بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم مكتبة الثقافة الإسلامية شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل ● [ الباب العشرون ] ●
● الباب العشرون: في ذكر مناظرة بين قدري سني قال القدري: قد أضاف الله الأعمال إلى العباد بأنواع الإضافة العامة والخاصة فأضافها إليهم بالاستطاعة تارة كقوله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} وبالمشيئة تارة كقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} وبالإرادة تارة كقول الخضر فأردت أن أعيبها وبالفعل والكسب والصنع كقوله: {يَفْعَلُونَ}: {يَعْمَلُونَ}: {بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} وأما بالإضافة الخاصة فكإضافة الصلاة والصيام والحج والطهارة والزنا والسرقة والقتل والكذب والكفر والفسوق وسائر أفعالهم إليهم وهذه الإضافة تمتنع إضافتها إليه كما أن إضافة أفعاله تعالى تمتنع إضافتها إليهم فلا تجوز إضافة أفعالهم إليه سبحانه دونهم ولا إليه معهم فهي إذا مضافة إليهم دونه قال السني: هذا الكلام مشتمل على حق وباطل أما قولك أنه أضاف الأفعال إليهم فحق لا ريب فيه وهذا حجة لك على خصومك من الجبرية وهم يجيبونك بأن هذا الإسناد لا حقيقة له وإنما هو نسبة مجازية صححها قيام الأفعال بهم كما يقال جرى الماء وبرد وسخن ومات زيد ونحن نساعدك على بطلان هذا الجواب ومنافاته للعقول والشرائع والفطر ولكن قولك هذه الإضافة تمنع إضافتها إليه سبحانه كلام فيه إجمال وتلبيس فإن أردت بمنع الإضافة إليه منع قيامها به ووصفه بها وجريان أحكامها عليه واشتقاق الأسماء منه له فنعم هي غير مضافة إليه بشيء من هذه الاعتبارات والوجوه وإن أردت بعدم إضافتها إليه عدم إضافتها إلى علمه بها وقدرته عليها ومشيئته العامة وخلقه فهذا باطل فإنها معلومة له سبحانه مقدورة له مخلوقة وإضافتها إليهم لا تمنع هذه الإضافة كالأموال فإنها مخلوقة له سبحانه وهي ملكه حقيقة قد أضافها إليهم فالأعمال والأموال خلقه وملكه وهو سبحانه يضيفها إلى عبيده وهو الذي جعلهم مالكيها وعامليها فصحت النسبتان وحصول الأموال بكسبهم وإرادتهم كحصول الأعمال وهو الذي خلق الأموال وكاسبيها والأعمال وعامليها فأموالهم وأعمالهم ملكه وبيده كما أن أسماعهم وأبصارهم وأنفسهم ملكه وبيده فهو الذي جعلهم يسمعون ويبصرون ويعملون فأعطاهم حاسة السمع والبصر وقوة السمع والبصر وفعل الإسماع والإبصار وأعطاهم آلة العمل وقوة العمل ونفس العمل فنسبة قوة العمل إلى اليد والكلام إلى اللسان كنسبة قوة السمع إلى الأذن والبصر إلى العين ونسبة الرؤية والاستماع اختيارا إلى محلهما كنسبة الكلام والبطش إلى محلهما وإن كانوا هم الذين خلقوا لأنفسهم الرؤية والسمع فهل خلقوا محلهما وقوى المحل والأسباب الكثيرة التي تصلح معها الرؤية والسمع أم الكل خلق من هو خالق كل شيء وهو الواحد القهار قال القدري: لو كان الله سبحانه هو الفاعل لأفعالهم لاشتقت له منها الأسماء وكان أولى بأسمائها منهم إذ لا يعقل الناس على اختلاف لغاتهم وعاداتهم ودياناتهم قائما إلا من فعل القيام وآكلا إلا من فعل الأكل وسارقا إلا من فعل السرقة وهكذا جميع الأفعال لازمها ومتعديها فقلبتم أنتم الأمر وقلبتم الحقائق فقلتم من فعل هذه الأفعال حقيقة لا يشتق له منها اسم وإنما يشتق منها الأسماء لمن لم يفعلها ولم يحدثها وهذا خلاف العقول واللغات وما تتعارفه الأمم قال السني: هذا إنما يلزم إخوانك وخصومك الجبرية القائلين بأن العبد لم يفعل شيئا البتة وأما من قال العبد فاعل لفعله حقيقة والله خالقه وخالق آلات فعله الظاهرة والباطنة فإنه إنما يشتق الأسماء لمن فعل تلك الأفعال فهو القائم والقاعد والمصلي والسارق والزاني حقيقة فإن الفعل إذا قام بالفاعل عاد حكمه إليه ولم يعد إلى غيره واشتق له منه اسم ولم يشتق لمن لم يقم به فههنا أربعة أمور أمران معنويان في النفي والإثبات وأمران لفظيان فيهما فلما قام الأكل والشرب والزنا والسرقة بالعبد عادت أحكام هذه الأفعال إليه واشتقت له منها الأسماء وامتنع عود أحكامها إلى الرب واشتقاق أسمائها له ولكن من أين يمنع هذا أن تكون معلومة للرب سبحانه مقدورة له مكونة له واقعة من العباد بقدرة ربهم وتكوينه قال القدري: لو كان خالقا لها لزمته هذه الأمور قال السني: هذا باطل ودعوى كاذبة فإنه سبحانه لا يشتق له اسم مما خلقه في غيره ولا يعود حكمه عليه وإنما يشتق الاسم لمن قام به ذلك فإنه سبحانه خلق الألوان