من طرف الرسالة الأحد 13 أبريل 2014 - 14:42
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
مكتبة الثقافة الأدبية
المقامات للزمخشري
من مقامة الولاية إلى مقامة التهجد
● [ مقامة الولاية ] ●
يا أبا القاسم تأمّلْ بيتَ النّاظمِ:
تودُّ عَدُوِّي ثمَّ تزْعَمُ أنّني ... صديقكَ ليس النوكُ عنك بعازِبِ.
وتبصرْ كيف حَدَّ لك المصافاةَ بحدِّها. ودلّكَ عل هزلِ المودِّة وجدِّها وفهمَك أنَّ صفيِكَ من كانَ لكَ على ما ترضى وتسخَطُ وفقاً وفي جميعِ ما تهوى وتمقُتُ لِفقا. فيصفو لمَنْ يُعاضِدُكَ ويُصافيك ويكدرُ على كلِّ من يعاديكَ ويُنافيك وأنَّ مُوادَّ مُتضادِّكَ. مُحادُّك وليس بموادِّكَ وعلمكَ أنَّ منِ ادَّعى مِقةَ أخيهِ وهوَ يركنُ إلى ماقتهْ. فقد سجّلَ بسفَههِ وحماقته حيثُ صرَّحَ بأنَّ النّوكَ عنهُ ليسَ بعازِبْ ونصَّ له أنّهُ ضربةُ لازِبْ ثمَّ انظرْ في أيِّ منزلةٍ منَ اللّهَ يراك. وبأيِّ صفةٍ يصفُكَ مِنْ ذَراك إن واليتَ مَن ليسَ لربِّك لِوليّ أو صافيتَ من ليسَ للأولياءِ بصفي. إن صحَّ أنّكَ عبدٌ محبٌ لربّهِ فلا تُشعِرْ قلبكَ إلا محبّةً محبّه. مَن لم يُوالي اللّهَ ومواليهِ فلا تَطُرْ حَراه ولا تُنِخْ راحلتِكَ في ذَراه. وإيّاكَ أن تتناظَر داراكُما أوْ تتراءى ناركُما واستحي منَ اللّهِ وقلبُكَ قلبُه وكُلكَ فهوَ فاطرُه وربه أن تشغَلَ بمقةِ مَن شَغَلَ بمقتهِ قلبَهُ قلبَك وأنْ تعكُفَ على مُوادَّةِ من عكفَ على محادَّته لُبهُ لُبك وإن كانَ الصِّنوَ الشقيق والعمَّ الشقيق والأبَ البار والأخَ السّار وإنِ استطعتَ أن لا تُظلِكُما سماءٌ فاحرِص. وأن لا تقلِكُما أرضٌ فافترِص وليكُن منكَ على بالٍ ما نَقَمَ اللّهُ من حاطِب وما كادَ يقعُ بهِ منَ المعاطِب.
● [ مقامة الصلاح ] ●
يا أبا القاسم حتى مَ تلهو وتلعبَ. وغُرابُ البينِ فوقَكَ ينعَبْ وإلى مَ تروحَ في التماسِ الغِنى وتغدو وسائقُ الرَّدَى وراءَكَ يحدُو وفيمَ تجوبُ لارتيادِ المالِ الأوديةَ والمفاوز وليسَ الحريصُ لما قُدِّرَ لهُ بُمجاوز ألا وإنَّ بذلَ الاستطاعة واستقِصاءَ الجِدِّ في الطّاعة أوْلى بمَنْ يركبُ الآلةَ الحَدباءَ بعدَ ساعة والسّعيَ النّجيحَ في العملِ الدائرِ بينَ حُقوقِ اللّه أحقُّ مِن لَعبِ اللاعبِ ولهوِ اللاه والوَلوعَ بنيلِ المفازةِ في الأخرى. أجدرُ مِن جَوْبِ المفاوزِ وأحرَى. كأنّي بجنازتك يجمَزُ بها إلى بعضِ الأجداث. وبأهلِ ميراثكَ هجَروك بعدَ الثلاث وشغلْهم عنكَ تناجزُهم على الميراث وغادروكَ وأنت مُعفّرٌ طريح فقد ضمّكَ لحدٌ وضريح رهينَ هلكةٍ مُبسَلاً في يدِ المُرتْهِن