بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
القانون فى الطب لإبن سينا
الكتاب الأول: الأمور الكلية فى علم الطب
الفن الثانى: الأمراض والأسباب والأعراض الكلية
التعليم الأوّل : الأمراض
● [ الفصل الأول: السبب والمرض والعرض ] ●
نقول: إنَ السبب في الطب وهو ما يكون أولاً، فيجب عنه وجود حالة من حالات بدن الإنسان أو ثباتها. والمرض هيئة غير طبيعية في بدن الإنسان يجب عنها بالذات آفة في الفعل وجوباً أولياً وذلك، إمّا مزاج غير طبيعي، وإما تركيب غير طبيعي.
والعرض هو الشيء الذي يتبع هذه الهيئة، وهو غير طبيعي سواء كان مضاداً للطبيعي مثل الوجع في القولنج أو غير مضاد مثل إفراد حمرة الخد في ذات الرئة، مثال السبب العفونة. مثال المرض الحمى، مثال العرض العطش، والصداع. وأيضاً مثال السبب امتلاء في الأوعية المنحدرة إلى العين، مثال المرض السدّة في العنبية، وهو مرض آلي تركيبي، مثال العرض فقدان الإبصار، وأيضاً مثال السبب نزلة حادة، مثال المرض قرحة في الرئة، مثال العرض حمرة الوجنتين، وانجذاب الأظفار. والعرض يسمّى عرضاً باعتبار ذاته أو بقياسه إلى المعروض له ويسمى دليلاً باعتبار مطالعة الطبيب إياه وسلوكه منه إلى معرفة ماهية المرض وقد يصير المرض سبباً لمرض آخر كالقولنج للغشي أو للفالج أو الصرع ، بل قد يصير العرض سبباً للمرض، كالوجع الشديد يصير سبباً للورم لانصباب المواد إلى موضع الوجع. وقد يصير العرض بنفسه مرضاً، كالصداع العارض عن الحمى فإنه ربما استقر واستحكم حتى يصير مرضاً قد يكون الشيء بالقياس إلى نفسه وإلى شيء قبله وإلى شيء بعده مرضاً وعرضاً وسبباً، مثل الحمى السلية فإنَها عرض لقرحة الرئة، ومرض في نفسها وسبب لضعف المعدة مثلاً. ومثل الصداع الحادث عن الحمّى إذا استحكم فإنه عرض للحمّى، ومرض في نفسه وربما جلب البرسام أو السرسام فصار ذلك سبباً للمرضين المذكورين.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [ الفصل الثاني: أحوال البدن وأجناس المرض ] ●
أحوال بدن الإنسان عند "جالينوس" ثلاث: الصحة وهي هيئة يكون بها بدن الإنسان في مزاجه وتركيبه بحيث يصدر عنه الأفعال كلها صحيحة سليمة. والمرض هيئة في بدن الإنسان مضادة لهذه وحالة عنده ليست بصحة ولا مرض، إما لعدم الصحة في الغاية والمرض في الغاية، كأبدان الشيوخ والناقهين والأطفال، أو لاجتماع الأمرين في وقت واحد، إما في عضوين، وإما في عضو، ولكن في جنسين متباعدين مثل أن يكون صحيح المزاج مريض التركيب.
أو في عضو وفي جنسين متقاربين مثل أن يكون صحيحاً في الشكل ليس صحيحاً في المقدار والوضع، أو صحيحاً في الكيفيتين المنفعلتين ليس صحيحاً في الفاعلتين، أو لتعاقب من الأمرين في وقتين مثل من يصح شتاء ويمرض صيفاً.
والأمراض منها مفردة، ومنها مركبة. والمفردة هي التي تكون نوعاً واحداً من أنواع مرض المزاج أو نوعاً واحداً من أنواع مرض التركيب الذي نذكره بعد. والمركبة هي التي يجتمع منها نوعان فصاعداً يتحد منها مرض واحد. فلنبدأ أولاً بالأمراض المفردة فنقول: إنّ أجناس الأمراض المفردة ثلاثة: الأول: جنس الأمراض المنسوبة إلى الأعضاء المتشابهة الأجزاء وهي أمراض سوء المزاج، وإنما نسبت إلى الأعضاء المتشابهة الأجزاء لأنّها أولاً وبالذات تعرض للمتشابهة الأجزاء، ومن أجلها تعرض للأعضاء المركّبة حتى إنها يمكن أن تتصوّر حاصلة موجودة في أي عضو من الأعضاء المتشابهة الأجزاء شئت. والمركبة لا يمكن فيها.
والثاني: جنس أمراض الأعضاء الآلية، وهي أمراض التركيب الواقع في أعضاء مؤلفة من الأعضاء المتشابهة الأجزاء هي آلات الأفعال.
والثالث: جنس الأمراض المشتركة التي تعرض للمتشابهة الأجزاء، وتعرض للآلية بما هي آلية من غير أن يتبع عروضها للآلية عروضها للمتشابهة الأجزاء، وهو الذي يسمُّونه تفرق لاتصال وانحلال الفرد، فإن تفرق الإتصال قد يعرض للمفصل من غير أن تعرض للمتشابهة الأجزاء التي ركب منها المفصل البتة. وقد يعرض لمثل العصب والعظم والعروق وحدها.
وبالجملة الأمراض ثلاثة أجناس: أمراض تتبع سوء المزاج، وأمراض تتبع سوء هيئة التركيب، وأمراض تتبع تفرّق الإتصال. وكل مرض يتبع واحداً من هذه ويكون عنه تنسب إليه وأمراض سوء المزاج معروفة، وهي ستة عشرة قد ذكرناها.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [ الفصل الثالث: أمراض التركيب ] ●
وأمراض التركيب أيضاً تنحصر في أربعة أجناس: أمراض الخلقة،. وأمراض المقدار، وأمراض العدد، وأمراض الوضع.
