الرسالة- Admin
- عدد المساهمات : 3958
تاريخ التسجيل : 01/01/2014
من طرف الرسالة الأربعاء 16 يناير 2019 - 9:49
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مكتبة الحديث الشريف
جامع العلوم والحكم
● [ الحديث السابع والأربعون ] ●
عَنِ المِقدامِ بنِ مَعدِ يكرِبَ قالَ : سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقولُ : ( ما مَلأ آدميٌّ وِعاءً شَرّاً مِنْ بَطْنٍ ، بِحَسْبِ ابنِ آدمَ أَكَلاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ ، فإنْ كَانَ لا مَحالَةَ ، فَثُلُثٌ لِطعامِهِ ، وثُلُثٌ لِشَرابِهِ ، وثُلُثٌ لِنَفسه ).
رواهُ الإمامُ أحمَدُ والتِّرمِذيُّ والنَّسائيُّ وابنُ ماجَهْ ، وقَالَ التِّرمِذيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
هذا الحديثُ خرَّجه الإمام أحمد (1) والترمذيُّ (2) من حديث يحيى بن جابر الطائي عن المقدام ، وخرَّجه النَّسائي (3) من هذا الوجه ومن وجه آخر من رواية صالح بن يحيى بن المقدام عن جدّه (4) ، وخرّجه ابنُ ماجه (5) من وجه آخر عنه وله طرق أخرى (6) .
__________
(1) في " مسنده " 4/132 .
(2) في " جامعه " ( 2380 ) .
(3) في " الكبرى " ( 6769 ) و( 6770 ) .
(4) في " الكبرى " ( 6868 ) .
(5) في " سننه " ( 3349 ) .
(6) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 662 ) عن حبيب بن عبيد ، عن المقدام ، به .
● [ الصفحة التالية ] ●
وقد رُوي هذا الحديث مع ذكر سببه ، فروى أبو القاسم البغوي في " معجمه " من حديث عبد الرحمان بن المُرَقَّع ، قال : فتح رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر وهي مخضرةٌ من الفواكة ، فواقع الناسُ الفاكهةَ ، فمغثتهمُ الحُمَّى ، فشَكَوْا إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنّما الحمى رائدُ الموت وسجنُ الله في الأرض ، وهي قطعةٌ من النار ، فإذا أخذتكم فبرِّدوا الماء في الشِّنان ، فصبُّوها عليكم بين الصَّلاتين ) يعني المغرب والعشاء ، قال : ففعلوا ذلك ، فذهبت عنهم ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لم يخلُقِ الله وعاءً إذا مُلِئَ شرّاً من بطن ، فإن كان لابدَّ ، فاجعلوا ثُلُثاً للطَّعام ، وثُلثاً للشَّراب ، وثُلثاً للرِّيح ) (1) .
__________
(1) أخرجه : الطبراني كما في " مجمع الزوائد " 5/95 ، والبيهقي في " دلائل النبوة " 6/160-161 ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 59 ) من طريق المحبر بن هارون ، عن أبي يزيد المقرئ ، عن عبد الرحمان بن المرقع ، وفي إسناده مقال ، ولبعض فقراته شواهد .
● [ الصفحة التالية ] ●
الشرح
وهذا الحديثُ أصلٌ جامعٌ لأصول الطب كُلِّها . وقد رُوي أنَّ ابنَ أبي ماسويه (1) الطبيبَ لمَّا قرأ هذا الحديث في كتاب أبي خيثمة ، قال : لو استعملَ الناسُ هذه الكلمات ، سَلِموا مِنَ الأمراض والأسقام ، ولتعطَّلت المارستانات (2) ودكاكين الصيادلة ، وإنَّما قال هذا ؛ لأنَّ أصل كلِّ داء التُّخَم ، كما قال بعضهم : أصلُ كُلِّ داء البردةُ ، وروي مرفوعاً ولا يصحُّ رفعه (3) .
وقال الحارث بن كَلَدَة طبيبُ العرب : الحِمية رأسُ الدواء ، والبِطنةُ رأسُ الداء ، ورفعه بعضهم ولا يصحُّ أيضاً (4) .