أسيرَ محنةٍ مُبلساً مِن إطلاقِ الممتحِن. لم يبقَ بعدَ هجر العشيرةِ وجفوةِ العشير وودَاعِ المستشيرِ من جُلسائكَ والمُشير إلا عملُكَ الذي لزِمَكَ في حياتكَ لُزومَ صحبكَ ويستبقي صحبتكَ بعد قضاءِ نحبِك فيصحبُكَ على التّختِ مَغسولا ويألفُكَ على النعشِ محمولاً ويرافُقك موضوعاً على الأكتافِ في المُصلّى ويحالفُك وأنتَ في الحُفرةِ مُدلّى ويضاجُعك غيرَ هائبٍ من مضجعكَ الخرِب ويعانقكَ غيرَ مستوحشٍ من خدّكَ الترب. ولا يفارقُك ما دمتَ في غِمار الأموات. وإن أصبحتَ ومؤلفاتكَ أشتات وعِظامُك ناخرةٌ ورُفات. فإذا راعتكَ نفخةُ النّشر وفاجأتكَ أهوالُ الحشر. وفرَّ منكَ أبوكَ. وأمك وأخوك ولكلِّ منهم مهمٌ يعينه وشأنٌ حينئذٍ يُغنيه وجدتَ عملكَ في ذلك اليومِ الأغبرْ. وساعةِ الفزَعِ الأكبر أتبعَ لكَ منَ ظِلّكَ وألزَم منْ شَعراتِ قصَّك يفدُ معكَ أينما تفِد ويرِدُ حيثُما ترِد ثمَّ إما أن يدُلّكَ على فوزٍ مبين وإما أن يدُعّك إلى عذابٍ مُهين. فاجهدْ نفسكَ فعلَ كادحٍ غيرَ مَلول. واركب كلَّ صعبٍ وذَلول ولعلّك تستصحبْ من هذا القرينِ المواصِلِ الملازم. وهذا الرَّفيقِ المخاصرِ المحازِم صاحبَ صِدقٍ يؤنسُكَ في مواقيتِ وحدتكَ ووحشتِك ويُلقي عليكَ السّكينة في مقاماتِ حيرتَكَ ودهشتِك ويمهّد لكَ في دار السّلام المِهادَ الأوثر ويرِدُ بكَ سلسبيلاً والكوثر.
● [ مقامة الإخلاص ] ●
يا أبا القاسم للسيدِ سيادَتُه. وعلى العبدِ عبادتهُ. ولكَ سيّدٌ ما أجلّه وأنتَ عبدٌ ما أذله فاعبُد سيَّدكَ الذي كلُّ مَن يُسوُّدُ فلهُ يسجُد وكلُّ مَن يعبدُ فإيّاه يعبُد تَرى كلَّ ذي خد أصْعر وطَرْفٍ أصوَر وجيدٍ مِنَ الزَّهوِ منتصِب ورأسٍ بالتّاجِ مُعتصِب يضعُ لعزَّتهِ صحيفةَ خدَّة ويخضعُ نجدِّه لتَعالي جدِّه يخفضُ ما نصَبَ منْ جيدِه عندَ تقديسهِ وتمجيدهِ ويُطأطئُ تاجهُ المرفع واكليلهُ المرصَّع مشعثِّاًرأسهُ إذا دُهي. كأنّه لم يتجبّر قطّ ولا زُهي. وادعهُ بالليلِ متضرَّعاً مخفياً ونادِه أن يعصِمكَ من مقامِ المتصدَّي من عبادهِ لعنادِه. واخشعْ لهُ بما تنطوي عليهِ جوانُحك وإن لم يخشعْ لهُ أعطافُك وجوارِحُك فهوَ المطلعُ على ما استكنَّ من ضمائرِك. وما اجتنَّ في أحشائكَ من سرائرِك. وإنما يتقبلُ ما نصَعت له طويتك ونقَيت فيهِ رويتُك. وأنصعُ ما عملَتْ وأنقاهُ ما هوَ مَزوي. وعنِ الناسِ مطوِي. لا يحسُّ بينهم مرئيٌ ولا مرْوي وكانَ منَ العملِ المزينِ بُحسنِ المُعتقد. دزنَ المزيفِ عندَ المنتقَد فلن يرجَحَ في الميزانِ المدخولُ المنتحَل ولن يجوزَ على الصِّراطِ إلا المنخولُ المنتخَل.
