الرسالة- Admin
- عدد المساهمات : 3958
تاريخ التسجيل : 01/01/2014
من طرف الرسالة الأربعاء 23 فبراير 2022 - 14:39
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
مكتبة الثقافة الإسلامية
شفاء العليل في مسائل
القضاء والقدر والحكمة والتعليل
● [ ختام الباب التاسع عشر ] ●
● فصل ●
قال الجبري: إذا كان الداعي ليس من أفعالنا وهو علم القادر أن في ذلك الفعل مصلحة له وذلك أمر مركوز في طبيعته التي خلق عليها وذلك مفعول لله فيه والفعل واجب عنده فلا معنى للجبر إلا هذا، قال له السني: أخوك القدري يجيبك عن هذا بأن ذلك الداعي قد يكون جهلا وغلطا وهذه أمور يحدثها الإنسان في نفسه فيفعل على حسب ما يتوهم أن فيه مصلحته صادفها أو لم يصادفها فالداعي لا ينحصر في العلم خاصة، قال الجبري: لا يساوي هذا الجواب شيئا فإن العطشان مثلا يدعوه الداعي إلى شرب الماء لعلمه بنفعه وشهوته وميله إلى شربه وذلك العلم وتلك الشهوة والميل إلى الشرب من فعل الله فيجب على القدري أن يترك مذهبه صاغرا داخرا ويعترف بأن ذلك الفعل مضاف إلى من خلق فيه الداعي المقتضى، قال القدري: ذلك الداعي وإن كان من فعل الله إلا أنه جار مجرى فعل المكلف لأنه قادر على أن يبطل أثره بأن يستحضر صارفا عن الشرب مثل أن يحجم عن الشراب تجربة هل يقدر على مخالفة الداعي أم لا فإحجامه لأجل التجربة أثر داع ثان هو الصارف يعارض الداعي فالحي قادر على تحصيله وقادر على إبقاء الداعي الأول بحاله فإبقاؤه الداعي الأول بحاله وإعراضه عن إحضار المعارض له أمر لولاه ما حصل الشرب فمن هذا الوجه كان الشرب فعلا له لأنه قادر على تحصيل الأسباب المختلفة التي تصدر عنها الآثار ويصير هذا كمن شاهد إنسانا في نار متأججة وهو قادر على إطفائها عنه من غير مشقة ولا مانع فإنه إن لم يطفئها استحق الذم وإن كان الإحراق من أثر النار وقد أجاب ابن أبي الحديد بجواب آخر فقال ويمكن أن يقال إذا تجرد الداعي كما ذكرتم في صورة العطشان فإن التكليف بالفعل والترك يسقط لأنه يصير أسوأ حالا من الملجأ وهذا من أفسد الأجوبة على أصول جميع الفرق فإن مقتضى التكليف قائم فكيف يسقط مع حضور الفعل والقدرة وهذا قسم رابع من الذين رفع عنهم التكليف أثبته هذا القدري زائدا على الثلاثة الذين رفع عنهم القلم وهذا خرق منه لإجماع الأمة المعلوم بالضرورة ولو سقط التكليف عند تجرد الداعي لكان كل من تجرد داعيه إلى فعل ما أمر به قد سقط عنه التكليف وهذا القول أقبح من القول بتكليف ما لا يطاق ولهذا كان القائلون به أكثر من هذا القائل وقولهم يحكى ويناظر عليه، قال الجبري: إذا كان الداعي من الله وهو سبب الفعل والفعل واجب عنده كان خالق الفعل هو خالق الداعي أي خالق السبب، قال السني: هذا حق فإن الداعي مخلوق لله في العبد وهو سبب الفعل والفعل يضاف إلى الفاعل لأنه صدر منه ووقع بقدرته ومشيئته واختياره وذلك لا يمنع إضافته بطريق العموم إلى من هو خالق كل شيء وهو على كل شيء قدير وأيضا فالداعي ليس هو المؤثر بل هو شرط في تأثير القادر في مقدوره وكون الشرط ليس من العبد لا يخرجه عن كونه فاعلا وغاية قدرة العبد وإرادته الجازمة أن يكون شرطا أو جزء سبب والفعل موقوف على شروط وأسباب لا صنع للعبد فيها البتة وأسهل الأفعال رفع العين لرؤية الشيء فهب أن فتح العين فعل العبد إلا أنه لا يستقل بالإدراك فإن تمام الإدراك موقوف على خلق الدرك وكونه قابلا للرؤية وخلق آلة الإدراك وسلامتها وصرف الموانع عنها فما تتوقف عليه الرؤية من الأسباب والشروط التي لا تدخل تحت مقدور العبد أضعاف أضعاف ما يقدر عليه من تقليب حدقته نحو المرئي فكيف يقول عاقل أن جزء السبب أو الشرط موجب مستقل لوجود الفعل وهذا الموضع مما ضل فيه الفريقان حيث زعمت القدرية أنه موجب للفعل وزعمت الجبرية أنه لا أثر له فيه فخالفت الطائفتان صريح المعقول والمنقول وخرجت عن السمع والعقل والتحقيق أن قدرة العبد وإرادته ودواعيه جزء من أجزاء السبب التام الذي يجب به الفعل فمن زعم أن العبد مستقل بالفعل مع أن أكثر أسبابه ليست إليه فقد خرج عن موجب العقل والشرع فهب أن دواعي حركة الضرب منك مستقلا بها فهل سلامة الآلة منك وهل وجود المحل المنفعل