وأمراض الخلقة: تنحصر في أجناس أربعة: أمراض الشكل، وهو أن يتغير الشكل عن مجراه الطبيعي فيحدث تغيره اَفة في الفعل كاعوجاج المستقيم، واستقامة المعوج، وتربع المستدير، واستدارة المربّع، ومن هذا الباب سفيط الرأس إذا عرض منه ضرر، وشدة استدارة المعدة، وعدم القرحة في الحدقة.
والثاني أمراض المجاري، وهي ثلاثة أصناف لأنها، إما أن تتسع كانتشار العين، وكالسبل وكالدوالي، أو تضيق كضيق ثقب العين ومنافذ النفس والمريء، أو تنسدّ كانسداد الثقبة العنبية وعروق الكبد وغيرها.
والثالث أمراض الأوعية والتجاويف وهي على أصناف أربعة: فإنها إمّا أن تكبر وتتسع كاتساع كيس الأنثيين، أو تصغر وتضيق كضيق المعدة وضيق بطون الدماغ عند الصرع، أو تنسدُ وتمتلئ كانسداد بطون الدماغ عند السكتة، أو تستفرغ وتخلو كخلو تجاويف القلب عن الدم عند شدة الفرح المهلكة وشدّة اللذة المهلكة.
والرابع أمراض صفائح الأعضاء، إما بأن يتملس ما يجب أن يخشن كالمعدة والمعي إذا تملست، أو يخشن ما يجب أن يتلمس كقصبة الرئة إذا خشنت.
هذا وأما أمراض المقدار: فهي صنفان: فإنها إما أن تكون من جنس الزيادة كداء القيل، وتعظم القضيب وهي علة تسمى فريسميوس، وكما عرض لرجل يسمى "نيقوماخس " أن عظمت أعضاؤه كلها حتى عجز عن الحركة. وإما أن تكون من جنس النقصان كضمور اللسان والحدقة وكالذبول.
وأما أمراض العدد: فإما أن تكون من جنس الزيادة وتلك، إما طبيعية كالسن الشاغبة والإصبع الزائدة، أو غير طبيعية كالسلعة والحصاة، وإما من جنس النقصان سواء كان نقصاناً في الطبع كمن لم يخلق له إصبع، أو نقصاناً لا في الطبع كمن قطعت أصبعه.
وأما أمراض الوضع: فإن الوضع عند "جالينوس" يقتضي الموضع ويقتضي المشاركة. فأمراض الوضع أربعة: انخلاع العضو عن مفصله أو زواله عن وضعه من غير انخلاع كما في الفتق المنسوب إلى الأمعاء، أو حركته فيه لا على المجرى الطبيعي أو الإرادي كالرعشة، أو لزومه موضعه فلا يتحرك عنه كما يعرض عند تحجر المفاصل في مرض النقرس. وأمراض المشاركة وهي تشتمل على كل حالة تكون للعضو بالقياس إلى عضو يجاوره من مقاربته أو مباعدته لا على المجرى الطبيعي وهو صفنان: أحدهما أن يعرض له امتناع حركته إليه، أو تعسرها بعد أن كان ذلك ممكناً له مثل الإصبع إذا إمتنع تحركها إلى ملاصقة جارتها، أو يعرض لها امتناع تحركها عنها ومفارقتها إياها بعد أن كان ذلك ممكناً، أو تعسر تباعدها وذلك مثل استرخاء الجفن واسترخاء المفاصل في الفالج، أو تعسّر بسط الكف وفتح الجفن.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [ الفصل الرابع أمراض تفرق الإتصال ] ●
وأما أمراض تفرق الإتصال، فقد تقع في الجلد وتسمى خدشاً وسحجاً، وقد تقع في اللحم والقريب منه الذي لم يقيح وتسمّى جراحة. والذي قيح تسمى قرحة ويحدث فيه القيح لاندفاع الفضول إليه لضعفه وعجزه عن استعمال غذائه وهضمه، فيستحيل أيضاً فضل فيه، وربما قبلت الجراحة والقرحة لتفرق اتصال يعرض في غير اللحم، وقد يقع في العظم، إما مكسر إلى جزأين أو أجزاء كبار، هاما مفتتاً أو واقعاً في طوله صادعاً، وإما أن يقع في الغضاريف على الأقسام الثلاثة، أو يقع في العصب. فإن وقع عرضاً سمي بتراً وإن وقع طولاً ولم يكن غوراً كبيراً سمي شقًا، وإن كان غوراً كبيراً سمي شدخاً. وقد يقع في أجزاء العضلة، فإن وقع على طرف العضلة سمي هتكاً سواء كان في عصبة أو وتر، وإن وقع في عرض العضلة سمي جزاً، وإن وقع في الطول وقل عدده وكبر غوره سمي فدغاً، وإن كثر أجزاؤه وفشا وغار سمي رضا وفسخاً، وربّما قيل الفسخ والرضض والفدغ لكل ما يتفق في وسط العضلة كيف كان. فإن وقع في الشرايين أو الأوردة سمي انفجاراً، ثم إما أن يعترضها فيسمى قطعاً أو فصلاً، أو ينفذ في طولها فيسمى صدعاً، أو يكون ذلك على سبيل تفتح فوهاتها فيسمى بثقاً. وإن كان في الشريان فلم يلتحم، وكان الدم يسيل منه إلى الفضاء الذي يحويه حتى يمتلئ ذلك الفضاء. وإذا عصرت عاد إلى العرق سمّي أم الدم، وقوم يقولون أم الدم لكل انفجار شرياني .