● [ مقامة العمل ] ●
يا أبا القاسم لا تسمعْ لقولِهم فضلٌ مبين وأدبٌ متين واسمٌ في المهارةِ بِهما شهير. وصيتٌ في إتقانِها جهير. وفتىً طيّان منَ المناقصِ والرَّذائل ريّان منَ المناقبِ والفضائلِ إن ذُكرَ متنُ اللغةِ فحِلسٌ منْ أحلاسهْ. أو قياسُها فسائسُ أفراسه. أو أبنيتُها فليسمُرِ السّمارِ بهِ وبدقّةِ تصريفهِ لا بسنّمارٍ وغرابة ترصيفهِ. أوِ النّحوِ فهوَ سيبويَه وكتابُه. ينطقُ عنهُ تراجمهُ وأبوابُه. أو علمُ المعاني فمَن مساجلُه ومُسانيه ومُزاولُهُ ومُعانيه ومَن يغوصُ على معانٍ كمعانيه أو نقدُ الكلامِ فالنقدَةُ إليهِ كأنهم النقَدْ وقد عاثَ فيه الذئبُ الأعقَد أوِ العَروضُ فابنُ بجدَتها وطلاع أنجدتها أوِ القوافي فإبداعهُ فيها يلقِّطكَ ثمراتِ الغُراب. وإغرابُه فيها يحثو الترابَ في وجوهِ أهلِ الإغراب أو الشعرُ فزَيّادهُ وحسّانهُ وإحسانهُ كما دبجَ الرَّوضَ نيسانُه أوِ النثرُ فلو راءَ ابنُ لسانِ الحمرةِ حُمرةَ لسانهِ لجَهشَ وما بهَش ولو سمِعَ قولَ قائلٍ من صحبانهِ سحبانُ بنُ وائلٍ لا استقبلَ منَ الدَّهش أو معرفةُ الكتابةِ والخط. فقد لججَ وتركَ الناسَ على الشّط. أو حفِظُ ما يحاضرُ به فصيّبُ يفيض وبحرٌ لا يغيض. وليس بعريانٍ كعودِ النبعْ من ثمرِ علومِ الشّرع نعم يا أبا القاسم إن سمعتهُم يقولونَ ما أكثرَ فضلكَ فقلْ إنَّ فُضولي أكثر وما أغزَر أدبكَ فقلْ إنَّ قلة أدبي أغزَر فلعَمُر اللّهِ ليسَ بأديبٍ ولا أريب. كلُّ مُغربٍ وحافظِ غريب. الأديبُ مَن أخذَ نفسَهُ بآدابِ اللّهِ فهذَّبها ونقحَ أخلاقهُ منَ العُقدِ الشّاثنةِ فشذَّبها. والأريبُ الفاضلُ مَن لم يكنْ لهُ أرَبٌ ولا وطر. إلا أن يكونَ لهُ عندَ اللّهِ فضلٌ وخطَر. ما غناءُ مَن قويَ علمهُ وعملهُ قد فترَ. إنَّ عِلماً بلا عملٍ كقوسٍ بلا وتَر. حامِلُها حيرانُ مُرتبِك في العماية لا يهتدي وإن كان ابن تقنٍ إلى وجهِ الرَّماية متى نظرَ إلى الرُّماة موترينَ مُنبضينَ مسدّدينَ غيرَ محبضينَ قعوداً من الوحشِ على المراصِدْ يشقونَ خُصورَها بالقواصدِ أقبل على مقلاةِ الغمِّ يتقلى. وبجمرةِ الغيظِ يتصلّى لا يزيدُ على تنفيزِ سهامهِ. والعضِّ على اتهامهِ فإذا اشتوى غيرُهُ انشوى بنارٍ منَ الحسرةِ نزَّاعةٍ للشوى أغدُ عاقداً بين عِلمكَ وعملكَ صِهراً وسُق إلى العملِ منَ اجتهادكِ مَهراً. ولا تظِلم منهُما شيئاً منْ إقبالك ولا تبخَسهُما حظّاً من إشبالك ولا تدعْ أن تضرِب أخماساً لأسداس. حتى تلفُهمُا ونفسَكَ في بُردةٍ أخماس واعلمْ أنَّ العلمَ إنما يُتعلم لأنهُ إلى العملِ سُلم. كما أنَّ العملَ إلى ما عندَ اللّهِ ذريعة ولولاهُما ما عُلِمَ علمٌ ولا شُرِعت شريعة.
