من طرف الرسالة السبت 21 نوفمبر 2015 - 6:38
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
القانون فى الطب لإبن سينا
الكتاب الأول: الأمور الكلية فى علم الطب
الفن الثالث: الصحة والمرض وضرورة الموت
التعليم الثاني : التدبير المشترك للبالغين
● [ الفصل الأول : جملة القول في الرياضة ] ●
لما كان معظم تدبير حفظ الصحة هو أن يرتاض، ثم تدبير الغذاء، ثم تدبير النوم، وجب أن نبدأ بالكلام في الرياضة، فنقول: الرياضة هي حركة إرادية تضطر إلى التنفس العظيم المتواتر، والموفق لاستعمالها على جهة اعتدالها في وقتها به غناء عن كل علاج تقتضيه الأمراض المادّية، والأمراض المزاجية التي تتبعها، وتحدث عنها، وذلك إذا كان سائر تدبيره موافقاً صواباً.
وبيان هذا هو أنا كما علمت مضطرون إلى الغذاء وحفظ صحتنا هو بالغذاء الملائم لنا المعتدل في كميته وكيفيته وليس شيء من الأغذية بالقوة يستحيل بكليته إلى الغذاء بالفعل، بل يفضل عنه في كل هضم فضل، والطبيعة تجتهد في استفراغه، ولكن لا يكون استفراغ الطبيعة وحدها استفراغاً مستوفى، بل قد يبقى لا محالة من فضلات كل هضم لطخة وأثر، فإذا تواتر ذلك وتكرر، اجتمع منها شيء له قدر وحصل من اجتماعه مواد فضلية ضارة بالبدن من وجوه. أحدها: أنها إن عفنت أحدثت أمراض العفونة، وإن اشتدت كيفياتها أحدثت سوء المزاج، وإن أكثرت كمياتها أورثت أمراض الامتلاء المذكورة، وإن انصبت إلى عضو أورثت الأورام. وبخاراتها تفسد مزاج جوهر الروح، فيضطر لا محالة إلى استفراغها واستفراغها في أكثر الأمر إنما يتم ويجود إذا كان بأدوية سمية، ولا شك أنها تنهك الغريزة ولو لم تكن سمية أيضاً لكان لا يخلو استعمالها من حمل على الطبيعة، كما قال أبقراط أن الدواء ينقي وينكي ومع ذلك فإنها تستفرغ من الخلط الفاضل، والرطوبات الغريزية، والروح الذى هو جوهر الحياة شيئاً صالحاً، وهذا كله مما يضعف قوة الأعضاء الرئيسة والخادمة فهذه وغيرها مضار الامتلاء ترك على حاله، أو استفرغ ثم الرياضة أمنع سبب لاجتماع مبادىء الامتلاء إذا أصبت في سائر التدبير معها مع إنعاشها الحرارة الغريزية وتعويدها البدن الخفة وذلك لأنها تثير حرارة لطيفة فتحلّل ما اجتمع من فضل كل يوم، وتكون الحركة معينة في إزلاقها وتوجيهها إلى مخارجها فلا يجتمع على مرورة الأيام فضل يعتد به، ومع ذلك فإنها كما قلنا تنمّي الحرارة الغريزية وتصلب المفاصل والأوتار، فيقوى على الأفعال فيأمن الإنفعال، وتعتد الأعضاء لقبول الغذاء بما ينقص منها من الفضل، فتتحرك القوة الجاذبة وتحل العقد عن الأعضاء فتلين الأعضاء وترقّ الرطوبات وتتسع المسام، وكثيراً ما يقع تارك الرياضة في الدق لأن الأعضاء تضعف قواها لتركها الحركة الجالبة إليها الروح الغريزية التي هي آلة حياة كل عضو.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [ الفصل الثاني : أنواع الرياضة ] ●
الرياضة منها ما هي رياضة يدعو إليها الاشتغال بعمل من الأعمال الإنسانية، ومنها رياضة خالصة وهي التي تقصد، لأنها رياضة فقط وتتحرّى منها منافع الرياضة ولها فصول: فإن من هذه الرياضة ما هو قليل، ومنها ما هو كثير، ومن هذه الرياضة ما هو قوي شديد، ومنها ما هو ضعيف، ومنها ما هو سريع، ومنها ما هو بطيء، ومنها ما هو حثيث أي مركب من الشدة والسرعة، ومنها ما هو متراخ وبين كل طرفين معتدل موجود.
وأما أنواع الرياضة، فالمنازعة، والمباطشة، والملاكزة، والإحضار، وسرعة المشي، والرمي عن القوس، والزفن، والقفز إلى شيء ليتعلق به، والحجل على إحدى الرجلين، والمثاقفة بالسيف والرمح، وركوب الخيل، والخفق باليدين، وهو أن يقف الإنسان على أطراف قدميه ويدل يديه قداماً وخلفاً ويحركهما بالسرعة، وهي من الرياضة السريعة.
ومن أصناف الرياضة اللطيفة اللينة الترجيح في الأراجيح، والمهود قائماً وقاعداً ومضطجعاً، وركوب الزواريق والسماريات. وأقوى من ذلك ركوب الخيل والجمال والعمَارِيات، وركوب العجل.
ومن الرياضات القوية الميدانية، وهو أن يشد الإنسان عدوه في ميدان ما إلى غاية، ثم ينكص راجعاً مقهقراً فلا يزال ينقص المسافة كل كرة حتى يقف آخره على الوسط، ومنها مجاهدة الظل، والتصفيق بالكفين، والطفر، والزج، واللعب بالكرة الكبيرة والصغيرة، واللعب بالصولجان، واللعب بالطبطاب، والمصارعة، وإشالة الحجر، وركض الخيل، واستقطافها، والمباطشة أنواع: فمن ذلك أن يشبك كل واحد من الرجلين يده على وسط صاحبه ويلزمه، ويتكلف كل واحد منهما أن يتخلص من صاحبه وهو يمسكه، وأيضاً أن يلتوي بيديه على صاحبه، يدخل اليمين إلى يمين صاحبه واليسار إلى يساره ووجهه إليه ثم يشيله ويقلبه، ولا سيما وهو ينحني تارة وينبسط أخرى، ومن ذلك المدافعة بالصدرين، ومن ذلك ملازمة كل واحد منهما عنق صاحبه يجذبه إلى أسفل، ومن ذلك ملاواة الرجلين والشغزبية وفحج رجلي صاحبه برجليه وما يشبه هذا من الهيئات التي يستعملها المصارعون. ومن الرياضات السريعة مبادلة رفيقين مكانيهما بالسرعة، ومواترة طفرات إلى خلف يتخللها طفرات إلى قدام بنظام وغير نظام. ومن ذلك رياضة المسلتين، وهو أن يقف إنسان موقفاً ثم يغرز عن جانبيه مسلتين في الأرض بينهما باع فيقبل عليهما ناقلاً المتيامنة منهما إلى المغرز الأيسر والمتياسرة إلى المغرز الأيمن ويتحرى أن يكون ذلك أعجل ما يمكن.