وقبوله منك وهل خلق الفضاء بينك وبين المضروب وخلوه عن المانع منك وهل إمساك قدرته عن مضاربتك وغلبك منك وهل القوة التي في اليد والرباطات والاتصالات التي بين عظامها وشد أسرها منك ومن زعم أنه لا أثر للعبد بوجه ما في الفعل وأن وجود قدرته وإرادته وعدمهما بالنسبة إلى الفعل على السواء فقد كابر العقل والحس، قال الجبري: إن انتهت سلسلة الترجيحات إلى مرجح من العبد فذلك المرجح ممكن لا محالة فإن ترجح بلا مرجح انسد عليكم باب إثبات الصانع إذا جوزتم رجحان أحد طرفي الممكن وإن توقف على مرجح آخر لزم التسلسل فلا بد من انتهائه إلى مرجح من الله لا صنع للعبد فيه قال السني: أما إخوانك القدرية فإنهم يقولون القادر المختار يحدث إرادته وداعيته بلا مرجح من غيره قالوا والفطرة شاهدة بذلك فإنا لا نفعل ما لم نرد ولا نريد ما لم نعلم إن في الفعل منفعة لها أو دفع مضرة ولا نجد لهذه الإرادة إرادة أحدثتها ولا لعلمنا بأن لك نافع علما آخر أحدثه فالمرجح هو ما خلق عليه العبد وفطر عليه من صفاته القائمة به فالله سبحانه أنشأ العبد نشأة يتحرك فيها بالطبع فحركته بالإرادة والمشيئة من لوازم نشئه وكونه حيوانا فإرادته وميله من لوازم كونه حيا فأفعال العبد الخاصة به هي الدواعي والإرادات لا غير وما يقع بها من الأفعال شبيه بالفعل المتولد من حيث كان المتولد سببا وهذه الأفعال صادرة عن الدواعي التي عرفها العبد ابتداء من غير واسطة فاشتراكهما في أن كل واحد منهما مستند إلى فعل خاص بالعبد فهما متماثلان من هذه الجهة قال السني وهذا جواب باطل بأبطل منه ورد فاسد بأفسد منه ومعاذ الله والله أكبر وأجل وأعظم وأعز أن يكون في عبده شيء غير مخلوق له ولا هو داخل تحت قدرته ومشيئته فما قدر الله حق قدره من زعم ذلك ولا عرفه حق معرفته ولا عظمه حق تعظيمه بل العبد جسمه وروحه وصفاته وأفعاله ودواعيه وكل ذرة فيه مخلوق لله خلقا تصرف به في عبده وقد بينا أن قدرته وإرادته ودواعيه جزء من أجزاء سبب الفعل غير مستقل بإيجاده ومع ذلك فهذا الجزء مخلوق لله فيه فهو عبد مخلوق من كل وجه وبكل اعتبار وفقره إلى خالقه وبارئه من لوازم ذاته وقلبه بيد خالقه وبين أصبعين من أصابعه يقلبه كيف يشاء فيجعله مريدا لما شاء وقوعه منه كارها لما لم يشأ وقوعه فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ونعم والله سلسلة المرجحات تنتهي إلى أمر الله الكوني ومشيئته النافذة التي لا سبيل لمخلوق إلى الخروج عنها ولكن الجبر لفظ مجمل يراد به حق وباطل كما تقدم فإن أردتم به أن العبد مضطر في أفعاله وحركته في الصعود في السلم كحركته في وقوعه منه فهذا مكابرة للعقول والفطر وإن أردتم به أنه لا حول له ولا قوة إلا بربه وفاطره فنعم لا حول ولا قوة إلا بالله وهي كلمة عامة لا تخصيص فيها بوجه ما فالقوة والقدرة والحول بالله فلا قدرة له ولا فعل إلا بالله فلا ننكر هذا ولا نجحده لتسمية القدري له جبرا فليس الشأن في الأسماء: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} فلا نترك لهذه الأسماء مقتضى العقل والإيمان والمحذور كل المحذور أن نقول أن الله يعذب عبده على ما لا صنع له فيه ولا قدرة له عليه ولا تأثير له في فعله بوجه ما بل يعذبه على فعله هو سبحانه وعلى حركته إذا سقط من علو إلى سفل نعم لا يمتنع أن يعذبه على ذلك إذ كان قد تعاطي أسبابه بإرادته ومحبته كما يعاقب السكران على ما جناه في حال سكره لتفريطه وعدوانه بارتكاب السبب وكما يعاقب العاشق الذي غلب على صبره وعقله وخرج الأمر عن يده لتفريطه السابق بتعاطي أسباب العشق وكما يعاقب الذي آل به إعراضه وبغضه للحق إلى أن صار طبعا وقفلا ورينا على قلبه فخرج الأمر عن يده وحيل بينه وبين الهدى فيعاقبه على ما لم يبق له قدرة عليه ولا إرادة بل هو ممنوع منه وعقوبته عليه عدل محض لا ظلم فيه بوجه ما، فإن قيل فهل يصير في هذه الحال مكلفا وقد حيل بينه وبين ما أمر به وصد عنه ومنع منه أم يزول التكليف، قيل ستقف على الجواب الشافي إن شاء الله عن هذا السؤال في باب القول في تكليف ما لا يطاق قريبا فإنه سؤال جيد إذ المقصود ههنا الكلام في الجبر وما في لفظه من الإجمال وما في معناه من الهدى والضلال.