● [ مقامة التوحيد ] ●
يا أبا القاسم أفلاكٌ مسخرة وكواكبُ مُسيّرة تطلعُ حيناً وحيناً تغرُب وينأى بعضُها عن بعضٍ ويقرُب وقمرٌ في منازلهِ يعوم وشمسٌ في دورانها تدومُ فما تقوم وسحابٌ تُنشئُها القُبول وتُلحُقها وتمري أخلافَها الجنوبُ وتمسحُها وأرضٌ مذللةٌ لراكبها. مقتلةٌ للمشي في مناكبها ممهّدةٌ موطّدة بالرّاسياتِ موتّده وبحرانِ أحدُهما بالآخرِ ممروج وماءُ الأجاجِ منهُما بالعذبِ ممزوج وحجرٌ صَلدٌ ينشقُّ عنِ الماءِ الفُرات. وينفلقُ عنِ الشجرِ والنبات وحَبٌ ينشأ منهُ عُروقٌ وعِيدان ونوَى ينبُتُ منهُ جبّارٌ وعَيدان، ونُطفةٌ هي بعدَ تسعةٍ إنسان لهُ قلبٌ وبصرٌ ولِسان. في كلِّ جارحةٍ منهُ غرائبُ حكمٍ يعجزُ اللّسانُ الذَّليق أن يحصرَها ويحصيها. ويعزُّ على الفهمِ الدقيقِ أن يبلغَ كُنهها ويستقصيها ما هذه إلا دلائلُ على أنَّ وراءَها حكيماً قديراً. عليماً خبيراً تنصرَّفُ هذهِ الأشياءُ على قضائهِ ومشيئته. ويتمشّى أمُرها على حسبِ إمضائهِ وتمشيته. وهي منقادةٌ مُذعنةٌ لتقديرهِ وتكوينه. كائنةٌ أنواعاً وألواناً بتنويعهِ وتلوينه. قدِ استأثرَ هوَ بالأوليّة والقِدَم وهذه كلها محدثاتٌ عن عدَم فليملأ اليقينُ صدرَك بلا مخالجةِ ريب. ولا تزلَّ عن الإيمانِ بالغيبِ وعالمِ الغيب. ولا يستهوينكَ الشيطانُ عنِ الاستدلالِ بخلقهِ فهوَ الحُجة. ولا يستغوينكَ عن سبيلِ معرفتهِ فإنّه محجة واجتهد أن لا تجدَ اعمرَ منكَ إليهِ طريقاً. ولا أبَلَّ بأسمائهِ المقدسّةِ ريقاً وارحم نفسكَ بابتغاءِ رحمته وأنعِم عليها بالشكرِ على نعمته. ولينكشف عن بصِرك غِطائه فأنتَ وجميعُ ما عندكَ عَطاؤه.
