بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم مكتبة الثقافة الإسلامية شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل ● [ تابع الباب الثاني والعشرون ] ● ● فصل ●
قال نفاة الحكمة قد قام الدليل على أنه سبحانه خالق كل شيء فأي حكمة أو مصلحة في خلق الكفر والفسوق والعصيان وأي حكمة في خلق من علم أنه يكفر ويفسق ويظلم ويفسد الدنيا والدين وأي حكمة في خلق كثير من الجمادات التي وجودها وعدمها سواء وكذلك كثير من الأشجار والنبات والمعادن المعطلة والحيوانات المهملة بل العادية المؤذية وأي حكمة في خلق السموم والأشياء المضرة وأي حكمة في خلق إبليس والشياطين وإن كان في خلقهم حكمة فأي حكمة في بقائه إلى آخر الدهر وإماتة الرسل والأنبياء وأي حكمة في إخراج آدم وحواء من الجنة وتعريض الذرية لهذا البلاء العظيم وقد أمكن أن يكونوا في أعظم العافية وأي حكمة في إيلام الحيوانات وإن كان في إيلام المكلفين منها حكمة فما الحكمة في إيلام غير المكلف كالبهائم والأطفال والمجانين وأي حكمة له في خلقه خلقا يعذبهم بأنواع العذاب الدائم الذي لا ينقطع وأي حكمة في تسليط أعدائه على أوليائه يسومونهم سوء العذاب قتلا وأسرا وعقوبة واستبعادا وأي حكمة في تكليف الثقلين وتعريضهما بالتكليف لأنواع المشاق والعذاب قالوا ونحن والعقلاء نعلم علما ضروريا إن خلود أهل النار فيها فعل الله ونعلم ضرورة أنه لا فائدة في ذلك تعود إليه ولا إلى المعذبين ولا إلى غيرهم قالوا ويكفينا في ذلك مناظرة الأشعري لأبي هاشم الجبائي حين سأله عن ثلاثة إخوة مات أحدهم مسلما قبل البلوغ وبلغ الآخران فمات أحدهما مسلما والآخر كافرا فاجتمعوا عند رب العالمين فبلغ المسلم البالغ المرتبة العليا بعمله وإسلامه فقال أخوه يا رب هلا رفعتني إلى منزلة أخي المسلم فقال إنه عمل أعمالا لم تعملها فقال يا رب فهلا أحييتني حتى أعمل مثل عمله قال علمت أن موتك صغيرا خير لك إذ لو بلغت لكفرت فصاح الأخ الثالث من أطباق الجحيم وقال يا رب فهلا أمتني صغيرا قبل البلوغ كما فعلت بأخي فما جوابه قال فانقطع الشيخ ولم يذكر جوابا قال نفاة الحكمة وهذا قاطع في المسألة لا غبار عليه وقال تعالى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} وقال: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}ٌ {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} فرد الأمر إلى محض مشيئته وأخبر أن صدور الأشياء كلها عنها وقالوا وأصل ضلال الخلق هو طلب تعليل أفعال الرب كما قال شيخ الإسلام في تائيته: وأصل ضلال الخلق من كل فرقة هو الخوض في فعل الإله بعلة فإنهم لما طلبوا علة أفعاله فأعجزهم العلم بها افترقوا بعد ذلك فطائفة ردت الأمر إلى الطبيعة والأفلاك التزمت مكابرة الحس والعقل وقالوا أن أهل خلود النار في النار أنفع لهم وأصلح من كونهم في الجنة وأن إبقاء إبليس يغوي الخلق ويضلهم أنفع لهم من إماتته وإن إماتة الأنبياء أصلح للأمم من إبقائهم بينهم وأن تعذيب الأطفال خير لهم من رحمتهم إلى غير ذلك من المحالات التي قادهم إليها الخوض في تعليل أفعال من لا يسأل عما يفعل فلذلك قلنا أن الصواب القول بعدم التعليل وتخلصنا من الحبائل والإشراك التي وقعتم فيها قال أهل الحكمة ليست هذه الأسئلة والاعتراضات التي قد جئتم بها في حكمة أحكم الحاكمين بأقوى من الأسئلة والاعتراضات التي قدح بها أهل الإلحاد في وجوده سبحانه وقد أقاموا أربعين شبهة تنفي وجوده وكذلك اعتراضات المكذبين لرسله وقد حكيتم أنتم عنهم ثمانين اعتراضا وكذلك الاعتراضات التي قدح بها المعطلة في إثبات صفات كماله قد علمتم شأنها وكبرها وكذلك الاعتراضات التي نفي بها الجهمية علوه على خلقه واستواءه على عرشه وتكلمه بكتبه وتكليمه لعباده وقد علمتم الاعتراضات التي اعترض بها أهل الفلسفة على كونه خالقا للعالم في ستة أيام وعلى كونه يقيم الناس من قبورهم ويبعثهم إلى دار السعادة أو الشقاء ويبدل هذا العالم ويأتي بغيره واعتراضات هؤلاء وأسئلتهم أضعاف اعتراضات نفاة الحكمة وغايات أفعاله المقصودة وكذلك اعتراضات نفاة القدر وأسئلتهم إلى غير ذلك وقد اقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن أقام في هذا العالم لكل حق جاحدا ولكل صواب معاندا كما أقام لكل نعمة حاسدا ولكل شر رائدا وهذا من تمام حكمته الباهرة وقدرته القاهرة ليتم عليهم كلمته وينفذ فيهم مشيئته ويظهر فيهم حكمته ويقضي بينهم بحكمه ويفاضل بينهم بعلمه ويظهر فيهم آثار صفاته العليا وأسمائه الحسنى ويتبين لأوليائه وأعدائه يوم القيامة أنه لم يخل لحكمة ولم يخلق خلقه عبثا ولا يتركهم سدا وأنه لم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا وأن له الحمد التام الكامل على جميع ما خلقه وقدره وقضاه وعلى ما أمر به ونهى عنه وعلى ثوابه وعقابه وأنه لم يضع من ذلك شيئا