من طرف الرسالة الأربعاء 16 يناير 2019 - 9:37
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مكتبة الحديث الشريف
جامع العلوم والحكم
● [ الحديث الثاني والأربعون ] ●
عَنْ أَنسِ بن مالكٍ - رضي الله عنه - ، قَالَ : سَمِعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقولُ : ( قالَ اللهُ تَعالى : يا ابنَ آدَمَ ، إنَّكَ ما دَعَوتَني ورَجَوتَني غَفَرتُ لك على ما كانَ مِنكَ ولا أُبالي ، يا ابن آدمُ لَوَ بَلَغَتْ ذُنُوبُك عَنانَ السَّماءِ ، ثمَّ استَغفَرتَني ، غَفَرْتُ لكَ ، يا ابنَ آدم إنَّك لو أَتَيتَني بِقُرابِ الأرضِ خَطايا ، ثمَّ لَقِيتَني لا تُشركُ بي شَيئاً ، لأتيتُكَ بِقُرابها مغفرةً ).
رواهُ التِّرمذيُّ (1) وقالَ : حديثٌ حَسَن .
الشرح
هذا الحديثُ تفرَّد به الترمذيُّ خرّجه من طريق كثير بن فائد ، حدَّثنا سعيدُ ابن عبيد ، سمعتُ بكر بن عبد الله المزني يقولُ : حدثنا أنسٌ ، فذكره ، وقال : حسنٌ غريبٌ ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه . انتهى .
وإسناده لا بأس به ، وسعيدُ بنُ عبيد هو الهُنائي ، قال أبو حاتم : شيخ . وذكره ابن حبان في " الثقات " (2) ، ومن زعم أنَّه غيرُ الهنائي ، فقد وهِمَ ، وقال الدارقطني : تفرَّد به كثيرُ بن فائد ، عن سعيد مرفوعاً ، ورواهُ سَلْم بنُ قتيبة ، عن سعيد بن عبيد ، فوقفه على أنس .
قلت : قد روي عنه مرفوعاً وموقوفاً ، وتابعه على رفعه أيضاً أبو سعيد مولى بني هاشم ، فرواه عن سعيد بن عُبيد مرفوعاً أيضاً ، وقد روي أيضاً من حديث ثابت ، عن أنس مرفوعاً ، ولكن قال أبو حاتم : هو منكر (3) .
__________
(1) 3540 ) مرفوعاً .
(2) انظر : الثقات لابن حبان 6/352 .
(3) أخرجه : في " العلل " 2/128 .
● [ الصفحة التالية ] ●
وقد رُوي أيضاً من حديث أبي ذَرٍّ خرَّجه الإمامُ أحمد (1) من رواية شهر بنِ حوشب ، عن معد يكرب ، عن أبي ذرٍّ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يرويه عن ربه - عز وجل - فذكره بمعناه ، ورواه بعضُهم عن شهر ، عن عبد الرحمان بن غَنْم، عن أبي ذرّ(2) ، وقيل : عن شهر ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يصحُّ هذا القول (3) .
ورُوي من حديث ابن عباس خرَّجه الطبراني (4) من رواية قيس بن الربيع ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابنِ عباس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - .
ورُوي بعضه من وجوهٍ أُخر ، فخرَّج مسلم في " صحيحه " (5) من حديث المعرور بن سُويد ، عن أبي ذرٍّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( يقول الله تعالى : مَن تقرَّب منِّي شبراً تقرَّبت منه ذراعاً ، ومن تقرَّب منِّي ذراعاً تقرَّبت منه باعاً ، ومن أتاني يمشي ، أتيته هرولة ، ومن لقِيَني بقُرابِ الأرض خطيئةً لا يُشرِكُ بي شيئاً لقيتُه بقُرابها مغفرةً ) .
وخرَّج الإمام أحمد (6) من رواية أخشن السَّدوسي ، قال : دخلتُ على أنس ، فقال : سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( والَّذي نفسي بيده ، لو أخطأتم حتّى تملأ خطاياكُم ما بَيْنَ السماءِ والأرض ، ثم استغفرتُمُ الله ، لغَفَرَ لكُم ) .
فقد تضمن حديث أنس المبدوء بذكره أنَّ هذه الأسباب الثلاثة يحصل بها المغفرة :
__________
(1) في " مسنده " 5/167 و172
(2) أخرجه : أحمد 5/154 ، وفي إسناده مقال من أجل أخشن السدوسي فيه جهالة إذ لم يرو عنه غير عبد المؤمن بن عبيد .
(3) أخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 1040 ) .
(4) في " الكبير " ( 12346 ) وفي " الأوسط " ( 5483 ) وفي " الصغير " ، له ( 807 ) .
(5) 8/67 ( 2687 ) ( 22 ) .
(6) في " مسنده " 3/238 ، وأخشن فيه جهالة كما تقدم قبل قليل .
● [ الصفحة التالية ] ●
أحدها : الدعاءُ مع الرجاء ، فإنَّ الدعاء مأمورٌ به ، وموعودٌ عليه بالإجابة ، كما قال تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } (1) .
وفي " السنن الأربعة " (2) عن النعمان بن بشير ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ الدُّعاء هو العبادة ) ثم تلا هذه الآية .
وفي حديث آخر خرَّجه الطبراني (3) مرفوعاً : ( مَنْ أُعطي الدُّعاء ، أُعطي الإجابة ؛ لأنَّ الله تعالى يقول : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } ) (4) .
وفي حديث آخر : ( ما كان الله لِيفتَحَ على عبدٍ بابَ الدُّعاء ، ويُغلقَ عنه بابَ الإجابة ) (5) .