● [ مقامة العبادة ] ●
يا أبا القاسم مَن أهانَ نفسهُ لربّه فهوَ مكرِمٌ لها غيرُ مُهين ومنِ امتهنَ في طاعةِ اللّهِ فذاكَ عزيزٌ غيرُ مُهين. ألا أخبرُكَ بكلِّ مهان ممتهَن. في قبضةِ الذُّلِّ مرتَهن كلُّ متهالكٍ على حبِّ هذهِ الهَلوك منقطعٍ إلى أحدِ هؤلاءِ المُلوك يدينُ له ويخضع ويُخبُّ في طاعتهِ ويضع لا يطمئن قلبهُ ولا تهدأ قدمُه. ولا ينحرِفُ عن خدمتهِ هَمهُ ولا سدمُه ينتصبُ قُدامهُ انتصابَ الجذِلِ وهو ملآنُ منَ الجذَل بعرضٍ يحسبهُ مصوناً وهوَ كمنديلِ الغمر مبتذَل له ركوعٌ في كلِّ ساعةٍ وتكفير وخرورٌ على ذقنه وتعفير واجماً لاحترازهِ من سخطةِ الملكِ واحتراسهِ مُقسماً إن أقسَم جهدَ اليمينِ على راسهِ. فإن حانت منه إليه التفاتةٌ وكلفه شُوَيناً فأيُّ خطبٍ على رأسهِ عُصِبْ. ولكفايةِ أي مهمّ منَ المهماتِ نُصِب. لا يقرُّ به قَرار. ولا يرنّقُ في عينهِ غِرار. لفرطِ تشاغلهِ واهتمامه وركضهِ من وراءِ إتمامه فإن قيلَ له يا هذا خفِّض من غُلوائك وهوّن وأرخِ من شكيمةِ هذا الجدّ وليّن. قالَ لا واللهِ هكذا أمرني الأميرُ وبأجدَّ من هذا أوعزَ وأشار ولو وصفتُ لكم وصاياهُ إليَّ لما بلغتُ المِعشار. الإيمانُ باللهِ عندهُ والاقتداءُ برسولهِ أن ينتهيَ من خبثِ الطّعمةِ إلى طلبتهِ ورسوله. فاستعذ باللهِ من مقامِ هذا الشقي. وانتصِب في المحرابِ على قدميِ الأوَّاب التّقي. وذِلَّ لربِّك اليومَ تعزَّ غداً وتعَنَّ أياماً قلائلَ تسترِح أبداً وإياك وتضجيع المُتثاقل. وحاشاكَ من توصيم المتُكاسل إنَّ المِكسال من نُعوتِ بيضِ الحِجال. لا من أوصافِ بيضِ الرّضجال واستحي من ربِّكَ ربِّ العزةِ خالقِ العزِّ والأعزَّة أن يفضُلكَ في الطاعةِ والانقياد مستخدمُ بعضِ الأذلاءِ من العِباد.
● [ مقامة التصبر ] ●
يا أبا القاسم نفسُك إلى حالها الأولى نزَّأة فاغزُها بسريّةٍ من الصبرِ غزَّأة. لعلّكَ تفلُّ شوكتَها وتكسِرُها. وتجبُرها على الصَّلاحِ وتقسرُها فإن عصتْ وعتتْ وعدَتْ طوْرَها. وألقَتْ بصحراءِ التمرد زَوْرَها وانقشعتْ عن غُلُبتّها. ووقعت على مُصابرتكَ الدَّبرة وعلمِتَ أنَّ صبرَك وحدهُ لا يقومُ عِنادَها ولا يقاومُ أجنادَها فاضمُمْ إلى الصَّبر من التصبرِ مَددا وأوْلهِ منَ التشدَّدِ عُدَّةً وعددا. واعتقد أنَّ الخطبَ ليسَ منَ الدَّدْ إنما هوَ منَ الإدَد. ومما إن أعضَلَ وتفاقمَ له يكفهِ التعارُك. وعجزَ عنهُ التّلافي والتّدارك. فإن رأيتَ الصَّبر والتصبرَ لا يفيان وعلمتَ أنهما لا يكفيان، ووجدتَ شرَّها يزدادُ ويربو. وشرَّتها تمضي ولا تكبو. وزرْعُ باطِلها يزكو. وضِرامَ غيَّها يذكو. فخادِعها عمّل تنزو إليهِ وتطمحْ. وتمدُّ عينيها إليهِ وتلمح واستقبِلها بما يُذهلُها ويُلهيها عنِ المطالبِ التي تشتهيهيا وينأى بجانبها عما يخلجُها من النّظر ويتولّى بُركنها عمّا ينزِعها منَ البطَرْ. جرِّدها عنِ الملبَس البهي. وافطِمها عنِ المطعمِ الشهي وزحزِحها عن وطأةِ المطرَح ووضاءةِ المطمَح. وجافِها عنِ الفراغِ المورثِ للكسلْ، والرقادِ المعقبِ للرَّهل. وأذِقها أكلَ الخشبِ ولُبسَ الخشنِ وخذْها بالنومِ المشرِّد. والشرب