث الصداقة والصديق.
    قال الشاعر:
    إذا لم تدر ما الإنسان فانظر ... من الخدن المفاوض والمشير
    وقال الآخر:
    لا تسألن عن امرىء واسأل به ... إن كنت تجهل أمره ما الصاحب
    وقال عدي بن زيد الشاعر:
    عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه ... فإن القرين بالمقارن مقتدي
    وقال بعض السلف: الصاحب كالرقعة في الثوب، فإن كان مشاكلا لم ينب عنه الطرف، وإن كان غير مشاكل كان الفضوح.
    وذكر عند النبي صلى الله عليه وآله رجل كان يألفه قبل أن بعثه الله نبياً يقال له أبو السائب فقال: نعم الصاحب كان أبو السائب كان لا يماري، ولا يشاري.
    سمعت أبا سعيد السيرافي يقول في تفسير هذين الحرفين: أي كان لا يشغب، ولا يلج، وقال: قيل في نبزهم الشراة أنهم إنما نبزوا بهذا للجاجهم في دينهم، كما قيل أيضاً: إنما نبزوا بهذا الاسم لأنهم باعوا أنفسهم لما سمعوا الله تعالى يقول: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة " .
    كتب أبو تمام الزينبي إلى ابن معروف:
    بسم الله الرحمن الرحيم
    أما بعد. فإن الحال التي نزدوج عليها، ونستبصر فيها، ونتقاسم حقيقتها وخالصتها، ونتذاوق حلاوتها ومرارتها، ونتهادى خلقها وجديدها تحدثني بأن العتب على تقصير يكون من أحدنا قدح في عينها، ونحت لجانبها، وخدش لوجهها، فإن كان هذا صحيحاً فالعتب محظور، وصاحب التقصير معذور، وإن كان فيه لو، أو لا، أو لعل، أو نعم فأحدنا عليه مستزاد وملوم، وأنا أعوذ بالله من أن يرد على أحدنا من صاحبه مالا يطيق، أو يعدل بصاحبه من السعة إلى الضيق، وقد نمي إلي نبيذ مما دار بينك - أطال الله بقاءك - وبين مولانا المطيع - أدام الله أيامه - في حديث كنت مخصوصاً به من أمر البصرة، وما أفضى إليه إصعادي عنها على الوجه المشهور عند الصديق الجافي على العدو، فسبح ظني في واد من الظنة إن كان الله قد برأك منها فقد ابتلاني بها، وإن كنت غنياً عنها فأنا فقير إليها، وقد جد بي الفكر في تعرف ذلك منك، فلسانك أنطق بالصدق من لسان العابد الزاهد، وعقلك أعلى وأشرف من أن تتخذني غير شاكر ولا حامد، وبالله الذي لا إله إلا هو، ما يقوم لي شعث ما بيني وبينك في المنام بحيازتي جميع الأماني في اليقظة، فإن رأيت أن تجعل لي إلى لقائك طريقاً، إما بالزيارة المشرفة، وإما بالاستزارة المستشرفة فعلت إن شاء الله.
    فأجابه أبو محمد:
    ؟بسم الله الرحمن الرحيم
    أما بعد: فإن الحال التي أشرت إليها ببيانك الناصع، من أدبك البارع، فهي والله محوطة بالنفس والروح، مذبوب عنها بالخاطر، عند اللمحة والسنوح، وتالله أعوذ كما عدت من ريب تتوجه نحوها، أو شوب يدب إليها، وكيف ذاك والشفقة عليها مرفرفة، والرأفة بها موكلة، ويد الثقة بعينها وشهادتها حاضنة، والنفس إلى كل ما يرد منها أو يصدر إليها ساكنة، فهذا باب ينبو عن الكلام فيه لمغالطة مخوفة تجري عليه، فأما الحديث الذي نمى إليك نبيذ منه مما دار بيني وبين مولانا - حرس الله مكانه - ونصر سلطانه، فليس فيه إلا ما يجذب بصنعك إلى العلياء، ويقر عينك بين الأولياء، ويطيل باعك على الأعداء، ويجعلك واحد الدنيا بين الأرض والسماء، فثق بما قلت، واسكن إلى ما كتبت، فإن الخير متيقن، والسعادة مظلة، والولي مرفوع، والعدو موضوع، والله على جميع ذلك مشكور محمود، ولولا أن القلم لا يطيق صريح ما همك، لحملته كيف ما كان إليك، واللقاء صبحة يوم الاثنين عندك على الروشن الميمون: فإن رأيت أن تصرف عن بالك، كل شاغل عن ذلك، وتملأه بكل سار بذلك فعلت، مهدياً به إلي روحاً أتعجله، وسروراً أنتظره، إن شاء الله.
