من طرف الرسالة الأحد 13 أبريل 2014 - 14:46
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
مكتبة الثقافة الأدبية
المقامات للزمخشري
من مقامة الطاعة إلى مقامة الندم
● [ مقامة الطاعة ] ●
يا أبا القاسم تبتلْ إلى اللّهِ وخَلِّ ذكرَ الخصرِ المَبتلْ ورتّل القرآنَ وعَدِّ عنْ صفةِ الثغرِ المرَتل. أدِرْ عينيكَ في وجوهِ الصَّلاحِ لتعلقَ أصلحَها. لا في وجوهِ الملاحِ لتعشقَ أصبحها. وابكِ على ما مضى في غيرِ طاعةِ اللّهِ من شبابكَ. ودَعِ البكاءَ على الظاعنينَ منْ أحبابِك. وعليكَ بآثارِ منَ قبلكَ ممّن تعزَّزَ بالبُروجِ المشيدَة واعتصمَ بالصُّروحِ الممرَّدة. وتجبرَ في القصورِ المنجدَة. ثمَّ خرجَ من الدُّنيا راغِماً لم يُنجه منَ الإذعان لمذلّة الخروج. تّعززهُ بالبروج. ولمْ ينقذه من قابض الروح. اعتصامه بالصروح ولم يخلِّصْهُ من الاستكانة في القبور. تجبرُهُ في القصور. قف على أطلالها بالتّأوه والاستعبارْ ولا يكونَنَّ تأوٌّهُك واستعبارُكَ إلاَّ للتذكر والاعتبار. ولا تستوقف الركبَ في أوطان سلمَى ومنازل سُعدىَ مُقترِحاً عليهم أن يُساعدوكَ بالقلوبِ والعُيون. ويساعفوك ببذلِ ذخائرِ الشؤون. متردِّداً في العِراصِ والملاعبْ. متلدِّداً في مساحبِ أذيالِ الكواعبْ. تقولُ أينَ أيامُنا بحزُوى ومَن لنا بليالي العقيقِ واللِّوى. حسبُكَ ما أوضعتَ من مطايا الجهلِ في سبُلِ الهوى. وما سيرَتْ من ركابِ الضَّلالِ في ثنيّاتِ الصبا. مالكَ لا تحُلُّ عنها أحمالَك. ولا تحُطُّ عنْ ظُهورِها أثقالَك. ألقِ حِبالها على غَواربها. واضرِبْ في وُجوهِهِا تطرْ إلى مساربها. وأدإبْ نفسَكَ في سُبُلِ اللّهِ فطالما أرحتَها على مضاجعِ الشيطان. وأحمضِها فقد حانَ لها أن تْسأمَ من خُلةِ العِصيان.
● [ مقامة المنذر ] ●
يا أبا القاسم فيئتُك إلى اللّهِ من صُنعه وفضلهِ الغامر. فهنيئاً مريئاً غيرَ داءٍ مخامر. لقد رآكَ عن سواءِ المنهج زائغاً وعنْ مَنْ يحوشُك على الحقِ الأبلجِ رائغاً هائماً على وجهِكَ راكباً رأسكْ راكضاً في تيهِ الغَيّ رواحلِكَ وأفراسَك. بطّالاً مُبطلاً قد أصرَرْتَ إصراراً. وإن أعلنَ لك النّاصحُ أو أسرُّ إسراراً. تنقضي عنكَ شهورُ سنتكِ. وأنتَ غارِزٌ رأسكَ في سِنتكْ. لا تشعرُ بإنصافٍ لهنَّ ولا سرار، ولا تحس أتحتَ أهِلّةٍ أنتَ أمْ أقمار. تستن في الباطلِ استنان المُهرِ الأرِن ما كل رائضٍ لشماسِكَ بمقرِنْ. فرماكَ عرَنُ قدرتهِ بسهمٍ منْ سهامهِ ليقفَك وعضَّكَ بمغمزٍ من بلائهِ ليثقّفك ومسّكَ بضُرٍ أن عَرَّى عظامكَ وأنحفَك. فأيَّ دثارٍ من صحةِ اليقينِ ألحفَك. كذلك الدَّواءُ الإلهي النافع. والشفاءُ السماوي النّاجع. فيما وسع كل شيءٍ من رحمتهِ.
ولا يُعدُّ ولا يحصى من نعمتهِ. لئنْ ظللتَ أيامَ الغابرِ من عمركَ صائماً. وبتَّ لياليهُ قائماً لتشكرَ ما أطلقَ لكَ من هذهِ اليدِ البيضاءُ. وخوَّلكَ منْ هذهِ النعمةِ الخضراءِ لبقيتَ تحتَ قطرةٍ من بحرِها غريقاً في التيّار وتحتَ حصاةٍ من طَودِها مرضوضَ الفقار.