لكن الدعاء سببٌ مقتضٍ للإجابة معَ استكمال شرائطه ، وانتفاء موانعه ، وقد تتخلَّف إجابته ، لانتفاءِ بعض شروطه ، أو وجود بعض موانعه ، وقد سبق ذكرُ بعض شرائطه وموانعه وآدابه في شرح الحديث العاشر .
__________
(1) غافر : 60
(2) " سنن أبي داود " ( 1479 ) ، و" سنن ابن ماجه " ( 3828 ) ، و" جامع الترمذي " ( 2969 ) و( 3247 ) و( 3372 ) ، و" السنن الكبرى " للنسائي ( 11464 ) وفي " التفسير " ، له ( 484 ) وقال الترمذي : ( حسن صحيح ) .
(3) في " الأوسط " ( 7023 ) وفي " الصغير " ، له ( 1000 ) ، ومن طريقه الخطيب في " تأريخه " 1/247-248 ، وطبعة دار الغرب 3/56 ، وابن الجوزي في " العلل المتناهية " 2/839 . وهو حديث منكر كما قال الذهبي في " الميزان " 4/77 ، وقال ابن الجوزي: ( هذا حديث لا يصح عن رسول الله تفرد به محمود بن العباس ، وهو مجهول ).
(4) غافر : 60 .
(5) أخرجه : العقيلي في " الضعفاء " 1/242 ، وابن عدي في " الكامل " 3/166 عن أنس ، به ، وهو حديث ضعيف جداً ، في سنده الحسن بن محمد البلخي ، وهو منكر الحديث.
● [ الصفحة التالية ] ●
ومن أعظم شرائطه : حضور القلب ، ورجاءُ الإجابة من الله تعالى ، كما خرَّجه الترمذي (1) من حديث أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ، فإنَّ الله لا يَقبلُ دُعاءً من قلبٍ غافلٍ لاهٍ ) .
وفي " المسند " (2) عن عبد الله بن عمرو ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ هذه القلوب أوعيةٌ ، فبعضُها أوعى من بعض ، فإذا سألتم الله ، فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة ، فإنَّ الله لا يستجيبُ لعبدٍ دعاءً من ظهرِ قلبٍ غافلٍ ) .
ولهذا نهي العبد أنْ يقول في دعائه : اللهمَّ اغفر لي إنْ شئت ، ولكنْ لِيَعزِم المسأَلَة ، فإنَّ الله لا مُكرهَ له (3) .
ونُهي أنْ يستعجل ، ويتركَ الدعاء لاستبطاء الإجابة (4) ، وجعل ذلك من موانع الإجابة حتّى لا يقطع العبدُ رجاءه من إجابة دُعائه ولو طالت المدة ، فإنَّه سبحانه يُحبُّ المُلحِّين في الدعاء (5)
__________
(1) 3479 ) ، وفي إسناده مقال .
(2) مسند الإمام أحمد 2/177 ، والحديث حسنه المنذري في " الترغيب والترهيب " 2/491-492 ، والهيثمي في " مجمع الزوائد " 10/148 .
(3) أخرجه : أحمد 2/243 و463 – 464 ، والبخاري 8/92 ( 6339 ) ، ومسلم 8/63 ( 2679 ) ( 9 ) من حديث أبي هريرة ، به مرفوعاً .
(4) أخرجه : مسلم 8/87 ( 2735 ) ( 90 ) ( 91 ) عن أبي هريرة مرفوعاً .
... نص الحديث : ( يستجاب لأحدكم ما لم يعجل فيقول : قد دعوتُ فلا ، أو فلم يستجب لي ) .
(5) أخرجه : العقيلي في " الضعفاء " 4/452 ، وابن أبي حاتم في " العلل " 2/199 ، وابن عدي في " الكامل " 8/500 ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 1069 ) عن عائشة مرفوعاً .
... ونص الحديث : ( إن الله - تبارك وتعالى - يحب الملحين في الدعاء ) ، وهو حديث باطل لا يصح .
● [ الصفحة التالية ] ●
. وجاء في الآثار : إنَّ العبد إذا دعا ربَّه وهو يحبُّه ، قال : يا جبريلُ ، لا تَعْجَلْ بقضاءِ حاجة عبدي ، فإنِّي أُحبُّ أن أسمعَ صوتَه (1) ، وقال تعالى : { وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } (2) فما دام العبدُ يُلحُّ في الدُّعاء ، ويَطمعُ في الإجابة من غير قطع الرّجاء ، فهو قريبٌ من الإجابة ، ومَنْ أَدمن قرعَ الباب ، يُوشك أنْ يُفتح له ، وفي " صحيح الحاكم " (3) عن أنسٍ مرفوعاً : ( لا تَعجزوا عن الدُّعاء ، فإنَّه لن يَهلِكَ مع الدُّعاء أَحدٌ ) .
ومن أهمِّ ما يسألُ العبد ربَّه مغفرةُ ذنوبه ، أو ما يستلزم ذلك كالنجاة من النار ، ودخول الجنة ، وقد قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( حولَها نُدنْدِن ) (4) يعني : حول سؤال الجنة والنجاة من النار (5) . وقال أبو مسلم الخَولاني : ما عَرَضت لي دعوةٌ فذكرتُ النار إلا صرفتُها إلى الاستعاذة منها .
ومن رحمة الله تعالى بعبده أنَّ العبدَ يدعوه بحاجةٍ من الدنيا ، فيصرفها عنه ، ويعوِّضه خيراً منها ، إما أنْ يَصرِفَ عنه بذلك سوءاً ، أو أنْ يدَّخِرَها له في الآخرة ، أو يَغفِر له بها ذنباً ، كما في " المسند " (6) و" الترمذى " (7) من حديث جابر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ما مِنْ أَحَدٍ يَدعُو بدُعاءٍ إلا آتاه الله ما سألَ أو كَفَّ عنه من السُّوء مثلَه ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم ) .