    وكتب ابن عبيد الكاتب إلى ابن الجمل الكاتب كاتب نصر الدولة شاشنيكير:
    بسم الله الرحمن الرحيم
    الصداقة - أطال الله مدتك - التي قد وكدها الله بيننا بالدين أولاً، ثم بالجوار ثانياً، ثم بالصناعة ثالثاً، ثم بالممالحة رابعاً، ثم بالمنشأ خامساً، ثم بالمعاقرة سادساً، ثم بالتجربة سابعاً، ثم بالإلف ثامناً، ثم بالميلاد تاسعاً، ثم بانتظام هذه كلها عاشراً تتقاضاني لك حقوقاً، أنت عن التقصير فيها أغنى، وأنا بالإعفاء عنها أملى، وإذا كنا على هذا السياج دارجين، وفي هذه الحومة داخلين، وعنها خارجين، فليس لحاسد إلينا سبيل، ولا لمتكلف علينا دليل، والله إنك لتذكر، وأجد لذكرك عبقاً يزيد على عبق العنبر، وتوصف فأرى لوصفك مالا يراه أحد من البشر لأحد من البشر، وربما حلمت بك في الرؤيا، فيكون في ذلك قوتي طول يومي، ومن كان هذا نعته من أجلك، فكيف ينمق بالقلم شوقه إليك، وكيف يذكر ما يختصه لك، وكيف يجهز ما يشتمل عليه من خالصته ومحبته إليك قد يقصر اللفظ للطف المعنى، كما يطول المعنى لقصر اللفظ، والإخاء إذا قدم استحصدت مرائره، واستوسقت سرائره، وعند ذلك يكون الوصف باللسان تكلفاً، والتكلف للوصف تأففاً، وقد حضر لعبدك ولدي ختان أنت أولي الناس فيه بالقيام والقعود، بين الناي والعود، فإن رأيت أن تبدر إلى ذلك غداة غد، مكافحاً للشمس عند الطلوع، غير عائج إلى غيره فعلت إن شاء الله.
    فأجابه ابن الجمل:
    بسم الله الرحمن الرحيم
    لقد أوتيت - مد الله في عمرك - لساناً، وبياناً، وقلماً، وخطاً، فمن رام شأوك انقعص، ومن توهم اللحاق بك نكص، فلله درك من ساحر بلفظه، وخالب بقلمه، ومؤيد بعقله، ومسعود بفضله، ومقدم بفرعه وأصله، ومشهور بإنصافه وعدله، ذكرت الصداقة التي وكدها الله بيننا بالأسباب التي أحصيتها، والوجوه التي سردتها، ولو لم يكن الحال على ما وصفت لكان الذي أوجبه لك على نفسي من الطاعة إذا دعوتني، والائتمار إذا أمرتني، والتشرف إذا ناجيتني، والانتساب إليك إذا قبلتني، والاعتماد عليك إذا أذنت لي فوق مودات أهل الزمان، بدرجات عاليات، وقامات مديدات، وباقيات صالحات، فكيف ونحن نجتمع في نصاب، ونجتلي في نقاب، ليس لنا في إخلاص المودة شريك، ولا يتقدمنا فيها ضريب، وما أسأل الله بعد هذا كله إلا دوامها، وصرف العيون عنها، ومد الإمتاع بها، وسكون النفس والروح إليها. فأما ما أومأت إليه من البدار إلى خدمة ولدك سيدي - نماه الله - فإني غير ملتفت إلى فرض ونفل دونه والسلام.
    وقال جعفر بن يحيى لبعض ندمائه: كم لك من صديق؟ قال: صديقان قال: إنك لمثر من الأصدقاء.
    وقال سهل بن هارون: الصديق لا يحاسب، والعدو لا يحتسب له.