أصحّكَ بالعلُّةِ المُضنيةِ ... قضاءٌ تُرَدُّ له الأقضية.
فسُبحانَ مَنْ جعلَ الدَّاءَ في ... تماديهِ أشفى مِنَ الأدويةْ.
ألا إنها نعمةٌ لو جرَتْ ... لسَالتْ بأيسرِها أودية.
● [ مقامة الاستقامة ] ●
يا أبا القاسم نُصبتُ لك غايةٌ فتجشّم في ابتدارِها النصبْ وأحرِز قبلَ أن يُحرزَ غيرك القصَبْ. املأ فَروج دابّتك منَ الإحضار حتى تحسرَ عنكَ أعينُ النظّار منْ طلبَ الخيرَ لمْ تحمدْ هويناهُ وأناتهُ. ومنْ قارعَ الباطلَ وجبَ أن تصلبَ قناته قبيحٌ بمثلك أن يحيدَ عن الحقِّ ويصيف. ويطيشَ سهمهُ عنِ القرطاسِ ويحيف إمضِ على ما جرَّدْتَ من عزيمتكَ الجادَّة. واستقِم على مفرقِ المنهاجِ ووضحِ الجادَّة فلن يُحلَّ دارَ الُمقامة. إلا أهلُ الاستقامة. وإنَّ بهاءَ العملِ الصالحِ أن يطّرِدَ ويستمرْ. وهجينتهُ أن تنزوَ إليه نزوةَ طامحٍ ثمَّ تستعِرْ. الإعصارُ عصفتهُ خفيفة والسحابةُ الصيفيةُ مطرتها طفيفة. فأعيذُكَ باللّهِ أن تشبهَ عزمتُكَ عصفةَ الإعصارِ في سرعةِ مُرورِها. وفيئتْكَ سحابةَ الصيفِ في قلّةِ دُرورِها ليكنْ عملُكَ ديمة فليسَ للعملِ الأبترِ قيمة. الأمرُ جدٌ فلا تزدهُ كلَّ يومٍ إلا جِدا واشدُدْ يديكَ بغرزِهِ شداً واكدُدْ فيهِ الطاقةَ كدَّاً ورُض نفسَكَ فإنها صعبةٌ أبيّة. وألنْ هذهِ الشّكيمة والعُبيِّة إلا في إحياءِ حقٍ أو إماتةِ باطلٍ فعلى المؤمنِ أن يوجدَ فيها أشدَّ من الشديد. وأقسى من الحجرِ وأصلبَ من الحديدْ.
● [ مقامة الطيب ] ●
يا أبا القاسم تمنَّ على فضلِ اللّهِ أن يجعلَ سُقياك من زُلالِ المشرب. ورزقكَ من حلالِ المُكتسبِ. فالطّيبُ لا يرِدُ إلا الطّيب منَ المناهل. والكريمُ لَّا يريد إلاَّ الكريمَ منَ المآكل. والحرُّ عَزوفُُ عَروف لمواردِ السوءِ عَيوف. يربأ بنفسهِ عنِ استحبابِ الرِيَّ الفاضح. على احتمال الظمأ الفادح. ويستنكفُ أن يكونَ الحرامُ عندهُ أثيراً. إذا لم يجدِ الحلالَ كثيراً. فهوَ وإن بقيَ حَراَّنَ ينضنضُ لسانَهُ ويلهثْ وشارفَ أن يقضيَ عليهِ الإقواءُ والغرَث. يتعاظمهُ بَلُّ الغليلِ بماءٍ طرْقْ. ويطولُ عليهِ مد اليدِ إلى ما ليسَ بطلقَ ألا إنَّ اتقّاءَ المحارمْ. من أجلِ المكارم. فاتقّها إمّا لكرَمِ الغريزة.وحميّةِ النفسِ العزيزة . وإمّا للتوقُفِ عندَ حدودِ الشارع. وتخوُّف ِالزواجرِ والقوارعْ. وأيّةً سلكْتَ. فنفسكَ في السُّعداءِ سلكتْ وعلى أيهما وقعت فقد دفعت. إلى جنبٍ طيّب. وسراة وادٍ مخصب. ينبتُ لكَ من الثّناءِ الدَّوحَ الأعلى ويخرجُ لكَ من الثّوابِ الثمَرَ الأحلى. وإنْ ظاهرتَ بينَ الأمرينِ مظاهرةَ الدارعْ. وكما تكونُ بزَّةُ البطلِ المقارع فجعلتَ شعارَكَ الإباءَ والحميةِ. ودِثارَكَ التقيّة الإسلامية. وذلكَ هو المظنونُ بأشباهكَ من أُولي الشهامةِ والحزمْ. وأضرابكَ من ذوي الجدّ والعزْم فأهلاً بمن اختارَ الخيرَ من قواصيهِ وأطرافهِ. وقبضَ بكفيّهِ من نواصيهِ وأعرافهِ.