● فصل ●
قال الجبري: إذا صدر من العبد حركة معينة فإما أن تكون مقدورة للرب وحده أو العبد وحده أو للرب والعبد أو لا للرب ولا للعبد وهذا القسم الأخير باطل قطعا والأقسام الثلاثة قد قال بكل واحد منها طائفة فان كانت مقدورة للرب وحده فهو الذي يقوله وذلك عين الجبر وان كانت مقدورة للعبد وحده فذلك إخراج لبعض الأشياء عن قدرة الرب تعالى فلا يكون على كل شيء قدير ويكون العبد المخلوق الضعيف قادرا على ما لم يقدر عليه خالقه وفاطره وهذا هو الذي فارقت به القدرية للتوحيد وضاهت به المجوس وإن كانت مقدورة للرب والعبد لزمت الشركة ووقوع مفعول بين فاعلين ومقدور بين قادرين وأثر بين مؤثرين وذلك محال لأن المؤثرين إذا اجتمعا استقلالا على أثر واحد فهو غني عن كل منهما بكل منهما فيكون محتاجا إليهما مستغنيا عنهما قال السني: قد افترق الناس في هذا المقام فرقا شتى ففرقة قالت إنما تقع الحركة بقدرة الله وحده لا بقدرة العبد وتأثير قدرة العبد في كونها طاعة أو معصية فقدرة الرب وحده اقتضت وجودها وقدرة العبد اقتضت صفتها وهذا قول القاضي أبي بكر ومن اتبعه ولعمر الله أنه لغير شاف ولا كاف فإن صفة الحركة إن كان أثرا وجوديا فقد أثرت قدرته في أمر موجود فلا يمتنع تأثيرها في نفس الحركة وإن كان صفتها أمرا عدميا كان متعلق قدرته عدما لا وجودا وذلك ممتنع إذ أثر القدرة لا يكون عدما صرفا وفرقة أخرى قالت بل الفعل وصفته واقع بمحض قدرة الله وحده ولا تأثير لقدرة العبد في هذا ولا هذا وهذا قول الأشعري ومن اتبعه وفرقة قالت بل المؤثر قدرة العبد وحده دون قدرة الرب ثم انقسمت هذه الفرقة إلى فرقتين فرقة قالت أن قدرة العبد هي المؤثرة مع كون الرب قادرا على الحركة وقالت أن مقدورات العباد مقدورة لله تعالى وهذا قول أبي الحسين البصري وأتباعه الحسينية وفرقة قالت أن قدرة العبد هي المؤثرة والله سبحانه غير قادر على مقدور وهذا قول المشايخية أتباع أبي على وأبي هاشم وليس عند ابن الخطيب وجمهور المتكلمين غير هذه الأقوال التي لا تشفي عليلا ولا تروي غليلا وليس عند أربابها إلا مناقضة بعضهم بعضا وقد أجاب بعض أصحاب أبي الحسين عن هذا السؤال انه كان يقول بمقدور بين قادرين فله أن يقول في هذا المقام ان كان الدليل الذي ذكرته دليلا صحيحا على استحالة اجتماعهما على فعل واحد فإنما يدل على استحالته على فعلهما على سبيل الجمع ولا يستحيل على سبيل البدل كما يستحيل حصول جوهرين في مكان واحد ولا يستحيل حصولهما فيه على البدل وهذا جواب باطل قطعا فإن مضمونه أن أحدهما لا يقدر عليه إلا إذا تركه الآخر فحال تلبس العبد بالفعل بقدرته وإرادته إن كان مقدورا لله فهو القول بمقدور بين قادرين وان لم يكن مقدورا له لزم إخراج بعض الممكنات عن قدرته فإن قلت هو قادر عليه بشرط أن لا يقدر عليه العبد قيل لك فهذا تصريح منك بأنه في حال قدرة العبد عليه لا يقدر عليه الرب فلا ينفعك القول بأنه قادر عليه على البدل وأيضا فإن قدر عليه بشرط أن لا يقدر عليه العبد فإذا قدر العبد عليه انتفت قدرة الرب لانتفاء شرطها وهذا مما صاح به عليكم أهل التوحيد من أقطار الأرض ورموكم به عن قوس واحدة وإنما صانعتم به أهل السنة مصانعة وإلا فحقيقة هذا القول أن العبد يقدر عليه على مالا يقدر عليه الرب وحكاية هذا الرأي الباطل كافية في فساده فإن قلت كما لا يمتنع معلوم واحد بين عالمين ومراد واحد بين مريدين قيل هذا من أفسد القياس لأن المعلوم لا يتأثر بالعالم والمراد لا يتأثر بالمريد فيصح الاشتراك في المعلوم والمراد كما يصح الاشتراك في المرئي والمسموع وأما