إلا في محله الذي لا يليق به سواه قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} وإذا تبين لأهل الموقف ونفذ فيهم قضاؤه الفصل وحكمه العدل نطق الكون أجمعه بحمده كما قال تعالى: {قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وجواب هذه الأسئلة من وجوه أحدها أن الحكمة إنما تتعلق بالحدوث والوجود والكفر والشرور وأنواع المعاصي راجعة إلى مخالفة نهي الله ورسوله وترك ما أمر به وليس ذلك من متعلق الإيجاد في شيء ونحن إنما التزمنا أن ما فعله الله وأوجده فله فيه حكمة وغاية مطلوبة وأما ما تركه سبحانه ولم يفعله فإنه وإن كان إنما تركه لحكمة في ذلك فلم يدخل في كلامنا فلا يرد علينا وقد قيل أن الشر ليس إليه بوجه فإنه عدم الخير وأسبابه والعدم ليس بشيء كاسمه فإذا قلنا أن أفعال الرب تعالى واقعة وغاية محمودة لم يرد علينا تركه يوضحه الجواب الثاني وهو أنه سبحانه قد يترك ما لو خلقه لكان في خلقه له حكمة فيتركه لعدم محبته لوجوده أو لكون وجوده يضاد ما هو أحب أو لاستلزام وجوده فوات محبوب له آخر وعلى هذا فتكون حكمته في عدم خلقه أرجح من حكمته في خلقه والجمع بين الضدين مستحيل فرجح سبحانه أعلى الحكمتين بتفويت أدناهما وهذا غاية الحكمة فخلقه وأمره مبني على تحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة بتفويت المرجوحة التي لا يمكن الجمع بينها وبين تلك الراجحة وعلى دفع المفاسد الخالصة أو الراجحة وإن وجدت المفاسد المرجوحة التي لا يمكن الجمع بين عدمها وعدم تلك الراجحة وخلاف هذا هو خلاف الحكمة والصواب الجواب الثالث أن يقال غاية ذلك انتفاء الحكمة في هذا النوع من المقدورات فيلزم من ذلك انتفاؤها في جميع خلقه وحكمه فهب أن هذا النوع لا حكمة فيه فمن أين يستلزم ذلك نفي الحكمة والغرض في كل شيء كيف وفيه من الحكم والغايات المحمودة ما هو معلوم لأهل البصائر الراسخين في العلم كما سننبه على ذلك منه إن شاء الله، الجواب الرابع أنا لم ندع حكمة يجب أو يمكن اطّلاع الخلق على تفاصيلها فإن حكمة الله أعظم وأجل من ذلك فما المانع من اشتمال ما ذكرتم من الصور وغيرها على الحكم حجة ينفرد الله بعلمها كما قال للملائكة وقد سألوه عن ذلك أني أعلم ما لا تعلمون فمن يقول بلزوم الحكمة لأفعاله وأحكامه مطلقا لا يوجب مشاركة خلقه له في العلم بها، الجواب الخامس أن الله سبحانه ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وله في جميع ما ذكرتم وغيره حكمة ليست من جنس الحكمة التي للمخلوقين كما أن فعله ليس مماثلا فعلهم ولا قدرته وإرادته ومشيئته ومحبته ورضاه وغضبه مماثلا لصفات المخلوقين، الجواب السادس أن الحكمة تابعة للعلم والقدرة فمن كان أعلم وأقدر كانت أفعاله أحكم وأكمل والرب منفرد بكمال العلم والقدرة فحكمته بحسب علمه وقدرته كما تقدم تقريره فحكمته متعلقة بكل ما تعلق به علمه وقدرته، الجواب السابع أن الأدلة القاطعة قد قامت على أنه حكيم في أفعاله وأحكامه فيجب القول بموجبها وعدم العلم بحكمته في الصور المذكورة لا يكون مسوغا لمخالفة تلك الأدلة القاطعة لا سيما وعدم العلم بالشيء لا يستلزم العلم بعدمه، الجواب الثامن أن كماله المقدس يمنع خلو هذه الصور التي تقصيتم عن الحكمة وكماله أيضا يأبى إطلاع خلقه على جميع حكمته فحكمته تمنع إطلاع خلقه على جميع حكمته بل الواحد منا لو أطلع غيره على جميع شأنه وأمره عد سفيها جاهلا وشأن الرب أعظم من أن يطلع كل واحد من خلقه على تفاصيل حكمته، الجواب التاسع أنكم إما أن تعترفوا بأن له حكمة في شيء من خلقه وأمره أو تنكروا أن يكون له في شيء من خلقه وأمره حكمة فإن أنكرتم ذلك وما هو من الظالمين ببعيد كذبتم جميع كتب الله ورسوله والعقل والفطرة والحسن وكذبتم عقولكم قبل تكذيب العقلاء فإن جحد حكمة الله الباهرة في خلقه وأمره بمنزلة جحد الشمس والقمر والليل والنهار وغير مستنكر لكثير من الطوائف أهل الكلام المكابرة في جحد الضروريات وإن أقررتم بحكمة في بعض خلقه وأمره قيل لكم فأي الأمرين أولى به وجود تلك الحكمة أم عدمها فإن قلتم عدمها أولى من وجودها كان هذا غاية الكذب والبهت والمحال وإن قلتم وجودها أكمل قيل فهل هو قادر على تحصيلها في جميع خلقه وأحكامه أم غير قادر فإن قلتم غير قادر جئتم بالعظيمة في العقل والدين وانسلختم من عقولكم وأذهانكم وإن قلتم بل هو قادر على ذلك قيل فإذا كان قادرا على شيء وهو كمال في نفسه ووجوده خير من عدمه وهو أولى به فكيف يجوز نفيه عنه فإن قلتم إنما نفياه لأنا لم نطلع على حقيقته قيل صدقتم والله سائلكم في جميع ما تنفونه عن الله إنما مستندكم في نفيه عدم الاطّلاع على حقيقته ولم تكتفوا بقبول قول الرسل فصرتم إلى النفي، الجواب العاشر أن العقلاء قاطبة متفقون على أن الفاعل إذا فعل أفعالا ظهرت فيها حكمته ووقعت على أتم الوجوه وأوفقها للمصالح المقصودة