محارِمُ تبتغى منها التقيّهْ ... فظاهرْ بينَ دينكَ والحميّه.
هما درعانِ مَن يلبَسهما لمْ ... يكنْ للنّابلِ المصمي رميّه.
وليسَ يَقي ركوبَ الشرِّ إلا ... حذارُ النارِ أو خوفُ الدَّنيّه.
ولما قلَّ في الناسِ التّوقيّ ... تهافتَ في محارمِها البريّه.
● [ مقامة القناعة ] ●
يا أبا القاسم اقنعْ من القناعةِ لا من القنوع. تستغنِ عن كلِّ مِعطاءٍ ومنوعْ. لا تخلق أديمَ وجهِكَ إلا عندَ مَن خلقهُ وخلقَك. ولا تسترزق إلا مَن رزقهُ وإن شاءَ رزَقَك. القناعةُ مملكةٌ تحتَها كل مملكة. مملكةٌ لا سبيلَ عليها لمهلكَه. لا يتوقّعُ صاحبُها أن يفتقرَ بعدَ غُنيته. ولا يقعُ النفادُ في كنزهِ وقنيتهِ. ثمَّ إنّه معَ أنَّ يسارَهُ لا يفضلهُ يسار. ولا يضبطُ حُسبان ما يملكُ يمينٌ ولا يسار. أخفّ الناس ِشغلاً ومؤَونة. وأغناهم من إرفادٍ ومعونة. لا يهمهُ مكيلٌ ولا موزونْ. ولا يعنيهِ مدَّخرٌ ولا مخزون. مفاتحُهُ لا تنوءُ بالعصبةِ أولي القوَّة على أنَّه أوفرُ من قارونَ سعةً وثروة من قنعَ بالنّزرِ اليسيرِ أيسر. ومَن حَرصَ على الجمِّ الغفيرِ أعسر. إنَّ القانعْ أصابَ كلَّ ما أرادَ وزاد. ولن تجدَ حريصاً يبلغُ المراد. الحريصُ وإن استمرءَ المطعمْ. لا يترُكُ أن يطلبَ الأنعمَ فالأنعم وإن استسرى اللَّباس واستفرَهَ الأفراسْ. وجدتهُ أحرَصَ وأشرَهْ. على أسرى وأفره. يوغرُ أبداً أن يُنعموا لهُ المهاد. ويقولُ خشنٌ يورثُ السهاد. حتى إذا بلغَ كلَّ مبلغٍ في التوطئةِ والإنعامْ وكُسيَ بشكيرِ السمور وزِفِ النّعام. دعتهُ نفسهُ إلى تمنّي بيوتةٍ أهنأ مهجَعاً. وأوطأ مضجَعاً. وإنِ اجتلى أنَورَ من القمرِ عضَّ على الخمس. وقال هلا كانَ أضوءَ من الشّمس. شقيٌ تصَبُّ إلى كلِّ مُشتهىً لهَاتُه. وتضِبُّ لكلِّ مُتمنّىً لثاتُه. فليسَ لهُ إذَن حدٌّ ينتهي إلى مطلبهِ. ولا أمدٌ يتوقّفُ وراءَ مرغبِه. فأمّا القانعُ فقد قدَّرَ مبلغَ حاجتهِ وبيّنَه. ومثّلَ مقدارَ إربهِ وعيّنه. وذاكَ رثٌّ يُواري سْوأتَه. وغَثٌّ يُطفئُ سورتَه. فإذا ظفِرَ بذلكَ فقد حازَ النّعيم بحذافيرهِ. وأصبح أثَرى من النُّعمانِ بعصافيرهِ.