المقدور فيجوز اشتراك القادرين فيه بالقدرة المصححة وهي صحة وقوعه من كل واحد منهما وصحة التأثير من أحدهما لا تنافي صحته من الأخر أما اشتراكهما فيه بالقدرة الموجبة المقارنة لمقدورها فهو عين المحال إلا أن يراد الاشتراك على البدل فيكون تأثير أحدهما فيه شرطا في تأثير الآخر ولما تفطن أبو الحسين لهذا قال: "لست أقول أن إضافته إلى أحدهما هي إضافته إلى الآخر كما أن الشيء الواحد يكون معلوما لعالمين ويمتنع أن يكون علم أحدهما به هو علم الآخر فهكذا أقول في المقدور بين قادرين ليست قدرة أحدهما عليه هي قدرة الآخر والمفعول بين فاعلين ليس فعل أحدهما فيه هو فعل الآخر وإنما معنى قولي هذا أنه فعل لهذا وتأثير له أنه لقدرته وداعيته وجد وليس معنى كونه وجد لقدرة هذا وداعيته هو معنى كونه وجد لقدرة الآخر وداعيته" قال وليس يمتنع في العقل إضافة شيء واحد إلى شيئين لكنه يمتنع أن يكون إضافته إلى أحدهما هي عين إضافته إلى الآخر، وهذا لا يجدي عنه شيئا فإن التقسيم المذكور دائر فيه ونحن نقول قد دل الدليل على شمول قدرة الرب سبحانه لكل ممكن من الذوات والصفات والأفعال وأنه لا يخرج شيء عن مقدوره البتة ودل الدليل أيضا على أن العبد فاعل لفعله بقدرته وإرادته وأنه فعل له حقيقة يمدح ويذم به عقلا وعرفا وشرعا وفطرة فطر الله عليها العباد حتى الحيوان البهيم ودل الدليل على استحالة مفعول واحد بالعين بين فاعلين مستقلين وأثر واحد بين مؤثرين فيه على سبيل الاستقلال ودل الدليل أيضا على استحالة وقوع حادث لا محدث له ورجحان راجح لا مرجح له، وهذه أمور كتبها الله سبحانه في العقول وحجج العقل لا تتناقض ولا تتعارض ولا يجوز أن يضرب بعضها ببعض بل يقال بها كلها ويذهب إلى موجبها فإنها يصدق بعضها بعضا وإنما يعارض بينهما من ضعفت بصيرته وإن كثر كلامه وكثرت شكوكه والعلم أمر آخر وراء الشكوك والإشكالات ولهذا تناقض الخصوم، وهذا رأس مال المتكلمين والقول الحق لم ينحصر في هذه الأقوال التي حكوها في المسألة، والصواب أن يقال تقع الحركة بقدرة العبد وإرادته التي جعلها الله فيه فالله سبحانه إذا أراد فعل العبد خلق له القدرة والداعي إلى فعله فيضاف الفعل إلى قدرة العبد إضافة السبب إلى مسببه ويضاف إلى قدرة الرب إضافة المخلوق إلى الخالق فلا يمتنع وقوع مقدور بين قادرين قدرة أحدهما أثر لقدرة الآخر وهي جزء سبب وقدرة القادر الآخر مستقلة بالتأثير والتعبير عن هذا المعنى بمقدور بين قادرين تعبير فاسد وتلبيس فإنه يوهم أنهما متكافئان في القدرة كما تقول هذا الثوب بين هذين الرجلين وهذه الدار بين هذين الشريكين وإنما المقدور واقع بالقدرة الحادثة وقوع المسبب بسببه والسبب أو المسبب والفاعل والآلة كله أثر القدرة القديمة ولا نعطل قدرة الرب سبحانه عن شمولها وكمالها وتناولها لكل ممكن ولا نعطل قدرة الرب التي هي سبب عما جعلها الله سببا له ومؤثرة فيه وليس في الوجود شيء مستقل بالتأثير سوى مشيئة الرب سبحانه وقدرته وكل ما سواه مخلوق له وهو أثر قدرته ومشيئته ومن أنكر ذلك لزمه إثبات خالق سوى الله أو القول بوجود مخلوق لا خالق له فإن فعل العبد إن لم يكن مخلوقا لله كان مخلوقا للعبد إما استقلالا وإما على سبيل الشركة وإما أن يقع بغير خالق ولا مخلص عن هذه الأقسام لمنكر دخول الأفعال تحت قدرة الرب ومشيئته وخلقه وإذا عرف هذا فنقول الفعل وقع بقدرة الرب خلقا وتكوينا كما وقعت سائر المخلوقات بقدرته وتكوينه وبقدرة العبد سببا ومباشرة والله خلق الفعل والعبد فعله وباشره والقدرة الحادثة وأثرها واقعان بقدرة الرب ومشيئته.