بها ثم إذا رأوا أفعاله قد تكررت كذلك ثم جاءهم من أفعاله ما لا يعلمون وجه حكمته فيه لم يسعهم غير التسليم لما عرفوا من حكمته واستقر في عقولهم منها وردوا منها ما جهلوه إلى محكم ما علموه هكذا نجد أرباب كل صناعة مع أستاذهم حتى أن النفاة يسلكون هذا المسلك بعينه مع أئمتهم وشيوخهم فإذا جاءهم إشكال على قواعد أئمتهم ومذاهبهم قالوا هم أعلم منا وهم فوقنا في كل علم ومعرفة وحكمة ونحن معهم كالصبي مع معلمه وأستاذه فهلا سلكوا هذا السبيل مع ربهم وخالقهم الذي بهرت حكمته العقول وكان نسبتها إلى حكمته أولى من نسبة عين الخفاش إلى جرم الشمس ولو أن العالم الفاضل المبرز في علوم كثيرة أعرض على من لا يشاركه في صنعته ولا هو من أهلها وقدح في أوضاعها لخرج عن موجب العقل والعلم وعد ذلك نقصا وسفها فكيف بأحكم الحاكمين وأعلم العالمين وأقدر القادرين، الجواب الحادي عشر أن الحكمة إنما تتم بخلق المتضادات والمتقابلات كالليل والنهار والعلو والسفل والطيب والخبيث والخفيف والثقيل والحلو والمر والبرد والألم واللذة والحياة والموت والداء والدواء فخلق هذه المتقابلات هو محل ظهور الحكمة الباهرة ومحل ظهور القدرة القاهرة والمشيئة النافذة والملك الكامل التام فتوهم تعطيل خلق هذه المتضادات تعطيل لمقتضيات تلك الصفات وأحكامها وآثارها وذلك عين المحال فإن لكل صفة من الصفات العليا حكما ومقتضيات وأثرا هو مظهر كمالها وإن كانت كاملة في نفسها لكن ظهور آثارها وأحكامها من كمالها فلا يجوز تعطيله فإن صفة القادر تستدعي مقدورا وصفة الخالق تستدعي مخلوقا وصفة الوهاب الرازق المعطي المانع الضار النافع المقدم المؤخر المعز المذل العفو الرءوف تستدعي آثارها وأحكامها فلو عطلت تلك الصفات عن المخلوق المرزوق المغفور له المرحوم المعفو عنه لم يظهر كمالها وكانت معطلة عن مقتضياتها وموجباتها فلو كان الخلق كلهم مطيعون عابدون حامدون لتعطل أثر كثير من الصفات العلى والأسماء الحسنى وكيف كان يظهر أثر صفة العفو والمغفرة والصفح والتجاوز والانتقام والعز والقهر والعدل والحكمة التي تنزل الأشياء منازلها وتضعها مواضعها فلو كان الخلق كلهم أمة واحدة لفاتت الحكم والآيات والعبر والغايات المحمودة في خلقهم على هذا الوجه وفات كمال الملك والتصرف فإن الملك إذا اقتصر تصرفه على مقدور واحد من مقدوراته فإما أن يكون عاجزا عن غيره فيتركه عجزا أو جاهلا بما في تصرفه في غيره من المصلحة فيتركه جهلا وأما أقدر القادرين وأعلم العالمين وأحكم الحاكمين فتصرفه في مملكته لا يقف على مقدور واحد لأن ذلك نقص في ملكه فالكمال كل الكمال في العطاء والمنع والخفض والرفع والثواب والعقاب والإكرام والإهانة والإعزاز والإذلال والتقديم والتأخير والضر والنفع وتخصيص هذا على هذا وإيثار هذا على هذا ولو فعل هذا كله بنوع واحد متماثل الأفراد لكان ذلك منافيا لحكمته وحكمته تأباه كل الإباء فإنه لا يفرق بين متماثلين ولا يسوى بين مختلفين وقد عاب على من يفعل ذلك وأنكر على من نسبه إليه والقرآن مملوء من عيبه على من يفعل ذلك فكيف يجعل له العبيد ما يكرهون ويضربون له مثل السوء وقد فطر الله عباده على إنكار ذلك من بعضهم على بعض وطعنهم على من يفعله وكيف يعيب الرب سبحانه من عباده شيئا ويتصف به وهو سبحانه إنما عابه لأنه نقص فهو أولى أن يتنزه عنه وإذا كان لا بد من ظهور آثار الأسماء والصفات ولا يمكن ظهور آثارها إلا في المتقابلات والمتضادات لم يكن في الحكمة بد من إيجادها إذ لو فقدت لتعطلت الأحكام بتلك الصفات وهو محال يوضحه الوجه الثاني عشر أن من أسمائه الأسماء المزدوجة كالمعز المذل والخافض الرافع والقابض الباسط والمعطي المانع ومن صفاته الصفات المتقابلة كالرضا والسخط والحب والبغض والعفو والانتقام وهذه صفات كمال وإلا لم يتصف بها ولم يتسم بأسمائها وإذا كانت صفات كمال فإما أن يتعطل مقتضاها وموجبها وذلك يستلزم تعطيلها في أنفسها وإما أن تتعلق بغير محلها الذي يليق بأحكامها وذلك نقص وعيب يتعالى عنه فيتعين تعلقها بمحالها التي تليق بها وهذا وحده كاف في الجواب لمن كان له فقه في باب الأسماء والصفات ولا غيره يغيره يوضحه الوجه الثالث عشر أن من أسمائه الملك ومعنى الملك الحقيقي ثابت له سبحانه بكل وجه وهذه الصفة تستلزم سائر صفات الكمال إذ من المحال ثبوت الملك الحقيقي التام لمن ليس له حياة ولا قدرة ولا إرادة ولا سمع ولا بصر ولا كلام ولا فعل اختياري يقوم به وكيف يوصف بالملك من لا يأمر ولا ينهى ولا يثيب ولا يعاقب ولا يعطي ولا يمنع ولا يعز ويذل ويهين ويكرم وينعم وينتقم ويخفض ويرفع ويرسل الرسل إلى أقطار مملكته ويتقدم إلى عبيده بأوامره ونواهيه فأي ملك في الحقيقة لمن عدم ذلك وهذا يبين أن المعطلين لأسمائه وصفاته جعلوا مماليكه أكمل منه ويأنف أحدهم أن يقال في أمره وملكه ما يقوله هو في ربه فصفة