والطعوم والروائح والحركات في محالها ولم يشتق له منها اسم ولا عادات أحكامها إليه ومعنى عود الحكم إلى المحل الإخبار عنه بأنه يقوم ويقعد ويأكل ويشرب قال السني: ومن ههنا علم ضلال المعتزلة الذين يقولون أن القرآن مخلوقا خلقه الله في محل ثم اشتق له اسم المتكلم باعتبار خلقه له وعاد حكمه إليه فأخبر عنه أنه تكلم به ومعلوم أن الله سبحانه خالق صفات الأجسام وأعراضها وقواها فكيف جاز أن يشتق له اسم مما خلقه من الكلام في غيره ولم يشتق له اسم مما خلقه من الصفات والأعراض في غيره فأنت أيها القدري نقضت أصولك بعضها ببعض وأفسدت قولك في مسألة الكلام بقولك في مسألة القدر وقولك في القدر بقولك في الكلام فجعلته متكلما بكلام قائم بغيره وأبطلت أن يكون فاعل الفعل قائما بغيره فإن كنت أصبت في مسألة الكلام فقد نقضت أصلك في القدر وإن أصبت في هذا الأصل لزم خطأك في مسألة الكلام فأنت مخطئ على التقديرين قال القدري فما تقول أنت في هذا المقام قال السني: لا تناقض في هذا ولا في هذا بل أصفه سبحانه بما قام به وامتنع من وصفه بما لم يقم قال القدري فالآن حمى الوطيس فأنت والمسلمون وسائر الخلق تسمونه تعالى خالقا ورازقا ومميتا والخلق والرزق والموت قائم بالمخلوق والمرزوق والميت إذ لو قام ذلك بالرب سبحانه فالخلق إما قديم وإما حادث فإن كان قديما لزم قدم المخلوق لأنه نسبة بين الخالق والمخلوق ويلزم من كونها قديمة قدم المصحح لها وإن كان حادثا لزم قيام الحوادث به وافتقر ذلك الخلق إلى خلق آخر فلزم التسلسل فثبت أن الخلق غير قائم به سبحانه وقد اشتق له منه اسم قال السني: أي لازم من هذه اللوازم التزمه المرء كان خيرا من أن ينفي صفة الخالقية عن الرب سبحانه فإن حقيقة هذا القول أنه غير خالق فإن إثبات خالق بلا خلق إثبات اسم لا معنى له وهو كإثبات سميع لا سمع له وبصير لا بصر له ومتكلم وقادر لا كلام له ولا قدرة فتعطيل الرب سبحانه عن فعله القائم به كتعطيله عن صفاته القائمة به والتعطيل أنواع تعطيل المصنوع عن الصانع وهو تعطيل الدهرية والزنادقة وتعطيل الصانع عن صفات كماله ونعوت جلاله وهو تعطيل الجهمية نفاة الصفات وتعطيله عن أفعاله وهو أيضا تعطيل الجهمية وهم أبنائه ودب فيمن عداهم من الطوائف فقالوا لا يقوم بذاته فعل لأن الفعل حادث وليس محلا للحوادث كما قال إخوانهم لا تقوم بذاته صفة لأن الصفة عرض وليس محلا للأعراض فلو التزم الملتزم أي قول التزمه كان خيرا من تعطيل صفات الرب وأفعاله فالمشبهة ضلالهم وبدعتهم خير من المعطلة ومعطلة الصفات خير من معطلة الذات وإن كان التعطيلان متلازمين لاستحالة وجود ذات قائمة بنفسها لا توصف بصفة فوجود هذه محال في الذهن وفي الخارج ومعطلة الأفعال خير من معطلة الصفات فإن هؤلاء نفوا صفة الفعل وإخوانهم نفوا صفات الذات وأهل السمع والعقل وحزب الرسول والفرقة الناجية برآء من تعطيل هؤلاء كلهم فإنهم أثبتوا الذات والصفات والأفعال وحقائق الأسماء الحسنى إذ جعلها المعطلة مجازا لا حقيقة له فشر هذه الفرق لخيرها الفداء والمقصود أنه أي قول لزمه الملتزم كان خيرا من نفي الخلق وتعطيل هذه الصفة عن الله وإذا عرض على العقل السليم مفعول لا فاعل له ومفعول لا فاعل لفعله لم يجد بين الأمرين فرقا في الإحالة فمفعول بلا فعل كمفعول بلا فاعل لا فرق بينهما البتة فليعرض العاقل على نفسه القول بتسلسل الحوادث والقول بقيام الأفعال بذات الرب سبحانه والقول بوجود مخلوق حادث عن خلق قديم قائم بذات الرب سبحانه والقول بوجود مفعول بلا فعل ولينظر أي هذه الأقوال أبعد عن العقل والسمع وأيها أقرب إليهما ونحن نذكر أجوبة الطوائف عن هذا السؤال فقالت طائفة يختار من هذا التقسيم والترديد كون الخلق والتكوين قديما قائما بذات الرب سبحانه ولا يلزمنا قدم المخلوق المكون كما نقول نحن وأنتم أن الإرادة قديمة ولا يلزم من قدمها قدم المراد وكل ما أجبتم به في صورة الإلزام فهو جوابنا بعينه في مسألة المكون وهذا جواب سديد وهو جواب جمهور الحنفية والصوفية وأتباع الأئمة فإن قلتم إنما لا يلزم من قدم الإرادة قدم المراد لأنها تتعلق بوجود المراد في وقته فهو يريد كون الشيء في ذلك الوقت وأما تكوينه وخلقه قبل وجوده فمحال قيل لكم لسنا نقول أنه كونه قبل وقت كونه بل التكوين القديم اقتضى كونه في وقته كما اقتضت الإرادة القديمة كونه في وقته فإن قلتم كيف يعقل تكوين ولا مكون قيل كما عقلتم إرادة ولا مراد فإن قلتم المريد قد يريد الشيء قبل كونه