واعلم أنه ليس كل عضو يحتمل انحلال الفرد، فإن القلب لا يحتمله ويكون معه الموت، وإما أن يقع في الأغشية والحجب فيسقى فتقاً، وإما أن يقع بين جزأين من عضو مركّب فيفصل أحدهما من الآخر من غير أن ينال العضو المتشابه الأجزاء تفرق اتصال، فيسمى انفصالاً وخلعاً. وإذا كان ذلك في عصب زال عن موضعه سمي فكاً. وقد يكون تفرّق الاتصال في المجاري فيوسع وقد يكون في غير المجاري فيحدث مجاري لم تكن وزوال الإتصال والتقرح ونحوه إذا وقع في عضو جيد المزاج صلح بسرعة وإن وقع في عضو رديء المزاج استعصى حيناً ولا سيما في أبدان مثل أبدان الذين بهم الاستسقاء أو سوء القنية أو الجذام. واعلم أن القروح الصيفية إذا تطاولت وقعت الآكلة وأنت ستجد في كتب التفصيل استقصاء لأمر تفرق الإتصال مؤخراً إليه فاعلم ذلك.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [ الفصل الخامس: الأمراض المركبة ] ●
وأما الأمراض المركبة فلنقل فيها أيضاً قولاً كلياً فنقول: إنا لسنا نعني بالأمراض المركبة أي أمراض اتفقت متجمعة، بل الأمراض التي إذا اجتمعت حدث من جملتها شيء هو مرض واحد، وهذا مثل الورم، والبثور من جنس الورم فإن البثور أورام صغار كما أن الأورام بثور كبار. والورم يوجد فيه أجناس الأمراض كلها، فيوجد فيه مرض مزاج لآفة، لأنه لا ورم إلا ويحدث من سوء مزاج مع مادة ويوجد فيه مرض الهيئة والتركيب، فإنه لا ورم إلا وهناك آفة في الشكل والمقدار، وربما كان معه أمراض الوضع ويوجد فيه المرض المشترك، وهو تفرق الإتصال فإنه لا ورم إلا وهنا تفرق اتصال، فإنه لا شك أن تفرق الاتصال لما انصبت المواد الفضلية إلى العضو الوَرِمِ وسكنت بين أجزائه مفرقة بعضها عن بعض حتى تأخذ لأنفسها أمكنة
والورم يعرض للأعضاء اللينة، وقد يعرض شيء شبيه بالورم في العظام يغلظ له حجمها وتزداد رطوبتها، ولا يغرب أن يكون القابل للزيادة بالغذاء يقبلها بالفعل إذا أنفذ فيه، أو حدث فيه، وكل ورم ليس له سبب بادٍ ، وسببه البدني يتضمّن انتقال مادة من عضو إلى ما تحته فيسمى نزلة. وربما كان السبب المادي الذي تتولد منه الأورام والبثور مغموراً في أخلاط أخرى غير مؤذية في كيفيتها، فإذا استفرغت الأخلاط الجيدة في وجوه من الاستفراغ: إما الطبيعي، كما يعرض للنفساء في الإرضاع، وإما غير الطبيعي كما يعرض لجراحة تسيل دماً محموداً، بقيت تلك الأخلاط الرديئة خالصة مفردة فتأذّى بها الطبع فدفعها. وربما كان وجه دفعها إلى الجلد، فحدثت أورام وبثور. فالأورام قد تنفصل بفصول مختلفة، إلا أن فصولها بالاعتبار هي الفصول الكائنة عن أسبابها، وهي المواد التي تكون عنها الأورام والمراد التي تكون عنها الأورام ستة: الأخلاط الأربعة والمائية والريح. فالورم إما أن يكون حاراَ، وإما أن لا يكون، ولا ينبغي أن يظن أن الورم الحار هو الكائن عن دم أو مرّة فقط، بل عن كل مادة كانت حارة بجوهرها، أو عرضت لها الحرارة بالعفونة، وإن كانت هذه الأجناس أيضاً قد تنقسم بحسب انقسام أنواع كل مادة، وذلك بالقول النوعي في الأورام أولى. وعادتهم أن يسموا الدموي المحض فلغمونيا ، والصفراوي المحض جمرة، والمركب منها باسم مركّب منهما، ويقدّمون الأغلب فيقولون مَرَة فلغموني جمرة، وَمرَة جمرة فلغمونية، وإذا جمع سمي خراجاً، وإذا وقع الخراج في اللحوم الرخوة والمغابن وخلف الأذنين والأرنبة وكان من جنس فاسد- وسنذكره في موضعه الجزئي- سمي طاعوناً.
وللأرام الحارة ابتداء فيه يندفع الخلط ويظهر الحجم ثم يزيد ويزيد معه الحجم ويتمدد ثم يقف عند غاية الحجم ثم يأخذ في الانحطاط فينضج بتحلّل أو قيح وماَل أمره، إما تحلّل وإما جمع مدة، وإما استحالة إلى الصلابة.