ملكية الحق مستلزمة لوجود ما لا يتم التصرف إلا به والكل منه سبحانه فلم يتوقف كمال ملكه على غيره فإن كل ما سواه مسند إليه متوقف في وجوده على مشيئته وخلقه يوضحه الوجه الرابع عشر أن كمال ملكه بأن يكون مقارنا بحمده فله الملك وله الحمد والناس في هذا المقام ثلاث فرق فالرسل وأتباعهم أثبتوا له الملك والحمد وهذا مذهب من أثبت له القدر والحكمة وحقائق الأسماء والصفات ونزهه عن النقائص ومشابهة المخلوقات ويوحشك في هذا المقام جميع الطوائف غير أهل السنة الذين لم يتحيزوا إلى نحلة ولا مقالة ولا متبوع من أهل الكلام الفرقة الثانية الذين أثبتوا له الملك وعطلوا حقيقة الحمد وهم الجبرية نفاة الحكمة والتعليل القائلين بأنه يجوز عليه كل ممكن ولا ينزه عن فعل قبيح بل كل ممكن فإنه لا يقبح منه وإنما القبيح المستحيل لذاته كالجمع بين النقيضين فيجوز عليه تعذيب ملائكته وأنبيائه ورسله وأهل طاعته وإكرام إبليس وجنوده وجعلهم فوق أوليائه في النعيم المقيم أبدا ولا سبيل لنا إلى العلم باستحالة ذلك إلا من نفى الخلف في خبره فقط فيجوز أن يأمر بمشيئته ومشيئة أنبيائه والسجود للأصنام وبالكذب والفجور وسفك ونهب الأموال وينهى عن البر والصدق والإحسان والعفاف ولا فرق في نفس الأمر بين ما أمر به ونهى عنه إلا التحكم بمحض المشيئة وأنه أمر بهذا ونهى عن هذا من غير أن يكون فيما أمر به صفة حسن تقتضي محبته والأمر به ولا فيما نهى عنه صفة قبح تقتضي كراهته والنهي عنه فهؤلاء عطلوا حمده في الحقيقة وأثبتوا له ملكا بلا حمد مع أنهم في الحقيقة لم يثبتوا له ملكا فإنهم جعلوه معطلا في الأزل والأبد لا يقوم به فعل البتة وكثير منهم عطله عن صفات الكمال التي لا يتحقق كونه ملكا وربا وإلها إلا بها فلا ملكا أثبتوا ولا حمدا الفرقة الثالثة أثبتوا له نوعا من الحمد وعطلوا كمال ملكه وهم القدرية الذين أثبتوا نوعا من الحكمة ونفوا لأجلها كمال قدرته فحافظوا على نوع من الحمد عطلوا له كمال الملك وفي الحقيقة لم يثبتوا لا هذا ولا هذا فإن الحكمة التي أثبتوها جعلوها راجعة إلى المخلوق لا يعود إليه سبحانه حكمها والملك الذي أثبتوه فإنهم في الحقيقة إنما قرروا نفيه لنفي قيام الصفات التي لا يكون ملكا حقا إلا بها ونفي قيام الأفعال الاختيارية فلم يقم به عندهم وصف ولا فعل ولا له إرادة ولا كلام ولا سمع ولا بصر ولا فعل ولا له حب ولا بغض معطل عن حقيقة الملك والحمد والمقصود أن عموم ملكه يستلزم إثبات القدر وأن لا يكون في ملكه شيء بغير مشيئته فالله أكبر من ذلك وأجل وعموم حمده يستلزم أن لا يكون في خلقه وأمره ما لا حكمة فيه ولا غاية محمودة يفعل لأجلها ويأمر لأجلها فالله أكبر وأجل من ذلك يوضحه الوجه الخامس عشر أن مجرد الفعل من غير قصد ولا حكمة ولا مصلحة يقصده الفاعل لأجلها لا يكون متعلقا للحمد فلا يحمد عليه حتى لو حصلت به مصلحة من غير قصد الفاعل لحصولها لم يستحق الحمد عليها كما تقدم تقريره بل الذي يقصد الفعل لمصلحة وحكمة وغاية محمودة وهو عاجز عن تنفيذ مراده أحق بالحمد من قادر لا يفعل لحكمة ولا لمصلحة ولا لقصد الإحسان هذا المستقر في فطر الخلق والرب سبحانه حمده قد ملأ السماوات والأرض وما بينهما وما بعد ذلك فملأ العالم العلوي والسفلي والدنيا والآخرة ووسع حمده ما وسع علمه فله الحمد التام على جميع خلقه ولا حكم يحكم إلا بحمده ولا قامت السماوات والأرض إلا بحمده ولا يتحول شيء في العالم العلوي والسفلي من حال إلى حال إلا بحمده ولا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار إلا بحمده كما قال الحسن رحمة الله عليه: "لقد دخل أهل النار النار وأن حمده لفي قلوبهم ما وجدوا عليه سبيلا" وهو سبحانه إنما أنزل الكتاب بحمده وأرسل الرسل بحمده وأمات خلقه بحمده ويحييهم بحمده ولهذا حمد نفسه على ربوبيته الشاملة لذلك كله فالحمد لله رب العالمين وحمد نفسه على إنزال كتبه فالحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب وحمد نفسه على خلق السماوات والأرض: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} وحمد نفسه على كمال ملكه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} فحمد ملأ الزمان والمكان والأعيان وعم الأقوال كلها: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} وكيف لا يحمد على خلقه كله وهو الذي أحسن كل شيء خلقه وعلى صنعه وقد أتقنه: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} وعلى أمره وكله حكمة ورحمة وعدل ومصلحة وعلى نهيه وكل ما نهى عنه شر وفساد وعلى ثوابه وكله رحمة وإحسان وعلى عقابه وكله عدل وحق فلله الحمد كله وله الملك كله وبيده الخير كله وإليه يرجع الأمر كله والمقصود أنه كلما كان الفاعل أعظم حكمة كان أعظم حمدا وإذا عدم الحكمة ولم يقصدها بفعله وأمره عدم الحمد الوجه السادس عشر أنه سبحانه يجب أن