    قيل لأبي العيناء: هل ظفرت بصديق موال؟ قال: ولا بعدو مرائي.
    ولما احتاج زياد إلى الحقنة وصفت له فتفحشها فقيل له: إنما يتولاها الطبيب، قال: إن كان لابد منها فالصديق.
    قيل للجنيد: ابن عطاء يدعي صداقتك فهل هو كما يقول؟ قال: هو فوق ما يقول، وأجد ذلك له من قلبي بشواهد لا تكذبني عنه، ولا تكذبه عني.
    قيل لأبي علي النصير: لم لا تتخذ الأصدقاء؟ قال: حتى أفرغ من الأعداء، فو الله لقد شغلوني بأنفسهم عن كل صديق يعينني عليهم، وإحالة العدو عن العداوة أولى من استدعاء الصداقة من الصديق.
    قيل لرويم: ما الذي أقعدك عن طلب الصديق؟ قال: يأسي من وجدانه.
    قيل لأعرابي: ألك صديق؟ قال: أما صديق فلا، ولكن نصف صديق، قيل: فكيف انتفاعك به؟ قال: انتفاع العريان بالثوب البالي.
    قيل لصوفي: صف لنا الصديق؟ قال: هو الذي إذا عرض لك بالمكروه، صرحت أنت له بالمحبوب، وإذا صرح لك بالمحبوب ساعدته عليه.
    قلت للأندلسي: مم أخذ لفظ الصديق؟ قال أخذ بنظر من الصدق، وهو خلاف الكذب. ومرة قال من الصدق، لأنه يقال: رمح صدق أي صلب، وعلى الوجهين، الصديق يصدق إذا قال، ويكون صدقاً إذا عمل، قال: وصدقة المرأة وصداقها وصدقتها كله منتزع من الصدق والصدق، وكذلك الصادق، والصديق، والصدوق والصدقة، والمتصدق والمصدق، كل هذا متواخ.
    سمعت القاضي أبا حامد يقول: قلت للمنصوري: ما أشغفك بابن عبدك مع تشاكس ما بينكما في البلد والمذهب فقال: ذاك لأني وجدته كما قال الشاعر:
    موفق لسبيل الرشد متبع ... يزينه كل ما يأتي ويجتنب
    تسمو العيون إليه كلما انفرجت ... للناس عن وجهه الأبواب والحجب
    له خلائق بيض لا يغيرها ... صرف الزمان كما لا يصدأ الذهب
    وحدثنا حمد بن محمد كاتب ركن الدولة قال: دب بيني وبين أبي الفضل يعني ابن العميد بعض المفسدين فكتب إلي:
    بسم الله الرحمن الرحيم
    إن تسفيق الكلام بيني وبينك موضوع، لأنك عن ذلك مرفوع، وقد رضيت أن تستأني فيما تسمع، فإذا صح به ذنب عاقبت بقدره، أباد أم أبقى، توسط أم تطرف، ولا أقول إلا ما قال الأول:
    أطعت الوشاة الكاشحين ومن يطع ... مقالة واش يقرع السن من ندم
    أتاني عدو كنت أحسب أنه ... علينا شفيق ناصح كالذي زعم
    فلما تباثثنا الحديث وصرحت ... سرائره عن بعض ما كان قد كتم
    تبين لي أن المحرش كاذب ... فعندي لك العتبي على رغم من زعم
    قيل لصوفي: من الصديق؟ قال: من لم يجدك سواه، ولم يفقدك من هواه.
    وقيل للشبلي: من الرفيق؟ قال: من أنت غاية شغله، وأوكد فرضه ونفله. قيل له: فمن الشفيق؟ قال: من إن دهمتك محنة قذيت عينه لك، وإن شملتك منحة قرت عينه بك. قيل له: من الوافي؟ قال: من يحكي بلفظه كمالك، ويرعى بلحظه جمالك. قيل له: فمن الصاحب؟ قال: من إن غاب تشوفت إليه الأحباب، وإن حضر تلقحت به الألباب. قيل: فمن النديم؟ قال: من إن نأى ذكر عند الكاس، وإن دنا ملك بالاستئناس.