● فصل ●
قال الجبري: لو كان العبد فاعلا لأفعاله لكان عالما بتفاصيلها لأنه يمكن أن يكون الفعل أزيد مما فعله أو أنقص فوقوعه على ذلك الوجه مشروط بالعلم بتفصيله ومعلوم أن النائم والغافل قد يفعل الفعل ولا يشعر بكيفية ولا قدرة وأيضا فالمتحرك يقطع المسافة ولا شعور له بتفاصيل الحركة ولا أجزاء المسافة ومحرك أصبعه لأجزائها ولا يشعر بعدد أجزائها ولا بعدد أحيازها والمنفس يتنفس باختياره ولا يشعر في الغالب بنفسه فضلا عن أن يشعر بكميته وكيفيته ومبدئه ونهايته والغافل قد يتكلم بالكلمة ويفعل الفعل باختياره ثم بعد فراغه منه يعلم أنه لم يكن قاصدا له فنحن نعلم علما ضروريا من أنفسنا عدم علمنا بوجود أكثر حركاتنا وسكناتنا في حالة المشي والقيام والقعود ولو أردنا فصل كل جزء من أجزاء حركاتنا في حالة إسراعنا بالمشي والحركة والإحاطة به لم يمكنا ذلك بل ونعلم ذلك من حال أكمل العقلاء فما الظن بالحيوانات العجم في مشيها وطيرانها وسباحتها حتى الذر والبعوض وهنا مشاهد في السكران ومن اشتد به الغضب ولهذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فدل على أن السكران يصدر منه أقوال لا يعلم بها فكيف يكون هو المحدث لتلك الأقوال وهو لا يشعر بها والإرادة فرع الشعور ولهذا أفتى الصحابة بأنه لا يقع طلاق السكران نزلوا حركة لسانه منزلة تحريك غيره له بغير إرادته ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق في الإغلاق" لأن الإغلاق يمنع العلم والإرادة فكيف يكون التطليق فعله وهو غير عالم به ولا مريد له وأيضا فقد قال جمهور الفقهاء أن الناسي غير مكلف لأن فعله لا يدخل تحت الاختيار ففعله غير مضاف إليه مع أنه وقع باختياره وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بعينه في قوله: "من أكل أو شرب ناسيا فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه" فأضاف فعله إلى الله لا إليه فلم يكن له فعل في الأكل والشرب فلم يفطر به قال السني: هذا موضع تفصيل لا يليق به الإجمال فنقول ما يصدر من العبد من الأفعال ينقسم أقساما متعددة بحسب قدرته وعلمه وداعيته وإرادته فتارة يكون ملجأ إلى الفعل لا إرادة له فيه بوجه ما كمن أمسكت يده وضرب بها غيره أو أمسكت أصبعه وقلع بها عين غيره فهذا فعله بمنزلة حركات الأشجار بالريح ولهذا لا يترتب عليه حكم البتة ولا يمدح عليه ولا يذم ولا يثاب ولا يعاقب وهذا لا يسمى فاعلا عقلا ولا شرعا ولا عرفا وتارة يكون مكرها على أن يفعل فهذا فعله يضاف إليه وليس كالملجأ الذي لا فعل له واختلف الناس هل يقال أنه فعل باختياره وأنه يختار ما فعله أو لا يطلق عليه ذلك على قولين والتحقيق أن النزاع لفظي فإنه فعل بإرادة هو محمول عليها مكره عليها فهو مكره مختار مكره على أن يفعل بإرادته مريد ليفعل ما أكره عليه فإن أريد بالمختار من يفعل بإرادته وإن كان كارها للفعل فالمكره مختار وأيضا فهو مختار ليفعل ما أكره لتخلصه به مما هو أكره إليه من الفعل فلما عرض له مكروهان أحدهما أكره إليه من الآخر اختار أيسرهما دفعا لأشقهما ولهذا يقتل قصاصا إذا قتل عند الجمهور والملجأ لا يقتل باتفاق الناس ومما يوضح هذا أن المكره على التكلم لا يتأتى منه التكلم إلا باختياره وإرادته ولهذا أوقع طلاقه وعتاقه بعض العلماء والجمهور قالوا لا يقع لأن الله جعل كلام المكره على كلمة الكفر لغو لا يترتب عليه أثره لأنه وإن قصد التكلم باللفظ دفعا عن نفسه فلم يقصد معناه وموجبه حتى قال بعض الفقهاء لو قصد الطلاق بقلبه مع الإكراه لم يقع طلاقه لأن قوله هدر ولغو عند الشارع فوجوده كعدمه في حكمه فبقي مجرد القصد وهو غير موجب للطلاق وهذا ضعيف فإن الشارع إنما ألغى قول المكره إذا تجرد عن القصد وكان قلبه مطمئنا بضده فأما إذا قارن اللفظ القصد واطمأن القلب بموجبه فإنه لا يعذر، فإن قيل فما تقولون فيمن ظن أن الإكراه لا يمنع وقوع الطلاق فقصده جاهلا بأن الإكراه مانع من وقوعه، قيل هذا لا يقع طلاقه لأنه لما ظن أن الإكراه على الطلاق يوجب وقوعه إذا تكلم به كان حكم قصده حكم لفظه فإنه إنما قصده دفعا عن نفسه لما علم أنه لا يتخلص إلا به ولم يظن أن الكلمة بدون القصد لغوا ودهش عن ذلك ولا وطر له في الطلاق فهذا لا يقع بخلاف الأول فإنه لما أكره على الطلاق نشأ له قصد طلاقها إذ لا غرض له أن يقيم مع امرأة أكره على طلاقها وإن كان لو لم يكره لم يبتدي طلاقها والمقصود أن المكره مريد لفعله غير ملجأ إليه.