وقال الحارث أيضاً : الذي قتل البرية ، وأهلك السباعَ في البرية ، إدخالُ الطعام على الطعام قبل الانهضام .
وقال غيره : لو قيل لأهل القبور : ما كان سببُ آجالكم ؟ قالوا : التُّخَمُ (5) .
فهذا بعض منافع تقليلِ الغذاء ، وتركِ التَّمَلِّي من الطَّعام بالنسبة إلى صلاح البدن وصحته .
__________
(1) هو أبو زكريا يحيى بن ماسويه الحراني ، كان مسيحياً طبيباً حاذقاً ، له من المصنفات ( إصلاح الأدوية المفردة تدبير الأصحاء ) توفي في سر من رأى سنة ثلاث وأربعين ومئتين . انظر : كشف الظنون 6/515 .
(2) هي دار المرضى ، انظر : لسان العرب ( مرس ) .
(3) أخرجه : ابن حبان في " المجروحين " 1/204 ، وابن عدي في " الكامل " 2/279 ، وأبو أحمد العسكري في " أخبار المصحفين " : 64 عن الحسن ، عن أنس مرفوعاً .
قال الدارقطني : الأشبه بالصواب أنه من قول الحسن . انظر : " كشف الخفاء " ( 380 ) .
وقال ابن عدي : ولعل البلاء في هذا الحديث من محمد بن جابر الحلبي لأنه مجهول ولا يعرف حاله . انظر : الكامل 2/280 .
(4) قال السخاوي : ( لا يصح رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بل هو من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب أو غيره ) المقاصد الحسنة ( 1035 ) ، وانظر : كشف الخفاء ( 2320 ) .
(5) ذكره المناوي في " فيض القدير " 1/67 .
● [ الصفحة التالية ] ●
وأما منافِعُه بالنسبة إلى القلب وصلاحه ، فإنَّ قلةَ الغذاء توجب رِقَّة القلب ، وقوَّة الفهم ، وانكسارَ النفس ، وضعفَ الهوى والغضب ، وكثرةُ الغذاء توجب ضدَّ ذلك .
قال الحسن : يا ابنَ آدم كُلْ في ثلث بطنك ، واشرب في ثلثٍ ، ودع ثُلُثَ بطنك يتنفَّس لتتفكر .
وقال المروذي : جعل أبو عبد الله : يعني : أحمدَ يُعظِّمُ أمر الجوع والفقر ، فقلت له : يُؤجر الرجل في ترك الشهوات ، فقال : وكيف لا يؤجر ، وابنُ عمر يقول : ما شبعت منذ أربعة أشهر ؟ قلت لأبي عبد الله : يجد الرجلُ مِنْ قلبه رقَّة وهو يشبع ؟ قال : ما أرى (1) .
وروى المروذي عن أبي عبد الله قول ابن عمر هذا من وجوه ، فروى بإسناده عن ابن سيرين ، قال : قال رجل لابن عمر : ألا أجيئك بجوارش ؟ قال : وأيُّ شيء هو ؟ قال : شيءٌ يَهضِمُ الطعامَ إذا أكلته ، قال : ما شبعتُ منذ أربعةِ أشهر ، وليس ذاك أني لا أقدر عليه ، ولكن أدركت أقواماً يجوعون أكثرَ مما يشبعون (2) .
وبإسناده عن نافع ، قال : جاء رجل بجوارش إلى ابن عمر ، فقال : ما هذا ؟ قال : جوارش : شيءٌ يُهضَمُ به الطعامُ ، قال : ما أصنع به ؟ إنِّي ليأتي عليَّ الشهرُ
ما أشبع فيه من الطعام (3) .
__________
(1) انظر : الورع للإمام أحمد : 120 .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 1/300 ، وذكره الذهبي في " سير أعلام النبلاء " 3/222 .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 1/300 .