والرياضات الشديدة والسريعة تستعمل مخلوطة بفترات أو برياضات فاترة. ويجب أن يتفنن في استعمال الرياضات المختلفة ولا يقام على واحده ولكل عضو رياضة تخصه. أما رياضة اليدين والرجلين فلا خفاء بها، وأما الصدر وأعضاء التنفس، فتارة يراض بالصوت الثقيل العظيم، وتارة بالحاد ومخلوطاً بينهما، فيكون ذلك أيضأ رياضة للفم واللهاة واللسان والعين أيضأ، ويحسن اللون وينقي الصدر ويراض بالنفخ مع حصر النفس، فيكون ذلك رياضة ما للبدن كله ويوسع مجاريه وإعظام الصوت زماناً طويلاً جداً مخاطرة وإدامة شديدة تحوج إلى جذب هواء كثير وفيه خطر، وتطويله محوج إلى إخراج هواء كثير وفيه خطر. ويجب أن يبدأ بقراءة لينة ثم يرفع بها الصوت على تدريج، ثم إذا شدد الصوت وأعظم وطول، جعل زمان ذلك معتدلاً فحينئذ ينفع نفعاً بيناً عظيماً، فإن أطيل زمانه كان فيه خطر للمعتدلين الصحيحين.
ولكل إنسان بحسبه رياضة، وما كان من الرياضات اللينة مثل الترجيح فهو موافق لمن أضعفته الحميات وأعجزته عن الحركة والقود، والناقهين، ولمن أضعفه شرب الخربق ونحوه، ولمن به مرض في الحجاب، وإذا رفق به نوم وحلل الرياح ونفع من بقايا أمراض الرأس مثل الغفلة والنسيان وحرك الشهوات ونبه الغريزة، وإذا رجح على السرير كان أوفق لمن به مثل شطر الغب والحميات المركبة والبلغمية ولصاحب الحبن وصاحب أوجاع النقرس وأمراض الكلى، فإن هذا الترجيح يهيىء المواد إلى الانقلاع واللين لما هو ألين والقوي لما هو أقوى.
وأما ركوب العجل فقد يفعل هذه الأفعال لكنه أشد إثارة من هذا، وقد يركب العجل والوجه إلى خلف فينفع ذلك من ضعف البصر وظلمته نفعاً شديداً.
وأما ركوب الزواريق والسفن فينفع من الجذام والاستسقاء والسكتة وبرد المعدة ونفختها وذلك إذا كان بقرب الشطوط، وإذا هاج من غثيان ثم سكن كان نافعاً للمعدة وأما الركوب في السفن مع التلحيج في البحر فذلك أقوى في قلع الأمراض المذكورة لما يختلف على النفس عن فرح وحزن.
وأما أعضاء الغذاء فرياضتها تابعة لرياضة سائر البدن.
والبصر يراض بتأمل الأشياء الدقيقة والتدريج أحياناً في النظر إلى المشرفات برفق. والسمع يراض بتسمع الأصوات الخفية وفي الندرة بسماع الأصوات العظيمة ولكل عضو رياضة خاصة به. ونحن نذكر ذلك في حفظ صحة عضو عضو وذلك إذا اشتغلنا بالكتاب الجزئي وينبغي أن يحذر المرتاض وصول حمية الرياضة إلى ما هو ضعيف من أعضائه إلا على سبيل التبع مثلاً من يعتريه الدوالي فالواجب له من الرياضة التي يستعملها أن لا يكثر تحريك رجليه بل يقلل ذلك ويحمل برياضته على أعالي بدنه من عنقه ورأسه وبدنه، بحيث يصل تأثر الرياضة إلى رجليه من فوق، والبدن الضعيف رياضته ضعيفة، والبدن القوي رياضته قوية.
واعلم أن لكل عضو في نفسه رياضة تخصه كما للعين في تبصر الدقيق وللحلق في إجهار الصوت بعد أن يكون بتدريج وللسن والأذن كذلك وكل في بابه.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [ الفصل الثالث : وقت ابتداء الرياضة وقطعها ] ●
وقت الشروع في الرياضة يجب أن يكون البدن نقياً وليس في نواحي الأحشاء والعروق كيموسات خامة رديئة تنشرها الرياضة في البدن ويكون الطعام الأمسي قد انهضم في المعدة والكبد والعروق وحضر وقت غذاء آخر ويدل على ذلك نضج البول بالقوام واللون، ويكون ذلك أول وقت هذا الانهضام فإن الغذاء إذا بعد العهد به وخلت الغريزة مدة عن التصرف في الغذاء واشتعلت النارية في البول وجاوزت حد الصفرة الطبيعية فإن الرياضة ضارة لأنها لم تنهك القوة. ولهذا قيل إن الحال إذا أوجبت رياضة شديدة فبالحري أن لاتكون المعدة خالية جداً بل يكون فيها غذاء قليل، أما في الشتاء فغليظ وأما في الصيف فلطيف، ثم أن يرتاض ممتلئاً خير من أن يرتاض خاوياً، وأن يرتاض حاراً أو رطباً خير من أن يرتاض والبدن بارد أو جاف وأصوب أوقاته الاعتدال وربما أوقعت الرياضة حار المزاج يابسه في أمراض فإذا تركها صح.
ويجب على من يرتاض أن يبدأ فينقص الفضول من الأمعاء ومن المثانة ثم يشتغل بالرياضة ويتدلك أولاً للإستعداد دَلْكاً ينعش الغريزة ويوسع المسام وأن يكون التدلك بشيء خشن، ثم يتمرخ بدهن عذب، ثم يدرج التمريخ إلى أن يضغط العضو به ضغطاً غير شديد الوغول، ويكون ذلك بأيد كثيرة ومختلفة أوضاع الملاقاة ليبلغ ذلك جميع شظايا العضل، ثم يترك، ثم يأخذ المدلوك في الرياضة. أما في زمان الربيع فأوفق أوقاتها قرب انتصاف النهار في بيت معتدل ويقدم في الصيف. وأما في الشتاء فكان القياس أن يؤخر إلى وقت المساء لكن الموانع الآخرى تمنع منه فيجب أن يدفأ في الشتاء المكان ويسخن ليعتدل. وتستعمل الرياضة في الوقت الأصوب بحسب ما ذكرناه من انهضام الغذاء ونقص الفضل. وأما مقدار الرياضة فيجب أن يراعى فيه ثلاثة أشياء: أحدها: اللون فما دام يزداد جودة فهو بعد وقت، والثاني: الحركات فإنها ما دامت خفيفة فهو بعد وقت، والثالث: حال الأعضاء وانتفاخها فما دامت تزداد انتفاخاً فهو بعد وقت وأما إذا أخذت هذه الأحوال في الانتقاص وصار العرق البخاري رشحاً سائلاً فيجب أن تقطع، وإذا قطعها أقبل عليه بالدهن المعرق ولا سيما وقد حصر نفسه. فإذا وقعت في اليوم الأول على حد رياضته وغذوته فعرفت المقدار الذي احتمله من الغذاء فلا تغير في اليوم الثاني شيئاً بل قدر غذاء، ورياضته في اليوم الثاني على حده في اليوم الأول.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [ الفصل الرابع : الدلك ] ●
الدلك منه صلب فيشدد، ومنه لين فيرخي، ومنه كثير فيهزل ومنه معتدل فيخصب، وإذا ركب ذلك حدثت مزاوجات تسع، وأيضاً من الدلك ما هو خشن أي بخرقٍ خشنة فيجذب الدم إلى الظاهر سريعاً ومنه أملس أي بالكف أو بخرقة لينة فيجمع الدم ويحبسه في العضو والغرض في الدلك تكثيف الأبدان المتخلخلة وتصليب اللينة وخلخلة الكثيفة وتليين الصلبة.
ومن الدلك دلك الاستعداد وهو قبل الرياضة يبتدىء ليناً ثم إذا كاد يقوم إلى الرياضة شدد.
ومنه دلك الاسترداد وهو بعد الرياضة ويسمى الدلك المسكن أيضاً والغرض في تحليل الفضول المحتبسة في العضل مما لم يستفرغ بالرياضة لينعش فلا يحدث الإعياء. وهذا الدلك يجب أن يكون رقيقاً معتدلاً وأحسنه ما كان بالدهن، ولا يجب أن يحتمه على جساوة وصلابة وخشونة فتجسو به الأعضاء ويمنع في الصبيان عن النشو، وضرره في البالغين أقل ولأن يقع في الدلك خطأ مائل إلى الصلابة فهو أسلم من الخطأ المائل إلى اللين لأن التحليل الشديد أسهل تلاقياً من إعداد البدن بالدلك اللين لقبول الفساد على أن الدلك الصلب والخشن إذا أفرط فيه في الصبيان منعهم النشوّ وستجد ذلك من بعد وقت الدلك وشرائطه، لكنا نريد في هذا الوقت لذلك الاسترداد بياناً فنقول إنه بالحقيقة كأنه جزء آخر من الرياضة
ويجب فيه أن يبدأ أولاً بالدهن وبالقوة ثم يمال به إلى الاعتدال ولا يقطع على عنفه، والأحسن أن تجتمع عليه أيد كثيرة ويجب أن يوتر المدلوك أعضاءه المدلوكة بعد الدلك لينفض عنها الفضول فيؤخذ قماط ويمرّ على نواحي الأعضاء كلها وهي موترة ويحصر النفس حينئذ ما أمكن لا سيما مع إرخاء عضل البطن وتوتير عضل الصدر إن سهل ثم يوتر آخر الأمر عضل البطن أيضاً يسيراً ليصيب الأحشاء بذلك استرداد مّا، وفيما بين ذلك يمشي ويستلقي ويشابك برجليه رجلي صاحبه والمبرزون من أهل الرياضة يستعملون حصر النفس فيما بين رياضاتهم، وربما أدخلوا ذلك الاسترداد في وسط الرياضة فقطعوها وعاودوها إن أرادوا تطويل الرياضة. ولا حاجة إلى الدلك الكثير لمن يريد الاسترداد وهو ممن لا يشكو شيئاً من حاله ولا يريد المعاودة، بل إن وجد إعياء تمرخ تمريخاً ليناً بالدهن على ما نَصِفُ، فإن وجد يبساً زاد في الدلك حتى توافي به الأعضاء الاعتدال.
وقد ينتفع بالدلك والغمز الشديد عند النوم فإنه يجفف البدن ويمنع الرطوبة عن السيلان إلى المفاصل فاعلم ذلك.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [ الفصل الخامس : الاستحمام ] ●
وذكر الحمامات أما هذا الإنسان الذي كلامنا في تدبيره فلا حاجة به إلى الاستحمام المحلل لأن بدنه نقي وإنما يحتاج إلى الحمام من يحتاج إليه ليستفيد منه حرارة لطيفة وترطيباً معتدلاً، فلذلك يجب على هؤلاء أن لا يطيلوا اللبث فيه بل إن استعملوا الأبزن، استعملوه ريثما تحمر فيه بشرتهم وتربو، ويفارقونه عندما يبتدىء يتحلل. ويجب أن ينموا الهواء بصبّ الماء العذب حواليهم ويغتسلوا سريعاً ويخرجوا، ويجب أن لا يبادر المرتاض إلى الحمام حتى يستريح بالتمام.