● فصل ●
وأما أفعال النائم فلا ريب في وقوع الفعل القليل منه والكلام المفيد واختلف الناس هل تلك الأفعال مقدورة له أو مكتسبة أو ضرورية بعد اتفاقهم على أنها غير داخلة تحت التكليف فقالت المعتزلة وبعض الأشعرية هي مقدورة له والنوم لا يضاد القدرة وإن كان يضاد العلم وغيره من الإدراكات وذهب أبو إسحاق إلى أن ذلك الفعل غير مقدور له وأن النوم يضاد القدرة كما يضاد العلم وذهب القاضي أبو بكر وكثير من الأشعرية إلى أن فعل النائم لا يقطع بكونه مكتسبا ولا بكونه ضروريا وكل من الأمرين ممكن قال أصحاب القدرة كان النائم قادرا في يقظته وقدرته باقية والنوم لا ينافيها فوجب استصحاب حكمها قالوا وأيضا فالنائم إذا انتبه فهو على ما كان عليه في نومه ولا يتجدد أمر وراء زوال النوم وهو قادر بعد الانتباه وزوال النوم غير موجب للاقتدار ولا وجوده نافيا لقدرة قالوا وأيضا قد يوجد من النائم ما لو وجد منه في حال اليقظة لكان واقعا على حسب الداعي والاختيار والنوم وإن نافى القصد فلا ينافي القدرة قال النافون للقدرة قولكم النوم لا ينافي القدرة دعوى كاذبة فإن النائم منفعل محض متأثر صرف ولهذا لا يمتنع ممن يؤثر فيه وقولكم لم يتجدد له أمر غير زوال النوم فالتجدد زوال المانع من القدرة فعاد إلى ما كان عليه كمن أوثق غيره رباطا ومنعه من الحركة فإذا حل رباطه تجدد زوال المانع قالوا نجد تفرقة ضرورية بين حركة النائم وحركة المرتعش والمفلوج وما ذاك إلا أن حركته مقدورة له وحركة المرتعش غير مقدورة له والتحقيق أن حركة النائم ضرورية له غير مكتسبة وكما فرقنا في حق المستيقظ بين حركة ارتعاشه وحركة تصفيقه كذلك نجد تفرقه ضرورية بين حركة النائم وحركة المستيقظ.
● فصل ●
وأما زائل العقل بجنون أو سكر فليست أفعاله اضطرارية كأفعال الملجأ ولا اختيارية بمنزلة أفعال العامل العالم بما يفعله بل هي قسم آخر من الاضطرارية وهي جارية مجرى أفعال الحيوان وفعل الصبي الذي لا تمييز له بل لكل واحد من هؤلاء داعية إلى الفعل يتصورها وله إرادة يقصد بها وقدرة ينفذ بها وإن كان داعية نوع آخر غير داعي العاقل العالم بما يفعله فلا بد أن يتصور ما في الفعل من الغرض ثم يريده ويفعله وهذه أفعال طبيعية واقعة بالداعي والإرادة والقدرة والدواعي والإرادات تختلف ولهذا لا يكلف أحد هؤلاء بالفعل فأفعاله لا تدخل تحت التكليف وليست كأفعال الملجأ ولا المكره وهي مضافة إليهم مباشرة وإلى خالق ذواتهم وصفاتهم خلقا فهي مفعولة وأفعال لهم والساهي الذي يفعل الفعل مع غفلته وذهوله فهو إنما يفعله بقدرته إذ لو كان عاجزا لما تأتى منه الفعل وله إرادة لكنه غافل عنها فالإرادة شيء والشعور بها شيء آخر فالعبد قد يكون له إرادة وهو ذاهل عن شعوره بها لاشتغال محل التصور منه بأمر آخر منعه من الشعور بالإرادة فعملت عملها وهي غير مشعور بها وإن كان لا بد من الشعور عند كل جزء من أجزائه وبالله التوفيق وبالجملة فالفعل الاختياري يستلزم الشعور بالفعل في الجملة وأما الشعور به على التفصيل فلا يستلزمه.
● فصل ●
قال الجبري: ضلال الكافر وجهله عند القدري مخلوق له موجود بإيجاده اختيارا وهذا ممتنع فإنه لو كان لكان كذلك قاصدا له إذا القصد من لوازم الفعل اختيارا واللازم ممتنع فإن عاقلا لا يريد لنفسه الضلال والجهل فلا يكون فاعلا له اختيارا، قال السني: عجبا لك أيها الجبري تنزه العبد أن يكون فاعلا للكفر والجهل والظلم ثم تجعل ذلك كله فعل الله سبحانه ومن العجب قولك أن العاقل لا يقصد لنفسه الكفر والجهل وأنت ترى كثيرا من الناس يقصد لنفسه ذلك عنادا وبغيا وحسدا مع علمه بأن الرشد والحق في خلافه فيطيع دواعي هواه وغيه وجهله ويخالف داعي رشده وهداه ويسلك طرق الضلال ويتنكب عن طريق الهدى وهو يراهما جميعا، قال أصدق القائلين: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}، وقال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} وقال تعالى عن قوم فرعون: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} وقال تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} وقال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} وقال: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وقال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ} وهذا في القرآن كثير يبين سبحانه فيه اختيارهم الضلال والكفر عمدا على علم! هذا وكم من قاصد أمرا يظن أنه رشد وهو ضلال وغي.