__________
(1) أخرجه : الطبراني في " الأوسط " ( 8442 ) عن جابر بن عبد الله مرفوعاً .
(2) الأعراف : 56 .
(3) 1/493 – 494 ، وهو حديث ضعيف .
(4) أخرجه : ابن ماجه ( 910 ) و( 3847 )، وابن حبان ( 868 ) من حديث أبي هريرة، به ، وهو حديث صحيح .
(5) انظر : النهاية 2/137 .
(6) مسند الإمام أحمد 3/360 ، وسنده فيه ضعف ، ولعله يتقوى ببعض الشواهد .
(7) 3381 ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
وفي " المسند " (1) و" صحيح الحاكم " (2) عن أبي سعيدٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ما مِنْ مُسلمٍ يَدعو بدعوةٍ ليس له فيها إثمٌ أو قطيعةُ رحمٍ إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاثٍ : إما أنْ يُعجِّلَ له دعوته ، وإما أنْ يدَّخرها له في الآخرة ، وإما أنْ يكشِفَ عنه من السُّوءِ مثلها ) ، قالوا : إذاً نُكثر ؟ قال : ( الله أكثرُ ) .
وخرَّجه الطبراني (3) ، وعنده ( أو يغفِرَ له بها ذنباً قد سَلَف ) بدل قوله : ( أو يكشف عنه من السوء مثلها ) .
وخرَّج الترمذي (4) من حديث عبادة مرفوعاً نحوَ حديث أبي سعيد أيضاً .
وبكلِّ حالٍ ، فالإلحاحُ بالدعاء بالمغفرة مع رجاء الله تعالى موجبٌ للمغفرة ، والله تعالى يقول : ( أنا عندَ ظنِّ عبدي بي ، فليظنَّ بي ما شاء ) (5) وفي رواية: ( فلا تظنُّوا بالله إلا خيراً ) (6) .
ويُروى من حديث سعيد بن جبير عن ابن عمر مرفوعاً : ( يأتي الله تعالى بالمؤمن يومَ القيامة ، فيُقرِّبُه حتى يجعلَه في حجابه من جميع الخلق ، فيقول له : اقرأ صحيفتك ، فيُعرِّفُه ذنباً ذنباً : أتعرفُ أتعرفُ ؟ فيقول : نعمْ نعمْ ، ثم يلتفتُ العبدُ يمنة ويسرة ، فيقول الله تعالى : لا بأسَ عليك ، يا عبدي أنت في ستري من جميع خلقي ، ليس بيني وبينك اليومَ أحدٌ يطَّلعُ على ذنوبك غيري ، اذهب فقد غفرتُها لك بحرفٍ واحدٍ من جميع ما أتيتني به ، قال : ما هو يا ربِّ ؟ قال : كنت لا ترجو العفو من أحدٍ غيري ) (7) .
__________
(1) مسند الإمام أحمد 3/18 ، وإسناده جيد .
(2) 1/493 .
(3) أخرجه : الطبراني في " الأوسط " كما في " مجمع الزوائد " 10/148 .
(4) في " جامعه " ( 3573 ) ، وقال : ( حسن صحيح غريب ) .
(5) تقدم تخريجه .
(6) أخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 909 ) ، وأحمد 3/491 ، وابن حبان ( 633 ) .
(7) أخرجه : الطبراني كما في " مجمع الزوائد " 7/37 .
● [ الصفحة التالية ] ●
فمن أعظم أسباب المغفرة أنَّ العبد إذا أذنب ذنباً لم يرج مغفرته من غير ربِّه ، ويعلم أنه لا يغفر الذنوبَ ويأخذ بها غيرُه ، وقد سبق ذكرُ ذلك في شرح حديث أبي ذرٍّ : ( يا عبادي إنِّي حرَّمت الظُّلم على نفسي ) (1) ... الحديث .
وقوله : ( إنَّك ما دعوتني ورجوتني ، غفرتُ لك على ما كان منك ولا أُبالي ) يعني : على كثرة ذنوبك وخطاياك ، ولا يتعاظمني ذلك ، ولا أستكثره ، وفي " الصحيح " (2) عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إذا دعا أَحدُكم فليُعظِم الرَّغبَةَ ، فإنَّ الله لا يَتعاظَمهُ شيءٌ ) .
فذنوب العباد وإنْ عظُمَت فإنَّ عفو الله ومغفرته أعظم منها وأعظم ، فهي صغيرةٌ في جنب عفوِ الله ومغفرته .
وفي " صحيح الحاكم " (3) عن جابر أنَّ رجلاً جاء إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ : واذنوباه واذنوباه مرَّتين أو ثلاثاً ، فقال له النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( قل : اللهمَّ مغفرتُك أوسَعُ من ذنوبي ، ورحمتُك أرجى عندي من عملي ) ، فقالها ، ثم قال له : ( عُدْ ) ، فعاد ، ثم قال له : ( عُدْ ) ، فعاد ، فقال له : ( قُمْ ، فقد غفر الله لك ) . وفي هذا يقول بعضهم :
يا كَبير الذَّنب عفوُ الـ . ـلَّه مِن ذنبك أكبرُ
أعظَمُ الأشياء في . جَنب عفوِ الله يَصغُرُ (4)
وقال آخر :
يا ربِّ إن عَظُمَت ذُنوني كَثرةً . فلقَد علِمتُ بأنَّ عَفوكَ أعظَمُ
إن كان لا يرجوك إلا مُحسنٌ . فمَن الذي يَرجو ويدعُو المُجرمُ
مالي إليك وسيلةٌ إلاَّ الرجا . وجَميلُ عفوك ثم إنِّي مُسلِمُ (5)
__________
(1) سبق تخريجه في الحديث الرابع والعشرين .