وأما أحوال الحمّامات وشرائطها فقد شرحت وقيلت في غير هذا الموضع، والذي ينبغي أن نقول ههنا: هو أن جميع المستحمّين يجب أن يتمزجوا في دخول بيوت الحمام ولا يقيموا في البيت الحار إلا مقدار ما لا يكرب، فيربح بتحليل الفضول وإعداد البدن للغذاء مع التحرّز عن الضعف وعن سبب قوي من أسباب حمات العفونة.
ومن طلب السمن فليكن دخوله الحمام بعد الطعام إن أمِن حدوث السدد، فإن أراد الاستظهار وكان حار المزاج إستعمل السكنجبين ليمنع السمد، أو كان بارد المزاج استعمل الفوذنجي والفلافلي.
وأما من أراد التحليل والتهزيل فيجب أن يستحم على الجوع ويكثر القعود فيه. وأما الذي يريد حفظ الصحة فقط، فيجب أن يدخل الحمام بعد هضم ما في المعدة والكبد، وأن كان يخشى ثوران مرار إن فعل هذا واستحم على الريق فليأخذ قبل الاستحمام شيئاً لطيفاً يتناوله.
والحار المزاج صاحب المرار قد لا يجد بدًا من ذلك، ومثله يحرم عليه دخول البيت الحار، وأفضل ما يجب أن يتلقى به هؤلاء خبز منقوع في ماء الفاكهة أو ماء الورد وليتوق شرب شيء بارد بالفعل عقيب الخروج من الحمام أو في الحمام، فإن المسام تكون منفتحة فلا يلبث أن يندفع البرد إلى جوهر الأعضاء الرئيسة فيفسد قواها، وليتوق أيضاً كل شيء شديد الحرارة وخصوصأ الماء، فإنه إن تناوله خيف أن يسرع نفوذه إلى الأعضاء الرئيسة، فيحدث السل والدق وليتوق معافصة الخروج عن الحمام وكشف الرأس بعده وتعريض البدن للبرد، بل يجب أن يخرج من الحمام إن كان الزمان شاتياً وهو متدثر في ثيابه. وينبغي أن يحذر الحمام من كان محموماً في حماه أو من به تفرق اتصال أو ورم.
وقد علمت فيما سلف أن الحمام مسخن مبرد مرطب ميبس نافع ضار. ومنافعه التنويم والتفتيح والجلاء والإنضاج والتحليل وجذب الغذاء إلى ظاهر البدن، ومعونته إنما هي في تحليل ما يراد أن يتحلل ونفض ما يراد أن ينفض في جهته الطبيعية وحبس الإسهال وإزالته الإعياء. ومضارة تضعيف القلب إن أفرط منه وإيراث الغشي والغثيان وتحريك المواد الساكنة وتهيئتها للعفونة وإمالتها إلى الأفضية وإلى الأعضاء الضعيفة فيحدث عنها أورام في ظاهر الأعضاء وباطنها.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [ الفصل السادس : الاغتسال بالماء البارد ] ●
إنما يصلح ذلك لمن كان تدبيره من كل الوجوه مستقصى، وكان سنّه وقوته وسحنته وفصله موافقاً ولم يكن به تخمة ولا قيء ولا إسهال ولا سهر ولا نوازل ولا هو صبي ولا شيخ وفي وقت يكون بدنه نشيطاً والحركات مواتية. وقد يستعمل ذلك بعد استعمال الماء الحار لتقوية البشرة وحصر الحرارة الغريزية فإن أريد ذلك فيجب أن يكون ذلك الماء غير شديد البرد، بل معتدلاً وقد يستعمل بعد الرياضة فيجب أن يكون الدلك قبله أشدّ من المعتاد.
وأما تمريخ الدهن فيكون على العادة وتكون الرياضة بعد الدلك والتمريخ معتدلة وأسرع من المعتاد قليلاً قليلاً، ثم يشرع بعد الرياضة في الماء البارد دفعة ليصيب أعضاءه معاً، ثم يلبث فيه مقدار النشاط والإحتمال وقبل أن يصيبه قشعريرة، ئم إذا خرج ذلك بما نذكره وزيد في كذائه ونقص من شرابه ونظر في مدة عود لونه وحرارته إليه، إن كان سريعاً اعدم أن اللبث فيه قد كان معتدلاً، وأن كان بطيئاً علم أن اللبث فيه قد كان أزيد من الواجب، فيقدر في اليوم الثاني بقدر ما يعلم من ذلك. وربما ثنى دخول الماء العذب بعد الدلك واسترجاع اللون والحرارة. ومن أراد أن يستعمل ذلك فليتدرّج فيه وليبدأ أول مرة من أسخن يوم في الصيف وقت الهاجرة وليتحرز أن لا يكون فيه ريح، ولا يستعمله عقيب الجماع، ولا عقيب الطعام، ولا والطعام لم ينهضم، ولا يستعمله عقيب القيء والإستفراغ والهيضة والسهر، ولا على ضعف من البدن ولا من المعدة، ولا عقيب الرياضة، إلاّ لمن هو قوي جداً فيستعمل على الحدّ الذي قلناه. واستعمال الاغتسال بالماء البارد على الأنحاء المذكورة يهزم الحار الغريزي إلى داخل دفعة، ثم يقوّيه على الإستظهار والبروز أضعافاً لما كان.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [ الفصل السابع : تدبير المأكول ] ●
يجب أن يجتهد حافظ الصحة في أن لا يكون جوهر غذائه شيئاً من الأغذية الدوائية، مثل البقول والفواكه وغير ذلك، فإن الملطفة محرقة للدم، والغليظة مبلغمة مثقلة للبدن، بل يجب أن يكون الغذاء من مثل اللحم خصوصاً لحم الجدي والعجاجيل الصغار والحملان والحنطة المنقاة من الشوائب المأخوذة من زرع صحيح لم يصبه آفة، والشيء الحلو الملائم للمزاج والشراب الطيب الريحاني، ولا يلتفت إلى ما سوى ذلك إلا على سبيل التعالج والتقدم بالحفظ. وأشبه الفواكه بالغذاء التين والعنب الصحيح النضيج الحلو جداً، والتمر في البلاد والأراضي المعتاد فيها ذلك. فإن استعمل هذه وحدث منها فضل بادر إلى استفراغ ذلك الفضل، ويجب أن لا يأكل إلا على شهوة، ولا يدافع الشهوة إذا هاجت، ولم تكن كاذبة كشهوة السكارى ومن به تخمة، فإن الصبر على الجوع يملأ المعدة أخلاطاً صديدية رديئة، ويجب أن يؤكل في الشتاء الطعام الحار بالفعل، وفي الصيف البارد أو القليل السخونة ولا يبلغ الحر والبرد إلى ما لا يطاق. وإعلم أنه لا شيء أردأ من شبع في الخصب يتبعه جوع في الجدب وبالعكس. والعكس أردأ وقد رأينا خلقاً ضاق عليهم الطعام في القحط فلما اتسع الطعام امتلأوا وماتوا.
على أنّ الإمتلاء الشديد في كلّ حال قتال، كان من طعام أو شراب، فكم من رجل امتلأ بما فراط فاختنق ومات.
وإذا وقع الخطأ فتنوول شيء من الأغذية الدوائية، فيجب أن يدبر في هضمه وإنضاجه وليحترز من سوء المزاج المتوقع منه باستعمال ما يضاده عقيبه حتى ينهضم فإن كان بارداً مثل القثاء والخيار والقرع عدل بما يضاده مثل الثوم والكراث، وإن كان حاراً عدل بما يضاده أيضاً من مثل القثاء وبقلة الحمقاء، وإن كان سددياً استعمل ما يفتح ويستفرغ ثم يجوع بعده جوعاً صالحاً فلا يتاول شيئاً هو وكل مستصح البتة ما لم تصدق الشهوة وتخلو المعدة والأمعاء العلى عن الغذاء الأول فأضر شيء بالبدن إدخال غذاء على غذاء لم ينضج وينهضم ولا شر من التخمة وخصوصاً ما كان تخمة من أغذية رديئة فإن التخمة إذا عرضت من الأغذية الغليظة أورثت وجع المفاصل والكلى والربو وضيق النفس والنقرس وجساوة الطحال والكبد والأمراض البلغمية والسوداوية، وأما إذا عرضت من أغذية لطيفة فيعرض منها حميات حادة خبيثة وأورام حادة رديئة وربما احتيج إلى إدخال طعام ما أو شيء يشبه الطعام على طعام يكون كأنه دواء له مثل الذين يتناولون أغذية حريفة ومالحة فإذا اتبعوها بعد زمان يكون لم يتمم فيه الهضم بالمرطبات من الأغذية التفهة صلح بذلك كيموس ما اغتذوا به وهؤلاء يغنيهم هذا التدبير ولا حاجة بهم إلى الرياضة، وبضد هذا حال من يتبع الغليظة بعد زمان بما هو سريع الهضم حريف والحركة الخفيفة على الطعام بقدره في المعدة وخصوصاً لمن أراد النوم عليه. والأعراض النفسانية القادحة والحركات البدنية الفادحة يمنعان الهضم ويجب أن لا يؤكل في الشتاء الأغذية القليلة الغذاء كالبقول بل يؤكل ما هو أغنى من الحبوب وأشد اكتنازاً، وفي الصيف بالضد ثم يجب أن لا يمتلىء منه حتى لا مكان لفضلة بل يجب أن يمسك عنه وفي النفس بعض من بقية الشهوة. فإن تلك البقية من تقاضى الجوع تبطل بعد ساعة ويجب أن يحفظ مجرى العادة في ذلك فإن شر الأكل ما أثقل المعدة وشر الشراب ما جاوز الاعتدال وطقا في المعدة، فإن أفرط يوماً جاع في الثاني وأطال النوم في مكان معتدل لا حر فيه ولا برد وإذا لم يساعده النوم مشى مشياً كثيراً ليناً متصلاً لا فترة فيه ولا استراحة ويشرب شراباً قليلاً صرفاً.
قال روفس: أنا أحمد هذا المشي وخصوصاً بعد الغذاء فإنه يهيىء لجودة موقع العشاء.
ويجب أن يكون النوم على اليمين أو زماناً يسيراً ثم ينام على اليسار ثم ينام على اليمين.
واعلم أن الدثار ورفع الوساد معين على الهضم وبالجملة أن يكون وضع الأعضاء مائلاً إلى تحت ليس إلى فوق وتقدير الطعام هو بحسب العادة والقوة وأن يكون مقداره في الصحيح القوة، والمقدار الذي إذا تناوله لم يثقل ولم يمدد الشراسيف ولم ينفخ ولم يقرقر ولم يطفُ ولم يعرض غثى ولا شهوة كلبية ولا سقوط ولا بلادة ذهن، ولا أرق، ولم يجد طعمه في الجساء بعد زمان وكل ما وجد طعمه بعد مدة أطول فهو أردأ، وقد يدل على أن الطعام معتدل أن لا يعرض منه عظم نبض مع صغر نفس فإنه إنما يعرض بسبب مزاحمة المعدة للحجاب فيصغر النفس لذلك ويتواتر، وتزداد بذلك حاجة القلب فيعظم النبض ويزداد ضعف القوة ومن له على طعامه حرارة وسخونة فلا يأكلن دفعة، بل قليلاً قليلاً، لئلا يعرض من الامتلاء عرض حالة كالنافض، ثم يتبعه حرارة كحمى يومية حين يسخن الطعام ومن كان يعجز عن هضم الكفاية أكثر عمد اغتذائه وقلل مقداره والسوداوي يحتاج إلى غذاء مرطب كثيراً مسخن قليلاً، والصفراوي إلى ما يرطب ويبرد، ومن كان الدم الذي يتولد فيه حاراً فيحتاج إلى أغذية باردة قليلة الغذاء، ومن كان ما يتولد فيه من الدم بلغمياً فيحتاج إلى أغذية قليلة الغذاء فيها سخونة وتلطيف.