● فصل ●
قال الجبري: لو جاز تأثير قدرة العبد في القول بالإيجاد لجاز تأثيرها في إيجاد كل موجود لأن الوجود قضية واحدة مشتركة بين الموجودات الممكنة وإن اختلفت محاله وجهاته ويلزم من صحة تأثير القدرة في بعضه صحة تأثيرها في جميعه لاتحاد المتعلق وإن ما ثبت لأحد المثلين ثبت للآخر وأيضا فالمصحح للتأثير هو الإمكان ويلزم من الاشتراك في المصحح للتأثير الاشتراك في الصحة ومعلوم قطعا أن قدرة العبد لا تتعلق بإيجاد الأجسام وأكثر الأعراض إنما تتعلق ببعض الأعراض القائمة لمحل قدرته، قال السني: لقد كشف الله عوار مذهب يكون إثباته مستندا إلى مثل هذه الخرافات التي حاصلها أنه يلزم من صحة قدرة العبد على قلع حصاة من الأرض صحة قدرته على قلع الجبل ومن إمكان حمله لرطل إمكان حمله لمائة ألف رطل ومن إيجاده للفعل القائم به من الأكل والشرب والصلاة وغيرها صحة إيجاده لخلق السماوات والأرض وما بينهما وهل سمع في الهذيان بأسمج من هذا وأغث من هذا واشتراك الموجودات في مسمى الوجود الكلي العام لا يلزم منه أن ما جاز على موجود ما جاز على كل موجود وهذا أسمج من الأول وأبين فسادا ولا يلزم من ذلك تماثل البعوضة والفيل وتماثل الأجسام والإعراض ومن يجعل من الجبرية للقدرة الحادثة تعلقا ما بفعل العبد يعترف بالفرق ويقول قدرته تتعلق ببعض الأعراض ولا تتعلق بالأجسام ولا بكل الأعراض فإن احتج على إبطال التأثير بهذه الشبهة الغثة ألزم بها بعينها في عموم تعلق قدرته بكل موجود.
● فصل ●
قال الجبري: دليل التوحيد ينفي كون العبد فاعلا وأن يكون لقدرته تأثير في فعله وتقريره بدليل التمانع، قال السني: دليل التوحيد إنما ينفي وجود رب ثان ويدل على أنه لا رب إلا هو سبحانه ولا يدل على امتناع وجود مخلوق له قدرة وإرادة مخلوقة يحدث بها وهو وقدرته وإرادته وفعله مخلوق لله فهو بعد طول مقدماته واعتراف فضلائكم بالعجز عن تقريره وذكر ما في مقدماته من منع ومعارضة إنما ينفي وجود قادرين متكافئين قدرة كل واحد منهما من لوازم ذاته ليست مستفادة من الآخر وهو دليل صحيح في نفسه وإن عجزتم عن تقريره ولكن ليس فيه ما ينفي أن تكون قدرة العبد وإراداته سببا لوجود مقدوره وتأثيرها فيه تأثير الأسباب في مسبباتها فلا للتوحيد قررتم بدليل التمانع ولا للجبر وقد كفانا أفضل متأخريكم بيان تنافي هذا الدليل من المنوع والمعارضات، قال الجبري: دعنا من هذا كله أليس في القول بتأثير قدرة العبد في مقدوره مع الاعتراف بأن الله سبحانه قادر على مقدور العبد إلزام وقوع المقدور الواحد بين القادرين والدليل ينفيه، قال السني: ما تعني بقولك يلزم وقوع مقدور بين قادرين أتعنى به قادرين مستقلين متكافئين أم تعنى به قادرين تكون قدرة أحدهما مستفادة من الآخر فإن عنيت الأول منعت الملازمة وإن عنيت الثاني منع انتفاء اللازم ومثبتو الكسب يجيبون عن هذا بأنه لا يمتنع وقوع مقدور بين قادرين لقدرة أحدهما تأثير في إيجاده ولقدرة الآخر تأثير في صفته كما يقوله القاضي أبو بكر ومن تبعه والأشعري يجيب عنه على أصله بأن الفعل وقع بين قادرين لا تأثير لقدرة أحدهما في المقدور بل تعلق قدرته بمقدورها كتعلق العلم بمعلومه وإنما الممتنع عنده وقوع مقدور بين قادرين مؤثرين وهذا الاعتذار لا يخرج عن الجبر وأن زخرفت له العبارات، وأجاب عنه الحسينية بما حكيناه أنه لا يمتنع مقدرو بين قادرين على سبيل البدل ويمتنع على سبيل الجمع وقد تقدم فساده وأجاب عنه المشايخية بأنه مقدور للعبد وليس مقدورا للرب وهذا أبطل الأجوبة وأفسدها والقائلون به يقولون أن الله سبحانه عن إفكهم يريد الشيء فلا يكون ويكون الشيء بغير إرادته ومشيئته فيريد ما لا يكون ويكون ما لا يريد وكفى بهذا بطلانا وفسادا، قال الجبري: الفعل عند المرجح التام واجب والمرجح ليس من العبد وإلا لزم التسلسل فهو من الرب فإذا وجب الفعل عنده فهو الجبر بعينه، قال السني: قد تقدم هذا الدليل وبيان ما فيه وحيث أعدتموه بهذه العبارة الوجيزة المختصرة فنحن نذكر الأجوبة عنه كذلك قولكم لا بد من مرجح يرجح الفعل على الترك أو بالعكس مسلم قولكم المرجح إن كان من العبد لزم التسلسل وإن كان من الرب لزم الجبر جوابه ما المانع أن يكون من فعل العبد ولا يلزم التسلسل بأن