بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم مكتبة الثقافة الإسلامية شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل ● [ الباب الثاني عشر ] ●
● الباب الثاني عشر: في ذكر المرتبة الثالثة من مراتب القضاء والقدر وهي مرتبة المشيئة وهذه المرتبة قد دل عليها إجماع الرسل من أولهم إلى آخرهم وجميع الكتب المنزلة من عند الله والفطرة التي فطر الله عليها خلقه وأدلة العقول والعيان وليس في الوجود موجب ومقتض إلا مشيئة الله وحده فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن هذا عموم التوحيد الذي لا يقوم إلا به والمسلمون من أولهم إلى آخرهم مجمعون على أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وخالفهم في ذلك من ليس منهم في هذا الموضع وأن كان منهم في موضع آخر فجوزوا أن يكون في الوجود ما لا يشاء الله وأن يشاء ما لا يكون وخالف الرسل كلهم وأتباعهم من نفى مشيئة الله بالكلية ولم يثبت له سبحانه مشيئة واختيارا أو جدبها الخلق كما يقوله طوائف من أعداء الرسل من الفلاسفة وأتباعهم والقرآن والسنة مملوآن بتكذيب الطائفتين فقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} وقال تعالى: {كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعا} وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} وقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} وقال: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ} وقال: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْك} وقال: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِك} وقال: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً} وقال: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} وقال عن نوح أنه قال لقومه: {إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ} وقال إمام الحنفاء وأبو الأنبياء لقومه: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} وقال الذبيح له: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} وقال خطيب الأنبياء شعيب: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} وقال الصديق الكريم ابن الكريم ابن الكريم: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} وقال حمو موسى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} وقال كليم الرحمن للخضر: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} وقال قوم موسى له: {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} وقال لسيد ولد آدم وأكرمهم عليه: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وقال: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} وقال عن أهل الجنة: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} وعن أهل النار كذلك ليبين أن الأمر راجع إلى مشيئته ولو شاء لكان غير ذلك وقال: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} وقال: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} وقال: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاء} وقال: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} وقال: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِت} وقال: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وقال: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} وقال: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} وقال: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقال: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} وقال: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً} وقال: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّه} وفي الآية الأخرى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّه} فأخبر أن مشيئتهم وفعلهم موقوفان على مشيئته لهم هذا وهذا وقال: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاء} وقال: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقال: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} وقوله: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاء} وقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} وقوله: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} وقوله: {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ} وقوله: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} وقوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} وقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وقوله: {فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} وقوله: {فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ} وقوله: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاء} وقوله: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} وقوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} وقوله: {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيح} وقوله: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاما}: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} وقوله: {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} وقوله: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ} وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُم} وقوله: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ} وقوله عن كليمه موسى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاء} وهذه الآيات ونحوها تتضمن الرد على طائفتي الضلال نفاة المشيئة بالكلية ونفاة مشيئة أفعال العباد وحركاتهم وهداهم وضلالهم وهو سبحانه تارة يخبر أن كل ما في الكون بمشيئته وتارة أن ما لم يشأ لم يكن وتارة أنه لو شاء لكان خلاف الواقع وأنه لو شاء لكان خلاف القدر الذي قدره وكتبه وأنه لو شاء ما عصى وأنه لو شاء لجمع خلقه على الهدى وجعلهم أمة واحدة فتضمن ذلك أن الواقع بمشيئته وأن ما لم يقع فهو لعدم مشيئته وهذا حقيقة الربوبية وهو معنى كونه رب العالمين وكونه القائم بتدبير عباده فلا خلق ولا رزق ولا عطاء ولا منع ولا قبض ولا بسط ولا موت ولا حياة ولا إضلال ولا هدى ولا سعادة ولا شقاوة إلا بعد إذنه وكل ذلك بمشيئته وتكوينه إذ لا مالك غيره ولا مدبر سواه ولا رب غيره قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَار} وقال: {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ} وقال: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} وقال: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً} وقال: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} وتقدم في حديث حذيفة بن أسيد في صحيح مسلم في شأن الجنين "فيقضي ربك ما يشاء ويكتب الملك" وفي صحيح البخاري من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء" وفي صحيح البخاري من حديث علي بن أبي طالب حين طرقه النبي صلى الله عليه وسلم وفاطمة ليلا فقال: "ألا تصليان علي إنما أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا" وفي صحيحه أيضا في قصة نومهم في الوادي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم: "أن الله قبض أرواحكم حين شاء وردها حين شاء" وفي حديث ابن مسعود الذي في المسند وغيره في قصة رجوعهم من الحديبية ونومهم عن صلاة الصبح فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله لو شاء لم تناموا عنها ولكن أراد أن تكون لمن بعدكم فهكذا لمن نام ونسي" وفي لفظ آخر: "إن الله سبحانه وتعالى لو شاء أيقظنا ولكنه أراد أن يكون لمن بعدكم" وفي مسند الإمام أحمد عن طفيل بن سخيرة أخي عائشة لامها أنه رأى فيما يرى النائم كأنه مر برهط من اليهود فقال: من أنتم قالوا: نحن اليهود قال: إنكم أنتم القوم لولا أنكم تزعمون أن عزيرا ابن الله فقالت اليهود: وأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد ثم مر برهط من النصارى فقال: من أنتم قالوا: نحن النصارى قال: إنكم أنتم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله قالوا: وأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد فلما أصبح أخبر بها من أخبر ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: أخبرت أحدا؟ قال: نعم فلما صلوا خطبهم فحمد الله وأثنى عليه فقال إن طفيلا رأى رؤيا فأخبر بها من أخبر منكم وإنكم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم" زاد البيهقي: "فلا تقولوها ولكن قولوا ما شاء الله وحده لا شريك له" وروى جعفر عن عون عن الأجلح عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يكلمه في بعض الأمر فقال الرجل لرسول الله: ما شاء الله وشئت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أجعلتني لله عدلا بل ما شاء الله وحده" وروى سعيد عن منصور عن عبد الله بن يسار عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان" قال الشافعي في رواية الربيع عنه: "المشيئة إرادة الله قال الله عز وجل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} فأعلم الله خلقه أن المشيئة له دون خلقه وأن مشيئتهم لا تكون إلا أن يشاء الله فيقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله ثم شئت ولا يقال ما شاء الله وشئت قال ويقال من يطع الله ورسوله فإن الله تعبد العباد بأن فرض عليهم طاعة رسوله فإذا أطيع رسول الله فقد أطيع الله بطاعة رسوله" وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: "قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفها كيف يشاء" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك" وفي حديث النواس بن سمعان سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من قلب إلا بين أصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك والميزان بيد الرحمن يرفع أقواما ويخفض آخرين إلى يوم القيامة" وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم على المنبر يقول: "إنما بقاؤكم فيما سلف من الأمم قبلكم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس" وذكر الحديث وقال في آخره "فذلك فضلي أوتيه من أشاء" وفي صحيح البخاري مرفوعا: "مثل الكافر كمثل الأرزة صماء معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء وقال عبد الرازق عن معمر عن همام هذا ما حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تبارك وتعالى: لا يقل ابن آدم يا خيبة الدهر فاني أنا الدهر أرسل الليل والنهار فإذا شئت قبضتهما" قال الشافعي تأويله والله أعلم أن العرب كان شأنها أن تذم الدهر وتسبه عند المصائب التي تنزل بهم من موت أو هرم أو تلف أو غير ذلك فيقولون إنما يهلكنا الدهر وهو الليل والنهار ويقولون أصابتهم قوارع الدهر وأبادهم الدهر فيجعلون الليل والنهار يفعلان الأشياء فيذمون الدهر بأنه الذي يفنيهم ويفعل بهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا الدهر على أنه الذي يفنيكم والذي يفعل بكم هذه الأشياء فإنكم إذا سببتم فاعل هذه الأشياء فإنما تسبون الله تبارك وتعالى فإنه فاعل هذه الأشياء" وفي حديث أنس يرفعه: "اطلبوا الخير دهركم كله وتعرضوا لنفحات رحمة الله فإن لله عز وجل سحائب من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده وسلوا الله أن يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم" وفي الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت قال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فهو إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له" وفيهما أيضا من حديث احتجاج الجنة والنار: "قول الله للجنة أنت رحمتي أرحم بك من أشاء وللنار أنت عذابي أعذب بك من أشاء" وفيه أيضا من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت وارحمني إن شئت وارزقني إن شئت ليعزم مسألته إنه يفعل ما يشاء لا مكره له" وفي صحيح مسلم عنه يرفعه: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير إحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان" وفي حديث أبي ذر: "يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته" الحديث وفي آخره "ذلك بأني جواد أفعل ما أشاء عطائي كلام فإذا أردت شيئا فإنما أقول له كن فيكون" وفي حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أنعم الله على عبد من نعمة من أهل وولد فيقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله فيرى فيه آية دون الموت" وهذا الحديث الصحيح مشتق من قوله تعالى: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّه} وفي حديث الشفاعة: "فإذا رأيت ربي وقعت له ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني" وفي حديث آخر أهل الجنة دخولا إليها "فيسكت ما شاء الله أن يسكت وفيه قوله سبحانه لا أهزأ بك ولكني على ما أشاء قدير" والحديثان في الصحيحين وفيهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لكل نبي دعوة فأريد إن شاء الله أن أختبي دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة" وقال: "لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها أحد" وقال: "إني لأطمع أن يكون حوضي إن شاء الله أوسع ما بين أيلة إلى كذا" وقال في المدينة: "لا يدخلها الطاعون ولا الدجال إن شاء الله" وقال في زيارة المقابر: "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" وقال لما حاصر الطائف: "إنا قافلون غدا إن شاء الله" وقال لما قدم مكة: "منزلنا غدا إن شاء الله بخيف بني كنانة" وقال يوم بدر: "هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله وهذا مصرع فلان إن شاء الله" وقال في بعض أسفاره: "إنكم تسيرون عشيتكم وليلتكم ثم إنكم تأتون الماء غدا إن شاء الله" وقال للأعرابي الذي عاده من الحمى: "لا بأس طهور إن شاء الله" وأخبر عن سليمان بن داود أنه قال: "لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كل واحدة تأتي بفارس يقاتل في سبيل الله فقال له الملك قل إن شاء الله فلم يقل فطاف عليهن جميعا فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل وأيم الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون" وقال: "من حلف فقال إن شاء الله فإن شاء مضى وإن شاء رجع غير حنث" وقال: "لأغزون قريشا ثم قال في الثالثة إن شاء الله" وقال: "ألا مشمر للجنة فقالت الصحابة نحن المشمرون لها يا رسول الله فقال قولوا إن شاء الله" وقال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} قال الحسن: "إذا نسيت أن تقول إن شاء الله" وهذا هو الاستثناء الذي كان يجوزه ابن عباس متراخيا ويتأول عليه الآية لا الاستثناء في الإقرار واليمين والطلاق والعتاق وهذا من كمال علم ابن عباس وفقهه في القرآن وقد أجمع المسلمون على أن الحالف