وأما الأورام الغير الحارة فإما أن تكون من مادة سوداوية أو بلغمية أو مائية أو ريحية. والكائنة عن مادة سوداوية ثلاثة أجناس: الصلابة، والسرطان، وأكثرهما حريفية. وأجناس الغدد التي منها الخنازير والسلع . والفرق بين أجناس الغدد وبين الجنسين الآخرين، أن أجناس الغدد تكون مبتدئة عما يحويها مثل الغدد المحضة، أو متشبثة بظاهرها فقط مثل الخنازير. وأما تلك الأخر فتكون مخالطة مداخلة لجوهر العضو التي هي فيه. والفرق بين السرطان والصلابة، أن الصلابة ورم ساكن هاد مبطل للحس، أو آيف فيه لا وجع معه. والسرطان متحرك متزيّد مؤذٍ له أصول ناشئة في الأعضاء ليس يجب أن يبطل معه الحس إلا أن تطول مدته فيميت العضو، ويبطل حسّه، وليس يبعد أن يكون الفصل بين الصلابة والسرطان بعوارض لازمة لا بفصول جوهرية. والأورام الصلبة السوداوية تبتدىء في أول كونها صلبة، وقد تنتقل إلى الصلابة وخصوصاً الدموية وقد يعرض ذلك أيضاً في البلغمية أحياناً وتفارق الغدد والسلع وما أشبههما من تعقد العصب بأن التعقد ألزم لموضعه وملمسه عصبي، وإذا مدد بالغمز عاد، وإذا تبدَد بدواء قوي غير الغمز لم يعد. وأكثرها تحدث عن التعب وتبطل بالمثقلات من الأسرب ونحوه، وأما جنس الأورام البلغمية فينقسم إلى نوعين: الورم الرخو والسلع اللينة ويتفاصلان بأن السلع متميزة في غلف، والورم الرخو مخالط غير متميّز، وأكثر أورام الشتاء بلغمية حتى الحارة منها تكون بيض الألوان. واعلم أن الأورام البلغمية تختلف بحسب غلظ البلغم ورخاوته ورقته حتى تشبه تارة السوداوية وتارة الريحية، وكثيراً ما ينزل البلغم الرقيق في النوازل في خلل ليف الأعصاب حتى يبلغ إلى مثل عضلات الحنجرة السفلى منها فما دونها. وأما الأورام المائية فهي كالاستسقاء والقيلة المائية والورم الذي يعرض في القحف من المائية وما يشبه ذلك، وأما الأورام الريحية فهي أيضاً تتنوع إلى نوعين: أحدهما التهيج، والآخر النفخة والفرق بين التهيج والنفخة من وجهين: أحدهما القوام والثاني المخالطة. وبيان هذا أن الريح في التهيج مخالطة لجوهر العضو وفي النفخة مجتمعة متمددة غير مخالطة للعضو، وأن التهيج يستلينه الحس، والنفخة تقاوم المدافع مقاومة كثيرة أو قليلة، والبثور أيضاً على عدد الأورام، فمنها دموية كالجدري، وصفراوية محضة كالشري الصفراوي والجاورسية، ومختلطة كالحصبة والنملة والمسامير والجرب والثآليل وغير ذلك، وقد تكون مائية كالنفاطات، وريحية كالنفّاخات، وأنت تجد ذلك في الكتاب الرابع تفصيلاً لأحوال الأورام والبثور ويليق بذلك الموضع.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [الفصل السادس: أمور تُعد مع الأمراض وأمور خارجة عنها] ●
وههنا أمور خارجة عن الأمراض وتعد فيها، وهي الأمور الداخلة في الزينة، أحدها في الشعر، والثاني في اللون، والثالث في الرائحة، والرابع في السحنة بعد اللون. وأجناس أمراض الشعر التناثر والتمرط والقصر والفلة والشقاق والدقة والغلظ وإفراط الجعودة وإفراط السبوطة والشيب واستحالة اللون كيف كان. وآفات اللون تدخل في أربع أجناس: جنس استحالته عن سوء مزاج بمادة كاليرقان، أو بغير مادة كالحصبة العارضة للون عن مزاج بارد مفرد، والصفرة التي ربما كانت عن مزاج حار مفرد، وجنس إستحالته عن أسباب بادية كما تسفع الشمس والبرد والريح اللون، وجنس إنبساط أجسام غريبة اللون على الجلد الحامل اللون كالبهق الأسود، والتقاطها فيه كالخيلان والنمش. وجنس الآثار العارضة من التئام تفرق إتصال عرض كآثار الجدري وأنداب القروح وآفات الرائحة كالضأن وغيره من الروائح الكريهة التي تفوح من الأبدان، وآفات السحنة بعد اللون، إما الهزال المفرط وإما السمن المفرط.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [ الفصل السابع: أوقات الأمراض ] ●
واعلم أن لأكثر الأمراض أربعة أوقات: وقت الابتداء، ووقت التزايد، ووقت منتهى، ووقت الإنحطاط. وما خرج من هذه فهي من أوقات الصحة. وليس نعني بوقت الإبتداء والإنتهاء طرفان لا يستبان فيهما حال المرض، بل لكل واحد منهما زمان محسوس يكون له حكم مخصوص.
ووقت الإبتداء هو الزمان الذي يظهر فيه المرض ويكون كالمتشابه في أحواله لا يستبان فيه تزايده.
والتزايد هو الوقت الني يستبان فيه اشتداده كل وقت بعد وقت.
ووقت الانتهاء هو الوقت الذي يقف فيه المرض في جميع أجزائه على حالة واحدة. والانحطاط هو الزمان الذي يظهر فيه انتقاصه. وكل ما أمعن كان الانتقاص أظهر.