● [ مقامة التوقي ] ●
يا أبا القاسم لا تقولَنَّ لشيءٍ من سّيئاتكَ حقير. فلعلّهُ عندَ اللّهِ نخلةٌ وعندَكَ نقير. ورَوّ في جلالةِ قدرِ النّاهي وكبرِه. ولا تنظرْ إلى دقّةِ شأنِ المنهيّ عنهُ وصغرِه فإنَّ الأشياءَ تتفاضلُ بتفاضُلِ عناصرِها. وإنَّ الأوامرَ والنّواهي تجلُّ وتدِق بحسبِ مصادرِها. لا تُسمّ الهَنةَ من الخطيّةِ هنَهْ. فإنَّ ذمتّكَ باجتنائها مُرتهنة. وتذكرّ حسابَ اللّهِ وموازينهُ المعدَّلة. والنّقاشَ في مثقالِ الذرَّةِ ووزنِ الخردَله. واستعظِمْ أن تنفلِتَ عن مُلتقى أجفانكَ لحظة. أو تفرُط من عذبةِ لسانك لفظَه. أو تخالجَ من ضميرِكَ خطرة. أو تتصلَ بقدمكَ خطوة. ولحظتُكَ بمُقلةِ مُريب. ولفظتُكَ لا عن لهجةِ أريب. وخطرَتُك فكرٌ في خلافِ سدَدْ وخطوتُكَ مشيٌ على غيرِ جدَدَ. فقد علمتَ أنّكَ مأمورٌ بالغضّ من البصر. وحذفِ فضولِ النظر. وبأنْ تجعلَ الصمتَ من ديدنِكَ ودينك. إذا لم يعنِكَ المنطِقُ في دُنياكَ ودينك. وأن لا تُديرَ في خلدٍ ولا تُخطرَ ببال إلا كُلَّ أمرٍ ذي خطرٍ وبال. وأن لا تَنقُلَ قدمكَ إلا إلى مشهدِ خيرٍ يحمدُ عناؤك فيه. أو إلى موطنِ شرٍّ تُخمدُ ضرامهُ وتُطفيه فراقبِ اللّهَ عندَ فتحِ جفنكَ وإطباقه. وإمساكِ نظرِكَ وإطلاقه. وأمام تكلمكَ وصمتك. وما تَرفعُ وتخفضُ من صوتكَ. وبينَ يديْ نسيانكَ وذكرِك. وما تجيلُ من رويّتكَ وفكرِك. ودونَ تقديمِ قدمكَ وتأخيرِها. وتطويلِ خُطاكَ وتقصيرِها. وحاوِلْ أن يقعَ جميعُ ذلكَ متّصفاً بالسّدادِ ومتّجهاً بالصَّواب. بعيداً من المؤاخذةِ قريباً من الثواب.
● [ مقامة الظلف ] ●
يا أبا القاسم ليتَ شعري أينَ يذهبُ بك. عنْ ثمراتِ علمك وأدبك. ضلّةٌ لمنْ رضيَ من ثمرةِ علمه. بأنْ يُشادَ بذكرِهِ وينوَّهَ باسمه. ولمن قنعَ من ريعِ أدبه بأن يصلَ من الدنيا إلى أربه وأفٍ لمنْ حسبَهُما للتّكسبِ والمُباهاةِ متعلّمَينْ. ونصَبَهُما إلى أبوابِ الملوكِ سُلّمَينْ. فإن اتّفقتْ لهُ إلى أحدِ هؤلاءِ زُلفة. والتأمَتْ بينهُ وبينَ خدمهِ ألفه. وقيلَ أهَبَّ المَلكُ لفُلان قبولَ قبولهِ رُخاءْ وأرّخى لهُ عَزَالى سحابهِ إرْخاء. وقُصارى ذاكَ أنّهُ يُصيبهُ بنفحةٍ منَ السحتْ. ورضخةٍ منَ الحرامِ البحْتْ. هَزَّ مِنْ عطفهِ ونشِط. وكُشفَ غطاءُ الهمِّ وكُشط. واسُتطيرَ فَرحاً وازدُهي ورَمحَ أذيالهُ وزُهي. وما شئتَ من اغتباطٍ معَ نحَوهْ. وطرَبات من غيرِ نشْوَة. وكادَ يُبارى كُبَيْدات السّماءْ. ويناطِحُ هامَةَ الجوزاءْ. وأقبلَ على العلمِ يبوسُ الأرضَ بينَ يديهِ. وعلى الأدبِ يعتنقهُ ويلثمُ خدّيه، بعدما كانَ يتطيرُ منهما ويسمّي التشاغلَ بهما حرماناً وحُرْفة. ويتمنّى الجهلَ والنقصَ ويحسبُهُما سببيَ النعيمِ والتٌّرفه. يقولُ بملءِ فيهِ بارَكَ اللّهُ في العلمِ والأدبِ. هما خيرٌ من كنوزِ الفضةِ والذهبْ. ما أنا لولاهُما والأخذُ بذؤابةِ الشرفِ الأفرعْ. والقبضُ على هاديهِ هذا الفخرِ الأتلع.