ولا يكونه قبل كونه قيل كلامنا في الإرادة المستلزمة لوجوده في الإرادة التي لا تستلزم المراد وإرادة الرب سبحانه ومشيئته تستلزم وجود مراده وكذلك التكوين يوضحه أن التكوين هو اجتماع القدرة والإرادة وكلمة التكوين وذلك كله قديم ولم يلزم منه قدم المكون قالوا وإذا عرضنا هذا على العقول السليمة وعرضنا عليها مفعولا بلا فعل بادرت إلى قبول ذاك وإنكار هذا فهذا جواب هؤلاء وقالت الكرامية بل نختار من هذا الترديد كون التكوين حادثا وقولكم يلزم من ذلك قيام الحوادث بذات الرب سبحانه فالتكوين هو فعله وهو قائم به وكأنكم قلتم يلزم من قيام فعله به قيامه به وسميتم أفعاله حوادث وتوسلتم بهذه التسمية إلى تعطيلها كما سمى إخوانكم صفاته إعراضا وتوسلوا بهذه التسمية إلى نفيها عنه وكما سموا علوه على مخلوقاته واستواءه على عرشه تحيزا وتوسلوا بهذه إلى نفيه وكما سموا وجهه الأعلى ويديه جوارح وتوسلوا بذلك إلى نفيها قالوا ونحن لا ننكر أفعال خالق السماوات والأرض وما بينهما وكلامه وتكليمه ونزوله إلى السماء واستواءه على عرشه ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده وندائه لأنبيائه ورسله وملائكته وفعله ما شاء بتسميتكم لهذا كله حوادث ومن أنكر ذلك فقد أنكر كونه رب العالمين فإنه لا يتقرر في العقول والفطر كونه ربا للعالمين إلا بأن يثبت له الأفعال الاختيارية وذات لا تفعل ليست مستحقة للربوبية ولا للإلهية فالإجلال من هذا الإجلال واجب والتنزيه عن هذا التنزيه متعين فتنزيه الرب سبحانه عن قيام الأفعال به تنزيه له عن الربوبية وملكه قالوا ولنا على صحة هذه المسألة أكثر من ألف دليل من القرآن والسنة والعقول وقد اعترف أفضل متأخريكم بفساد شبهكم كلها على إنكار هذه وذكرها شبهة شبهة وأفسدها والتزم بها جميع الطوائف حتى الفلاسفة الذين هم أبعد الطوائف من إثبات الصفات والأفعال قالوا ولا يمكن إثبات حدوث العالم وكون الرب خالقا ومتكلما وسامعا ومبصرا ومجيبا للدعوات ومدبرا للمخلوقات وقادرا ومريدا إلا القول بأنه فعال وأن أفعاله قائمة به فإذا بطل أن يكون له فعل وأن تقوم بذاته الأمور المتجددة بطل هذا كله.
● فصل ●
وقد أجاب عن هذا عبد العزيز بن يحيى الكناني في حيدته فقال في سؤاله للمريسي: بأي شيء حدثت الأشياء فقال له أحدثها الله بقدرته التي لم تزل فقلت له أحدثها بقدرته كما ذكرت أو ليس تقول أنه لم يزل قادرا قال بلى قلت فتقول أنه لم يزل يفعل قال لا أقول هذا قلت فلا بد أن نلزمك أن تقول أنه خلق بالفعل الذي كان بالقدرة لأن القدرة صفة ثم قال عبد العزيز لم أقل لم يزل الخالق يخلق ولم يزل الفاعل يفعل وإنما الفعل صفة والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع فأثبت عبد العزيز فعلا مقدورا لله هو صفة ليس من المخلوقات وأنه به خلق المخلوقات وهذا صريح في أن مذهبه كمذهب السلف وأهل الحديث لأن الخلق غير المخلوق والفعل غير المفعول كما حكاه البغوي إجماعا لأهل السنة وقد صرح عبد العزيز أن فعله سبحانه القائم به وأنه خلق به المخلوقات كما صرح به البخاري في آخر صحيحه وفي كتاب خلق الأفعال قال في صحيحه باب ما جاء في تخليق السماوات والأرض وغيرها من الخلائق وفعل الرب وأمره فالرب سبحانه بصفاته وفعله وأمره وكلامه هو الخالق المكون غير مخلوق وما كان بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه فهو مفعول مخلوق مكون فصرح إمام السنة أن صفة التخليق هي فعل الرب وأمره وأنه خالق بفعله وكلامه وجميع جند الرسول وحزبه مع محمد بن إسماعيل في هذا والقرآن مملوء من الدلالة عليه كما دل عليه العقل والفطرة قال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} ثم أجاب نفسه بقوله: {بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ} فأخبر أنه قادر على نفس فعله وهو أن يخلق فنفس أن يخلق فعل له وهو قادر عليه ومن يقول لا فعل له وأن الفعل هو عين المفعول يقول لا يقدر على فعل يقوم به البتة بل لا يقدر إلا على المفعول المباين له الحادث بغير فعل منه سبحانه وهذا أبلغ في الإحالة من حدوثه بغير قدرة بل هو في الإحالة كحدوثه بغير فاعل فإن المفعول يدل على قدرة الفاعل باللزوم العقلي ويدل على فعله الذي وجد به بالتضمن فإذا سلبت دلالته التضمنية كان سلب دلالته اللزومية أسهل ودلالة المفعول على فاعله وفعله دلالة واحدة وهي أظهر بكثير من دلالته قدرته وإرادته في القرآن كثير كقوله: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ}وأن