يشكر ويحب أن يشكر عقلا وشرعا وفطرة فوجوب شكره أظهر من وجوب شكره أظهر من وجوب كل واجب وكيف لا يجب على العباد حمده وتوحيده ومحبته وذكر آلائه وإحسانه وتعظيمه وتكبيره والخضوع له والتحدث بنعمته والإقرار بها بجميع طرق الوجوب فالشكر أحب شيء إليه وأعظم ثوابا وأنه خلق الخلق وأنزل الكتب وشرع الشرائع وذلك يستلزم خلق الأسباب التي يكون الشكر بها أكمل ومن جملتها أن فاوت بين عباده في صفاتهم الظاهرة والباطنة في خلقهم وأخلاقهم وأديانهم وأرزاقهم ومعايشهم وآجالهم فإذا رأى المعافى المبتلى والغني الفقير والمؤمن الكافر عظم شكره لله وعرف قدر نعمته عليه وما خصه به وفضله به على غيره فازداد شكرا وخضوعا واعترافا بالنعمة، وفي أثر ذكره الإمام أحمد في الزهد: "أن موسى قال يا رب هلا سويت بين عبادك قال إني أحببت أن أشكر" فإن قيل فقد كان من الممكن أن يسوى بينهم في النعم ويسوى بينهم في الشكر كما فعل بالملائكة قيل لو فعل ذلك لكان الحاصل من الشكر نوع آخر غير النوع الحاصل منه على هذا الوجه والشكر الواقع على التفضيل والتخصيص أعلى وأفضل من غيره ولهذا كان شكر الملائكة وخضوعهم وذلهم لعظمته وجلاله بعد أن شاهدوا من إبليس ما جرى له ومن هاروت وماروت ما شاهدوه أعلى وأكمل مما كان قبله وهذه حكمة الرب ولهذا كان شكر الأنبياء وأتباعهم بعد أن عاينوا هلاك أعدائهم وانتقام الرب منهم وما أنزل بهم من بأسه أعلى وأكمل وكذلك شكر أهل الجنة في الجنة وهم يشاهدون أعداءه المكذبين لرسله المشركين به في ذلك العذاب فلا ريب أن شكرهم حينئذ ورضاهم ومحبتهم لربهم أكمل وأعظم مما لو قدر اشتراك جميع الخلق في النعيم فالمحبة الحاصلة من أوليائه له والرضا والشكر وهم يشاهدون بين جنسهم في ضد ذلك من كل وجه أكمل وأتم، فالضد يظهر حسنه الضد، وبضدها تتبين الأشياء، ولولا خلق القبيح لما عرفت فضيلة الجمال والحسن ولولا خلق الظلام لما عرفت فضيلة النور ولولا خلق أنواع البلاء لما عرف قدر العافية ولولا الجحيم لما عرف قدر الجنة ولو جعل الله سبحانه النهار سرمدا لما عرف قدره ولو جعل الليل سرمدا لما عرف قدره وأعرف الناس بقدر النعمة من ذاق البلاء وأعرفهم بقدر الفقر من قاسى مرائر الفقر والحاجة ولو كان الناس كلهم على صورة واحدة من الجمال لما عرف قدر الجمال وكذلك لو كانوا كلهم مؤمنين لما عرف قدر الإيمان والنعمة به فتبارك من له في خلقه وأمره الحكم البوالغ والنعم السوابغ يوضحه الوجه السابع عشر أنه سبحانه يجب أن يعبد بأنواع العبودية ومن أعلاها وأجلها عبودية الموالاة فيه والمعاداة فيه والحب فيه والبغض فيه والجهاد في سبيله وبذل مهج النفوس في مرضاته ومعارضة أعدائه وهذا النوع هو ذروة سنام العبودية وأعلى مراتبها وهو أحب أنواعها إليه وهو موقوف على ما لا يحصل بدونه من خلق الأرواح التي تواليه وتشكره وتؤمن به والأرواح التي تعاديه وتكفر به ويسلط بعضها على بعض لتحصل بذلك محابه على أتم الوجوه وتقرب أوليائه إليه لجهاد أعدائه ومعارضتهم فيه وإذلالهم وكبتهم ومخالفة سبيلهم فتعلو كلمته ودعوته على كلمة الباطل ودعوته ويتبين بذلك شرف علوها وظهورها ولو لم يكن للباطل والكفر والشرك وجود فعلي أي شيء كانت كلمته ودعوته تعلو فإن العلو أمر لشيء يستلزم غالبا ما يعلى عليه وعلو الشيء على نفسه محال والوقوف على الشيء لا يحصل بدونه يوضحه الوجه الثامن عشر أن من عبوديته العتق والصدقة والإيثار والمواساة والعفو والصفح والصبر وكظم الغيظ واحتمال المكاره ونحو ذلك مما لا يتم إلا بوجود متعلقه وأسبابه فلولا لم تحصل عبودية العتق فالرق من أثر الكفر ولولا الظلم والإساءة والعدوان لم تحصل عبودية الصبر والمغفرة وكظم الغيظ ولولا الفقر والحاجة لم تحصل عبودية الصدقة والإيثار والمواساة فلو سوى بين خلقه جميعهم لتعطلت هذه العبوديات التي هي أحب شيء إليه ولأجلها خلق الجن والإنس ولأجلها شرع الشرائع وأنزل الكتب وأرسل الرسل وخلق الدنيا والآخرة وكما أن ذلك من صفات كماله فلو لم يقدر الأسباب التي يحصل بها ذلك لغاب هذا الكمال وتعطلت أحكام تلك الصفات كما مر توضيحه الوجه التاسع عشر أنه سبحانه يفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه أعظم فرح يقدر أو يخطر ببال أو يدور في خلد وحصول هذا الفرح موقوف على التوبة الموقوفة على وجود ما يتاب منه وما يتوقف عليه الشيء لا يوجد بدونه فإن وجود الملزوم بدون لازمه محال ولا ريب أن وجود الفرح أكمل من عدمه فمن تمام الحكمة تقدير أسبابه ولوازمه وقد نبه أعلم الخلق بالله على هذا المعنى بعينه حيث يقول في الحديث الصحيح: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم" فلو لم يقدر الذنوب والمعاصي فلمن يغفر وعلى من يتوب وعمن يعفو ويسقط حقه ويظهر فضله وجوده وحلمه وكرمه وهو واسع المغفرة فكيف يعطل هذه الصفة أم كيف يتحقق بدون ما يغفر ومن