إذا استثنى في يمينه متصلا بها فقال لأفعلنّ كذا أو لا أفعله إن شاء الله إنه لا يحنث إذا خالف ما حلف عليه لأن من أصل أهل الإسلام أنه لا يكون شيء إلا بمشيئة الله فإذا علق الحالف الفعل أو الترك بالمشيئة لم يحنث عند عدم المشيئة ولا تجب عليه الكفارة ولو ذهبنا نذكر كل حديث أو أثر جاء فيه لفظ المشيئة وتعليق فعل الرب بها لطال الكتاب جدا وأما الإرادة فورودها في نصوص القرآن والسنة معلوم أيضا كقوله: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا}: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً}: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} وقول نوح: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} وقوله: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ} وقوله: {والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا} وأخبر أنه إذا لم يرد تطهير قلوب عباده لم يكن لهم سبيل إلى تطهيرها فقال: {أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم} وقال: {وإن الله يهدي من يريد}: {وإن الله يحكم ما يريد} وقال: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} وقوله: {فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} وقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} وقوله: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} وقول صاحب يس: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} وقوله: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِه} وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرَةِ} وقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} والنصوص النبوية في إثبات إرادة الله أكثر من أن تحصر كقوله "من يرد الله به خيرا يفقه في الدين" "من يرد الله به خيرا يصب منه" "إذا أراد الله بالأمير خيرا جعل له وزير صدق" "إذا أراد الله رحمة أمة قبض نبيها قبلها" "إذا أراد الله هلكة أمة عذبها ونبيها حي فأقر عينه بهلكها" "إذا أراد الله بعبد خيرا عجل له العقوبة في الدنيا" "إذا أراد الله بعبد شرا أمسك عنه توبته حتى يوافي يوم القيامة كأنه عير" "إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة" "إذا أراد الله بأهل بيت خيرا أدخل عليهم باب الرفق" "إذا أراد الله بقوم عذابا أصاب من كان فيهم ثم بعثوا على نياتهم" والآثار النبوية في ذلك أكثر من أن نستوعبها.
● فصل ●
وههنا أمر يجب التنبيه عليه والتنبه له وبمعرفته تزول إشكالات كثيرة تعرض لمن لم يحط به علما وهو أن الله سبحانه له الخلق والأمر وأمره سبحانه نوعان: أمر كوني قدري، وأمر ديني شرعي فمشيئته سبحانه متعلقة بخلقه وأمره الكوني وكذلك تتعلق بما يحب وبما يكرهه كله داخل تحت مشيئته كما خلق إبليس وهو يبغضه وخلق الشياطين والكفار والأعيان والأفعال المسخوطة له وهو يبغضها فمشيئته سبحانه شاملة لذلك كله وأما محبته ورضاه فمتعلقة بأمره الديني وشرعه الذي شرعه على ألسنة رسله فما وجد منه تعلقت به المحبة والمشيئة جميعا فهو محبوب للرب واقع بمشيئته كطاعات الملائكة والأنبياء والمؤمنين وما لم يوجد منه تعلقت به محبته وأمره الديني ولم تتعلق به مشيئته وما وجد من الكفر والفسوق والمعاصي تعلقت به مشيئته ولم تتعلق به محبته ولا رضاه ولا أمره الديني وما لم يوجد منها لم تتعلق به مشيئته ولا محبته فلفظ المشيئة كوني ولفظ المحبة ديني شرعي ولفظ الإرادة ينقسم إلى إرادة كونية فتكون هي المشيئة وإرادة دينية فتكون هي المحبة إذا عرفت هذا فقوله تعالى: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} وقوله: {لا يُحِبُّ الْفَسَاد} وقوله: {وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} لا يناقض نصوص القدر والمشيئة العامة الدالة على وقوع ذلك بمشيئته وقضائه وقدره فإن المحبة غير المشيئة والأمر غير الخلق ونظير هذا لفظ الأمر فإنه نوعان أمر تكوين وأمر تشريع والثاني قد يعصي ويخالف بخلاف الأول فقوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} لا يناقض قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} ولا حاجة إلى تكلف تقدير أمرنا مترفيها فيها بالطاعة فعصونا وفسقوا فيها بل الأمر ههنا أمر تكوين وتقدير لا أمر تشريع لوجوه أحدها: أن المستعمل في مثل هذا التركيب أن يكون ما بعد الفاء هو المأمور به كما تقول أمرته فقام وأمرته فأكل كما لو صرح بلفظة أفعل كقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا} وهذا كما تقول دعوته فأقبل وقال تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} الثاني: أن الأمر بالطاعة لا يخص المترفين فلا يصح حمل الآية عليه بل تسقط فائدة ذكر المترفين فإن جميع المبعوث إليهم مأمورون بالطاعة فلا يصح أن يكون أمر المترفين علة إهلاك جميعهم الثالث: أن هذا النسق العجيب والتركيب البديع مقتض ترتب ما يعد الفاء على ما قبلها ترتب المسبب على سببه والمعلول على