وهذه الأوقات قد تكون بحسب المرض من أوله إلى آخره في نوائبه وتسمى أوقاتاً كلية، وقد تكون بحسب نوبة نوبة وتسمى أوقاتاَ جزئية.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [ الفصل الثامن: تمام القول في الأمراض ] ●
إن الأمراض قد تلحقها التسمية من وجوه. إمّا من الأعضاء الحاملة لها كذات الجنب وذات الرئة، وإما من أعراضها كالصرع، وإما من أسبابها كقولنا مرض سوداوي، وإما من التشبيه كقولنا داء الأسد، وداء الفيل، وإما منسوباً إلى أول من يذكر أنه عرض له ذلك كقولهم قرحة طيلانية منسوبة إلى رجل يسمى "طيلانس" وإما منسوباً إلى بلدة يكثر حدوثها فيه كقولهم القروح البلخية ، وإما منسوباً إلى من كان مشهوراً بالإنجاح في معالجاتها كالقرحة السيروتية، وإما من جواهرها وذواتها كالحمى والورم.
قال "جالينوس ": إن الأمراض إمّا ظاهرة فتعرف حساً، وإما باطنة سهلة الوقوف عليها كأوجاع المعدة والرئة، أو عسرة الوقوف عليها كآفات الكبد ومجاري الرئة، وإما غير مدركة إلا بالتخمين كالآفات العارضة لمجاري البول. والأمراض قد تكون خاصة ، وقد تكون بالشركة ، والعضو يشارك عضواً في مرضه، إما لأنهما متواصلان بالطبع يتّصل بينهما اَلات كالدماغ والمعدة يوصل بينهما العصب والرحم والثدي يوصل الأوردة بينهما، وإما لأن أحدهما طريق إلى الثاني كالأربيتين لورم الساق، وإما لأنهما متجاوران كالرئة والدماغ فكل يشرك الآخر، وخصوصاً إذا كان أحدهما حاراً ضعيفاً فيقبل الفضل من صاحبه كالإبط للقلب، وإما لأن أحدهما مبدأ فاضل لفعل الثاني كالحجاب للرئة في التنفس، وإما لأن أحدهما يخدم الثاني كالعصب للدماغ، وإما لأنهما يشاركان عضواً ثالثاً مثل الدماغ تشارك الكلية بسبب أن كل واحد منهما يشارك الكبد. وربما عادت الشركة. وبالأمثل أن الدماغ إذا لم تشاركه المعدة فضعف هضمها فأوصلت إليه أبخرة رديئة وغذاء غير منهضم، فزادت في ألم الدماغ نفسه. والمشاركة تجري على أحكام الأصل في الدوام وفي الدور. ومراتب الأبدان من الصحة والمرض ستة على ما نحن نصفه: بدن في غاية الصحة، وبدن في الصحة دون الغاية، وبدن لا صحي ولا مرضيّ، كما قيل، ثم البدن المستقام القابل للصحة سريعاً، ثم البدن المريض مرضاً يسيراً، ثم البدن المريض في الغاية، وكل مرض إما مسلم، وإما غير مسلم. والمسلم هو المرض الذي لا عائق عن معالجته كما ينبغي. وغير المسلم هو الذي يقترن به عائق لا يرخص في صواب تدبيره مثل الصداع إذا قارنته النزلة.
واعلم أن المرض المناسب للمزاج والسن والفضل أقل خطراً من الذي لا يناسبه. فإن الذي لا يناسبه ولا يحدث إلا عن عظم سببه. واعلم أن أمراض كل فصل يرجى أن ينحل في صدره من الفضول. واعلم أن من الأمراض أمراضاً تنتقل إلى أمراض أخرى وتقلع هي ويكون فيها خيرة، فيكون مرض واحد شفاء من أمراض أخرى مثل الربع ، فإنه كثيراً ما يشفي من الصرع والنقرس والدوالي وأوجاع المفاصل والجرب والحكة والبثور ومن التشنّج. وكذلك الذرب من الرمد ومن زلق الأمعاء ومن ذات الجنب وكذلك انفتاح عروق المقعدة وينفع من كل مرض سوداي ومن وجع الورك ومن أوجاع الكِلى والأرحام. وقد ينتقل بعض الأمراض إلى أمراض أخرى فيصير الحال لذلك أشد رداءة مثل انتقال ذات الجنب إلى ذات الرئة ، وانتقال العلّة المعروفة بقرانيطس إلى ليثرغس .
ومن الأمراض أمراض معدية مثل الجذام والجرب والجدري والحمى الوبائية والقروح العفنة وخصوصاً إذا ضاقت المساكن، وكذلك إذا كان المجاور في أسفل الريح، ومثل الرمد وخصوصاً إلى متأمله بعينه، ومثل الضَرَس حتى إن تخيل الحامض يفعله ومثل السبل ومثل البرص. ومن الأمراض أمراض تتوارث في النسل مثل القرع الطبيعي والبرص والنقرس والسبل والجذام. ومن الأمراض أمراض جنسية تختص بقبيلة أو بسكان ناحية أو يكثر فيهم. واعلم أن ضعف الأعضاء تابع لسوء المزاج أو تحلّل البنية.
● [ تم التعليم الأول وهو ثمان فصول ] ●
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
القانون فى الطب لإبن سينا
الكتاب الأول: الأمور الكلية فى علم الطب
الفن الثانى: الأمراض والأسباب والأعراض الكلية
التعليم الثاني : الأسباب
● [ الجملة الأولى ] ●
الفصل الأول: قول كلي في الأسباب
أسباب أحوال البدن وقد قدمناها، أعني الصحة والمرض، والحال المتوسطة بينهما ثلاثة: السابقة والبادية والواصلة، وتشترك السابقة والواصلة في أنهما أمور بدنية، أعني خلطية، أو مزاجية، أو تركيبية. والأسباب البادية هي من أمور خارجة عن جوهر البدن، إما من جهة أجسام خارجة مثل ما يحدث عن الضرب وسخونة الجو والطعام الحار أو البارد الواردين على البدن، وإما من جهة النفس، فإن النفس شيء آخر غير البدن مثل ما يحدث عن الغضب والخوف وما يشبههما.