● [ الصفحة التالية ] ●
وبإسناده عن رجلٍ قال : قلتُ لابنِ عمر : يا أبا عبد الرحمان رَقَّتْ مضغتك ، وكَبِرَ سِنُّكَ ، وجلساؤك لا يعرفون لك حَقَّك ولا شَرَفَك ، فلو أمرتَ أهلك أنْ يجعلوا لك شيئاً يلطفونك إذا رجعتَ إليهم ، قال : وَيْحَكَ ، واللهِ ما شبعتُ منذ إحدى عشرة سنة ، ولا اثنتي عشرة سنة ، ولا ثلاث عشرة سنة ، ولا أربع عشرة سنة مرَّة واحدة ، فكيف بي وإنَّما بقي مني كظِمْءِ الحمار (1) .
وبإسناده عن عمرو بن الأسود العنسي أنَّه كان يدعُ كثيراً من الشبع مخافة الأشر (2) .
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب " الجوع " (3) بإسناده عن نافع ، عن ابنِ عمر ، قال : ما شبعتُ منذُ أسلمت .
وروى بإسناده (4) عن محمد بن واسع ، قال : مَنْ قلَّ طُعْمُه فهم ، وأفهم ، وصفا ، ورقَّ ، وإنَّ كَثرةَ الطَّعام ليُثقل صاحبه عن كثير مما يُريد .
وعن أبي عبيدة الخَوَّاص ، قال : حَتْفُكَ في شبعك ، وحَظُّك في جوعك ، إذا أنت شبعتَ ثقلتَ ، فنِمْتَ ، استمكن منك العدوُّ ، فجثم عليك ، وإذا أنت تجوَّعت كنت للعدو بمرصد (5) .
وعن عمرو بن قيس ، قال : إيَّاكُمْ والبِطنة فإنَّها تُقسِّي القلب (6) .
وعن سلمة بنِ سعيد قال : إنْ كان الرجلُ لَيُعيَّر بالبِطنة كما يُعير بالذنب يَعمَلُهُ (7) .
وعن بعض العلماء قال : إذا كنت بطيناً ، فاعدد نفسك زمناً حتى تخمص (8) .
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 1/298 – 299 .
(2) أخرجه : ابن أبي عاصم في " الآحاد المثاني " ( 2828 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 5/156 .
(3) رقم ( 58 ) .
(4) رقم ( 59 ) .
(5) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الجوع " ( 42 ) .
(6) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الجوع " ( 84 ) .
(7) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الجوع " ( 83 ) .
(8) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الجوع " ( 85 ) ولم ينسبه .
● [ الصفحة التالية ] ●
وعن ابن الأعرابي قال : كانت العربُ تقول : ما بات رجلٌ بطيناً فتمَّ عزمُه (1) .
وعن أبي سليمان الداراني قال : إذا أردتَ حاجةً من حَوائجِ الدُّنيا والآخرة ، فلا تأكل حتَّى تقضيها ، فإنَّ الأكلَ يُغير العقل (2) .
وعن مالك بن دينار قال : ما ينبغي للمؤمن أنْ يكونَ بطنه أكبرَ همه ، وأنْ تكونَ شهوته هي الغالبة عليه (3) .
قال : وحدثني الحسنُ بن عبد الرحمان ، قال : قال الحسن أو غيره : كانت بلية أبيكم آدم - عليه السلام - أكلةً ، وهي بليتُكم إلى يوم القيامة (4) . قال : وكان يُقال : من ملك بطنه ، ملك الأعمالَ الصالحة كلها (5) ، وكان يُقال : لا تَسكُنُ الحِكمةُ معدة ملأى (6) .
وعن عبد العزيز بن أبي رواد قال : كان يُقال : قِلة الطعام عونٌ على التسرُّع إلى الخيرات (7) .
وعن قثم العابد قال : كان يُقال : ما قلَّ طعمُ امرئٍ قطُّ إلا رقَّ قلبه ، ونديت عيناه (8).
وعن عبد الله بن مرزوق قال : لم نَرَ للأشر مثل دوام الجوع ، فقال له أبو عبد الرحمان العمري الزاهد : وما دوامه عندك ؟ قالَ : دوامُه أنْ لا تشبع أبداً . قالَ : وكيف يقدر من كانَ في الدنيا على هذا ؟ قال : ما أيسرَ ذلك يا أبا عبد الرحمان على أهل ولايته ومن وفَّقه لطاعته ، لا يأكل إلا دونَ الشبع هو دوامُ الجوع (9) .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الجوع " ( 86 ) .