علته ألا ترى أن الفسق علة حق القول عليهم وحق القول عليهم علة لتدميرهم فهكذا الأمر سبب لفسقهم ومقتض له وذلك هو أمر التكوين لا التشريع الرابع: أن إرادته سبحانه لإهلاكهم إنما كانت بعد معصيتهم ومخالفتهم لرسله فمعصيتهم ومخالفتهم قد تقدمت فأراد الله إهلاكهم فعاقبهم بأن قدر عليهم الأعمال التي يتحتم معها هلاكهم فإن قيل فمعصيتهم السابقة سبب لهلاكهم فما الفائدة في قوله: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} وقد تقدم الفسق منهم قبل المعصية السابقة وإن كانت سببها للهلاك لكن يجوز تخلف الهلاك عنها ولا يتحتم كما هو عادة الرب تعالى المعلومة في خلقه أنه لا يتحتم هلاكهم بمعاصيهم فإذا أراد إهلاكهم ولا بد أحدث سببا آخر يتحتم معه الهلاك ألا ترى أن ثمود ألم يهلكهم بكفرهم السابق حتى أخرج لهم الناقة فعقروها فأهلكوا حينئذ وقوم فرعون لم يهلكهم بكفرهم السابق بموسى حتى أراهم الآيات المتتابعات واستحكم بغيهم وعنادهم فحينئذ أهلكوا وكذلك قوم لوط لما أراد هلاكهم أرسل الملائكة إلى لوط في صورة الأضياف فقصدوهم بالفاحشة ونالوا من لوط وتواعدوه وكذلك سائر الأمم إذا أراد الله هلاكهم أحدث لها بغيا وعدوانا يأخذها على أثره وهذه عادته مع عباده عموما وخصوصا فيعصيه العبد وهو يحلم عنه ولا يعاجله حتى إذا أراد أخذه قيض له عملا يأخذه به مضافا إلى أعماله الأولى فيظن الظان أنه أخذه بذلك العمل وحده وليس كذلك بل حق عليه القول بذلك وكان قبل ذلك لم يحق عليهم القول بأعماله الأولى حيث عمل ما يقتضي ثبوت الحق عليه ولكن لم يحكم به أحكم الحاكمين ولم يمض الحكم فإذا عمل بعد ذلك ما يقرر غضب الرب عليه أمضى حكمه عليه وأنفذه قال تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} وقد كانوا قبل ذلك أغضبوه بمعصية رسوله ولكن لم يكن غضبه سبحانه قد استقر واستحكم عليهم إذ كان بصدد أن يزول بإيمانهم فلما أيس من إيمانهم تقرر الغضب واستحكم فحلت العقوبة فهذا الموضع من أسرار القرآن وأسرار التقدير الإلهي وفكر العبد فيه من أنفع الأمور له فإنه لا يدري أي المعاصي هي الموجبة التي يتحتم عندها عقوبته فلا يقال بعدها والله المستعان وسنعقد لهذا الفصل بابا في الفرق بين القضاء الكوني والديني نشبع الكلام فيه إن شاء الله لشدة الحاجة إليه إذ المقصود في هذا الباب مشيئة الرب وأنها الموجبة لكل موجود كما أن عدم مشيئته موجب لعدم وجود الشيء فهما الموجبتان ما شاء الله وجب وجوده وما لم يشأ وجب عدمه وامتناعه وهذا أمر يعم كل مقدور من الأعيان والأفعال والحركات والسكنات فسبحانه أن يكون في مملكته ما لا يشاء أو أن يشاء شيئا فلا يكون وإن كان فيها ما لا يحبه ولا يرضاه وإن كان يحب الشيء فلا يكون لعدم مشيئته له ولو شاءه لوجد.
● [ الباب الثالث عشر ] ●
● الباب الثالث عشر: في ذكر المرتبة الرابعة من مراتب القضاء والقدر وهي مرتبة خلق الله سبحانه الأعمال وتكوينه وإيجاده لها وهذا أمر متفق عليه بين الرسل صلى الله تعالى عليهم وسلم وعليه اتفقت الكتب الإلهية والفطر والعقول والاعتبار وخالف في ذلك مجوس الأمة فأخرجت طاعات ملائكته وأنبيائه ورسله وعباده المؤمنين وهي أشرف ما في العالم عن ربوبيته وتكوينه ومشيئته بل جعلوهم هم الخالقون لها ولا تعلق لها بمشيئته ولا تدخل تحت قدرته وكذلك قالوا في جميع أفعال الحيوانات الاختيارية فعندهم أنه سبحانه لا يقدر أن يهدي ضالا ولا يضل مهتديا ولا يقدر أن يجعل المسلم مسلما والكافر كافرا والمصلي مصليا وإنما ذلك بجعلهم أنفسهم كذلك لا يجعله تعالى وقد نادى القرآن بل الكتب السماوية كلها والسنة وأدلة التوحيد والعقول على بطلان قولهم وصاح بهم أهل العلم والإيمان من أقطار الأرض وصنف حزب الإسلام وعصابة الرسول وعسكره التصانيف في الرد عليهم وهي أكثر من أن يحصيها إلا الله ولم تزل أيدي السلف وأئمة السنة في أقفيتهم ونواصيهم تحت أرجلهم إذ كانوا يردون باطلهم بالحق المحض وبدعتهم بالسنة والسنة لا يقوم لها شيء فكانوا معهم كالذمة مع المسلمين إلى أن نبغت نابغة ردوا بدعتهم ببدعة تقابلها وقابلوا باطلهم بباطل من جنسه وقالوا العبد مجبور على أفعاله مقهور عليها لا تأثير له في وجودها البتة وهي واقعة بإرادته واختياره وغلا غلاتهم فقالوا بل هي عين أفعال الله ولا ينسب إلى العبد الأعلى المجاز والله سبحانه يلوم العبد ويعاقبه ويخلده في النار على ما لم يكن للعبد فيه صنع ولا هو فعله بل هو محض فعل الله وهذا قول الجبرية وهو إن لم يكن شرا من القدرية فليس هو بدونه في البطلان وإجماع الرسل واتفاق الكتب الإلهية وأدلة العقول والفطر والعيان يكذب هذا القول ويرده والطائفتان في عمي عن الحق القويم والصراط المستقيم ولما رأى القاضي وغيره بطلان هذا القول وتناقضه للشرائع والعدل والجبلة قالوا قدرة العبد وإن لم تؤثر في وجود الفعل فهي مؤثرة في صفة من صفاته وتلك الصفة تسمى كسبا وهي متعلق الأمر والنهي والثواب والعقاب فإن الحركة التي هي من طاعته والحركة التي هي من معصيته قد