يغفر له ومن يتوب وما يتاب عنه فلو لم يكن في تقدير الذنوب والمعاصي والمخالفات إلا هذا وحده لكفى به حكمة وغاية محمودة فكيف والحكم والمصالح والغايات المحمودة التي في ضمن هذا التقدير فوق ما يخطر بالبال وكان بعض العباد يدعو في طوافه اللهم اعصمني من المعاصي ويكرر ذلك فقيل له في المنام أنت سألتني العصمة وعبادي يسألوني العصمة فإذا عصمتكم من الذنوب فلمن أغفر وعلى من أتوب وعمن أعفو ولو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه يوضحه الوجه العشرون أنه قد يترتب على خلق من يكفر به ويشرك به ويعاديه من الحكم الباهرة والآيات الظاهرة ما لم يكن يحصل بدون ذلك فلولا كفر قوم نوح لما ظهرت آية الطوفان وبقيت يتحدث بها الناس على ممر الزمان ولولا كفر عاد لما ظهرت آية الريح العقيم التي دمرت ما مرت عليه ولولا كفر قوم صالح لما ظهرت آية إهلاكهم بالصيحة ولا كفر فرعون لما ظهرت تلك الآيات والعجائب يتحدث بها الأمم أمة بعد أمة واهتدى من شاء الله فهلك بها من هلك عن بينه وحي بها من حي عن بينة وظهر بها فضل الله وعدله وحكمته وآيات رسله وصدقهم فمعارضة الرسل وكسر حججهم ودحضها والجواب عنها وإهلاك الله لهم من أعظم أدلة صدقهم وبراهينه ولولا مجيء المشركين بالحد والحديد والعدد والشوكة يوم بدر لما حصلت تلك الآية العظيمة التي يترتب عليها من الإيمان والهدى والخير ما لم يكن حاصلا مع عدمها وقد بينا أن الموقوف على الشيء لا يوجد بدونه ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع فلله كم عمرت قصة بدر من ربع أصبح آهلا بالإيمان وقد فتحت لأولي النهى من باب وصلوا منه إلى الهدى والإيقان وكم حصل بها من محبوب للرحمن وغيظ للشيطان وتلك المفسدة التي حصلت في ضمنها للكفار مغمورة جدا بالنسبة إلى مصالحها وحكمها وهي كمفسدة المطر إذا قطع المسافر وبل الثياب وخرب بعض البيوت بالنسبة إلى مصلحة العامة وتأمل ما حصل بالطوفان وغرق آل فرعون للأمم من الهدى والإيمان الذي غمر مفسدة من هلك به حتى تلاشت في جنب مصلحته وحكمته فكم لله من حكمة في آياته التي ابتلى بها أعداءه وأكرم فيها أولياءه وكم له فيها من آية وحجة وتبصرة وتذكرة ولهذا أمر سبحانه رسوله أن يذكر بها أمته فقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} فذكرهم بأيامه وإنعامه ونجاتهم من عدوهم وإهلاكهم وهم ينظرون فحصل بذلك من ذكره وشكره ومحبته وتعظيمه وإجلاله ما تلاشت فيه مفسدة إهلاك الأبناء وذبحهم واضمحلت فإنهم صاروا إلى النعيم وخلصوا من مفسدة العبودية لفرعون إذ كبروا وسومهم له سوء العذاب وكان الألم الذي ذاقه الأبوان عند الذبح أيسر من الآلام التي كانوا تجرعوها باستعباد فرعون وقومه لهم بكثير فحظي بذلك الآباء والأبناء وأراد سبحانه أن يرى عباده ما هو من أعظم آياته وهو أن يربي هذا المولود الذي ذبح فرعون ما شاء الله من الأولاد في طلبه في حجر فرعون وفي بيته وعلى فراشه فكم في ضمن هذه الآية من حكمة ومصلحة ورحمة وهداية وتبصرة وهي موقوفة على لوازمها وأسبابها ولم تكن لتوجد بدونها فإنه ممتنع فمصلحة تلك الآية وحكمتها غمرت مفسدة ذبح الأبناء وجعلتها كأن لم تكن وكذلك الآيات التي أظهرها سبحانه على يد الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم والعجائب والحكم والمصالح والفوائد التي في تلك القصة التي تزيد على الألف لم تكن لتحصل بدون ذلك السبب الذي كان فيه مفسدة حزونة يعقوب ويوسف ثم انقلبت تلك المفسدة مصالح اضمحلت في جنبها تلك المفسدة بالكلية وصارت سببا لأعظم المصالح في حقه وحق يوسف وحق الإخوة وحق امرأة العزيز وحق أهل مصر وحق المؤمنين إلى يوم القيامة فكم جنى أهل المعرفة بالله وأسمائه وصفاته ورسله من هذه القصة من ثمرة وكم استفادوا بها من علم وحكمة وتبصرة وكذلك المفسدة التي حصلت لأيوب من مس الشيطان به بنصب وعذاب اضمحلت وتلاشت في جنب المصلحة والمنفعة التي حصلت له ولغيره عند مفارقة البلاء وتبدله بالنعماء بل كان ذلك السبب المكروه هو الطريق الموصل إليها والشجرة التي جنيت ثمار تلك النعم منها وكذلك الأسباب التي أوصلت خليل الرحمن إلى أن صارت النار عليه بردا وسلاما من كفر قومه وشركهم وتكسيره أصنامهم وغضبهم لها وإيقاد النيران العظيمة له وإلقائه فيها بالمنجنيق حتى وقع في روضة خضراء في وسط النار وصارت آية وحجة وعبرة ودلالة للأمم قرنا بعد قرن فكم لله سبحانه في ضمن هذه الآية من حكمة بالغة ونعمة سابغة ورحمة وحجة وبينة لو تعطلت تلك الأسباب لتعطلت هذه الحكم والمصالح والآيات وحكمته وكماله المقدس يأبى ذلك وحصول الشيء بدون لازمه ممتنع وكم بين ما وقع من المفاسد الجزئية في هذه القصة وبين جعل صاحبها إماما للحنفاء إلى يوم القيامة وهل تلك المفاسد الجزئية إلا دون مفسدة الحر والبرد والمطر والثلج بالنسبة إلى مصالحها بكثير ولكن الإنسان