(2) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الجوع " ( 87 ) .
(3) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الجوع " ( 105 ) .
(4) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الجوع " ( 97 ) .
(5) لم أقف على قول الحسن ، وأخرجه : ابن أبي الدنيا في " الجوع " ( 99 ) عن مالك بن دينار .
(6) انظر : كتاب الجوع ( 102 ) .
(7) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الجوع " ( 107 ) .
(8) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الجوع " ( 124 ) .
(9) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الجوع " ( 136 ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
ويشبه هذا قول الحسن لما عرض الطعامَ على بعض أصحابه ، فقال له : أكلتُ حتى لا أستطيع أنْ آكل ، فقال الحسن : سبحان الله ويأكل المسلم حتى لا يستطيع أن يأكل ؟! (1) .
وروى أيضاً بإسناده عن أبي عمران الجوني ، قال : كان يقال : من أحبّ أن يُنوَّرَ لهُ قلبُه ، فليُقِلَّ طُعمَه (2) .
وعن عثمان بن زائدة قال : كتب إليَّ سفيان الثوري : إنْ أردت أنْ يصحَّ جسمك ، ويَقِلَّ نومك ، فأقلَّ من الأكل (3) .
وعن ابن السَّماك قال : خلا رجل بأخيه ، فقال : أي أخي ، نحن أهونُ على الله من أنْ يُجيعنا ، إنَّما يُجيع أولياءه .
وعن عبد الله بن الفرج قال : قلت لأبي سعيد التميمي : الخائف يشبعُ ؟ قالَ : لا ، قلت : المشتاق يشبع ؟ قالَ : لا .
وعن رياح القيسي أنه قُرِّبَ إليه طعامٌ ، فأكل منه ، فقيل لهُ : ازدد فما أراك شبعتَ ، فصاح صيحة وقال : كيف أَشبَعُ أيام الدنيا وشجرةُ الزقوم طعامُ الأثيم بين يدي ؟ فرفع الرجلُ الطعام من بين يديه ، وقال : أنت في شيء ونحن في شيء (4) .
قال المروذي : قال لي رجل : كيف ذاك المتنعمُ ؟ يعني : أحمد ، قلتُ له : وكيف هو متنعم ؟ قال : أليس يجد خبزاً يأكل ، وله امرأة يسكن إليه ويطؤها ، فذكرتُ ذلك لأبي عبد الله ، فقال : صدق ، وجعل يسترجِعُ ، وقال : إنا لنشبع .
وقال بشر بنُ الحارث : ما شبعت منذ خمسينَ سنة ، وقال : ما ينبغي للرجل أنْ يشبع اليوم من الحلال ؛ لأنَّه إذا شبع من الحلال ، دعته نفسُه إلى الحرام ، فكيف من هذه الأقذار ؟ (5)
__________
(1) أخرجه : أحمد في " الزهد " ( 1523 ) .
(2) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الجوع " ( 142 ) .
(3) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الجوع " ( 150 ) .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 6/194 .
(5) أخرجه : أحمد في " الورع " : 123 .
● [ الصفحة التالية ] ●
وعن إبراهيم بن أدهم قال : من ضبط بطنه ، ضبط دينَه ، ومن ملك جُوعَه ، ملك الأخلاق الصالحة ، وإنَّ معصية الله بعيدةٌ من الجائع ، قريبةٌ من الشبعان ، والشبعُ يميت القلبَ ، ومنه يكونُ الفرحُ والمرح والضحك .