يبعث هو نفس فعله والعذاب هو مفعوله المباين له وكذلك قو4له: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} فإحياء الموتى نفس فعله وحياتهم مفعوله المباين له وكلاهما مقدور له وقال تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} فتسوية البنان فعله واستواؤها مفعوله ومنكرو الأفعال يقولون أن الرب سبحانه يقدر على المفعولات المباينة له ولا يقدر على فعل يقوم بنفسه لا لازم ولا متعد وأهل السنة يقولون الرب سبحانه يقدر على هذا وعلى هذا وهو سبحانه له الخلق والأمر فالجهمية أنكرت خلقه وأمره وقالوا خلقه نفس مخلوقه وأمره مخلوق من مخلوقاته فلا خلق ولا أمر ومن أثبت له الكلام القائم بذاته ونفى أن يكون له فعل فقد أثبت الأمر دون الخلق ولم يقل أحد بقيام أفعاله به ونفى صفة الكلام عنه فيثبت الأمر دون الخلق وأهل السنة يثبتون له تعالى ما أثبته لنفسه من الخلق والأمر فالخلق فعله والأمر قوله وهو سبحانه يقول ويفعل وأجابت طائفة أخرى من أهل السنة والحديث عن هذا بالتزام التسلسل وقالوا ليس في العقل ولا في الشرع ما ينفي دوام فاعلية الرب سبحانه وتعاقب أفعاله شيئا قبل شيء إلى غير غاية كما تتعاقب شيئا بعد شيء إلى غير غاية فلم تزل أفعالا قالوا والفعل صفة كمال ومن يفعل أكمل ممن لا يفعل قالوا ولا يقتضي صريح العقل إلا هذا ومن زعم أن الفعل كان ممتنعا عليه سبحانه في مدد غير مقدرة لا نهاية لها ولا يقدر أن يفعل ثم انقلب الفعل من الاستحالة الذاتية إلى الإمكان الذاتي من غير حدوث سبب ولا تغير في الفاعل فقد نادى على عقله بين الأنام قالوا وإذا كان هذا في العقول جاز أن ينقلب العالم من العدم إلى الوجود من غير فاعل وإن امتنع هذا في بداية العقول فكذلك نجد إمكان الفعل وانقلابه من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي بلا سبب وأما أن يكون هذا ممكنا وذاك ممتنعا فليس في العقول ما يقضي بذلك قالوا والتسلسل لفظ مجمل لم يرد بنفيه ولا إثباته كتاب ناطق ولا سنة متبعة فيجب مراعاة لفظه وهو ينقسم إلى واجب وممتنع وممكن كالتسلسل في المؤثر محال ممتنع لذاته وهو أن يكون مؤثرين كل واحد منهم استفاد تأثيره ممن قبله لا إلى غاية والتسلسل الواجب ما دل عليه العقل والشرع من دوام أفعال الرب تعالى في الأبد وأنه كلما انقضى لأهل الجنة نعيم أحدث لهم نعيما آخر لا نفاد له وكذلك التسلسل في أفعاله سبحانه من طرق الأزل وأن كل فعل مسبوق بفعل آخر فهذا واجب في كلامه فإنه لم يزل متكلما إذا شاء ولم تحدث له صفة الكلام في وقت وهكذا أفعاله التي هي من لوازم حياته فإن كل حي فعال والفرق بين الحي والميت بالفعل ولهذا قال غير واحد من السلف الحي الفعال، وقال عثمان بن سعيد: كل حي فعال ولم يكن ربنا سبحانه قط في وقت من الأوقات المحققة أو المقدرة معطلا عن كماله من الكلام والإرادة والفعل وأما التسلسل الممكن فالتسلسل في مفعولاته من هذا الطرف كما يتسلسل في طرف الأبد فإنه إذا لم يزل حيا قادرا مريدا متكلما وذلك من لوازم ذاته فالفعل ممكن هذه الصفات له وأن يفعل أكمل من أن لا يفعل ولا يلزم من هذا أنه لم يزل الخلق معه فإنه سبحانه متقدم على كل فرد من مخلوقاته تقدم لا أول له فلكل مخلوق أول والخالق سبحانه لا أول له فهو وحده الخالق وكل ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن قالوا وكل قول سوى هذا فصريح العقل يرده ويقضي ببطلانه وكل من اعترف بأن الرب سبحانه لم يزل قادرا على الفعل لزمه أحد الأمرين لا بد له منهما أما أن يقول بأن الفعل لم يزل ممكنا وأما أن يقول لم يزل واقعا إلا تناقض تناقضا بينا حيث زعم أن الرب سبحانه لم يزل قادرا على الفعل والفعل محال ممتنع لذاته لو أراده لم يكن وجوده بل فرض إرادته عنده محال وهو مقدور له وهذا قول ينقض بعضه بعضا وأجابت طائفة أخرى بالجواب المركب على جميع التقادير فقالوا تسلسل الآثار إما أن يكون ممكنا أو ممتنعا فإن كان ممكنا فلا محذور في التزامه وإن كان ممتنعا لم يلزم من بطلانه بطلان الفعل الذي لا يكون المخلوق إلا به فإنا نعلم أن المفعول المنفصل لا يكون إلا بفعل والمخلوق لا يكون إلا بخلق قبل العلم بجواز التسلسل وبطلانه، ولهذا كثير من الطوائف يقولون الخلق غير المخلوق والفعل غير المفعول مع قولهم ببطلان التسلسل مثل كثير من أتباع الأئمة الأربعة وكثير من أهل الحديث والصوفية والمتكلمين ثم من هؤلاء من يقول الخلق الذي هو التكوين صفة كالإرادة ومنهم