وللأغذية في استعمالها ترتيب يجب أن يراعيه الحافظ لصحته فليحذر أن يتناول ما هو رقيق سريع الهضم على غذاء قوي أصلب منه فينهضم قبله وهو طاف عليه ولا سبيل له إلى النفوذ قيعفن ويقسد فيفسد ما يخالطه، إلا على سبيل صفة سنذكرها. وأيضاً لا يجوز أن يتناول مثل هذا الطعام المزلق وليتناول في إثره طعاماً قوياً صلباً فإنه ينزلق معه عند نفوذه إلى الامعاء ولما يستوف الحظ من الهضم مثل السمك وما يجري مجراه لا يجب أن يتناول عقيب رياضة متعبة فيفسد ويفسد الأخلاط ومن الناس من يجوز له تناول ما فيه قوة قابضة قبل تناول الطعام وهو صاحب رخاوة المعدة الذي يستعجل نزول طعامه فلا يريث ريث الانهضام ويجب أن يتأمل دائماً حال المعدة ومزاجها فمن الناس من يفسد في معدته الغذاء لللطيف السريع الهضم وينهضم فيها القوي البطيء الهضم وهذا هو الإنسان الناري المعدة. ومنهم من هو بالضد، وكل يدبر على مقتضى عادته.
وللبلدان خواص من الطبائع والأمزجة أمور خارجة من القياس فليحفظ ذلك وليغلب للتجريه فيه على القياس فرب غذاء مألوف فيه مضرة ما هو أوفق من الفاضل الغير المألوف ولكل سحنة ومزاج غذاء مرافق مشاكل فإن أريد تغييرها فإنما يتأتى بالضد.
ومن الناس من يضره بعض الأطعمة الجيدة المحمودة فليهجره ومن استمرأ الأغذية الرديئة فلا يغتر بذلك فإنه سيتولد منه على الأيام أخلاط رديئة ممرضة قتالة.
وكثيراً مايرخض لمن في بدنه أخلاط رديئة أن يتوسع في الأكل المحمود وخصوصاً إذا لم يحتمل الإسهال لضعفه.
ومن كان متخلخل البدن سهل التحلل وجب أن يغتذي بالرطب السريع الانهضام على أن الأبدان المتخلخلة أشد احتمالاً للأطعمة الغليظة والمختلفة وأبعد من أن يضرها الأسباب الخارجة.
ومن كان متكثراً من اللحوم مترفهاً فليتعهد الفصد فإن كان يميل إلى برد من المزاج فعليه بالجوارشنات والإطريفلات وما من شأنه أن ينقي المعدة والأمعاء والجداول القريبة منها، وشر الأشياء جمع أغذية مختلفة معاً وبعد تطويل الأكل مدة الأكل فيلحق الغذاء الآخر وقد أخذ الأول في الانهضام فلا تتشابه أجزاء الغذاء في الانهضام ويجب أن تعلم أن أوفق الغذاء ألذه لشدة اشتمال المعدة والقوة القابضة عليه إذا كان صالح الجوهر وكانت الأعضاء الرئيسية كلها متصادقة سالمة فهذا هو الشرط فإن لم تصح الأمزجة أو تخالفت الأعضاء في أمزجتها وكانت الكبد مخالفة للمعدة مخالفة فوق الطبيعي، لم يلتفت إلى ذلك.
ومن مضار الطعام اللذيذ جداً أنه يمكن الاستكثار منه، وإن أوفق المرات للأكل المشبع أن يأكل يوماً وجبة ويوماً مرتين بكرة وعشية. ويجب أن تراعى العادة في ذلك مراعاة شديدة فإن من اعتاد مرتين وجب ضعف ووهنت قوته، بل يجب إن كان به ضعف هضم أن يتناول مرتين ويقلل الأكل كل مرة، ومن اعتاد الوجبة فثنى، عرض له ضعف وكسل واسترخاء. فإن وقف الغذاء عليه ضعف في مبيته وإن تعشى لم يستمر وعرض جشاء حامض، وخبث نفس، وغثيان، ومرارة فم، ولين بطن، لإيراده على المعدة ما لم تألفه وعرض ما يعرض لمن لم يجد هضم غذائه مما ستعرفه من العوارض. ومما يعرض له جبن وجزع ووجع في فم المعدة ولذع، ويظن أن أمعاءه واْحشاءه معلقة لخلو المعدة وانقباضها إلى نفسها وتقلصها، ويبول بولاً محرقاً ويبرز إبرازاً محترقاً، وربما عرض له برد الأطراف بانصباب المرارة إلى المعدة. وهذا في مراري الأمزجة أكثر، وكذلك في مراري المعدة دون البدن، ويفسد نومه ويكون متململاً. والأبدان التي تجتمع في معدها مرار كثيرة تحتاج إلى تناول مفرق وإلى سرعة تَغذٍ وإلى تمًديمه قبل الاستحمام.
وأما غيرهم فيجب أن يرتاضوا ويستحموا ثم يأكلوا، ولا يقدموا الأكل على الاستحمام. ومن احتاج إلى أكل مقدم على الرياضة، فليأكل من الخبز وحده قدراً يأخذ منه الهضم قبل شروعه في حركته. وكما أن الحركة قبل الطعام يجب أن لا تكون ضعيفة كذلك الحركة بعده يجب أن لا تكون إلا رقيقة لينة. ولامصلح للشهوة الفاسدة المائلة إلى الحريفة العائفة للحلو والدسم من القيء بمثل السكنجبين والفجل على السمك.
ويجب أن لا يأكل السمين من الناس كما يخرج من الحمام بل يصبر وينام نومة خفيفة، والأصلح لهم الوجبة، ولا ينبغي أن ينام على طعام طاف، وليحترز كل التحرّز عن الحركة العنيفة على الطعام فينفذ قبل الهضم، أو ينزلق بلا هضم، أو يفسد مزاجه بالخضخضة ولا يشرب عليه ماء كثيراً يفرق بينه وبين المعدة ويطفئه، بل يتربص بالشرب مدة نزوله عن المعدة، وليستدل عليه بخفة أعالي البطن، فإن أحوج العطش فليمص شيئاً يسيراً من الماء البارد مصاً. وكلما كان أبرد أقنع اليسير منه أكثر، وهذا القدر يبسط المعدة ويجمعها.