وقال ثابت البناني : بلغنا أنَّ إبليس ظهر ليحيى بن زكريا عليهما السّلام ، فرأى عليه معاليق من كلِّ شيءٍ ، فقال له يحيى : يا إبليس ، ما هذه المعاليقُ التي أرى عليك ؟ قال : هذه الشهواتُ التي أُصيبُ من بني آدم ، قال : فهل لي فيها شيءٌ ؟ قال : ربما شبعت ، فثقَّلناك عن الصَّلاة وعنِ الذِّكر ، قال : فهل غيرُ هذا ؟ قال : لا ، قال : لله عليَّ أنْ لا أملأ بطني من طعام أبداً ، قال : فقال إبليس : ولله عليَّ أنْ لا أنصحَ مسلماً أبداً (1) .
وقال أبو سليمان الداراني : إنَّ النفس إذا جاعت وعطشت ، صفا القلب ورقَّ ، وإذا شبعت ورويت ، عمي القلبُ (2) ، وقال : مفتاحُ الدنيا الشبع ، ومفتاح الآخرة الجوع ، وأصلُ كلِّ خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله - عز وجل - ، وإنَّ الله ليُعطي الدنيا من يُحبُّ ومن لا يُحبُّ ، وإنَّ الجوع عنده في خزائن مُدَّخَرة ، فلا يُعطي إلا من أحبَّ خاصة ؛ ولأنْ أدعَ من عشائي لقمةً أحبُّ إليَّ من أن آكلها ثم أقوم من أوَّل الليل إلى آخره (3) .
وقال الحسن بن يحيى الخشني : من أراد أن تَغْزُرَ دموعه ، ويرِقَّ قلبه ، فليأكل ، وليشرب في نصف بطنه ، قال أحمد بن أبي الحواري : فحدثت بهذا أبا سليمان ، فقال : إنَّما جاء الحديث : ( ثلثٌ طعام وثلثٌ شراب ) ، وأرى هؤلاء قد حاسبوا أنفسَهم ، فربحوا سدساً (4)
__________
(1) أخرجه : ابن الجعد في " مسنده " ( 1386 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 2/328 - 329 .
(2) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الجوع " ( 319 ) .
(3) أخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 5715 ) ، والخطيب في " تأريخه " 10/248 .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 8/318 .
● [ الصفحة التالية ] ●
قلت : والخير والهدى والسداد في اتباع أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما نصح في حديثه - صلى الله عليه وسلم - ففيه الغاية في الورع والزهد ، أما المبالغة في الأمر فقد يخرج بالمرء إلى حيز التنطع والتشدد المنهي عنه .
وقال محمد بن النضر الحارثي : الجوعُ يبعث على البرِّ كما تبعثُ البِطنة على الأشر (1) .
وعن الشافعي ، قال : ما شبعتُ منذ ستَّ عشرةَ سنة إلا شبعة اطرحتها ؛ لأنَّ الشبع يُثقِلُ البدن ، ويُزيل الفطنة ، ويجلب النوم ، ويضعف صاحبه عن العبادة (2) .
وقد ندب النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى التقلل من الأكل في حديث المقدام ، وقال : ( حسبُ ابن آدم لقيمات يُقمن صلبه ) (3) . وفي " الصحيحين " (4) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال : ( المؤمنُ يأكل في مِعًى واحدٍ ، والكافرُ يأكل في سبعة أمعاء ) والمراد أنَّ المؤمن يأكلُ بأدبِ الشَّرع ، فيأكل في مِعًى واحدٍ ، والكافر يأكل بمقتضى الشَّهوة والشَّرَهِ والنَّهم ، فيأكلُ في سبعة أمعاء .
وندب - صلى الله عليه وسلم - مع التقلُّل منَ الأكل والاكتفاء ببعض الطعام إلى الإيثار بالباقي منه ، فقال : ( طعامُ الواحدِ يكفي الاثنين ، وطعامُ الاثنين يكفي الثَّلاثة ، وطعامُ الثلاثة يكفي الأربعة ) (5) .
فأحسنُ ما أكل المؤمن في ثُلُثِ بطنه ، وشرِبَ في ثلث ، وترك للنَّفَسِ ثُلثاً ، كما ذكره النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حديث المقدام ، فإنَّ كثرة الشرب تجلِبُ النوم ، وتفسد الطعام . قال سفيان : كُلْ ما شئتَ ولا تشرب ، فإذا لم تشرب ، لم يجئك النوم (6) .