من يقول بل هي حادثة بعد أن لم تكن كالكلام والإرادة وهي قائمة به سبحانه وهم الكرامية ومن وافقهم أثبتوا حدوثها وقيامها بذاته وأبطلوا دوامها فرارا من القول بحوادث لا أول لها وكلا الفريقين يقول أن ذلك التكوين والخلق مخلوق بل يقول أن المخلوق وجد به كما وجد بالقدرة قالوا فإذا كان القول بالتسلسل لازما لكل من قال أن الرب تعالى لم يزل قادرا على الخلق يمكنه أن يفعل بلا ممانع فهو لازم لك كما ألزمته لخصومك فلا ينفردون بجوابه دونك وأما ما ألزموك به من وجود مفعول بلا فعل ومخلوق بلا خلق فهو لازم لك وحدك قالوا ونحن إنما قلنا الفعل صفة قائمة به سبحانه وهو قادر عليه لا يمنعه منه مانع والفعل القائم به ليس هو المخلوق المنفصل عنه فلا يلزم أن يكون معه مخلوقا في الأزل إلا إذا ثبت أن الفعل اللازم يستلزم الفعل المتعدي وأن المتعدي يستلزم دوام نوع المفعولات ودوام نوعها يستلزم أن يكون معه سبحانه في الأزل شيء منها وهذه الأمور لا سبيل لك ولا لغيرك إلى الاستدلال على ثبوتها كلها وحينئذ فنقول أي لازم لزم من إثبات فعله كان القول به خيرا من نفي الفعل وتعطيله فإن ثبت قيام فعله به من غير قيام الحوادث به كما يقوله كثير من الناس بطل قولكم وإن لزم من إثبات فعله قيام الأمور الاختيارية به والقول بأنها مفتتحة ولها أول فهو خير من قولكم كما تقوله الكرامية وإن لزم تسلسلها وعدم أوليتها في الأفعال اللازمة فهو خير من قولكم وإن لزم تسلسل الآثار وكونه سبحانه لم يزل خالقا كما دل عليه النص والعقل فهو خير من قولكم ولو قدر أنه يلزم أن الخلق لم يزل مع الله قديما بقدمه كان خيرا من قولكم مع أن هذا لا يلزم ولم يقل به أحد من أهل الإسلام بل ولا أهل الملل فكلهم متفقون على أن الله وحده الخالق وكل ما سواه مخلوق موجود بعد عدمه وليس معه غيره من المخلوقات يكون وجوده مساويا لوجوده فما لزم بعد هذا من إثبات خلقه وأمره وصفات كماله ونعوت جلاله وكونه رب العالمين وأن كماله المقدس من لوازم ذاته فإنا به قائلون وله ملتزمون كما إنا ملتزمون لكل ما لزم من كونه حيا عليما قديرا سميعا بصيرا متكلما آمرا ناهيا فوق عرشه بائن من خلقه يراه المؤمنون بأبصارهم عيانا في الجنة وفي عرصات القيامة ويكلمهم ويكلمونه فإن هذا حق ولازم الحق مثله وما لم يلزم من إثبات ذلك من الباطل الذي تتخيله خفافيش العقول فنحن له منكرون وعن القول به عادلون وبالله التوفيق، قال القدري: كون العبد موجدا لأفعاله وهو الفاعل لها من أجل الضروريات والبديهيات فإن كل عاقل يعلم من نفسه أنه فاعل لما يصدر منه من الأفعال الواقعة على وفق قصده وداعيته بخلاف حركة المرتعش والمجرور على وجهه وهذا لا يتمارى فيه العاقل ولا يقبل التشكيك والقدح في ذلك والاستدلال على خلافه استدلال على بطلان ما علمت صحته بالضرورة فلا يكون مقبولا، قال السني: قد أجابك خصومك من الجبرية عن هذا بأن العاقل يعلم من نفسه وقوع الفعل مقارنا لقدرته ولا يعلم من نفسه أنه واقع بقدرته والفرق بين الأمرين ظاهر ولو كان وقوعه بقدرته هو المعلوم بالضرورة لما خالف فيه جمع عظيم من العقلاء يستحيل عليهم الإطباق على جحد الضروريات وهذا الجواب مما لا يشفي عليلا ولا يروي غليلا وهو عبارات لا حاصل تحتها فإن كل عاقل يجد من نفسه وقوع الفعل بقدرته وإراداته وداعيته فإن ذلك هو المؤثر في الفعل ويجد تفرقة ضرورية بين مقارنة القدرة والداعية للفعل ومقارنة طوله ولونه وشمه وغير ذلك من صفاته للفعل ونسبة ذلك كله عند الجبري إلى الفعل نسبة واحدة والله سبحانه أجرى العادة بخلق الفعل عند القدرة والداعي لا بهما وإنما اقترن الداعي والقدرة بالفعل اقترانا مجردا ومعلوم أن هذا قدح في الضروريات ولا ريب أن من نظر إلى تصرفات العقلاء ومعاملاتهم مع بعضهم بعضا وجدهم يطلبون الفعل من غيرهم طلب عالم بالاضطرار أن المطلوب منه الفعل هو المحصل له فالواقع بقدرته وإرادته ولذلك يتلطفون لوقوع الفعل منه بكل لطيفة ويحتالون عليه بكل حيلة فيعطونه تارة ويزجرونه تارة ويخوفونه تارة ويتوصلون إلى إخراج الفعل منه بأنواع الرغبة والرهبة ويقولون قد فعل فلان كذا فما لك لا تفعل كما فعل وهذا أمر مشاهد بالحس والضرورة فالعقلاء ساكنو لأنفس إلى أن الفعل من العبد يقع وبه يحصل ولو حرك أحدهم أصبعه فشتمت المحرك لها لغضب وشتمك وقال كيف تشتمني ولم يقل لي لم تشتم ربي وهذا أوضح من أن يضرب له المثال أو يبسط فيه المقال وما يعرض في ذلك من الشبه جار مجرى السفسطة وقد