يكون من فعله على وجه لا يكون الترك ممكنا له حينئذ ولا يلزم من سلب الاختيار عنه في فعل المرجح سلبه عنه مطلقا ثم ما المانع أن يكون المرجح من فعل الله ولا يلزم الجبر فإنكم إن عنيتم بالجبر أنه غير مختار للفعل ولا مريد له لم يلزم الجبر بهذا الاعتبار لأن الرب سبحانه جعل المرجح اختيار العبد ومشيئته فانتفى الجبر وإن عنيتم بالجبر أنه وجد لا بإيجاد العبد لم يلزم الجبر أيضا بهذا الاعتبار وإن عنيتم أنه يجب عند وجود المرجح وأنه لا بد منه فنحن لا ننفي الجبر بهذا الاعتبار وتسمية ذلك جبرا اصطلاح يختص بكم وهو اصطلاح فاسد فإن فعل الرب سبحانه يجب عند وجود مرجحه التام ولا يكون ذلك جبرا بالنسبة إليه سبحانه ثم هذا لازم على من اثبت الكسب منكم فنقول له في الكسب ما قاله في أصل الفعل سواء ومن لم يثبت الكسب لزم ذلك في فعل الرب كما تقدم فإن قلتم الفرق أن صدور الفعل عن القادر موقوف على الإرادة وإرادة العبد محدثة فافتقرت إلى محدث فإن كان ذلك المحدث هو العبد لزم التسلسل فوجب انتهاء جميع الإرادات إلى إرادة ضرورية يخلقها الله في القلب ابتداء ويلزم منه الجبر بخلاف إرادة الرب سبحانه فإنها قديمة مستغنية عن إرادة أخرى فلا تسلسل قيل لكم لا يجدي هذا عليكم في دفع الإلزام فإن الإرادة القديمة إما أن يصح معها الفعل بدلا عن الترك وبالعكس أو لا فإن كان الأول فلا بد لأحد الطرفين من مرجح والكلام في ذلك المرجح كالكلام في الأول ويلزم التسلسل وإن كان الثاني لزم الجبر، قال الجبري: معتمدي في الجبر على حرف لا خلاص لكم منه إلا بإلزام الجبر وهو أن العبد لو كان فاعلا لفعله لكان محدثا له ولو كان محدثا له لكان خالقا له والشرع والعقل ينفيه قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَْرضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}، قال السني: قد دل العقل والشرع والحس على أن العبد فاعل له وأنه يستحق عليه الذم واللعن كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى حمارا قد وسم في وجهه فقال: "ألم أنه عن هذا لعن الله من فعل هذا" وقال تعالى: {وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} وقال: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وقال: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} وهذا في القرآن أكثر من أن يذكر والحس شاهد به فلا تقبل شبهة تقام على خلافه ويكون حكم تلك الشبهة حكم القدح في الضروريات فلا يلتفت إليه ولا يجب على العالم حل كل شبهة تعرض لكل أحد فإن هذا لا آخر له فقولكم لو كان فاعلا لفعله لكان محدثا له إن أردتم بكونه محدثا صدور الفعل منه اتحد اللازم والملزوم وصار حقيقة قولكم لو كان فاعلا لكان فاعلا وإن أردتم بكونه محدثا كونه خالقا سألناكم ما تعنون بكونه خالقا هل تعنون به كونه فاعلا أم تعنون به أمرا آخرا فإن أردتم الأول كان اللازم فيه عين الملزوم وإن أردتم أمرا آخر غير كونه فاعلا فبينوه، فإن قلتم نعني به كونه موجودا للفعل من العدم إلى الوجود، قيل هذا معنى كونه فاعلا فما الدليل على إحالة هذا المعنى فسموه ما شئتم إحداثا أو إيجادا أو خلقا فليس الشأن في التسميات وليس الممتنع ألا أن يكون مستقلا بالإيجاد وهذا غير لازم لكونه فاعلا فإنا قد بينا أن غاية قدرة العبد وإراداته وداعية وحركته أن تكون جزء سبب وما توقف عليه الفعل من الأسباب التي لا تدخل تحت قدرته أكثر من الجزء الذي إليه بأضعاف مضاعفة والفعل لا يتم إلا بها، فإن قيل فهذا الجبر بعينه، قيل ذلك السبب الذي أعني به من القدرة والإرادة هو الذي أخرجه من الجبر وأدخله في الاختيار وكون ذلك السبب من خالقه وفاطره ومنشيه هو الذي أخرجه من الشرك والتعطيل وأدخله في باب التوحيد فالأول أدخله في باب العدل والثاني أدخله في باب التوحيد ولم يكن ممن نقض التوحيد بالعدل ولا ممن نقض العدل بالتوحيد فهؤلاء جنوا على التوحيد وهؤلاء جنوا على العدل وهدى الله أهل السنة للتوحيد والعدل: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
كتاب : شفاء العليل في مسائل
القضاء والقدر والحكمة والتعليل
تأليف : محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية
منتدى ميراث الرسول - البوابة