المصَرِّد. ومُسها بالجوادِ والجوع ونحِّها عنِ الهُجودِ والهُجوع وعرِّضها لكلِّ مضجعٍ مُقض. وحدِّثها بكلِّ مفجعٍ ممض. واستفزِز بها في الأحايين بمثلِ ما يؤثُر عن بعضِ الصالحين. من إيلامِها بلذعِ الجمرّة ووخزِ الإبرة. وغسِّلها بالطهور الباردِ في حدِّ السّبره . وتدويرِها في المقابرِ والخراب وتعفيرِ وجهها بالتراب. فلا تفتر في خلالِ ذلك أن تعرِض عليها ما وعدَ اللّهُ الأتقياء. وما أوعدَ به الأشقياء وأن تكرِّر على مسامِعها السورَ التي تُروعُ وترْدَع والآياتِ التي تقرَعْ وتقدَعْ. وأن تقذِفَ عليها كلَّ عبءٍ منَ العبادةِ باهظ، وترميها بما يُحكُّ في قلبها ويحيكُ منَ المواعظ. فإنّك إن فعلتَ ذلكَ استبدلتْ من نزوتها سُكوناً واعتاضت ولانتْ بعدَ جِماحها وارتاضت ولم تأبَ عليك خيراً تريدُه. ولا عملاً صالحاً تُبدئهُ وتُعيدُه واحتفظ بما ألقي إليكَ من بابِ الرياضةِ من جوهرةِ ابن عُبيد فإنّه خيرٌ لكَ من جمهرةِ ابنِ دُريد.
● [ مقامة الخشية ] ●
يا أبا القاسم ما بالُك وبالُ كلٍ من تَرى ممّن يدبُّ على وجهِ الثرى. إذا دعا أحدكم هذا المَلكُ المُستولي والسلطانُ المُستعلي راعَهُ ذلكَ رَوْعاً عجيباً. وامتلأ قلبهُ زفرَةً ووَجيبا. وعَرَته الرَّعدَةُ والرَّعشة كأنّما دُهي وشُغِلَ عن نفسهِ شغلاً أضلَّ لهُ الحلمَ والسكينة وأغفلَ لهُ الوَقارَ والطمأنينة. واسُتطيرَ واسُتطربَ وامُتقعَ لونهُ وانتُقعْ، وحسِبَ أنّهُ وقُعَ له بخراجِ مصرَ أو ببيضتهِ أُوقِعْ للخوفِ والرَّجاءِ في قلبهِ مضطرب، يتعاقبُ عليهِ الحربُ والطرَبْ. ومرَّ مشدوهاً لا يدري أيُّ طرفيهِ أطوَل مَدهوشاً. يتراءى له الشخصُ شخصينِ كأنُه أحوَل. فإذا رُفعتْ له الأعلامُ والقِباب. وملأ عينيهِ الفِناءُ والباب. وأفضى إلى ما وراءَ الحِجاب منَ الوجهِ المحتجِب والرَّأسِ المعتصب فلا تسأل حينئذٍ عن مُضلعةٍ منَ التهيبِ تكادُ تقوَّمُ أضلاعه وفادحةٍ من الاحتشامِ تفوِّتُ استقلالهُ واضطلاعَه ثمَّ إمّا أنْ يُمسَّ بسوطٍ منَ السخطِ فما أهونَهُ وأهَونُ منه من يخشاهُ ويرهبه وإما أن يلبسَ ثوباً من الرِّضى فما أدونَهُ وأدونَ منهُ من يرجوهُ ويطلبُه. ولو أنكَ أجلتَ عينيكَ في هذا السوادِ كلهِ لا في أكثرهِ. وأدرتُهما على أسودِه وأحمرِه. لما أبصرتَ أحداً إذا نوديَ للصِّلاةِ والنداءُ نداءُ مالكِ الملوكِ وممالكِهم. ومتولّي معايشهِم ومهالكِهم. والصلاةُ عبادتهُ التي صبّها في الرِّقاب. أدارَ فعلَها وتركَها بينَ الثّوابِ والعِقاب. والثوابُ ما لا ثوابَ أبهى منهُ وأسَر. والعقابُ ما لا عقابَ أدهى منه وأمر يرهقهُ نبذٌ مما رهقهُ معَ دعوةِ العبدِ الذليل. أو يدهمهُ ذرْوٌ مما دهمَهُ عند نداءِ البشرِ الضئيل. هل رأيتَ في عمرِك وأنتَ بينَ ألفِ نفسٍ مسلمة وفي كنفٍ من أعلامِ العلمِ وفوارسهِ المعلمة وقد نعقَ المؤذِّنُ شخصاً قد تحيّر. أو وجهاً قد تغير أو جبيناً قد عرِق. أو جفناً بدمعهِ شرِق وهلْ شعرتَ بصدرٍ يزَفر وقلبٍ يجب وهلْ أحسستَ أحداً يؤدِّي بعضَ ما يجب. لو لم تكنْ إلا هذه الواحدةُ لكفَى بها موجبة أن نعذَّبَ عن آخرِنا ونُكبَّ في النارِ على مناخرِنا.