    كتب محمد بن عبد الملك بن محمد الزيات إلى إبراهيم بن العباس الصولي أيام مقامه بالأهواز كتاباً يقول فيه: قلة نظرك لنفسك حرمتك سنا المنزلة، وإغفالك حظك حطك عن أعلى الدرجة، وجهلك بقدر النعمة أحل بك اليأس والنقمة حتى صرت من قوة الأمل معتاضاً شدة الوجل، ومن رجاء الغد متعوضاً يأس الأبد، وركبت مطية المخافة بعد مجلس الأمن والكرامة، وصرت معرضاً للرحمة بعد ما تكنفتك الغبطة، وقد قال الشاعر:
    إذا ما بدأت امرءاً جاهلاً ... ببر فقصر عن حمله
    ولم تره قابلاً للجمي ... ل ولا عرف الفضل من أهله
    فسمه الهوان فإن الهوا ... ن دواء لذي الجهل من جهله
    قد فهمت كتابك، وإغراقك وإطنابك، وإضافة ما أضفت بتزويق الكتب بالأقلام، وفي كفاية الله غنى عنك يا إبراهيم، وهوض منك، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
    فكتب إليه إبراهيم يستعطفه:
    أخ كنت آوي منه عند إدكاره ... إلى ظل أفنان من العز باذخ
    سعت نوب الأيام بيني وبينه ... فأقلعن منا عن ظلوم وصارخ
    وإني وإعدادي لدهري محمداً ... كملتمس إطفاء نار بنافخ
    فما نجع فكتب:
    وكنت أخي بإخاء الزمان ... فلما نبا صرت حرباً عوانا
    وكنت أذم إليك الزمان ... فأصبحت منك أذم الزمانا
    وكنت أعدك للنائبا ... ت فها أنا أطلب منك الأمانا
    فلم يثن ذلك محمداً فكتب إليه كتاباً غليظاً وكتب في آخره:
    أبا جعفر خف نبوة بعد دولة ... وعرج قليلاً عن مدى غلوائكا
    فإن يك هذا اليوم يوماً حويته ... فإن رجائي في غد كرجائكا
    فما مرت الأيام حتى كان من أمر محمد ما كان، وولي إبراهيم ديوان الرسائل فأمر أن ينشأ فيه رسالة بقلة طاعته ففعل.
    كان بين أبي الخطاب الصابي وبين أبي كعب الداهية التي لا ترام بعد صداقة كانت زائدة على شبكة الرحم، ولحمة النسب، فقيل له - أعني أبا الخطاب - كيف أنت مع ابن كعب فأنشد:
    خليلان مختلف شأننا ... أريد العلاء ويبغي السمن
    وكان ابن الجلاء الزاهد بمكة يقول لأصحابه: اطلبوا خلة الناس في هذه الدنيا بالتقوى تنفعكم في الدار الأخرى، ألم تسمعوا الله تعالى يقول: " الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين " .
    وقال الحراني في تصنيف الناس: منهم من هو كالغذاء الذي يمسك رمقك ولابد لك منه على كل حال، لأنه قوام حياتك، وزينة دهرك، ومنهم من هو كالدواء يحتاج إليه في الحين بعد الحين على مقدار محدود، ومنهم من هو كالسهم الذي لا ينبغي أن تقربه فإنه سبب هلكتك.