__________
(1) ذكره ابن الجوزي في " صفة الصفوة " 3/80 .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 9/127 .
(3) سبق تخريجه .
(4) صحيح البخاري 7/92 ( 5393 ) ، وصحيح مسلم 6/132 ( 2060 ) ( 182 ) من حديث ابن عمر .
(5) أخرجه : مسلم 6/132 ( 2059 ) ( 179 ) و( 181 ) ، وابن ماجه ( 3254 ) ، والترمذي ( 1820 م ) من حديث جابر .
(6) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 7/18 .
● [ الصفحة التالية ] ●
وقال بعض السَّلف : كان شبابٌ يتعبَّدون في بني إسرائيل ، فإذا كان عند فطرهم ، قام عليهم قائم فقال : لا تأكلوا كثيراً ، فتشربوا كثيراً ، فتناموا كثيراً ، فتخسروا كثيراً (1) .
وقد كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يجوعون كثيراً ، ويتقلَّلون من أكل الشَّهوات ، وإنْ كان ذلك لِعدم وجود الطَّعام ، إلاَّ أنَّ الله لا يختارُ لرسوله إلا أكملَ الأحوال وأفضلها . ولهذا كان ابنُ عمر يتشبه بهم في ذلك ، مع قدرته على الطَّعام ، وكذلك كان أبوه من قبله .
ففي " الصحيحين " (2) عن عائشة ، قالت : ما شبع آلُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - منذ قَدِمَ المدينة من خبز بُرٍّ ثلاث ليال تباعاً حتى قُبض ، ولمسلم (3) : قالت : ما شبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض .
وخرَّج البخاري (4) عن أبي هريرة قال : ما شَبِعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طعام ثلاثة أيام حتى قُبض .
وعنه قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير (5) .
وفي " صحيح مسلم " (6) عن عمر أنَّه خطب ، فذكر ما أصابَ الناسُ من الدنيا ، فقال : لقد رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يظلُّ اليوم يلتوي ما يجد دَقَلاً يملأ به بطنه .
__________
(1) انظر : الزهد : 104 لابن أبي عاصم ( ط . دار الريان للتراث ) .
(2) صحيح البخاري 7/98 ( 5423 ) و7/102( 5438 ) و8/174 ( 6687 ) ، وصحيح مسلم 8/218 ( 2970 ) ( 20 ) .
(3) 8/218 ( 2970 ) ( 22 ) .
(4) في " صحيحه " 7/87 ( 5374 ) .
(5) أخرجه : البخاري 7/97 ( 5414 ) .
(6) 8/220 ( 2978 ) ( 36 ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
وخرَّج الترمذي (1) ، وابن ماجه (2) من حديث أنس عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لقد أوذيت في الله وما يُؤذى أحد ، ولقد أُخِفْتُ في الله وما يخاف أحد ، ولقد أتت عليَّ ثلاث مِنْ بين يومٍ وليلةٍ وما لي طعامٌ إلا ما واراه إبط بلال ) .
وخرَّج ابنُ ماجه (3) بإسناده عن سليمان بن صُرَد ، قال : أتانا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فمكثنا ثلاث ليالٍ لا نَقدِرُ - أو لا يقدر - على طعام .
وبإسناده (4) عن أبي هريرة ، قال : أُتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطعامٍ سُخْن ، فأكل ، فلما فرغ ، قال : ( الحمدُ لله ، ما دخل بطني طعامٌ سخن منذ كذا وكذا ) .
وقد ذم الله ورسوله من اتَّبع الشهواتِ ، قال تعالى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً إِلاَّ مَنْ تَابَ } (5) .
وصحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال : ( خيرُ القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يأتي قوم يشهدون ولا يُستشهدون ، ويَنذِرُون ولا يُوفون ، ويظهر فيهم السِّمَنُ ) (6) .
وفي " المسند " (7) أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً سميناً ، فجعل يومئُ بيده إلى بطنه ويقول : ( لو كان هذا في غير هذا ، لكان خيراً لك ) .