ومالي ولمساورةِ هذا العزِّ الأقعس. ومشاورةِ هذا الملكِ الأشوس. ومَن لي بهذا الرِّزقِ الواسعِ النّطاق. المُحلِّق على قممِ الأرزاق. واللهِ ما كان ذلكَ الاتفاقُ السماوي والإلهامُ الإلهيُّ إلا خيرةً وبركة. وما زالت البرَكةُ في الحركة. لقد صحَّ قولُهمْ والحركةُ ولُودٌ والسكونُ عاقِرْ. وإلا فمِنْ أينَ تنزاحُ تلكَ المفاقر. يمينَ اللّهِ لو لزمتُ جُثومي واعتزالي. لحرِمتُ صوبَ هذهِ العزالي. هَبلَتْ الهَبول. من لمَ تهُبَّ لهُ هذهِ القَبول. وما يدريكَ ما شقيَ لعلَّ الاعتباط أنجى من ذلكَ الاغتباط. ونشطَةَ الأراقمِ أرجى من ذلكَ النّشاط وأنْ ترزقَ في ثُغرتكَ بالمزارق. خيرٌ من أن تُرزقَ مثلَ تلكَ الأرزاق. مَن حمَلَ العلمَ والأدبَ لمثلِ هذهِ الثّمار. فقد حملَ منهُما أثقالاً على ظهرِ حمار. إنَّ من ثمراتها النزولَ على قضيّاتِ الحِكَم. ورياضةِ صِعابِ الشيَم. وعزَّة النفسِ وبُعد الهمم. وعزَّةُ النفس أن لا تدعَها تُلمُّ بالعملِ السّفساف. وأن تُسفَّ إلى الدناءةِ بعضَ الإسفاف. وأن تظلِفَها عنِ المطامعِ الدَّنية. لا أن تعلفها المطاعمَ الهنيّة وبُعدُ الهمّةِ أن توجِّهها إلى طريقِ الآخرةِ وسلوكها. والاستهانةِ بالدنيا ومُلوكها. وأن لا تلتفتَ إلى ما يتفيئّونَ منَ الظل الوارِف. ويعلقُونَ فيهِ المخارِف. ويعلّقونَ بهِ منَ الزَّينِ والزخارف وأن لا تقولَ لما عُجَّلَ لهمْ منَ المراتبِ ما أفخمهْ وأن تتصوَّرَ ما ادخرَ لهمْ منَ العواقبِ ما أوخمه عيشٌ هنيٌ عن قليلٍ يتنغّص. ظلٌ ظليلٌ عمّا قليلٍ يتقلّص. ملكٌ ثابتُ الأطنابِ يُقوَّض تقويضَ الخيامِ. ونعيمٌ دائمُ التسكابِ يُقلعُ إقلاعَ الغَمام. وللّهِ عبدٌ لم يطرُق بابَ ملكٍ ولم يطأ عتبتَهْ. ولم يلمحْ ببصرهِ مرتبتَه. ولم يعرِفْ حُسّابَهُ ولا كتَبَتَه. ولمْ يصُفَّ قدميهِ إلا بينَ يدي الملكِ الجبارِ جابرِ ما كسرتهُ الجبابرةَ. وكاسرِ ما جبرتهُ الأكاسرة.
● [ مقامة العزلة ] ●
يا أبا القاسم أزلْ نفسَك عن صحبةِ الناسِ واعزِلها. وائتِ فرْعةً من فِراعِ الجبلِ فانزِلها. ولُذْ ببعضِ الكُهوفِ والغيران. بعيداً منَ الرفقاءِ والجيران. حيثُ لا تُعلّقُ طرفكَ إلا بسوادِك. ولا تجري مؤامرتَكَ إلا مع فؤادكْ. ولا توصِلْ إلى سمعكَ إلا همسَكَ ومُناجاتك. وإلا جُؤارَكَ ومُناداتك. ولا تفطُنْ لعيبِ أحدٍ سوى عيبك. ولا يهمكَ إلا دنسُ رُدْنَيكَ وجيبك. قاتلَ اللّهُ بني هذهِ الأيام. فإنهمْ طلائعُ الشرورِ والآثام. لِقاهمْ لقاءٌ وحوارُهم غِوار. ونِقالُهم نِقارْ. ووِفُاقهم نِفاقٌ تسلِق بألسنتِهم الأعراض. كما ترشقُ بسهامهِم الأغراض. تجمَعُ النّدوَةَ كِبارَهم فلا يتواصَوْنَ بالصبر بلْ يتناصَوْن على الصَّدر. ولا يتشاوَرونَ في حسمِ الفساد. كما يتساورُون على قسمِ الوِساد. إنْ آنسوكَ حمِدْتَ الوحشَة. وإن جالسوكَ ودَدْتَ الوَحدة. بينا أنتَ في خلواتكَ وانفرادِك مُكبّاً على أحزابكَ وأورادِك. مرَدّداً فكرَكَ كما يجبُ فيهِ ترديدُه. مجدّداً ذكرَ اللّهِ الذي لا ينبغي إلا تجديدُه. مُشتغلاً بخويصة نفسكَ وماِ يعنيك. عاكفاً على ما يدعوكَ إلى الخيرِ ويُدنيك. ويلفتُكَ عن الشرِ ويثنيك. إذ فوجئتَ بمُثافنةِ بعضهم. من الذينَ أخذكَ اللّهُ ببغضِهم. فضربَ بينكَ وبينَ ما كنتَ فيهِ بأسداد. ورماكَ بأمورٍ من تلكَ الأولِ بأضداد. وافتنَّ في الأحاديثِ كحاطبِ الليلْ. واستنَّ في الأكاذيبِ كعائرِ الخيلْ ملقياً أسبابَ الفتنِ بين يديِ افتنانه. مخلّفاً للآدابِ والسننِ وراءَ استنانهِ. لا يدفعُ في صدرِه من حياءٍ دافعْ. ولا يزَعهُ من دينِ حق وازِع. ولا ينزعُه من عرقِ صدقٍ نازع. فإذا أنشأ يأكلُ لحمَ أخيهِ بالنقيصةِ والثّلبِ. ويلغُ في دمهِ الحرامِ وُلوغَ الكلب. ويصوَّبُ ويصعّدُ في تمزيقِ فروتهِ. ويقومُ ويقعدُ في قرعِ مروته. ويخلطُ ذلكَ باستهزاءٍ متتابع. واستغرابٍ متدافع. لم يملكْ حينئذٍ عنانهْ. ولم يُثبطْ عنِ استهزائهِ جنّانه فإن لم تُقبل عليهِ بوجهكَ وصفكَ بالكبرياءْ. وإن لم ترعهِ سمعكَ نسبكَ إلى الرّياءْ مسجّلاً عليكَ بالشكاسةِ والكزازةْ. وناهضاً عنكَ بملءْ الصدرِ منَ الحزازة. وإن أعطيتهُ من نفسِكَ ما يريد فكلاكما والشيطانُ المريد. قد جرى أحدُكما في طلقِ الضلالِ والثاني رسيلُه. واستوى الأولُ على صهوةِ الباطلِ والآخرُ زميلهُ. بل استبقتُما إلى غايةِ الغوايةِ مُعنِقينْ. وتردَّيتما في هُوَّةِ الرَّدى معتنقِينْ. فيالها محنةً ما أضرَّها ويا لها فتنةً وقى اللّهُ شرَّها.
الإنسُ مشتققٌ منَ الإنسِ ... والأنسُ أن تنأى عنِ الإنس.
ثيابهمْ مُلسُ ولكنها ... على ذئابٍ منهمُ طُلسِ.
نفسَك فاغنمها وشرِّد بها ... عنْهم وقُلْ أفلتِ يا نفسِ.
إنْ لمْ تشرِّدْها تجدْها لقىً ... للفَرْسِ بينَ الظفْرِ والضِّرْسِ.
● [ مقامة العفة ] ●
يا أبا القاسم بسَأتْ نفسكَ بالشهواتِ فافطمِها عن هذا البسوءْ. ولا تطعِها إنَّ النفسَ لأمّارةٌ بالسوءْ. تطلبُ منكَ أنْ يكونَ مسكنُها داراً قوراءْ. وسكنها مَهاةً حوراءْ، تجُرُّ في عرصتها فُضولَ مرطِها. وتمسُّ عقوتها بهُدَّابِ رَيطِها. وترقرِقُ المسكَ السحيقَ في ترابها إذا لعَبت فيها معَ أترابها تطلُعُ إليكَ من جانبِ الخِدْرْ. كما أنجابتِ السماءُ عن شُقّةِ البَدْرْ. وأن تكونَ سماءُ رُواقها منمقةً بالرقمِ الزِّريابي. وأرضُها منجدةً بالبُسطِ والزَّرابي. وأنتَ مُتّكئ فيهِ على الأريكة. مع تركية كالتريكة. وتقترِحُ عليكَ وصيفاً موصوفاً بالجمال. واصِفاً للغزالةِ والغزال. مُقرطَعاً مخَنق الْخَصْر ينفثُ في عُقدِ السّحْر. اسمُ أبيهِ يافث. واسمهُ نافِث يقبلُ إليكَ بخُوْطِ البانْ. ويدبرُ عنكَ ببعضِ الكثبان. وتسألُكَ أن تلبسَ ما يدِق ويرِق من حُرِّ الملابس. وما يروقُ ويفوقُ منَ الحللِ والنّفائس مُستشعراً ما لانَ منَ الحريرْ. مُتدثِّراً بما راقَ منَ الخير. مُروِاحاً في مصيفكَ ومَشتاكَ بينَ اللاذِ والرَّدَن. مُنتقياً منهُما ما هوَ أخف وأدفأ للبدن وتحدوكَ على ركوبِ أعتقِ المراكبِ وأروعِها. وأسلسِها قياداً وأطوعِها مُوشّىً بالآلاتِ المَزِيّنة. مُغَشّى بالحليةِ الرَّزينة منَ الذهبِ الحمراء والفضةِ البيضاءْ. كأنّما يسبحُ في لجّةٍ منَ اللجين. أو تَسيحُ عليهِ عينٌ مَنَ العينْ وتدعوكَ إلى أكلِ الطّيّبِ الناعمِ. من ألوانِ المطاعمْ الدَّجاجَ المسمنَ بكسكَرْ. والرَّجراجَ بالسّمنِ والسكر. وكلَّ ما يرتبُ على موائدِ أولي المَراتبِ. من أصنافِ الحَلاوى والاطايب. ويحكَ لا تجبها إلى شيءٍ من طلبتِها. وارجِعها ناكِصةً على أخيبِ خيبتِها. واحمِل عليها بتصريدِ شهواتها. وانزِعْ بقيءٍ من طعمِ اللهوِ في لهَواتها. واعلم أنّكَ إنْ تعصِها الساعة. تجدْها بعدَ ساعتكَ مِطواعه. وإن أطعتَها أرتكَ العجبَ منْ مُعاصاتها. وقعدْتَ لا يدَيْ لكَ بمعاناتها. ويئِستْ دعوتُكَ منْ إنصاتها بمُناصاتها. يكفيكَ منَ الرُّواقِ المزخرَفِ وبساطهِ الموشي. كِنٌّ كأنّهُ كِناسُ الوحشي يسَعُ الفقيرَ وما يُصلحهُ في يومهِ وليلتهِ. ويطابقُ ما لهُ في تصعلكهِ وعَيلتهِ. لعمرُكَ إنَّ ما ترُمُّهُ الوَرْقاءُ من ثلاثةِ أعوادْ. وما شيدهُ فرعونُ ذو الأوتاد. سيّانِ عندَ مَن فكرَ في العواقبْ. وتأمل آثارَ هذا الدوْرِ المتعاقبْ. ويُغنيكَ عن صاحبةِ المرْطِ المرَحلْ. وساحبةِ الرَّيط المرَقلْ تقيةٌ تتبلغُ بها مُرْغماً للفتّان اللّعينْ. إلى أن يبعثَها اللّهُ تعالى منَ الحورِ العينْ. وتنوبُ عنِ الحصانِ قدَماكَ تسعى بهِما في سُبِل الهُدى وتتسابقُ بهما في مضمارِ البرِّ إلى المَدى ويُقنعُكَ عنِ الاطايبِ التي وصفتُها. وسردتُ نُعوتها ورصفتُها قُرصا شعيرٍ في غدائكَ وعشائك. وما عداهُما عُدَّةٌ لكظّتك وجُشائِكْ. ويجزئُكَ عن يمنةِ اليمنْ. والخُسروانيِّ الغالي الثمنْ. وبُرودِ صنعاءَ وعدَن بُردةٌ تسترُ بها مُعرَّاك. وما يواري سوأتكَ عمن يراكْ. والعبدُ الصالحُ من استحبَّ رقةَ الحالِ وخفةَ الحاذْ على المُراوحةِ بينَ الرَّدنِ واللاذْ. واعتقدَ أنَّ لبسَ الخُسرَوانِّي منَ الخُسرانِ. ووثقَ أنَّ العُسرَ قُرِنَ بهِ يُسران وإن أردتَ التزينَ منَ الثيابِ بأسناها. ومنَ الحُللِ بحُسناها. فأين أنتَ منَ الحلّةِ التي لا يعبأ لابسُها بنسيجِ الذَّهبِ على عطفي بعضِ الملوكْ. وكأنهُ في عينهِ سحقُ عباءَةٍ على كتفيْ صُعلوكْ وما هي إلا لباسُ التّقوى الذي هوَ اللَّباسْ لباسٌ تلقَى فيهِ اللّهَ وتلقى فيما سواهُ الناسُ فافُرقْ ما تفرُقُ بينَ الملقييّنْ بينَ اللِّباسَين فليَسا بسِّييْن وتذكّرْ ما بلغَكَ من قولِ الحسَنْ. وما جرى لهُ مع الحسناءِ في الثوبِ الحسَنْ وما سجَمه من العَبرة. ووجَمَ عليهِ منَ العِبرة. وأمّا المقرطَقُ فخله لإخوانِ الفئةِ المشرِكة وهم أصحابُ المؤتفِكةِ. واستعصمِ اللّهَ لعلهُ يعصمِك وصمْ عن جميعِ ما يزْرِي بكَ ويصمِك.