فطر الله العقلاء على ذم فاعل الإساءة ومدح فاعل الإحسان وهذا يدل على أنهم مفطورون على العلم بأنه فاعل لأن الذم فرع عليه ويستحيل أن يكون الفرع معلوما باضطرار والأصل ليس كذلك والعقلاء قاطبة يعلمون أن الكاتب مثلا يكتب إذا أراد ويمسك إذا أراد وكذلك الباني والصانع وأنه إذا عجزت قدرته أو عدمت إرادته بطل فعله فإن عادت إليه القدرة والإرادة عاد الفعل وقولك لو كان ذلك أمرا ضروريا لاشترك العقلاء فيه جوابك انه لا يجب الاشتراك في الضروريات فكثير من العقلاء يخالفون كثيرا من الضروريات لدخول شبهة عليهم ولا سيما إذا تواطؤا عليها وتناقلوها كمخالفة الفلاسفة في الإلهيات بيسير من الضروريات وهم جمع كثير من العقلاء وهؤلاء النصارى يقولون ما يعلم فساده بضرورة العقل وهم يناظرون عليه وينصرونه وهؤلاء الرافضة يزعمون أن أبا بكر وعمر لم يؤمنا بالله ورسوله طرفة عين ولم يزالا عدوين لرسول الله صلى الله عليه وسلم مترصدين لقتله وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام عليا على رؤوس جميع الصحابة وهم ينظرون إليه جهرة وقال: "هذا وصي وولي العهد من بعدي فكلكم له تسمعون" وأطبقوا على كتمان هذا النص وعصيانه وهؤلاء الجهمية ومن قال بقولهم يقولون ما يخالف صريح العقل من وجود مفعول بلا فعل ومخلوق بلا خلق وهؤلاء الفلاسفة وهم المدلون بعقولهم يثبتون ذواتا قائمة بأنفسهم خارج الذهن ليست في العالم ولا خارجة عن العالم ولا متصلة به ولا منفصلة عنه ولا مباينة له ولا محايثة وهو ما يعلم بصريح العقل فساده وهؤلاء طائفة الاتحادية تزعم أن الله هو هذا الوجود وأن التعدد والتكثير فيه وهم محض وهؤلاء منكرو الأسباب يزعمون أنه لا حرارة في النار تحرق بها ولا رطوبة في الماء يروى بها وليس في الأجسام أصلا لا قوى ولا طبائع ولا في العالم شيء يكون سببا لشيء آخر البتة وإن لم تكن هذه الأمور جحدا للضروريات فليس في العالم من جحد الضروريات وإن كانت جحدا للضروريات بطل قولكم ان جمعا من العقلاء لايتفقون على ذلك والأقوال التي يجحد بها المتكلمون الضروريات أضعاف أضعاف ماذكرناه فهم أجحد الناس لما يعلم بضرورة العقل وكيف يصح في عقل سليم سميع لا سمع له بصير لا بصر له حي لا حياة له أم كيف يصح عند عقل مرئي يرى بالأبصار عيانا لا فوق الرائي ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن شماله ولا عن يساره ولا خلفه ولا أمامه أم كيف يصح عند ذي عقل إثبات كلام قديم أزلي لو كان البحر يمده من بعده سبعة أبحر وجميع أشجار الأرض على اختلافها وكبرها وصغرها أقلام يكتب به لنفدت البحار وفنيت الأقلام ولم يفن ذلك الكلام ومع هذا فهو معنى واحد لا جزء له ولا ينقسم وهو والنهي فيه عين الأمر والنفي فيه عين الإثبات والخبر فيه عين الاستخبار والتوراة فيه عين الإنجيل وعين القرآن وذلك كله أمر واحد إنما يختلف بمسمياته ونسبه وقد أطبق على هذا جمع عظيم من العقلاء وكفروا من خالفهم فيه واستحلوا منهم ما حرمه الله وهؤلاء الجهمية يقولون أن للعالم صانعا قائما بذاته ليس في العالم ولا هو خارج العالم ولا فوق العالم ولا تحته ولا خلفه ولا أمامه ولا عن يمينه ولا عن يسرته ولا هو مباين له ولا محايث له فوصفوا واجب الوجود بصفة ممتنع الوجود وكفروا من خالفهم في ذلك واستحلوا دمه وقالوا ما يعلم فساده بصريح العقل ولو ذهبنا نذكر ما جحد فيه أكثر الطوائف الضروريات لطال الكتاب جدا وهؤلاء النصارى قد طبقت شرق الأرض وغربها وهم من أعظم الناس جحدا للضروريات وهؤلاء الفلاسفة هم أهل المعقولات وهم من أكثر الناس جحدا للضروريات فاتفاق طائفة من الطوائف على المقالة لا يدل على مخالفتها لصريح العقل وبالله التوفيق.
● فصل ●
قال القدري: قال الله سبحانه: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} وعند الجبري أن الكل فعل الله وليس من العبد شيء، قال الجبري: في الكلام استفهام مقدر تقديره أفمن نفسك فهو إنكار لا إثبات وقرأها بعضهم فمن نفسك بفتح الميم ورفع نفسك أي من أنت حتى تفعلها وقال ولا بد من تأويل الآية وإلا ناقض قوله في الآية التي قبلها: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} فأخبر أن الحسنات والسيئات جميعا من عنده لا من عند العبد، قال السني: أخطأتما جميعا في فهم الآية أقبح الخطأ ومنشأ غلطكما إن الحسنات والسيئات في الآية المراد بها الطاعات والمعاصي التي هي فعل العبد الاختياري وهذا وهم محض في الآية وإنما المراد بها النعم