__________
(1) في " جامعه " ( 2472 ) ، وقال : ( حسن صحيح ) .
(2) في " سننه " ( 151 ) .
(3) في " سننه " ( 4149 ) ، وإسناده ضعيف .
(4) في " سننه " ( 4150 ) ، وفي إسناده مقال من أجل سويد بن سعيد ، وفي القلب من المتن .
(5) مريم : 59 - 60 .
(6) أخرجه : البخاري 3/224 ( 2651 ) و5/2 – 3 ( 3650 ) و8/113 ( 6428 ) و8/176 ( 6695 ) ، ومسلم 7/185 ( 2535 ) ( 214 ) من حديث عمران بن حصين .
(7) مسند الإمام أحمد 3/471 و4/339 ، وإسناده ضعيف لجهالة أبي إسرائيل الجشمي فقد تفرد بالرواية عنه شعبة .
● [ الصفحة التالية ] ●
وفي " المسند " (1) عن أبي برزة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ أخوفَ ما أخافُ عليكم شهواتُ الغي في بطونكم وفروجكم ، ومُضلات الهوى ) .
وفي " مسند البزار " وغيره (2) عن فاطمة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( شرارُ أمتي الذين غذوا بالنَّعيم يأكلون ألوان الطعام ، ويلبسون ألوان الثياب ، ويتشدّقون في الكلام ) .
وخرَّج الترمذي (3) وابن ماجه (4) من حديث ابن عمر ، قال : تجشأ (5) رجلٌ عند النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : ( كفّ عنا جُشاءك ، فإنَّ أكثرهم شبعاً في الدنيا أطولُهم جوعاً يوم القيامة ) .
__________
(1) مسند الإمام أحمد 4/420 و423 ، وإسناده منقطع .
(2) لم أقف عليه في " مسند البزار " من حديث فاطمة ، وأورده من حديث أبي هريرة برقم ( 3616 ) ، وأما حديث فاطمة فأخرجه : ابن أبي الدنيا في " ذم الغيبة " ( 10 ) وفي " الصمت " ، له ( 15 ) ، وابن عدي في " الكامل " 7/4 .
(3) في " جامعه " ( 2478 ) ، وقال : ( حسن غريب ) على أن سند الحديث مسلسل بالضعفاء : محمد بن حميد الرازي ضعيف ، وشيخه عبد العزيز بن عبد الله القرشي منكر الحديث ، وشيخه يحيى البكاء ضعيف ، لذا قال أبو زرعة كما في " علل ابن أبي حاتم " ( 1910 ) : ( هذا حديث منكر ) .
(4) في " سننه " ( 3350 ) .
(5) التجشؤ : تنفس المعدة عند الامتلاء . لسان العرب 2/285 ( جشأ ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
وخرَّجه ابنُ ماجه (1) من حديث سلمان أيضاً بنحوه ، وخرَّجه الحاكم (2) من حديث أبي جُحيفة وفي أسانيدها كلِّها مقال .
وروى يحيى بنُ منده في كتاب " مناقب الإمام أحمد " بإسنادٍ له عن الإمامِ أحمد أنَّه سئل عن قولِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( ثُلث للطَّعام ، وثُلثٌ للشراب ، وثلث للنفس ) فقال : ثلث للطعام : هو القُوتُ ، وثلث للشراب : هو القوى ، وثلث للنفس : هو الروح ، والله أعلم .
__________
(1) في " سننه " ( 3351 ) ، في إسناده سعيد بن محمد الثقفي ضعيف ، وعطية بن عامر الجهني مجهول .
(2) في " المستدرك " 4/121 ، وصححه على طريقته في التساهل فرده الذهبي في " التلخيص " فقال : ( فيه فهد بن عون كذاب ، وعمر ( وهو ابن موسى ) هالك ) ، ومن قبل رد المنذري في " الترغيب والترهيب " 3/137 على الحاكم فقال : ( بل واه جداً ، فيه فهد بن عون وعمر بن موسى ) .
● [ تم شرح الحديث ] ●
جامع العلوم والحكم
لإبن رجب الحنبلي
منتدى ميراث الرسول . البوابة