والأسباب السابقة والبادية تشترك في أنه قد يكون بينهما وبين هذه الأحوال واسطة ما.
والأسباب البادية والأسباب الواصلة تشترك في أنه قد لا يكون بينهما وبين الحالة المذكورة واسطة، لكن الأسباب السابقة تنفصل عن الأسباب الواصلة بأن الأسباب السابقة لا يليها الحالة بل بينهما أسباب أخرى أقرب إلى الحالة من السابقة.
والأسباب السابقة تنفصل من البادية بأنها بدنية، وأيضاً فإن الأسباب السابقة يكون بينها وبين الحالة واسطة لا محالة. والأسباب البادية ليس يجب فيها ذلك.
والأسباب الواصلة لا يكون بينها وبين الحالة واسطة البتة. والأسباب البادية ليس يجب فيها ذلك، بل الأمر أن فيها ممكنان فالأسباب السابقة هي أسباب بدنية أعني خلطية، أو مزاجية، أو تركيبية، هي الموجبة للحالة إيجاباً غير أولي أعني توجبها بواسطة. والأسباب الواصلة أسباب بدنية توجب أحوالاً بدنية إيجاباً أولياً أي بغير واسطة والأسباب البادية أسباب غير بدنية توجب أحوالاً بدنية إيجاباً أولياً وغير أولي مثال الأسباب السابقة الإمتلاء للحمى، وإمتلاء أوعية العين لنزول الماء فيها. ومثال الأسباب الواصلة العفونة للحمى، والرطوبة السائلة إلى النفث للسدة، والسدة للحمى، ومثال الأسباب البادية حرارة الشمس وشدة الحرارة، أو الغم أو السهر أو تناول شيء مسخن كالثوم. كل ذلك للحمى، أو الضربة للانتشار ونزول الماء في العين. وكل سبب إما سبب بالذات، كالفلفل يسخن والأفيون يبرد، وإما بالعرض كالماء البارد إذا سخن بالتكثيف وتحقن الحرارة، والماء الحار إذا برد بالتحليل، والسقمونيا إذا برد باستفراغ الخلط المسخًن وليس كل سبب يصل إلى البدن يفعل فيه بل قد يحتاج مع ذلك إلى أمور ثلاثة: إلى قوة من قوته الفاعلة، وقوة من قوة البدن الإستعدادية، وتمكن من ملاقاة أحدهما الآخر زماناً في مثله يصدر ذلك الفعل عنه.
وقد تختلف أحوال الأسباب عند موجباتها، فربما كان السبب واحداً واقتضى في أبدان شتى أمراضاً شتى، أو في أوقات شتى أمراضاً شتى، وقد يختلف فعله في الضعيف والقوي وفي شديد الحسّ وضعيف الحس.
ومن الأسباب ما هو مخلِف ومنها ما هو غير مخلِف والمخلِف هو الذي إذا فارق، يبقى تأثيره. وغير المخلِف هو الذي يكون البرء مع مفارقته. ونقول: إن الأسباب المغيرة لأحوال الأبدان والحافظة لها، إما ضرورية لا يتأتى للإنسان التفصي عنها في حياته، وإما غير ضرورية. والضرورية ستة أجناس: جنس الهواء المحيط وجنس ما يؤكل ويشرب وجنس الحركة والسكون البدنيين وجنس الحركات النفسانية وجنس النوم واليقظة وجنس الاستفراغ والاحتقان فلنشرع أولاً في جنس الهواء.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [ الفصل الثاني : تأثير الهواء المحيط بالأبدان ] ●
الهواء عنصر لأبداننا وأرواحنا، ومع أنه عنصر لأبداننا وأرواحنا فهو مددة يصل إلى أرواحنا، ويكون علة إصلاحها لا كالعنصر فقط، لكن كالفاعل أعني المعدل وقد بيّنا ما نعني بالروح فيما سلف، ولسنا نعني به ما تسميه الحكماء النفس. وهذا التعديل الذي يصدر عن الهواء في أرواحنا يتعلق بفعلين هما الترويح والتنقية.
والترويح هو تعديل مزاج الروح الحار إذا أفرط بالإحتقان في الأكثر وتغيّره- وأعني بالتعديل- التعديل الإضافي الذي علمته، وهذا التعديل يفيده الإستنشاق من الرئة. ومن منافس النبض المتصلة بالشرايين والهواء الذي يحيط بأبداننا بارد جداً بالقياس إلى مزاج الروح الغريزي فضلاً عن المزاج الحادث بالاحتقان، فإذا وصل إليه صدمه الهواء و خالطه ومنعه عن الإستحالة إلى النارية والإحتقانية المؤدية إلى سوء مزاج يزول به عن الاستعداد لقبول التأثر النفساني فيه الذي هو سبب الحياة وإلى تحلل نفس جوهره البخاري الرطب.