● [ مقامة اجتناب الظلمة ] ●
يا أبا القاسم إن رأيتَ أن لا تزورَ عاتكةً متغزِّلاً وأن تزْوَرَّ عن بيتِها متعزِّلاً وأن يشغلَكَ عن ذكرِها وذكرِ أختِها لَعوب دوِامُ الفكرَ في سكراتِ شَعوبْ فافعلْ صحبِكَ التّوفيق ونِعمَ الصَّاحبُ والرَّفيق كم زُرْتَ أبياتهما وزوَّرْتَ فيهِما أبياتَك وبعتَ بأدنى لقائِهما وتحيتهِما حياتَك. وكأيّنْ لكَ من تشبيبٍ ونسيب وتخلصٍ إلى امتداحِ دخيلٍ أو نسيب ومنْ كلمةٍ مخزيةٍ شاعرَه وقافيةٍ طنّانةٍ ناعرَه ومطلعٍ كما حدرَتِ الحسناءُ من لثامِها. ومفطعٍ كما اسُتلذَّتِ الصَّهباءُ بطيبِ ختامِها. أيةَ نارٍ شَببتَ على كبدِكَ إذ شببّتْ وإلى أيِّ عارٍ نسبتَ نفسكَ حينَ نسبتْ وغايةُ الخزي والشّنار. في الجمعِ بينَ العارِ والنار. أنَّ صاحبَ الغزلِ والنّسيب. ليس له عندَ اللّهِ مِن نصيب. سُحقاً لما يجري منَ القوافي على ألسنِ المُنشدين. ومرحباً بالنفوس القوافي في آثارِ المُرشدين. مِن أينَ يفكِّرُ في الاستهلالِ والمطلعْ من هوَ منوطُ الفكرِ بأهوالِ المطلع. وكيف يفرُغُ للإغرابِ في التخلصِ إلى المدح مَن هوَ مِن طَلب تخلصٍ آخرَ في الكَدِّ والكدْح لقد أضللتَ همتكَ في وادي الشِّعرِ فاصِخْ لمنشدِها. وإن أُنشدْتَ نُفاثاتِ الشعراءِ فلا تُصغِ إلى مُنشدِها نادِ أمَّ الشعراءِ يا خَباث وعجِّل بَتاتها بالثلاث ولا تُراجعْ الرَّكونَ إلى أهلِ الحَيفْ.
وإن عرضوكَ على غِرارِ السَيف وأجرَّ لسانَكَ أن تنطقَ بثناءٍ لهمْ وامتِداح وسافرْ بمطعمِك عنِ امتيارٍ لهم وامتيِاح وقُل عَقَرى لمَن يرفعُ عقيرتَهُ بالنّشيدِ بينَ أيديهم وترِبَتْ يدا مَن بَسَطهُما إلى أعطياتِهم وأياديهِم. من وقفَ وقفةً لأحدهِم على رَبع فليغسل قدميهِ سبعينَ فضْلاً عن سبع. ويحكَ لا يُرَيَنَّ جسمُكَ في أبوابهِ ولا يُجرَينَّ اسمُكَ في ديوانهِ. ولا يخطُوَنَّ قدمُكَ في إيوانهِ وطيِّب نفسَكَ عمّا ليسَ بطيبٍ من أرزاقهِ. ولا تلوِّثها بالطمعِ في إرْفادهِ وإرزاقهِ. وإيّاكَ وهذهِ المراسمَ المسمّاة. فإنها والمواسمَ المُمحاه. ولا تفرِّق بينَ تسويلاتِ الشياطين. وبينَ تسويفاتِ السّلاطين ولا بينَ إضرارِ الأهوَال وإدرارِ تلكَ الأموال ولا تقفْ إلا بينَ يديْ ربِّكَ ولا يكنْ ظلكَ عن فنائهِ قالصا واجعل ثناءَكَ لوجههِ خالِصاً. واسألهُ الطيبَ في جميعِ ما تَكتسِبْ. واتّقهِ يرزُقكَ مِن حيثُ لا تحتسِب.