(2) صحيح مسلم 8/64 ( 2679 ) ( 8 ) .
(3) المستدرك 1/543 - 544 .
(4) انظر : ديوان أبي نؤاس : 620 .
(5) انظر : ديوان أبي نؤاس : 618 .
● [ الصفحة التالية ] ●
وقال آخر :
ولما قسى قلبي وضاقتْ مذاهبي . جعلتُ رجائي نحو عفوك سُلماً
تعاظمني ذنبي فلما قرنتُهُ . بعفوكَ ربي كانَ عفوك أعضما(1)
السبب الثاني للمغفرة : الاستغفار ، ولو عظُمت الذُّنوب ، وبلغت الكثرة عَنان السماء ، وهو السَّحاب . وقيل : ما انتهى إليه البصر منها ، وفي الرواية الأخرى : ( لو أخطأتُم حتَّى بلغت خطاياكم ما بين السماء والأرض ، ثم استغفرتم الله لَغفر لكم ) (2) ، والاستغفارُ : طلبُ المغفرة ، والمغفرة : هي وقاية شرِّ الذنوب مع سترها .
وقد كثر في القرآن ذكرُ الاستغفار ، فتارةً يؤمر به ، كقوله تعالى : { وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (3) ، وقوله : { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ } (4) .
وتارةً يمدحُ أهلَه ، كقوله : { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ } (5) ، وقوله : { وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } (6) ، وقوله : { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ } (7) .
وتارةً يذكر أن الله يغفر لمن استغفره ، كقوله تعالى : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً } (8) .
وكثيراً ما يُقرن الاستغفارُ بذكر التوبة ، فيكون الاستغفارُ حينئذٍ عبارةً عن طلب المغفرة باللسان ، والتوبة عبارة عن الإقلاع عن الذنوب بالقلوب والجوارح .
__________
(1) هذان البيتان سقطا من ( ج ) .
(2) سبق تخريجه .
(3) البقرة : 199 .
(4) هود : 3 .
(5) آل عمران : 17 .
(6) الذاريات : 18 .
(7) آل عمران : 135 .
(8) النساء : 110 .
● [ الصفحة التالية ] ●
وتارة يفرد الاستغفار ، ويُرتب عليه المغفرة ، كما ذكر في هذا الحديث وما أشبهه ، فقد قيل : إنَّه أريد به الاستغفارُ المقترن بالتوبة ، وقيل : إنَّ نصوص الاستغفار المفردة كلّها مطلقة تُقيَّدُ بما ذكر في آية ( آل عمران ) من عدم الإصرار ؛ فإنَّ الله وعد فيها المغفرة لمن استغفره من ذنوبه ولم يُصر على فعله ، فتُحْمَلُ النُّصوص المطلقة في الاستغفار كلّها على هذا المقيد ، ومجرَّدُ قولِ القائل : اللهمَّ اغفر لي ، طلبٌ منه للمغفرة ودعاءٌ بها ، فيكون حكمه حكمَ سائرِ الدعاء ، فإنْ شاء الله أجابه وغفر لصاحبه ، لاسيما إذا خرج عن قلبٍ منكسرٍ بالذنب أو صادف ساعةً من ساعات الإجابة كالأسحار وأدبار الصلوات .
ويُروى عن لُقمان - عليه السلام - أنَّه قال لابنه : يا بنيَّ عَوِّدْ لسانك : اللهمَّ اغفر لي ، فإنَّ لله ساعاتٍ لا يرُدُّ فيها سائلاً (1) .
وقال الحسن : أكثِروا من الاستغفار في بيوتكم ، وعلى موائدكم ، وفي طُرقكم ، وفي أسواقكم ، وفي مجالسكم أينما كُنتم ، فإنَّكم ما تدرون متى تنْزل المغفرة (2) .
وخرَّج ابنُ أبي الدنيا في كتاب " حسن الظن " (3) من حديث أبي هريرة
مرفوعاً : ( بينما رجلٌ مستلقٍ إذ نظر إلى السَّماء وإلى النجوم ، فقال : إني لأعلم أنَّ لك رباً خالقاً ، اللهمَّ اغفر لي ، فغفر له ) .
وعن مورِّق قال : كان رجل يعملُ السَّيئات ، فخرج إلى البرية ، فجمع تراباً ، فاضطجع عليه مستلقياً ، فقال : ربِّ اغفر لي ذنوبي ، فقال : إنَّ هذا ليعرِفُ أنَّ له رباً يغفِرُ ويُعذِّب ، فغفر له .
__________
(1) ذكره حكيم الترمذي في " نوادر الأصول " 2/294 .
(2) انظر الذي قبله .
(3) 107 ) ، وإسناده ضعيف .
● [ الصفحة التالية ] ●
وعن مُغيث بن سُميٍّ ، قال : بينما رجلٌ خبيثٌ ، فتذكر يوماً ، فقال : اللهمَّ غُفرانَك ، اللهمَّ غُفرانك ، اللهمَّ غُفرانك ، ثم مات فغُفِر له (1) .
ويشهد لهذا ما في " الصحيحين " (2) عن أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ عبداً أذنب ذنباً ، فقال : ربِّ أذنبتُ ذنباً فاغفر لي ، قال الله تعالى : عَلِمَ عبدي أنَّ له رباً يغفر الذنب ، ويأخذُ به ، غفرتُ لعبدي ، ثمَّ مكث ما شاء الله ، ثم أذنب ذنباً آخر ، فذكر مثل الأوَّل مرتين أخريين ) وفي رواية لمسلم (3) : أنَّه قال في الثالثة : ( قد غفرتُ لعبدي ، فليعمل ما شاء ) . والمعنى : ما دام على هذا الحال كلَّما أذنب استغفر . والظاهر أنَّ مرادهُ الاستغفارُ المقرون بعدم الإصرار ، ولهذا في حديث أبي بكر الصديق ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ما أصرَّ من استغفر وإنْ عاد في اليوم سبعين مرةً ) خرَّجه أبو داود والترمذي (4) .