وأما التنقية فهي باستصحابه عند رد النفس ما تسلمه إليه القوة المميّزة من البخار الدخاني الذي نسبته إلى الروح نسبة الخلط الفضلي إلى البدن. والتعديل هو بورود الهواء على الروح عند الاستنشاق، والتنقية بصدوره عنه عند رد النفس، وذلك لأن الهواء المستنشق إنما يحتاج إليه في تعديله أول وروده أن يكون بارداً بالفعل، فإذا إستحال إلى كيفية الروح بالتسخين لطول مكثه بطلت فائدته فاستغنى عنه. واحتيج إلى هواء جديد يدخل ويقوم مقامه فاحتيج ضرورة إلى إخراجه لإخلاء المكان لمعاقبة ولتندفع معه فضول جوهر الروح والهواء ما دام معتدلاَ وصافياً ليس يخالطه جوهر غريب مناف لمزاج الروح، فهو فاعل للصحة وحافظ لها، فإذا تغير فعل ضد فعله. والهواء يعرض له تغيرات طبيعية وتغيرات غير طبيعية وتغيّرات خارجة عن المجرى الطبيعي مضادة له. والتغيرات الطبيعية هي التغيرات الفضلية فإنه يستحيل عند كل فصل إلى مزاج آخر.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [ الفصل الثالث : طباع الفصول ] ●
اعلم أن هذه الفصول عند الأطباء غيرها عند المنجمين، فإن الفصول الأربعة عند المنجّمين هي أزمنة انتقالات الشمس في ربع، ربع، من فلك البروج مبتدئة من النقطة الربيعية، وأما عند الأطباء فإن الربيع هو الزمان الذي لا يحوج في البلاد المعتدلة إلى إدفاء يعتد به من البرد، أو ترويح يعتد به من الحر ويكون فيه ابتداء نشوء الأشجار، ويكون زمانه زمان ما بين الاستواء الربيعي أو قبله أو بعده بقليل إلى حصول الشمس في نصف من الثور. ويكون الخريف هو المقابل له في مثل بلادنا. ويجوز في بلاد أخرى أن يتقدم الربيع ويتأخر الخريف.
والصيف هو جميع الزمان الحار والشتاء هو جميع الزمان البارد فيكون زمان الربيع والخريف كل واحد منهما عند الأطباء أقصر من كل واحد من الصيف والشتاء.
وزمان الشتاء مقابل للصيف أو أقل أو أكثر منه بحسب البلاد.
فيشبه أن يكون الربيع زمان الأزهار ابتداء الأثمار والخريف زمان تغير لون الورق وابتداء سقوطه، وما سواهما شتاء وصيف. فنقول إن مزاج الربيع هو المزاج المعتدل وليس على ما يظن أنه حار رطب. وتحقيق ذلك بكنهه هو إلى الجزء الطبيعي من الحكمة بل ليسلم أن الربيع معتدل والصيف حار لقرب الشمس من سمت الرؤوس وقوة الشعاع الفائض عنها الذي يتوهم انعكاسه في الصيف، إما على زوايا حادة جداً، وإما ناكصاً على أعقابه في الخطوط التي نفذ فيها فيكثف عندها الشعاع.
وسبب ذلك في الحقيقة هو أن مسقط شعاع الشمس منه ما هو بمنزلة مخروط السهم من الأسطوانة، والمخروط كأنه ينفذ من مركز جرم الشمس إلى ما هو محاذيه. ومنه ما هو بمنزلة البسيط والمحيط، أو المقارب للمحيط وأن قوته عند سهمه أقوى إذ التأثير يتوجه إليه من الأطراف كلها، وأما ما يلي الأطراف فهو أضعف ونحن في الصيف واقعون في السهم أو بقرب منه ويدوم ذلك علينا، سكان العروض الشمالية. وفي الشتاء بحيث يقرب من المحيط، ولذلك ما يكون الضوء في الصيف أنور مع أن المسافة من مقامنا إلى مقام الشمس في قرب أوجهها أبعد. أما نسبة هذا القرب والبعد فتبتين في الجزء النجومي من الجزء الرياضي من الحكمة. وأما تحقيق إشتداد الحر لاشتداد الضوء، فهو يتبين في الجزء الطبيعي من الحكمة.
والصيف مع أنه حار فهو أيضاً يابس لتحلل الرطوبات فيه من شدّة الحرارة ولتخلخل جوهر الهواء ومشاكلته للطبيعة النارية ولقلة ما يقع فيه من الأنداء والأمطار.
والشتاء بارد رطب لضد هذه العلل.
وأما الخريف فإن الحر يكون قد انتقص فيه والبرد لا يستحكم بعد، وكأنَا قد حصلنا في الوسط من التبعد بين السهم المذكور وبين المحيط. فإذن هو قريب من الإعتدال في الحر والبرد إلا أنه غير معتدل في الرطوبة واليبوسة وكيف والشمس قد جففت الهواء، ولم يحدث بعد من العلل المرطبة ما يقابل تجفيف العلة المجففة، وليس الحال في التبريد كالحال في الترطيب لأن الإستحالة إلى البرودة تكون بسهولة، والإستحالة إلى الرطوبة لا تكون بتلك السهولة. وأيضاً ليست الإستحالة إلى الرطوبة بالبرد كالاستحالة إلى الجفاف بالحر لأن الاستحالة إلى الجفاف بالحر تكون بسهولة فإن أدنى الحر يجفف. وليس أدنى البرد يرطب، بل ربما كان أدنى الحرّ أقوى في الترطيب إذا وجد المادة من أدنى البرد فيه، لأنّ أدنى الحر يبخر ولا يحلّل. وليس أدنى البرد يكثف ويحقن ويجمع. ولهذا ليس حال بقاء الربيع على رطوبة الشتاء كحال بقاء الخريف على يبوسة الصيف، فإن رطوبة الربيع تعتدل بالحر في زمان لا تعتدل فيه يبوسة الخريف بالبرد ويشبه أن يكون هذا الترطيب والتجفيف شبيهاً بفعل ملكة وعدم، لا بفعل ضدين، لأن التجفيف في هذا الموضع ليس هو إلا إفقاد الجوهر الرطب.