اشتركا في نفس الحركة وامتازت إحداهما عن الأخرى بالطاعة والمعصية فذات الحركة ووجودها واقع بقدرة الله وإيجاده وكونها طاعة ومعصية واقع بقدرة العبد وتأثيره وهذا وإن كان أقرب إلى الصواب فالقائل به لم يوفه حقه فإن كونها طاعة ومعصية هو موافقة الأمر ومخالفته فهذه الموافقة والمخالفة إما أن تكون فعلا للعبد يتعلق بقدرته واختياره وإن كان لم يكن للعبد اختيار ولا فعل ولا كسب البتة فلم يثبت هؤلاء من الكسب أمرا معقولا ولهذا يقال محالات الكلام ثلاثة كسب الأشعري وأحوال أبي هاشم وطفرة النظام ولما رأى طائفة فساد هذا قالوا المؤثر في وجود الفعل هو قدرة الرب على سبيل الاستقلال قالوا ولا يمتنع اجتماع المؤثرين على أثر واحد ولم يستوحش هؤلاء من القول بوقوع مفعول بين فاعلين ولا مقدور بين قادرين قالوا كما يمتنع وقوع معلوم بين عالمين ومراد بين مريدين ومحبوب بين محبوبين ومكروه بين مكروهين قالوا ونحن نشاهد قادرين مستقلين كل منهما يمكنه أن يستقل بالفعل يقع بينهما مفعول واحد يشتركان في فعله والتأثير فيه قالوا وليس معكم ما يبطل هذا إلا قولكم أن إضافته إلى أحدهما على سبيل الاستقلال يمنع إضافته إلى الآخر وإضافته إليهما وفي هذه الحجة إجمال لا بد له من تفصيل فيجوز وقوع مفعول بين فاعلين لا يستقل أحدهما به كالمتعاونين على الأمر لا يقدر عليه أحدهما وحده ويجوز وقوع مفعول بين فاعلين يشتركان فيه كل منهما يستقل به على سبيل البدل وهذا ظاهر أيضا ويجوز وقوع مفعول بين فاعلين يشتركان فيه وكل منهما يقدر عليه حال الانفراد كمحمول يحمله اثنان كل منهما يمكنه أن يستقل بحمله وحده وكل هذه الأقسام ممكنة بل واقعة بقي قسم واحد وهو مفعول بين فاعلين كل منهما فعله على سبيل الاستقلال فهذا محال فإن استقلال كل منهما بفعله ينفي فعل الآخر له فاستقلالهما ينافي استقلالهما وأكثر الطوائف يقر بوقوع مقدور بين قادرين وإن اختلفوا في كيفية وقوعه، فقالت طائفة الفعل يضاف إلى قدرة الله سبحانه على وجه الاستقلال بالتأثير ويضاف إلى قدرة العبد لكنها غير مستقلة فإذا انضمت قدرة الله إلى قدرة العبد صارت قدرة العبد مؤثرة على سبيل الاستقلال بتوسط إعانة قدرة الله وجعل قدرة العبد مؤثرة والقائل بهذا لم يتخلص من الخطأ حيث زعم أن قدرة العبد مستقلة بإعانة قدرة الله له فعاد الأمر إلى اجتماع مؤثرين على أثر واحد لكن قدرة أحدهما وتأثيره مستند إلى قدرة الآخر وتأثيره وكأنه والله أعلم أراد أن قدرة الرب مستقلة بالتأثير في إيجاد الفعل وهذا قد قاله طائفة من العلماء وقائل هذا لم يتخلص من الخطأ حيث جعل قدرة العبد مستقلة بالتأثير في إيجاد المقدور وهذا باطل إذ غاية قدرة العبد أن تكون سببا بل جزأ من السبب والسبب لا يستقل بحصول المسبب ولا يوجبه وليس في الوجود ما يوجب حصول المقدور إلا مشيئة الله وحده وأصحاب هذا القول زعموا أن الله أعطى العبد قدرة وإرادة وفوض إليه بهما الفعل والترك وخلاه وما يريد فهو يفعل ويترك بقدرته وإرادته اللتين فوض إليه الفعل والترك بهما وقالت طائفة أخرى مقدور العبد هو عين مقدور الرب بشرط أن يفعله العبد إذا تركه الرب ولم يفعله لا على أنه يفعله والرب له فاعل لاستحالة خلق بين خالقين وهذا بعينه مذهب من يقول بوقوع مفعول بين فاعلين على سبيل وهذا مذهب كثير من القدرية منهم الشحام وغيره وقالت طائفة يجوز وقوع فعل بين فاعلين بنسبتين مختلفتين بأحدهما يكون محدثا وبالأخرى يكون كاسبا وهذا مذهب النجار وضرار بن عمرو ومحمد بن عيسى بن حفص والفرق بين هذا المذهب ومذهب الأشعريين من وجهين أحدهما: أن صاحب هذا المذهب يقول العبد فاعل حقيقة وإن لم يكن محدثا مخترعا للفعل والأشعري يقول العبد ليس بفاعل وإن نسب إليه الفعل وإنما الفاعل في الحقيقة هو الله فلا فاعل سواه الثاني: أنهم يقولون الرب هو المحدث والعبد هو الفاعل وقالت فرقة: بل أفعال العباد فعل لله على الحقيقة وفعل العبد على المجاز وهذا أحد قولي الأشعري وقالت فرقة أخرى منهم القلانسي وأبو إسحاق: في بعض كتبه أنها فعل لله على الحقيقة وفعل الإنسان على الحقيقة لا على معنى أنه أحدثها بل على معنى أنه كسب له وقالت طائفة أخرى وهم جهم وأتباعه: أن القادر على الحقيقة هو الله وحده وهو الفاعل حقا ومن سواه ليس بفاعل على الحقيقة ولا كاسب أصلا بل هو مضطر إلى جميع ما فيه من حركة وسكون وقول القائل قام وقعد وأكل وشرب مجاز بمنزلة مات وكبر ووقع وطلعت الشمس وغربت وهذا قول الجبرية الغلاة وقابله طائفة أخرى فقالوا: العباد موجدون لأفعالهم مخترعون لها بقدرهم وإرادتهم والرب لا يوصف بالقدرة على مقدور العبد ولا تدخل أفعالهم تحت قدرته كما لا يوصف العباد بمقدور الرب ولا تدخل أفعاله تحت قدرهم وهذا قول جمهور القدرية وكلهم متفقون على أن الله سبحانه غير فاعل لأفعال العباد واختلفوا هل يوصف بأنه مخترعها ومحدثها وأنه قادر عليها وخالق لها فجمهورهم نفوا ذلك ومن يقرب منهم إلى السنة أثبت كونها مقدورة لله وأن الله سبحانه قادر على أعيانها وأن