● [ مقامة الندم ] ●
يا ابا القاسم إنكَ لَفي موقفٍ صعبٍ بينَ حَوبةٍ رِكبتها. وبينَ توبةٍ تبتَها. فمتى ياسرْتَ بنظرِكَ إلى جانبِ حوبتكَ وهوَ أوحشُ جانبْ. وأجدرُهُ بالمخاوفِ والمهايب جانبٌ قد سدَّهُ الغُبارُ المُضِبْ وأطبَقَ عليهِ الظلامُ المُرِبْ. لا يتراءَى فيهِ شبَحانِ وإن اقتربَتْ بينهُما المسافة. وإن لم تعتوِرْ أبصارَهُما آفةْ. رأيتَ الشرَّ يُهروِلُ إليكَ مُقعقِعاً بأقرابهِ. مخترِطاً منصَلَه من قرابهِ. يؤآمُر فيكَ نفسيَهْ ويداوِرُ فيكَ رأييهْ. أيقُدُّك أم يقُطك. وفي أيِّ الغَمرتَينِ يُغطك. والوعيدُ يتلقّاكَ بوجهِ جهم. ويزحفُ تلقاءَكَ بجيشٍ دهْم. والعِقابُ يُحدُّ لكَ نابَهْ. ويُشمرُ عن مخلبهِ قنابهْ. وبناتُ الرَّجاء يبرُزْنَ إليكَ في جِداد. وأفواهُ الناسِ تكشرُ لكُ عنْ أنيابٍ حداد. ومتى يامَنْتَ ببصرِك إلى جانبِ توبِتك وهي آنسُ جهةٍ وآنقُها. وأوفقُها بالمؤمنِ وأرفقُها جهةٌ كأنَّ الفجرَ المستطيرَ تنفسَ في أعراضِها. وكأنَّ النهارَ المستنيرَ اقُتبسَ من بياضِها يبرَقُ البصرُ في سُطوعِ إياتها. وكادَ يهدي العُمَي وُضوحَ آياتها. وجدتَ الخيرَ مُقبلاً بوجهٍ متطلِّق بسّاماً عن مثلِ وميضٍ متألِّق يلازمُكَ لِزامَ الحميمِ المشفِق. ويلاثُمكَ لِثامَ الحبيبِ المتشوِّق والوعدُ ينفضُ على خدَّيكَ وردَ الاستبشار. ويُذيقُ قلبكَ بردَ الاستبصار. والثوابُ يمسحُ أركانكَ بجناح ويغسلِكَ عن كلِّ مأثمٍ وجُناح. والرَّجاءُ واليأسُ يتقارَعان فيخرُجُ سهمُ الرَّجاءُ بالفوزِ والفلَجْ. ويبقى اليأسُ مقروعاً داحضَ الحُجج. فخُذْ حذارَكَ أن يُزِلكَ الشيطانُ ويضلكَ. بأن يُلقي على إحدى الجهتينِ ظلّك. وتهَبَ لها دونَ الأخرى كُلكْ. فإنّك إن فعلْتَ ذلكَ ملَكَكَ القُنوطُ والفزَعْ. واستولى عليكَ الأمنُ والطمَع. وكِلاهُما لعَمْرُ اللّهِ أكلٌ وبيل. ومنهلٌ ليسَ له إلى المساغِ سبيل. القانطُ الفزعُ جامدٌ لا يرتاحُ للعمل. والآمِنُ الطّمعُ متلكّئ متكىء على الأمل فإن حاولتَ أن لا تقعُدَ يائساً بائساً ولا آملاً آمناً فقطِّعْ بينَ الجهتينِ نظرَك. وشطِّر إليهما بصرَك. حتى تجعلَ نفسكَ مترجِّحةً بينَ الرجاِء والحِذار. مترنّحةً بينَ البشارةِ والإنذار. تُلمِّظُها طَوراً حلاوَةَ الطمعِ إرادةَ الرَّغبةِ والنشاط وطوْراً مَرارةَ الفزعِ خيفةَ الاسترسالِ والانبساط. امزُجِ اليأسَ والطّمع والبسِ الأمنَ والفزَع لا تذَرْ منْ كلا النّفيسينِ شيئاً ولا تدعْ مَنْ يكنْ يقتنيِها فقدِ استكملَ الوَرَع.
كتاب : المقامات
المؤلف : أبو القاسمِ محمودُ بنُ عُمَرَ الزَّمخشريُّ
منتدى الرسالة الخاتمة - البوابة