وبالجملة إن شرب على الطعام بعد الفراغ منه لا في خلله مقدار ما ينتفع فيه الطعام جاز. والمصابرة على العطش والنوم عليه نافع للمبرودين المرطوبين، ضار للمحرورين الممرورين، وكذلك الصبر على الجوع. ويعرض للممرورين من الصبر على الجوع أن تنصت المرار إلى معدهم، فإذا تناولوا شيئاً فسد طعامهم فعرض لهم في النوم واليقظة ما ذكرناه مما يعرض لمن فسد طعامه. ويعرض أيضاً أن تفسد شهوة الطعام، فحينئذ يجب أن يشرب ما يحذر ذلك ويلين الطبيعة مما هو خفيف غير مغير مثل الإجاص أو شيء يسير من الشيرخشت، فإذا عادت الشهوة أكل. على أن مرطوبي الأبدان بالرطوبة الطبيعية مهيئون لسرعة التحلل، فلا يصبرون على الجوع صبر يابسي الأبدان، إلا أن يكونوا مملوئين من رطوبات غير التي هي في جوهر أعضائهم إذا كانت جيدة موافقة قابلة لأن تحيلها الطبيعة إلى الغذاء التام بالفعل.
والشراب على الطعام من أضر الأشياء لأنه سريع الهضم والنفوذ فينفذ الطعام ولم ينهضم فيورث السدد والعفونة والجرب في بعض الأحايين. والحلاوات تسرع إيراث السدد لجذب الطبيعة لها قبل الهضم. والسدد توقع في أمراض كثيرة، منها الإستسقاء وغلظ الهواء والماء لا سيما في الصيف مما يفسد الطعام، فلا بأس أن يُشرب عليه قدح ممزوج، أو ماء حار طبخ فيه عود ومصطكى.
ومن كانت أحَشاؤه حارة قوية فإذا تناول طعاماً غليظاً، فكثيراً ما يعرض أن يصير طعامه رياحاً ممدة للمعدة ونواحيها، والعلة المراقبة من ذلك. وخالي المعدة إذا تناول لطيفاً سلمت عليه معدته، فإن تناول بعده غليظاً نفرت عنه المعدة ولم تهضمه فيفسد، اللهم إلا أن يجعل بينهما مهلة. والأولى في مثل هذه المحال أن يقدم الغليظ قليلاً قليلاً، فإن المعدة حينئذ لا تجبن عن اللطيفط، وإذا أفرط الأكل في التملي أو خضخض ما في المعدة حركة، أو شوشه شرب، فليبادر إلى القيء، فإن فات أو تعذر القيء شرب الماء الحار قليلاً قليلاً، فإنه يحدر الامتلاء ويجلب النعاس فليلق نفسه وينام كما شاء. فإن لم يغن ذلك أو لم يتيسر تأمل فإن كفت الطبيعة المؤنة بالدفع فيها فنعمت، وإلا أعانها مما يطلق بالرفق. أما المحرور فبمثل الإطريفل، والخلنجين المسفل مخلوطاً بشيء من الصعتر المربى. وأما المبرود فبمثل الكموني والشهربازاني والتمري المذكور في القراباذين. ولأن يمتلىء البدن من الشراب خير من أن يمتلىء من الطعام. ومما هو جيد أن يتناول الصبر على مثل هذا الطعام قدر ثلاث حمصات أو يؤخذ نصف درهم علك الأنباط، ودانق بورق ومما هو خفيف حمصتان، أو ثلاث من علك البطم، وربما جعل معه مثله أو أقل منه البورق، ومما هو محمود جداً أخذ شيء من الأفثيمون مع شراب. وإن لم يحصل شيء من ذلك نام نوماً طويلاً وهجر الغذاء يومأ واحداً، فإن خف استحم وكمد ولطف الغذاء، فإن لم يستمر مع هذا كله وأثقل ومدد وكسل، فاعلم أنه قد امتلأت العروق من فضوله، فإن الغذاء الكثيرٍ المفرط وإن عرض له أن ينهضم في المعدة فإنه قلما ينهضم في العروق، بل يبقى فيها نياً يممدها وربما صدَعها ويورث كسلاً وتمطياً وتثاؤباً فليعالج بما يسهل من العروق، فإن لم يحدث ذلك بل أحدث إعياءً فقط، فليسكن مدة ثم ليعالج النوع العارض من الإعياء بما سنذكره.
ومن أوغل في السن فلا يقبل بده من الغذاء ما كان يقبله وهو شاب فيصير غذاءه فضولاً فلا يأكلن قدر العادة بل دونه. ومعتاد تغليظ التدبير إذا لطف التدبير دخل من الهواء في المنافذ ما كان يشغله غلظ التدبير وليس يشغله الآن لطف التدبير، فكما يعود إلى التغليظ يحدث فيه السدد.
والأغذية الحارة تتدارك مضرتها بالسكنجبين لا سيما البزوري، فإنه أنفع أنواع السكنجبين إن كان سكرياً، وإن كان عسلياً فالساذج منه كاف، والباردة يتبعها ماء العسل وشرابه والكموني، والغليظ يتبعه حار المزاج سكنجبيناً قوي البزور، ويتبعه بارد المزاج شيئاً من الفلافلي والفوذنجي.
والأغذية اللطيفة أحفظ للصحة وأفل معونة للقوة والجلد، والغليظة بالضد، فمن احتاج إلى جلد واحتاج بسببه إلى أغذية قوية الكيموس رصد الجوع الشديد ويتناول منها غير الكثيرة لينهضم. وأصحاب الرياضات والتعب الكثير أحمل للاغذية الغليظة. ومما يعينهم على هضمها قوة نومهم واستغراقهم فيه، لكنه يعرض لهم لكثرة ما يعرفون ويتحلل من أبدانهم أن تسلب أكبادهم من الغذاء ما لم ينهضم بعد فيهيئوهم لأمراض قتالة في آخر العمر أو في أوله وخصوصاً وهم يعترفون بهضمهم الذي لهم من نومهم الذي يبطل إذا عرض لهم سهر متواتر، خصوصاً إذا استحموا.
والفواكه الرطبة إنما توافق الغير المرتاضين الممرورين في الصيف وأن تؤكل قبل الطعام وهي مثل المشمش والتوت والبطيخ وكذلك الخوخ والإجاص وأن يدبروا بغيرها فهو أحب فإن كل ما يملأ الدم مائية يغلي في البدن غليان عصارات الفواكه في خارج ، وإن كا ربما نفع في الوقت فإنه يهيئه للعفونة.