وأمّا استغفارُ اللسان مع إصرار القلب على الذنب ، فهو دُعاء مجرَّد إنْ شاء الله أجابه ، وإنْ شاء ردَّه .
وقد يكون الإصرار مانعاً من الإجابة ، وفي " المسند " (5) من حديث عبد الله ابن عمرو مرفوعاً : ( ويلٌ للذينَ يُصرُّون على ما فعلوا وهُم يَعلَمون ) .
__________
(1) أخرجه : هناد في " الزهد " ( 942 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 6/68 .
(2) صحيح البخاري 9/178 ( 7507 ) ، وصحيح مسلم 8/99 ( 2758 ) ( 29 ).
(3) صحيح مسلم 8/99 ( 2758 ) ( 30 ) .
(4) 1514 ) ، والترمذي ( 3559 ) ، وهو ضعيف ، وقال الترمذي : ( ليس إسناده
بالقوي ) .
(5) مسند الإمام أحمد 2/165 و219 ، وهو حديث قوي .
● [ الصفحة التالية ] ●
وخرَّج ابنُ أبي الدنيا (1) من حديث ابن عباس مرفوعاً : ( التائبُ مِنَ الذَّنب كمن لا ذنب له ، والمستغفر من ذنب وهو مقيمٌ عليه كالمستهزيء بربِّه ) ورفعُه منكرٌ ، ولعلَّه موقوف (2) .
قال الضحاك : ثلاثةٌ لا يُستجابُ لهم ، فذكر منهم : رجل مقيم على امرأة زنى كلما قضى شهوته ، قال : ربِّ اغفر لي ما أصبتُ من فلانة ، فيقول الربُّ : تحوَّل عنها ، وأغفر لك ، فأما ما دمت مقيماً عليها ، فإنِّي لا أغفر لك ، ورجلٌ عنده مالُ قوم يرى أهله ، فيقول : ربِّ اغفر لي ما آكل من مال فلان ، فيقول تعالى : ردَّ إليهم مالهم ، وأغفر لك ، وأما ما لم تردَّ إليهم ، فلا أغفر لك .
وقول القائل : أستغفر الله ، معناه : أطلبُ مغفرته ، فهو كقوله : اللهمَّ اغفر لي ، فالاستغفارُ التامُّ الموجبُ للمغفرة : هو ما قارن عدمَ الإصرار ، كما مدح الله أهله ، ووعدهم المغفرة ، قال بعض العارفين : من لم يكن ثمرةُ استغفاره تصحيح توبته ، فهو كاذب في استغفاره ، وكان بعضُهم يقول : استغفارُنا هذا يحتاج إلى استغفارٍ كثير ، وفي ذلك يقولُ بعضهم :
أستغْفِرُ الله مِنْ أستغفرُ الله . من لَفظةٍ بَدَرَتْ خالفْتُ معناها
وكيفَ أرجو إجاباتِ الدُّعاء وقد . سَدَدْتُ بالذَّنب عندَ الله مَجراها
فأفضل الاستغفار ما اقترن به تركُ الإصرار ، وهو حينئذ توبةٌ نصوح ، وإنْ قال بلسانه : أستغفر الله وهو غيرُ مقلع بقلبه ، فهو داعٍ لله بالمغفرة ، كما يقول : اللهمَّ اغفر لي ، وهو حسن وقد يُرجى له الإجابة ، وأما من قال : توبةُ الكذابين ، فمرادُه أنَّه ليس بتوبة ، كما يعتقده بعضُ الناس ، وهذا حقٌّ ، فإنَّ التَّوبةَ لا تكون مَعَ الإصرار .
__________
(1) في " التوبة " : 85 .
(2) وبنحو هذا المعنى قال البيهقي في " السنن الكبرى " 10/154 .
● [ الصفحة التالية ] ●
وإن قال : أستغفر الله وأتوبُ إليه فله حالتان :
إحداهما : أن يكونَ مصرّاً بقلبه على المعصية ، فهذا كاذب في قوله : ( وأتوب إليه ) لأنَّه غيرُ تائبٍ ، فلا يجوزُ له أن يخبر عن نفسه بأنَّه تائبٌ وهو غير تائب .
والثانية : أنْ يكون مقلعاً عن المعصية بقلبه ، فاختلف الناس في جوازِ قوله : وأتوب إليه ، فكرهه طائفةٌ من السَّلف ، وهو قولُ أصحاب أبي حنيفة حكاه عنهم الطحاوي ، وقال الربيع بن خثيم : يكونُ قولُه : ( وأتوب إليه ) كذبةً وذنباً ، ولكن ليقل : اللهمَّ تُبْ عليَّ ، أو يقول : اللهمَّ إنِّي أستغفرك فتُب عليَّ ، وهذا قد يُحمل على من لم يقلع بقلبه وهو بحاله أشبه . وكان محمد بن سوقة يقول في استغفاره : استغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحيّ القيوم وأسأله توبة نصوحاً .
ورُوي عن حذيفة أنَّه قال : بحسب المرءِ من الكذب أنْ يقول : أستغفر الله ، ثم يعود . وسمع مطرِّفٌ رجلاً يقول : أستغفر الله وأتوب إليه ، فتغيظ عليه ، وقال : لعلك لا تفعل .
وهذا ظاهره يدلُّ على أنَّه إنَّما كره أنْ يقول : وأتوب إليه ؛ لأنَّ التوبة النصوحَ أنْ لا يعودَ إلى الذنب أبداً ، فمتى عاد إليه ، كان كاذباً في قوله : ( أتوب إليه ) .