العباد أحدثوها بإقدار الله لهم على إحداثها وليس معنى قدرة الله عليها عندهم أنه قادر على فعلها هذا عندهم عين المحال بل قدرته عليها إقدارهم على إحداثها فإنما أحدثوها بقدرته وإقداره وتمكينه وهؤلاء أقرب القدرية إلى السنة وأرباب هذه المذاهب مع كل طائفة منهم خطأ وصواب وبعضهم أقرب إلى الصواب وبعضهم أقرب إلى الخطأ وأدلة كل منهم وحججه إنما تنهض على بطلان خطأ الطائفة الأخرى لا على إبطال ما أصابوا فيه فكل دليل صحيح للجبرية إنما يدل على إثبات قدرة الرب تعالى ومشيئته وأنه لا خالق غيره وأنه على كل شيء قدير لا يستثنى من هذا العموم فرد واحد من أفراد الممكنات وهذا حق ولكن ليس معهم دليل صحيح ينفي أن يكون العبد قادرا مريدا فاعلا بمشيئته وقدرته وأنه هو الفاعل حقيقة وأفعاله قائمة به وأنها فعل له لا لله وأنها قائمة به لا بالله وكل دليل صحيح يقيمه القدرية فإنما يدل على أن أفعال العباد فعل لهم قائم بهم واقع بقدرتهم ومشيئتهم وإرادتهم وأنهم مختارون لها غير مضطرين ولا مجبورين ليس معهم دليل صحيح ينفي أن يكون الله سبحانه قادرا على أفعالهم وهو الذي جعلهم فاعلين فأدلة الجبرية متظافرة صحيحة على من نفى قدرة الرب سبحانه على كل شيء من الأعيان والأفعال ونفى عموم مشيئته وخلقه لكل موجود وأثبت في الوجود شيئا بدون مشيئته وخلقه وأدلة القدرية متظافرة صحيحة على من نفى فعل العبد وقدرته ومشيئته واختياره وقال أنه ليس بفاعل شيئا والله يعاقبه على ما لم يفعله ولا له قدرة عليه بل هو مضطر إليه مجبور عليه وأهل السنة وحزب الرسول وعسكر الإيمان لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء بل هم مع هؤلاء فيما أصابوا فيه وهم مع هؤلاء فيما أصابوا فيه فكل حق مع طائفة من الطوائف فهم يوافقونهم فيه وهم براء من باطلهم فمذهبهم جمع حق الطوائف بعضه إلى بعض والقول به ونصره وموالاة أهله من ذلك الوجه ونفي باطل كل طائفة من الطوائف وكسره ومعاداة أهله من هذا الوجه فهم حكام بين الطوائف لا يتحيزون إلى فئة منهم على الإطلاق ولا يردون حق طائفة من الطوائف ولا يقابلون بدعة ببدعة ولا يردون باطلا بباطل ولا يحملهم شنآن قوم يعادونهم ويكفرونهم على أن لا يعدلوا فيهم بل يقولون فيهم الحق ويحكمون في مقالالتهم بالعدل والله سبحانه وتعالى أمر رسوله أن يعدل بين الطوائف فقال:: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِِلَ بَيْنَكُمُ} فأمره سبحانه أن يدعو إلى دينه وكتابه وأن يستقيم في نفسه كما أمره وأن لا يتبع هوى أحد من الفرق وأن يؤمن بالحق جميعه ولا يؤمن ببعضه دون بعض وأن يعدل بين أرباب المقالات والديانات وأنت إذا تأملت هذه الآية وجدت أهل الكلام الباطل وأهل الأهواء والبدع من جميع الطوائف أبخس الناس منها حظا وأقلهم نصيبا ووجدت حزب الله ورسوله وأنصار سنته هم أحق بها وأهلها وهم في هذه المسألة وغيرها من المسائل أسعد بالحق من جميع الطوائف فإنهم يثبتون قدرة الله على جميع الموجودات من الأعيان والأفعال ومشيئته العامة وينزهونه ان يكون في ملكه ما لا يقدر عليه ولا هو واقع تحت مشيئته ويثبتون القدر السابق وأن العباد يعملون على ما قدره الله وقضاه وفرغ منه وأنه لا يشاؤن إلا أن يشاء الله ولا يفعلون إلا من بعد مشيئته وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولا تخصيص عندهم في هاتين القضيتين بوجه من الوجوه والقدر عندهم قدرة الله تعالى وعلمه ومشيئته وخلقه فلا يتحرك ذرة فما فوقها إلا بمشيئته وعلمه وقدرته فهم المؤمنون بلا حول ولا قوة إلا بالله على الحقيقة إذا قالها غيرهم على المجاز إذ العالم علويه وسفليه وكل حي يفعل فعلا فإن فعله بقوة فيه على الفعل وهو في حول من ترك إلى فعل ومن فعل إلى ترك ومن فعل إلى فعل وذلك كله بالله تعالى لا بالعبد ويؤمنون بأن من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأنه هو الذي يجعل المسلم مسلما والكافر كافرا والمصلي مصليا والمتحرك متحركا وهو الذي يسير عبده في البر والبحر وهو المسير والعبد السائر وهو المحرك والعبد المتحرك وهو المقيم والعبد القائم وهو الهادي والعبد المهتدي وأنه المطعم والعبد الطاعم وهو المحي المميت والعبد الذي يحيى ويموت ويثبتون مع ذلك قدرة العبد وإرادته واختياره وفعله حقيقة لا مجازا وهم متفقون على أن الفعل غير المفعول كما حكاه عنهم البغوي وغيره فحركاتهم واعتقاداتهم أفعال لهم حقيقة وهي مفعولة لله سبحانه مخلوقة له حقيقة والذي قام بالرب عز وجل علمه وقدرته ومشيئته وتكوينه والذي قام بهم هو فعلهم وكسبهم وحركاتهم وسكناتهم فهم المسلمون المصلون القائمون القاعدون حقيقة وهو سبحانه هو المقدر لهم على ذلك القادر عليه الذي شاءه منهم وخلقه لهم ومشيئته وفعله بعد مشيئته فما يشاؤن إلا أن يشاء الله وما يفعلون إلا أن يشاء الله وإذا وازنت بين هذا المذهب وبين ما عداه من المذاهب وجدته هو المذهب الوسط والصراط المستقيم ووجدت سائر المذاهب خطوطا عن يمينه وعن شماله فقريب منه وبعيد وبين ذلك