كما قال الله تعالى: {ظَلُوماً جَهُولاً} ظلوم لنفسه جهول بربه وعظمته وجلاله وحكمته وإتقان صنعه وكم بين إخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة على تلك الحال ودخوله إليها ذلك الدخول الذي لم يفرح به بشر حبورا لله وقد اكتنفه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله والمهاجرون والأنصار قد أحدقوا به والملائكة من فوقهم والوحي من الله ينزل عليه وقد أدخله حرمه ذلك الدخول فأين مفسدة ذلك الإخراج الذي كان كأن لم يكن ولولا معارضة السحرة لموسى بإلقاء العصي والحبال حتى أخذوا أعين الناس واسترهبوهم لما ظهرت آية عصا موسى حتى ابتلعت عصيهم وحبالهم ولهذا أمرهم موسى أن يلقوا أولا ثم يلقي هو بعدهم ومن تمام ظهور آيات الرب تعالى وكمال اقتداره وحكمته أن يخلق مثل جبريل صلوات الله وسلامه عليه الذي هو أطيب الأرواح العلوية وأزكاها وأطهرها وأشرفها وهو السفير في كل خير وهدى وإيمان وصلاح ويخلق مقابله مثل روح اللعين إبليس الذي هو أخبث الأرواح وأنجسها وشرها وهو الداعي إلى كل شر وأصله ومادته وكذلك من تمام قدرته وحكمته أن خلق الضياء والظلام والأرض والسماء والجنة والنار وسدرة المنتهى وشجرة الزقوم وليلة القدر وليلة الوباء والملائكة والشياطين والمؤمنين والكفار والأبرار والفجار والحر والبرد والداء والدواء والآلام واللذات والأحزان والمسرات واستخرج سبحانه من بين ما هو من أحب الأشياء إليه من أنواع العبوديات والتعرف إلى خلقه بأنواع الدلالات ولولا خلق الشياطين والهوى والنفس الأمارة لما حصلت عبودية الصبر ومجاهدة النفس والشيطان ومخالفتهما وترك ما يهواه العبد ويحبه لله فإن لهذه العبودية شأنا ليس لغيرها ولولا وجود الكفار لما حصلت عبودية الجهاد ولما نال أهله درجة الشهادة ولما ظهر من يقدم محبة فاطره وخالقه على نفسه وأهله وولده ومن يقدم أدنى حظ من الحظوظ عليه فأين صبر الرسل وأتباعهم وجهادهم وتحملهم لله أنواع المكاره والمشاق وأنواع العبودية المتعلقة بالدعوة وإظهارها لولا وجود الكفار وتلك العبودية تقتضي علمه وفضله وحكمته ويستخرج منه حمده وشكره ومحبته والرضا عنه يوضحه الوجه الحادي والعشرون أنه قد استقرت حكمته سبحانه أن السعادة والنعيم والراحة لا يوصل إليها إلا على جسر المشقة والتعب ولا يدخل إليها إلا من باب المكاره والصبر وتحمل المشاق ولذلك حف الجنة بالمكاره والنار بالشهوات ولذلك أخرج صفيه آدم من الجنة وقد خلقها له واقتضت حكمته أن لا يدخلها دخول استقرار إلا بعد التعب والنصب فما أخرجه منها إلا ليدخله إليها أتم دخول فلله كم بين الدخول الأول والدخول الثاني من التفاوت وكم بين دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في جواد المطعم بن عدي ودخوله إليها يوم الفتح وكم بين راحة المؤمنين ولذتهم في الجنة بعد مقاساة ما قبلها وبين لذتهم لو خلقوا فيها وكم بين فرحة من عافاه بعد ابتلائه وأغناه بعد فقره وهداه بعد ضلاله وجمع قلبه بعد شتاته وفرحة من لم يذق تلك المرارات وقد سبقت الحكمة الإلهية أن المكاره أسباب اللذات والخيرات كما قال تعالى: {تِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}. وربما كان مكروه النفوس إلى محبوبها سببا ما مثله سبب يوضحه الوجه الثاني والعشرون أن العقلاء قاطبة متفقون على استحسان أتعاب النفوس في تحصيل كمالاتها من العلم والعمل الصالح والأخلاق الفاضلة وطلب محمدة من ينفعهم حمده وكل من كان أتعب في تحصيل ذلك كان أحسن حالا وأرفع قدرا وكذلك يستحسنون أتعاب النفوس في تحصيل الغنى والعز والشرف ويذمون القاعد عن ذلك وينسبونه إلى دناءة الهمة وخسة النفس وضعة القدر: دع المكارم لا تنهض لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي وهذا التعب والكد يستلزم آلاما وحصول مكاره ومشاق هي الطريق إلى تلك الكمالات ولم يقدحوا بتحمل تلك في حكمة من يحملها ولا يعدونه عائبا بل هو العقل الوافر ومن أمر غيره به فهو حكيم في أمره ومن نهاه عن ذلك فهو سفيه عدو له هذا في مصالح المعاش فكيف بمصالح الحياة الأبدية الدائمة والنعيم المقيم كيف لا يكون الآمر بالتعب القليل في الزمن اليسير الموصل إلى الخير الدائم حكيما رحيما محسنا ناصحا لمن يأمره وينهاه عن ضده من الراحة واللذة التي تقطعه عن كماله ولذته ومسرته الدائمة هذا إلى ما في أمره ونهيه من المصالح العاجلة التي بها سعادته وفلاحه وصلاحه ونهيه عما فيه مضرته وعطبه وشقاوته فأوامر الرب تعالى رحمة وإحسان وشفاء ودواء وغذاء للقلوب وزينة للظاهر والباطن وحياة للقلب والبدن وكم في ضمنه من مسرة وفرحة ولذة وبهجة ونعيم وقرة عين فما يسميه هؤلاء تكاليف إنما هو قرة العيون وبهجة النفوس وحياة القلوب ونور العقول وتكميل للفطر وإحسان تام إلى النوع الإنساني أعظم من إحسانه إليه بالصحة والعافية والطعام والشراب