وكذلك كل ما ملأ الدم خلطاً نيئاً وإن كان ربما نفع كالقثاء والقشد ولذلك كان المستكثرون من هذه الأغذية معرضين للحميات وأن بردت في أوَل الأمر.
واعلم أن الخلط المائي ربما عرض له أن يصير صديداً وذلك إذا لم يتحلل وبقي في العروق، وهؤلاء إفذ استعملوا الرياضات قبل أن تجتمع هذه المائيات بل كما كانوا يتناولون من الفواكه يرتاضون لتحلل تلك المائيات وقل تضررهم بها.
واعلم أيضاً أنه إذا كان في الدم خام أو مائي منع من أن يلتصق بالبدن فيقل وخليق بمن يأكل الفاكهة أن يمشي بعدها ثم ليأكل عليها ليزلق.
والأغذية التي تولد المائية والخلط الغليظ اللزج والمراري فإنها تجلب الحميات لتعفين المائي منها للدم وتسديد اللزج والغليظ منها للمجاري والمرارية، وتسخين المراري منها للبدن وحدة الدم المتولد عنها، والبقول المرارية ربما أكثر نفعها في الشتاء كما أن التفهة ربما أكثر نفعها في الصيف، ومن صار إلى أن ينال من الأغذية الرديئة فليقلل من المرات ولا يتواتر وليخلط بها ما يضادها فإن تأذى بالحلو شرب عليه الحامض من الخل والرمان وسكنجبين الخل والسفرجل ونحوه، وتعهد الاستفراغ ومن تأذى بالحامض تناول عليه العسل والشراب العتيق وذلك قبل النضج والانهضام، وكذلك فليتدارك أذى الدسم بالعفص مثل: الشاهبلوط وحب الآس والخرنوب الشامي والنبق والزعرور، وبالمر مثل الراسن المر وبالمالح والحريف مثل الكواميخ والثوم والبصل وبالعكس، ومن كان بدنه رديء الأخلاط مع رقة وسع عليه في الغذاء المحمود، ومن كان بدنه سهل التحلل غذي بالرطب السريع الانهضام. قال جالينوس: والغذاء الرطب هو المفارق لكل كيفية كأنه نقه فليس بحلو ولا حامض ولا مر ولا حريف ولا قابض ولا مالح والمتخلخل أحمل للغذاء الغليظ من المتكاثف، والاستكثار من الأغذية اليابسة يسقط الشهوة، ويفسد اللون ويجفف الطبع، ومن الدسم يكسل ويذمب الشهوة، ومن البارد يكسل ويفتر ومن الحامض يجلب الهرم وكذلكً من الحريف ومن المالح يضر بالمعدة والمالح يضر بالعين، والغذاء الدسم والموافق إذا تنوول بعده غذاء رديء أفسده، والغذاء اللزج أبطأ انحداراً وكذا الخيار بقشره أسرع انحداراً من المقشر، وكذلك الخبز بالنخالة أسرع انحداراً من المنخول والمتعب إذا لطف تدبيره ثم تناول غليظاً كالأرز بلبن بعد الجوع أحد الدم وأثاره واحتاج إلى قصد وإن كان قريب العهد به وكذلك الغضبان.
واعلم أن الحلو من الغذاء تبتزه الطبيعة قبل النضج والانهضام فيفسد الدم وقد يعرض للأغذية من جهة تأليفها إحكام، وقد قال أصحاب التجارب من أهل الهند وغيرهم أنه لا ينبغي أن يؤكل لبن مع الحموضات ولا سمك مع لبن فإنهما يورثان أمراضاً مزمنة منها الجذام. وقالوا أيضاً لا يؤكل ماش مع الجبن ولا مع لحوم الطير ولا سويق على أرز بلبن ولا يستعمل في المطعومات دهن أو دسم كان في إناء نحاس ولا يؤكل شواء شوي على جمر الخروع. والأطعمة المختلفة تضر من وجهين أحدهما لاختلافها في الهضم واختلاف المنهضم منها وغير المنهضم.
والثانية أنها يمكن أن يتناول منها أكثر من الباج الواحد، وقد هرب أصحاب الرياضة في الزمان القديم من ذلك إذ كانوا يقتصرون على اللحم في الغذاء وعلى الخبز في العشاء. وأفضل أوقات الأكل في الصيف الوقت الذي هو أبرد ومدافعة الجوع ربما ملأت المعدة صديدات رديئة. واعلم أن الكباب إذا انهضم كان أغذى غذاء وهو بطي الإنحدار باق في الأعور والشورباج غذاء جيد وإذا كان ببصل طرد الرياح وإن لم يكن ببصل أهاج الرياح، ومن الناس من يحسب أن العنب على الرؤوس المشوية جيد وليس كما يحسب بل هو رديء جداً قكذلك النبيذ بل يجب أن يؤكل عليه مثل حب الرمان بلا ثفله.
واعلم أن الطيهوج يابس يعقل والفروج رطب يطلق وخير الدجاج المشوي ما شوي في بطن جدي أو حمل فيحفظ رطوبته. واعلم أن مرق الفروج شديد التعليل للأخلاط أكثر من مرق الدجاج لكن مرق الدجاج أغذى، والجدي بارداً أطيب لسكون بخاره، والحمل حاراً أطيب لذوبان سهولته، والذرباج للمحرورين يجب أن يكون بلا زعفران وللمبرود يجب أن يكون بزعفران، والحلاوات وإن كانت بسكر كالفالوذج فإنها رديئة لتسديدها وتعطيشها. واعلم أن مضرة الخبز إذا لم ينهضم كثيرة ومضرة اللحم إذا لم ينهضم دون ذلك في المضرة وقس على ذلك نظائر ما قلناه.
●[ يتم متابعة التعليم الثاني : التدبير المشترك للبالغين ]●
القانون فى الطب لإبن سينا
الكتاب الأول: الأمور الكلية فى علم الطب
منتدى حُكماء رُحماء الطبى . البوابة