وإذا أعطيت الفاتحة حقها وجدتها من أولها إلى آخرها منادية على ذلك دالة عليه صريحة فيه وإن كان حمده لا يقتضي غير ذلك وكذلك كمال ربوبيته للعالمين لا يقتضي غير ذلك فكيف يكون الحمد كله لمن لا يقدر على مقدور أهل سماواته وأرضه من الملائكة والجن والإنس والطير والوحش بل يفعلون ما لا يقدر عليه ولا يشاءه ويشاء ما لا يفعله كثير منهم فيشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء وهل يقتضي ذلك كمال حمده وهل يقتضيه كمال ربوبيته ثم قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مبطل لقول الطائفتين المنحرفتين عن قصد السبيل فإنه يتضمن إثبات فعل العبد وقيام العبادة به حقيقة فهو العابد على الحقيقة وإن ذلك لا يحصل له إلا بإعانة رب العالمين عز وجل له فإن لم يعنه ولم يقدره ولم يشأ له العبادة لم يتمكن منها ولم يوجد منه البتة فالفعل والإقدار والإعانة من الرب عز وجل ثم قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} يتضمن طلب الهداية ممن هو قادر عليها وهي بيده إن شاء أعطاها عبده وإن شاء منعه إياها والهداية معرفة الحق والعمل به فمن لم يجعله الله تعالى عالما بالحق عاملا به لم يكن له سبيل إلى الاهتداء فهو سبحانه المتفرد بالهداية الموجبة للاهتداء التي لا يتخلف عنها وهي جعل العبد مريدا للهدى محبا له مؤثرا له عاملا به فهذه الهداية ليست إلى ملك مقرب ولا نبي مرسل وهي التي قال سبحانه فيها: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} مع قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فهذه هداية الدعوة والتعليم والإرشاد وهي التي هدي بها ثمود فاستحبوا العمى عليها وهي التي قال تعالى فيها: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُون} فهداهم هدى البيان الذي تقوم به حجته عليهم ومنعهم الهداية الموجبة للاهتداء التي لا يضل من هداه بها فذاك عدله فيهم وهذا حكمته فأعطاهم ما تقوم به الحجة عليهم ومنعهم ما ليسوا له بأهل ولا يليق بهم وسنذكر في الباب الذي بعد هذا إن شاء الله تعالى ذكر الهدى والضلال ومراتبهما وأقسامهما فإنه عليه مدار مسائل القدر والمقصود ذكر بعض ما يدل على إثبات هذه المرتبة الرابعة من مراتب القضاء والقدر وهي خلق الله تعالى لأفعال المكلفين ودخولها تحت قدرته ومشيئته كما دخلت تحت علمه وكتابه قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} وهذا عام محفوظ لا يخرج عنه شيء من العالم أعيانه وأفعاله وحركاته وسكناته وليس مخصوصا بذاته وصفاته فإنه الخالق بذاته وصفاته وما سواه مخلوق له واللفظ قد فرق بين الخالق والمخلوق وصفاته سبحانه داخله في مسمى اسمه فإن الله سبحانه اسم للإله الموصوف بكل صفة كمال المنزه عن كل صفة نقص ومثال والعالم قسمان أعيان وأفعال وهو الخالق لأعيانه وما يصدر عنها من الأفعال كما أنه العالم بتفاصيل ذلك فلا يخرج شيء منه عن علمه ولا عن قدرته ولا عن خلقه ومشيئته قالت القدرية: نحن نقول إن الله خالق أفعال العباد لا على أنه محدثها ومخترعها لكن على معنى أنه مقدرها فإن الخلق التقدير كما قال تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} وقال الشاعر: ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفرى أي لأنت تمضي ما قدرته وتنفذه بعزمك وقدرتك وبعض القوم يقدر ثم لا قوة له ولا عزيمة على إنفاذ ما قدره وإمضائه فالله تعالى مقدر أفعال العباد وهم الذين أوجدوها وأحدثوها، قال أهل السنة: قدماؤكم ينكرون تقدير الله سبحانه لأعمال العباد البتة فلا يمكنهم أن يجيبوا بذلك ومن اعترف منكم بالتقدير فهو تقدير لا يرجع إلى تأثير وإنما هو مجرد العلم بها والخبر عنها ليس التقدير عندكم جعلها على قدر كذا وكذا فإن هذا عندكم غير مقدور للرب ولا مصنوع له وإنما هو صنع العبد وإحداثه فرجع التقدير إلى مجرد العلم والخبر وهذا لا يسمى خلقا في لغة أمة من الأمم ولو كان هذا خلقا لكان من علم شيئا وعلم أسمائه وصفاته وأخبر عنه بذلك خالقا له فالتقدير الذي أثبتموه إن كان متضمنا للتأثير في إيجاد الفعل فهو خلاف مذهبكم وإن لم يتضمن تأثيرا في إيجاده فهو راجع إلى محض العلم والخبر، قالت القدرية قوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} من العام المراد به الخاص ولا سيما فإنكم قلتم إن القرآن لم يدخل في هذا العموم وهو من أعظم الأشياء وأجلها فخصصنا مه أفعال العباد بالأدلة الدالة على كونها فعلهم ومنعهم، قالت أهل السنة: القرآن كلام الله سبحانه وكلامه صفة من صفاته وصفات الخالق وذاته لم تدخل في المخلوق فإن الخالق غير المخلوق فليس ههنا تخصيصا البتة بل الله سبحانه بذاته وصفاته الخالق وكل ما عداه مخلوق وذلك عموم لا تخصيص فيه بوجه إذ ليس إلا الخالق والمخلوق والله وحده الخالق وما سواه كله مخلوق
كتاب : شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل تأليف : محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية منتدى ميراث الرسول - البوابة