واللباس فنعمته على عباده بإرسال الرسل إليهم وإنزال كتبه عليهم وتعريفهم أمره ونهيه وما يحبه وما يبغضه أعظم النعم وأجلها وأعلاها وأفضلها بل لا نسبة لرحمتهم بالشمس والقمر والغيث والنبات إلى رحمتهم بالعلم والإيمان والشرائع والحلال والحرام فكيف يقال أي حكمة في ذلك وإنما هو مجرد مشقة ونصب بغير فائدة فوالله أن من زعم ذلك وظنه في أحكم الحاكمين لأضل من الأنعام وأسوأ حالا من الحمير ونعوذ بالله من الخذلان والجهل بالرحمن وأسمائه وصفاته وهل قامت مصالح الوجود إلا بالأمر والنهي وإرسال الرسل وإنزال الكتب ولولا ذلك لكان الناس بمنزلة البهائم يتهارجون في الطرقات ويتسافدون تسافد الحيوانات لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا ولا يمتنعون من قبيح ولا يهتدون إلى صواب وأنت ترى الأمكنة والأزمنة التي خفيت فيها آثار النبوة كيف حال أهلها وما دخل عليهم من الجهل والظلم والكفر بالخالق والشرك بالمخلوق واستحسان القبائح وفساد العقائد والأعمال فإن الشرائع بتنزيل الحكيم العليم أنزلها وشرعها الذي يعلم ما في ضمنها من مصالح العباد في المعاش والمعاد وأسباب سعادتهم الدنيوية والأخروية فجعلها غذاء ودواء وشفاء وعصمة وحصنا وملجأ وجنة ووقاية وكانت بالقياس إلى مصالح الأبدان بمنزلة حكيم عالم ركب للناس أمرا يصلح لكل مرض ولكل ألم وجعله مع ذلك غذاء للأصحاء فمن يغذي به من الأصحاء غذّاه ومن يداوي به من المرض شفاه وشرائع الرب تعالى فوق ذلك وأجل منه وإنما هو تمثيل وتقريب فلا أحسن من أمره ونهيه وتحليله وتحريمه أمره قوت وغذاء وشفاء ونهيه حمية وصيانة فلم يأمر عباده بما أمرهم به حاجة منه إليهم ولا عبثا بل رحمة وإحسانا ومصلحة ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلا منه بخلا عليهم بل حماية وصيانة عما يؤذيهم ويعود عليهم بالضرر إن تناولوه فكيف يتوهم من له مسكة من عقل خلوها من الحكم والغايات المحمودة المطلوبة لأجلها ولهذا استدل كثير من العقلاء على النبوة بنفس الشريعة واستغنوا بها عن طلب المعجزة وهذا من أحسن الاستدلال فإن دعوة الرسل من أكبر شواهد صدقهم وكل من له خبرة بنوع من أنواع العلوم إذا رأى حاذقا قد صنف فيه كتابا جليلا عرف أنه من أهل ذلك العلم بنظره في كتابه وهكذا كل من له عقل وفطرة سليمة وخبرة بأقوال الرسل ودعوتهم إذا نظر في هذه الشريعة قطع قطعا نظير القطع بالمحسوسات أن الذي جاء بهذه الشريعة رسول صادق وأن الذي شرعها أحكم الحاكمين ولقد شهد لها عقلاء الفلاسفة بالكمال والتمام وأنه لم يطرق العالم ناموس أكمل ولا أحكم هذه شهادة الأعداء وشهد لها من زعم أنه من الأولياء بأنها لم تشرع لحكمة ولا لمصلحة وقالوا أي حكمة في الإلزام بهذه التكاليف الشاقة المتعبة وأي مصلحة للمكلف في ذلك وأي غرض للمكلف وما هي إلا محض المشيئة المجردة من قصد غاية أو حكمة ولو استحي هؤلاء من العقلاء لمنعهم الحياء من تسويد القلوب والأوراق بمثل ذلك وهل تركت الشريعة خيرا ومصلحة إلا جاءت به وأمرت به وندبت إليه وهل تركت شرا ومفسدة إلا نهت عنه وهل تركت لمفرح أفراحا أو لمتعنت تعنتا أو لسائل مطلبا فمن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون وعند نفاة الحكم أنه يجوز عليه ضد ذلك الحكم من كل وجه وأنه لا فرق بينه وبين ضده في نفس الأمر إلا لمجرد التحكم والمشيئة فلوا اجتمعت حكمة جميع الحكماء من أول الدهر إلى آخره ثم قيست إلى حكمة هذه الشريعة الكاملة الحكيمة الفاضلة لكانت كقطرة من بحر وإنما نعني بذلك الشريعة التي أنزلها الله على رسوله وشرعها للأمة ودعاهم إليها لا الشريعة المبدلة ولا المؤولة ولا ما غلط فيه الغالطون وتأوله المتأولون فإن هذين النوعين قد يشتملان على فساد وشر بل الشر والفساد الواقع بين الأمة من هاتين الشريعتين اللتين نسبتا إلى الشريعة المنزلة من عند الله عمدا أو خطأ وإلا فالشريعة على وجهها خير محض ومصلحة من كل وجه ورحمة وحكمة ولطف بالمكلفين وقيام مصالحهم بها فوق قيام مصالح أبدانهم بالطعام والشراب فهي مكملة للفطر والعقول مرشدة إلى ما يحبه الله ويرضاه ناهية عما يبغضه ويسخطه مستعملة لكل قوة وعضو حركة في كماله الذي لا كمال له سواه آمرة بمكارم الأخلاق ومعاليها ناهية عن دنيئها وسفسافها واختصار ذلك أنه شرع استعمال كل قوة وكل عضو وكل حركة في كمالها ولا سبيل إلى معرفة كمالها على الحقيقة إلا بالوحي فكانت الشرائع ضرورية في مصالح الخلق وضرورتها له فوق كل ضرورة تقدر فهي أسباب موصلة إلى سعادة الدارين ورأس الأسباب الموصلة إلى حفظ صحة البدن وقوته واستفراغ أخلاطه ومن لم يتصور الشريعة على هذه الصورة فهو من أبعد الناس عنها.
كتاب : شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل تأليف : محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية منتدى ميراث الرسول - البوابة