وكذلك سُئِل محمدُ بن كعب القُرظِيُّ عمَّن عاهد الله أنْ لا يعود إلى معصية أبداً ، فقال : من أعظم منه إثماً يتألَّي على الله أنْ لا ينفذ فيه قضاؤه ، ورجَّح قوله في هذا أبو الفرج ابنُ الجوزي ، ورُوي عن سُفيان بن عُيينة نحو ذلك .
وجمهورُ العلماء على جواز أنْ يقول التائب : أتوبُ إلى الله ، وأنْ يُعاهِدَ العبدُ ربَّه على أنْ لا يعود إلى المعصية ، فإنَّ العزم على ذلك واجبٌ عليه ، فهو مخبر بما عزم عليه في الحال ، لهذا قال : ( ما أصرَّ من استغفر ، ولو عاد في اليوم سبعين مرة ) (1) . وقال في المعاود للذنب : ( قد غفرتُ لعبدي ، فليعمل ما شاء ) (2) . وفي حديث كفارة المجلس : ( أستغفرك اللهمَّ وأتوب إليك ) (3) ، وقطع النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - سارقاً ، ثم قال له : ( استغفر الله وتُب إليه ) ، فقال : أستغفر الله وأتوب إليه ، فقال : ( اللهمَّ تُب عليه ) خرَّجه أبو داود (4) .
واستحبَّ جماعة من السَّلف الزيادة على قوله : ( أستغفر الله وأتوب إليه ) فرُوي عن عمر أنَّه سمع رجلاً يقول : أستغفر الله وأتوب إليه ، فقال له : يا حُميق ، قل : توبة من لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نُشوراً .
وسئل الأوزاعيُّ عن الاستغفار : أيقول : أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحيّ القيوم وأتوبُ إليه ، فقال : إنَّ هذا لحسن ، ولكن يقول : ربِّ اغفر لي حتى يتمَّ الاستغفار .
__________
(1) سبق تخريجه .
(2) سبق تخريجه .
(3) أخرجه : أحمد 2/369 و494 ، وأبو داود ( 4858 ) ، والترمذي ( 3433 ) عن أبي هريرة ، به ، وقال الترمذي : ( حسن صحيح غريب ) .
(4) في " سننه " ( 4380 ) .
... وأخرجه: أحمد 5/293 ، والدارمي ( 2308 ) ، وابن ماجه ( 2597 ) ، والنسائي 8/67 ، والطحاوي في " شرح معاني الآثار " 2/97 ، وإسناده ضعيف لجهالة أحد رواته .
● [ الصفحة التالية ] ●
وأفضل أنواع الاستغفار : أنْ يبدأ العبدُ بالثَّناء على ربِّه ، ثم يثني بالاعتراف بذنبه ، ثم يسأل الله المغفرة كما في حديث شدَّاد بن أوس عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( سيِّدُ الاستغفار أنْ يقول العبدُ : اللهمَّ أنت ربِّي لا إله إلا أنت ، خلقتني وأنا عبدك ، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ، أعوذُ بك من شرِّ ما صنعتُ ، أبوءُ لك بنعمتك عليَّ ، وأبوءُ بذنبي ، فاغفر لي ، فإنَّه لا يغفرُ الذُّنوبَ إلاَّ أنتَ ) خرَّجه البخاري (1) .
وفي " الصحيحين " (2) عن عبد الله بن عمرو أنَّ أبا بكرٍ الصديق - رضي الله عنه - قال : يا رسولَ الله ، علِّمني دعاءً أدعو به في صلاتي ، قال : ( قل : اللهمَّ إنِّي ظلمتُ نفسي ظُلماً كثيراً ، ولا يغفرُ الذُّنوب إلاَّ أنتَ ، فاغفر لي مغفرةً من عندك ، وارحمني إنَّك أنت الغفورُ الرحيم ) .
ومن أنواع الاستغفار أنْ يقولَ العبدُ : ( أستغفرُ الله الذي لا إله إلا هو الحيّ القيُّوم وأتوب إليه ) . وقد رُوي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ من قاله ، غُفِر له وإنْ كان فرَّ من الزَّحف ؛ خرجه أبو داود والترمذي (3) .
__________
(1) في " صحيحه " 8/83 ( 6306 ) و8/88 ( 6323 ) .
(2) صحيح البخاري 1/211 ( 834 ) ، وصحيح مسلم 8/74 ( 2705 ) ( 48 ) .
(3) 1517 ) ، والترمذي ( 3577 ) من حديث بلال بن يسار بن زيد ، عن أبيه ، عن جده ، به مرفوعاً ، وقال الترمذي : ( غريب لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه ) ، وبلال وأبوه مجهولان ، وزيد جد بلال لا يعرف له إلاّ هذا الحديث .
● [ الصفحة التالية ] ●
وفي كتاب " اليوم والليلة " (1) للنسائي ، عن خَبَّاب بن الأرتِّ ، قال : قلت يا رسول الله ، كيف نستغفر ؟ قال : ( قل : اللهمَّ اغفر لنا وارحمنا وتُبْ علينا ، إنك أنت التَّوابُ الرحيم ) ، وفيه عن أبي هريرة ، قال : ما رأيت أحداً أكثر أنْ يقولَ : أستغفر الله وأتوب إليه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) .
وفي " السنن الأربعة " (3) عن ابن عمر ، قال : إنْ كنَّا لنَعُدُّ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في المجلس الواحد مئة مرَّة يقول : ( ربِّ اغفر لي وتُب عليَّ ، إنَّك أنتَ التوَّابُ الغفور ) .