والمصائب ولفظ الحسنات والسيئات في كتاب الله يراد به هذا تارة وهذا تارة فقوله تعالى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} وقوله: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} وقوله: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ} وقوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنْسَانَ كَفُورٌ} وقوله: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} وقوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} المراد في هذا كله النعم والمصائب وأما قوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا} وقوله: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} وقوله: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} والمراد به في هذا كله الأعمال المأمور بها والمنهي عنها وهو سبحانه إنما قال ما أصابك ولم يقل ما أصبت وما كسبت فما يفعله العبد يقال فيه ما أصبت وكسبت وعملت كقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وكقوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ}: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً} وقول المذنب التائب يا رسول الله أصبت ذنبا فأقم علي كتاب الله ولا يقال في هذا أصابك ذنب وأصابتك سيئة وما يفعل به بغير اختياره يقال فيه أصابك كقوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} وقوله: {وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} وقوله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} فجمع الله في الآية بين ما أصابوا بفعلهم وكسبهم وما أصابهم مما ليس فعلا لهم وقوله: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ} وقوله: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} وقوله: {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} فقوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} هو من هذا القسم الذي يصيبه العبد لا باختياره وهذا إجماع من السلف في تفسير هذه الآية، قال أبو العالية: "وإن تصبكم حسنة هذا في السراء وإن تصبهم سيئة هذ في الضراء"، قال السدي: "الحسنة الخصب تنتج مواشيهم وأنعامهم ويحسن حالهم فتلد نساؤهم الغلمان قالوا هذا من عند الله وإن تصبهم سيئة قال الضر في أموالهم تشاءموا بمحمد وقالوا هذه من عنده قالوا بتركنا ديننا وإتباعنا محمدا أصابنا ما أصابنا فأنزل الله سبحانه ردا عليهم قل كل من عند الله الحسنة والسيئة" وقال الوالبي عن ابن عباس ما أصابك من حسنة فمن الله قال ما فتح الله عليك يوم بدر وقال أيضا هو الغنيمة والفتح والسيئة ما أصابه يوم أحد شج في وجهه وكسرت رباعيته وقال أما الحسنة فأنعم الله بها عليك وأما السيئة فابتلاك بها وقال أيضا ما أصابك من نكبة فبذنبك وأنا قدرت ذلك عليك ذكر ذلك كله ابن أبي حاتم وفي تفسير أبي صالح عن ابن عباس: "إن تصبك حسنة الخصب وإن تصبك سيئة الجدب والبلاء" وقال ابن قتيبة في هذه الآية: "الحسنة النعمة والسيئة البلية" فإن قيل فقد حكى أبو الفرج بن الجوزي عن أبي العالية أنه فسر الحسنة والسيئة في هذه الآية بالطاعة والمعصية وهو من أعلم التابعين فالجواب أنه لم يذكر بذلك إسنادا ولا نعلم صحته عن أبي العالية وقد ذكر ابن أبي حاتم بإسناده عن أبي العالية ما تقدم حكايته أن ذلك في السراء والضراء وهذا هو المعروف عن أبي العالية ولم يذكر ابن أبي حاتم عنه غيره وهو الذي حكاه ابن قتيبة عنه وقد يقال أن المعنيين جميعا مرادان باعتبار أن ما يوفقه الله من الطاعات فهو نعمة في حقه أصابته من الله كما قال: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} فهذا يدخل فيه نعم الدين والدنيا وما يقع منه من المعصية فهو مصيبة أصابته من الله وإن كان سببها منه والذي يوضح ذلك أن الله سبحانه إذا جعل السيئة هي الجزاء على المعصية من نفس العبد بقوله: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} فالعمل الذي أوجب الجزاء أولى أن يكون من نفسه فلا منافاة بين أن تكون سيئة العمل من نفسه وسيئة الجزاء من نفسه ولا ينافي ذلك أن يكون الجميع من الله قضاء وقدرا ولكن هو من الله عدل وحكمة ومصلحة وحسن ومن العبد سيئة وقبيح وقد وري عن ابن عباس أنه كان يقرأها: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} وأنا قدرتها عليك وهذه القراءة زيادة بيان وإلا فقد دل قوله قبل ذلك: {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} على السابق القضاء والقدر النافذ والمعاصي قد تكون بعضها عقوبة بعض فيكون لله على المعصية عقوبتان عقوبة بمعصية تتولد منها وتكون الأولى سببا فيها وعقوبة بمؤلم يكون جزاؤها كما في الحديث المتفق على صحته عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا" وقد ذكر الله سبحانه في غير موضع من كتابه أن الحسنة الثانية قد تكون من ثواب الحسنة الأولى وأن المعصية قد تكون عقوبة للمعصية الأولى فالأول كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} وقال: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وأما قوله: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} فيحتمل أن لا يكون من هذا وتكون الهداية في الآخرة إلى طريق الجنة فإنه رتب هذا الجزاء على قتلهم ويحتمل أن يكون منه ويكون قوله سيهديهم ويصلح بالهم إخبارا منه سبحانه عما يفعله بهؤلاء الذين قتلوا في سبيله قبل أن قتلوا وأتى به بصيغة المستقبل إعلاما منه بأنه يجدد له كل وقت نوعا من أنواع الهداية وإصلاح البال شيئا بعد شيء فإن قلت فكيف يكون ذلك المستقبل خبرا عن الذين قتلوا قلت الخبر قوله: {فلن يضل أعمالهم} أي أنه لا يبطلها عليهم ولا يترهم إياها هذا بعد أن قتلوا ثم أخبر سبحانه خبرا مستأنفا عنهم أنه سيهديهم ويصلح بالهم لما علم أنهم سيقتلون في سبيله وأنهم بذلوا أنفسهم له فلهم جزاآن جزاء في الدنيا بالهداية على الجهاد وجزاء في الآخرة بدخول الجنة فيرد السامع كل جملة إلى وقتها لظهور المعنى وعدم التباسه وهو في القرآن كثير والله أعلم وقال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} وقال: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} وقال: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} وقال: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} فضمن التمام معنى الإنعام فعداه بعلى أي أنعاما منا على الذي أحسن وهذا جزاء على الطاعات بالطاعات وأما الجزاء بالمعاصي على المعاصي فكقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وقوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} وقوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} وقوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} وقوله: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} وهو كثير في القرآن وعلى هذا فيكون النوعان من السيئات أعني المصائب والمعايب من نفس الإنسان وكلاهما بقدر الله فشر النفس هو الذي أوجب هذا وهذا وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته المعروفة: "ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا" فشر النفس نوعان صفة وعمل والعمل ينشأ عن الصفة والصفة تتأكد وتقوى بالعمل فكل منهما يمد الآخر وسيئات الأعمال نوعان قد فسرهما الحديث أحدهما مساويها وقبائحها فتكون الإضافة فيه من النوع إلى جنسه وهي إضافة بمعنى من أي السيئات من أعمالنا والثاني أنها ما يسوء العامل مما يعود عليه من عقوبة عمله فيكون من إضافة المسبب إلى سببه وتكون الإضافة على معنى اللام وقد يرجح الأول بأنه يكون قد استعاذ من الصفة والعمل الناشئ عنها وذلك يتضمن الاستعاذة من الجزاء السيئ المترتب على ذلك فتضمنت الاستعاذة ثلاثة أمور الاستعاذة من العذاب ومن سببه الذي هو العمل ومن سبب العمل الذي هو الصفة وقد يرجح الثاني أن شر النفس يعم النوعين كما تقدم فسيئات الأعمال ما يسوء من جزائها ونبه بقوله: "سيئات أعمالنا" على أن الذي يسوء من الجزاء إنما هو بسبب الأعمال الإرادية لا من الصفات التي ليست من أعمالنا ولما كانت تلك الصفة شرا استعاذ منها وأدخلها في شر النفس وقال الصديق رضي الله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال: "قل اللهم فاطر ا السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه وأن أقترف على نفسي سوأ أو أجره إلى مسلم قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك"، ولما كان الشر له مصدر يبتدي منه وغاية ينتهي إليها وكان مصدرها إما من نفس الإنسان وإما من الشيطان وغايته أن يعود على صاحبه أو على أخيه المسلم تضمن الدعاء هذه المراتب الأربعة بأوجز لفظ وأوضحه وأبينه.
كتاب : شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل تأليف : محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية منتدى ميراث الرسول - البوابة