أثنِ على رَبِّ البَشَرْ ... على الذّي أعطى الشّبَرْ.
أعطَى الذي عَيَّ الوَرَى ... بحصرِهِ ولا حَصَرْ.
حسبُكَ ما أولاكَ مِن ... قلْبٍ وسَمعٍ وبصَرْ.
ومِنْ لِسانٍ مُطلَقٍ ... للذكْرِ كالسيفِ الذَّكرْ.
آياتُ صِدقٍ وعِبَرْ ... وهُنَّ آلاتُ العِبَرْ.
● [ مقامة التهجد ] ●
يا أبا القاسم أكرَمُ النفوسِ أتقاها. وخيرُ الأعمالِ أنقاها فليكنْ عَمَلُكَ نقيّاً ناصِعاً وجيبُكَ في ذاتِ اللّهِ تعالى ناصِحاً لا تكُن العاملَ الأخرَقَ الذي يأمُلُ بعملهِ حوْزَ الثّواب. والفوزَ في المآب. ثمَّ يخيسُ آخرَ الأمرِ بأملهِ. إنّهُ كانَ لا يكيسُ في تنقيةِ عملهِ. عملُكَ للملكِ القُدوسِ فائتِ بهِ مُقدَّساً. وحاذِرْ أن يجيءَ ما توجهَ إليه مُدنساً. اغسِل دَرَنَ الرَّياءِ عن صفحاتهِ واحترِس أن يُصيبهُ التكلفُ بنفحاتهِ اقصد بهِ وجههُ دونَ سائرِ المقاصد. تقعُد ممّا تَرجو من فواضِلهِ بالمراصدِ. أصفهِ فلَن يقبلَ منكَ إلا الأصفى. وأخفِ دعاءَهُ فقد أمرَكَ بالإخفا. وترقبْ بهِ جُنحَ الليلِ إذا أسدَلَ جناحهُ وأسدَف وأرخَى قِناعَهْ وأغْدَق. وضرَبَ السباتُ على الآذانْ. وخيطَ مَلاقي الأجفان ولفَّ صَرْعاهُ في الأكفانْ. وبقيتَ كأنّكَ وحدَكَ على الصَّعيد ليس لكَ ما خَلا القعيدينِ من قَعيد. لا تشعرُ حركةً ولا حِسّا ولا تسمَعُ رِكزاً لا وهمْساً. واستبدِل حينئذٍ تهجدُكَ من هُجودكَ واعقِد عينيكَ بموقعِ سُجودِكَ واخشعْ لَمنْ تخشعَ له الملائكةُ في سمواتهِ. واخشَ الذّي تخشى السمواتُ سطَواتهِ. وارحَم اجفانَك أن يتشبثْ النعاسُ بمَلاقيها. وخليها والبُكاء وإن قرِحتْ مآقيها. ابكِ على ما حملتَ من أوزارِكَ وخطاياك وما رحلتَ معَ أشياعِ الجهلِ مِن مطاياك. وتضرَّعْ إلى ربِّكَ وتضوَّر واستجرِ عائذاً بهِ واجأر. فرُبَّ عبدٍ تنزلَ بتضورِهِ وجؤارِه في الحرَمِ الآمنِ من كريمِ جوارِه.
كتاب : المقامات
المؤلف : أبو القاسمِ محمودُ بنُ عُمَرَ الزَّمخشريُّ
منتدى الرسالة الخاتمة - البوابة