وفي " صحيح البخاري " (4) عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( واللهِ إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة ) .
وفي " صحيح مسلم " (5) عن الأغرِّ المزني ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّه لَيُغانُ على قلبي ، وإنِّي لأستغفرُ الله في اليوم مئة مرة ) .
__________
(1) برقم ( 461 ) ، وهو في " السنن الكبرى " ( 10295 ) ، وعنه أخرجه ابن السني في " عمل اليوم والليلة " ( 372 ) ، وهذا حديث معلول بالإرسال ، والمرسل هو الصواب كما ذكر ذلك المزي في " تحفة الأشراف " 3/46 ( 3521 ) .
(2) أخرجه : عبد بن حميد ( 1465 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 10288 ) وفي " عمل اليوم والليلة " ، له ( 454 ) ، وفي إسناده مقال .
(3) أخرجه : أبو داود ( 1516 ) ، وابن ماجه ( 3814 ) ، والترمذي ( 3434 ) ، والنسائي في " الكبرى " ، له ( 10292 ) وفي " عمل اليوم والليلة " ، له ( 458 ) ، وقال الترمذي : ( حسن صحيح غريب ) .
(4) 8/83 ( 6307 ) .
(5) 8/72 ( 2702 ) ( 41 ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
وفي " المسند " (1) عن حُذيفة قال : قلتُ : يا رسول الله إنِّي ذَرِبُ اللسان وإنَّ عامة ذلك على أهلي ، فقال : ( أين أنتَ مِن الاستغفار ؛ إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مئة مرة ) .
وفي " سنن أبي داود " (2) عن ابن عباس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( من أكثرَ من الاستغفارِ جعل الله له من كلِّ همٍّ فرجاً ، ومن كلِّ ضيق مخرجاً ، ورزقه من حيث لا يحتسبُ ) .
قال أبو هريرة : إنِّي لأستغفرُ الله وأتوب إليه كلَّ يوم ألف مرَّة ، وذلك على قدر ديتي (3) .
وقالت عائشة : طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً (4) .
قال أبو المِنهال : ما جاور عبدٌ في قبره من جارٍ أحبَّ إليه من استغفار كثير .
وبالجملة فدواءُ الذنوب الاستغفارُ ، وروينا من حديث أبي ذرٍّ مرفوعاً : ( إنَّ لكلِّ داء دواءً ، وإنَّ دواء الذنوب الاستغفار ) (5) .
قال قتادة : إنَّ هذا القرآن يدلُّكم على دائكم ودوائكم ، فأما داؤكم : فالذُّنوب ، وأما دواؤكم : فالاستغفار (6) . قال بعضهم : إنَّما مُعوَّلُ المذنبين البكاء والاستغفار ، فمن أهمته ذنوبه ، أكثر لها من الاستغفار .
__________
(1) مسند الإمام أحمد 5/396 ، وإسناده ضعيف ، إلا أنَّ قوله : ( إني لأستغفر الله … ) صحيح كما في الحديث السابق .
(2) 1518 ) ، وسنده ضعيف .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 1/383 .
... وجاءت فيه لفظة أثنى عشر ألف مرة .
(4) أخرجه : هناد في " الزهد " ( 921 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 646 ) موقوفاً .
... وأخرجه : ابن ماجه ( 3818 ) ، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " ( 455 ) ، والخطيب في " تأريخه " 10/160 من حديث عبد الله بن بسر مرفوعاً ، وسنده صحيح .
(5) أخرجه : الحاكم 4/242 موقوفاً .
(6) أخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 7146 ) .
... وانظر : الفردوس بمأثور الخطاب 1/136 ، والترغيب والترهيب 2/309 .
● [ الصفحة التالية ] ●
قال رياح القيسي : لي نيِّفٌ وأربعون ذنباً ، قد استغفرتُ الله لكلِّ ذنب مئة ألف مرّة (1) .
وحاسب بعضهم نفسه من وقت بلوغه ، فإذا زلاتُه لا تُجاوز ستاً وثلاثين زلةً ، فاستغفر الله لكل زلةٍ مئة ألف مرّة ، وصلَّى لكلِّ زلَّة ألف ركعة ، ختم في كلِّ ركعة منها ختمة ، قال : ومع ذلك ، فإنّي غير آمن سطوة ربي أنْ يأخذني بها ، وأنا على خطرٍ من قَبولِ التوبة .
ومن زاد اهتمامُه بذنوبه ، فربما تعلَّق بأذيالِ من قَلَّت ذنوبُه ، فالتمس منه الاستغفار . وكان عمر يطلب من الصبيان الاستغفار ، ويقول : إنَّكم لم تُذنبوا ، وكان أبو هريرة يقول لغلمان الكُتّاب : قولوا اللهمَّ اغفر لأبي هُريرة ، فيؤمن على دعائهم .
قال بكرٌ المزني : لو كان رجلٌ يطوف على الأبواب كما يطوف المسكين يقول : استغفروا لي ، لكان نوله أنْ يفعل .
ومن كَثُرت ذنوبه وسيئاته حتى فاتت العدَّ والإحصاء (2) ، فليستغفر الله مما علم الله ، فإنَّ الله قد علم كل شيءٍ وأحصاه ، كما قال تعالى : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ } (3) ، وفي حديث شداد بن أوسٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( أسأَلُكَ من خيرِ ما تَعلَمُ . وأعوذُ بكَ مِنْ شرِّ ما تعلمُ ، وأستغفركُ لما تعلم ، إنَّك أنت علاّمُ الغيوب ) (4) . وفي هذا يقول بعضهم :
أستغفِرُ الله ممّا يَعلمُ الله . إنَّ الشَّقيَّ لَمَن لا يَرحَمُ الله
ما أحلمَ الله عمن لا يُراقبُه . كُلٌّ مُسيءٌ ولكن يَحلمُ الله
فاسْتَغفِرُ الله مما كان من زَللٍ . طُوبى لمن كَفَّ عما يَكرهُ الله
طُوبى لمَن حَسُنَت فيه سَريرتُه . طُوبى لمَن يَنتهي عمَّا نهى الله
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 6/194 .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) المجادلة : 6 .