    قيل لأعرابي: كيف أنسك بالصديق؟ قال: وأين الصديق، بل أين الشبيه به، بل أين الشبيه بالشبيه به؟ والله ما يوقد نار الضغائن والذحول في الحي إلا الذين يدعون الصداقة، وينتحلون النصيحة، وهم أعداء في مسوك الأصدقاء وما أحسن ما قال حضريكم:
    إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق
    وقال آخر:
    إذا نوبة نابت صديقك فاغتنم ... مرمتها فالدهر بالناس قلب
    وبادر بمعروف إذا كنت قادراً ... وحاذر زوالاً من غنى عنك يعقب
    فأحسن ثوبيك الذي هو لابس ... وأفره مهريك الذي هو يركب
    أيضاً:
    اجعل صديقك من إذا أحببته ... حفظ الإخاء وكان دونك يضرب
    واطلبهم طلب المريض شفاءه ... ودع اللئيم فليس ممن يصحب
    يعطيك ما فوق المنى بلسانه ... ويروغ عنك كما يروغ الثعلب
    واحذر ذوي الملق اللئام فإنهم ... في النائبات عليك ممن يخطب
    فلقد نصحتك إن قبلت نصيحتي ... والنصح أفضل ما يباح ويوهب
    آخر:
    خير إخوانك المشارك في الض ... ر وأين الشريك في الضر أينا؟
    لا يني جاهداً يحوطك في الحض ... ر فإن غبت كان أذناً وعينا
    أنت في معشر إذا غبت عنهم ... بدلوا كل ما يزينك شينا
    وإذا ما رأوك قالوا جميعاً: ... أنت من أكرم البرايا علينا
    وقلت لأبي المتيم الصوفي الرقي: كيف حالك مع فلان؟ قال: نتداوى بالرياء إلى أن يفرج الله، قلت: هلا تخالصتما عن الرياء والنفاق؟ فقال: والله إن خوفي من أن يصير الرياء والنفاق مكاشفة، والمكاشفة مفارقة، أشد من خوفي من الرياء. والعجب أن المؤونة علينا في الصبر على هذه الحال أغلظ من المؤون لو تصافينا، إلا أن التصافي لا يكون مني وحدي، ولا منه وحده، ولعله يتمنى ذلك مني، كما أتمنى ذلك منه، ولكن لا يطابق ذلك مطابقة لحيلولة الزمان، والفساد العام، وغلبة ما لا سبيل إلى تغييره، طلعت الأرض بأهلها، والحاجة ماسة إلى كلمة طرية، ودعوة فاشية، وأمر جامع، حتى تأتلف القلوب، وتنتفي العيوب، وهذا إلى الله الذي خلق الخلق، ودبر الشأن، وتفرد بالغيب، وتعزز بالقدرة، وكما أن في السنة الواحدة للزمان أحوالاً في الحر المفرط، والحر المتوسط، والبرد المتوسط، كذلك للدهر المديد أحوال في الخير العام، والشر العام، والخير الخاص، والشر الخاص، والعاقل من لا يتمنى مالا يوجد، ولكن يصبر على ما يجد إن حلواً فحلواً، وإن مراً فمراً، إلى أن يأذن الله بالفرج من حيث لا يحتسب.
    قال معمر صاحب عبد الرزاق: ما بقي من لذات الدنيا إلا محادثة الإخوان، وأكل القديد، وحك الجرب، والوقيعة في الثقلاء.
    قال الشاعر:
    وما بقيت من اللذات إلا ... محادثة الرجال ذوي العقول
    وقد كانوا إذا عدوا قليلاً ... فقد صاروا أقل من القليل
    قال الأحنف: لا خير في صديق لا وفاء له، ولا خير في منظر لا مخبر له، ولا خير في فقه لا ورع معه.
    قال العتبي: قال أعرابي: إذا استخار العبد ربه، واستشار صديقه، واجتهد رأيه فقد قضى ما عليه لنفسه، ويقضي الله في أمره ما أحب.
    توفي ابن ليونس بن عبيد فقيل له: إن ابن عون لم يأتك. فقال: إنا إذا وثقنا بمودة أخ لا يضرنا أن لا يأتينا.
    وحدثني العروضي قال: لما دعا السلطان علي بن عيسى من مكة تلقاه قوم من بغداد إلى زبالة وإلى ما فوقها ودونها، فلما قرت به الدار بمدينة السلام أتاه قوم لم يجشموا لقيه، فقال: كم من إنسان قعد لم يرم مجلسه حتى وافيناه فكان ألوط بقلوبنا، وأسكن في أسرارنا من قوم جشموا المسير إلى زبالة، إلا أن المودة هي الأصل، والصداقة هي الركن، والثقة هي الأساس، وما عدا ذلك فمحمول عليه، ومردود إليه.

    ضفحة رقم [ 2 ] من كتاب الصداقة والصديق Fasel10

    كتاب : الصداقة والصديق
    المؤلف : أبو حيان التوحيدي
    منتدى الرسالة الخاتمة - البوابة
    ضفحة رقم [ 2 ] من كتاب الصداقة والصديق E110


      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد 24 نوفمبر 2024 - 5:13