(4) أخرجه : أحمد 4/123 و125 ، والترمذي ( 3407 ) ، والنسائي 3/54 وفي " الكبرى " ، له ( 10648 ) ، والحاكم 1/508 ، وفي أسانيده مقال واختلاف .
● [ الصفحة التالية ] ●
السبب الثالث من أسباب المغفرة : التوحيدُ ، وهو السببُ الأعظم ، فمن فقده ، فَقَدَ المغفرة ، ومن جاء به ، فقد أتى بأعظم أسباب المغفرة ، قال تعالى : { إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (1) فمن جاء مع التوحيد بقُراب الأرض - وهو ملؤها أو ما يُقارب ملأها - خطايا ،
لقيه الله بقُرابها مغفرة ، لكنَّ هذا مع مشيئة الله - عز وجل - ، فإنْ شاء غَفَرَ له ، وإنْ شاء أخذه بذنوبه ، ثم كان عاقبته أنْ لا يُخلَّد في النار ، بل يخرج منها ، ثم يدخل الجنَّة .
قال بعضُهم : الموحِّد لا يُلقى في النار كما يُلقى الكفار ، ولا يَلقى فيها ما يَلقى الكفار ، ولا يبقى فيها كما يبقى الكفار ، فإنْ كمُلَ توحيدُ العبد وإخلاصُه لله فيه ، وقام بشروطه كلِّها بقلبه ولسانه وجوارحه ، أو بقلبه ولسانه عندَ الموت ، أوجبَ ذلك مغفرة ما سلف من الذنوب كلِّها ، ومنعه من دخول النَّار بالكلية .
فمن تحقَّق بكلمة التوحيد قَلبُه ، أخرجت منه كلَّ ما سوى الله محبةً وتعظيماً وإجلالاً ومهابةً ، وخشيةً ، ورجاءً وتوكُّلاً ، وحينئذ تُحْرَقُ ذنوبه وخطاياه كلُّها ولو كانت مِثلَ زبد البحر ، وربما قلبتها حسناتٍ ، كما سبق ذكره في تبديل السيئات حسنات ، فإنَّ هذا التوحيدَ هو الإكسيرُ الأعظمُ ، فلو وضع ذرَّة منها على جبالِ الذنوب والخطايا ، لقلبها حسناتٍ كما في " المسند "(2) وغيره ، عن أم هانئ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا إله إلا الله لا تترُك ذنباً ، ولا يسبِقها عمل ) .
وفي " المسند " (3)
__________
(1) النساء : 48 .
(2) مسند الإمام أحمد 6/425 ، والطبراني في " الكبير " 24/( 1061 ) بلفظ مقارب له .
... وأخرجه : ابن ماجه ( 3797 ) بهذا اللفظ ، وهو حديث ضعيف .
(3) مسند الإمام أحمد 4/124 .
... وأخرجه : البزار كما في " كشف الأستار " ( 10 ) ، والدولابي في" الكنى " 1/93 ، والطبراني في " الكبير " ( 7163 ) ، والحاكم 1/501 ، وهو حديث ضعيف لضعف راشد ابن داود .
● [ الصفحة التالية ] ●
عن شدَّاد بن أوس ، وعبادة بن الصامت : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه : ( ارفعُوا أيدِيَكم ، وقولوا : لا إله إلا الله ) ، فرفعنا أيدينا ساعة ، ثم وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده ، ثم قال : ( الحمدُ لله ، اللهمَّ بعثتني بهذه الكلمة ، وأمرتني بها ، ووعدتني الجنَّة عليها ، وإنَّك لا تُخلِفُ الميعاد ) ، ثم قال : ( أبشروا ، فإنَّ الله قد غفر لكم ) .
قال الشِّبلي : من ركن إلى الدنيا أحرقته بنارها ، فصار رماداً تذروه الرياحُ ، ومن ركن إلى الآخرة أحرقته بنورها ، فصار ذهباً أحمر يُنتفع به ، ومن ركن إلى الله ، أحرقه نورُ التوحيد ، فصار جوهراً لا قيمة له .
إذا علِقت نارُ المحبة بالقلب أحرقت منه كلَّ ما سوى الربِّ - عز وجل - ، فطهُرَ القلبُ حينئذ من الأغيار ، وصلح عرشاً للتوحيد : ( ما وسعني سمائي ولا أرضي ، ولكن وسعني قلبُ عبدي المؤمن ) (1) .
غصَّنِي الشوقُ إليهم بريقي . فَوَا حَريقي في الهوى وا حريقي
قَد رماني الحُبُّ في لُجِّ بَحرٍ . فخُذوا باللهِ كفَّ الغريق
حلَّ عندي حُبُّكم في شِغافي . حلَّ مِنِّي كُلَّ عَقدٍ وَثِيقِ
فهذا آخر ما ذكره الشيخ رحمه الله من الأحاديث في هذا الكتاب ، ونحن بعون الله ومشيئته نذكر تتمة الخمسين حديثاً من الأحاديث الجامعة لأنواع العلومِ والحكم والآداب الموعود بها في أوّل الكتاب ، والله الموفق للصواب .
__________
(1) سبق أنَّه من الإسرائيليات ، وأنه ليس بحديث .
● [ تم شرح الحديث ] ●
جامع العلوم والحكم
لإبن رجب الحنبلي
منتدى ميراث الرسول . البوابة