والترطيب ليس هو إفقاد الجوهر اليابس، بل تحصيل الجوهر الرطب لأنا لسنا نقول في هذا الموضع هواء رطب وهواء يابس، ونذهب فيه إلى صورته أو كيفيته الطبيعية، بل لا نتعرض لهذا في هذا الموضع، أو نتعرض تعرضاً يسيراً، وإنما نعني بقولنا هواء رطب أي هواء خالطته أبخرة كثيفة مائية، أو هواء استحال بتكثفه إلى مشاكلة البخار المائي ، ونقول هواء يابس أي هواء قد تفشش عنه ما يخالطه من البخارات المائية، أو استحال إلى مشاكلة جوهر النار بالتخلخل، أو خالطته أدخنة أرضية تشاكل الأرض في تنشفها.
فالربيع ينتفض عنه فضل الرطوبة الشتوية مع أدنى حر يحدث فيه لمقارنة الشمس السمت.
والخريف ليس بأدنى برد يحدث فيه بترطب جوه. وإذا شئت أن تعرف هذا فتأمل هل تندى الأشياء اليابسة في الجو البارد كتجفف الأشياء الرطبة في الجو الحار على أن يجعل البارد في برده كالحار في حره تقريباً، فإنك إذا تأملت هذا وجدت الأمر فيهما مختلفاً على أن ههنا سبباَ آخر أعظم من هذا، وهو أن الرطوبات لا تثبت في الجور البارد والحار جميعاً إلاّ بدوام لحوق المدد. والجفاف ليس يحتاج إلى مدد البتة، وإنما صارت الرطوبة في الأجساد المكشوفة للهواء أو في نفس الهواء لا تثبت إلا بمدد، لأن الهواء إنما يقال له إنه شديد البرد بالقياس إلى أبداننا وليس يبلغ برده في البلاد المعمورة قبلنا إلى أن لا يحلل البتة، بل هو في الأحوال كلها محلل لما فيه من قوة الشمس والكواكب، فمتى انقطع المدد واستمر التحلل أسرع الجفاف.
وفي الربيع يكون ما يتحلل أكثر مما يتبخر، والسبب في ذلك أن التبخر يفعله أمران: حرارة ورطوبة لطيفة قليلة في ظاهر الجو، وحر كامن في الأرض قوي يتأذى منه شيء لطيف إلى ما يقرب من ظاهر الأرض.
وفي الشتاء يكون باطن الأرض حازَا شديد الحرارة، كما قد تبين في العلوم الطبيعية الأصلية وتكون حرارة الجو قليلة، فيجتمع إذن السببان للترطيب وهو التصعيد ثم التغليظ ولا سيما والبرد أيضاً يوجب في جوهر الهواء نفسه تكاثفاً واستحال إلى البخارية.
وأما في الربيع، فان الهواء يكون تحليله أقوى من تبخيره، والحرارة الباطنة الكامنة تنقص جداً ويظهر منها ما يميل إلى بارز الأرض دفعه شيء، هو أقوى من المبخر أو شيء هو لطيف التبخير لشدة استيلائه على المادة فيلطفها: ويصادف تبخيره اللطيف زيادة حر الجو فيتمّ به التحليل. هذا بحسب الأكثر وبحسب انفراد هذه الأسباب دون أسباب أخرى توجب أشياء غير ما ذكرناه. ثم لا تكون هناك مادة كثيرة تلحق ما يصعد ويلطف، فلهذا يجب أن يكون طباع الربيع إلى الاعتدال في الرطوبة واليبس، كما هو معتدل في الحرارة والبرودة على إنا لا نمنع أن تكون أوائل الربيع إلى الرطوبة ما هي إلا أن بعد ذلك عن الإعتدال ليس كبعد مزاج الخريف من اليبوسة عن الاعتدال، ثم إن الخريف من لم يحكم عليه بشدة الإعتدال في الحر والبرد لم يبعد عن الصواب، فإن ظهائره صيفية لأن الهواء الخريفي شديد اليبس مستعد جداً لقبول التسخين والاستحالة إلى مشاكلة النارية بتهيئة الصيف إياه لذلك ولياليه وغدواته باردة لبعد الشمس في الخريف عن سمت الرؤوس ولشدة قبول اللطيف المتخلخل لتأثير ما يبرد. وأما الربيع فهو أقرب إلى الاعتدال في الكيفيتين لأن جوه لا يقبل من السبب المشاكل للسبب في الخريف ما يقبله جو الخريف من التسخين والتبريد فلا يبعد ليله كثيراً عن نهاره. فإن قال قائل: ما بال الخريف يكون ليله أبرد من ليل الربيع وكان يجب أن يكون هواؤه أسخن لأنه ألطف، فنجيبه ونقول: إن الهواء الشديد التخلخل يقبل الحرّ والبرد أسرع، وكذلك الماء الشديد التخلخل، ولهذا إذا سخنت الماء وعرضته للإجماد كان أسرع جموداً من البارد لنفوذ التبريد فيه لتخلخله، على أن الأبدان لا تحس من برد الربيع ما تحس من برد الخريف لأن الأبدان في الربيع منتقلة من البرد إلى الحرّ متعودة للبرد وفي الخريف بالضدّ، وعلى أن الخريف متوجه إلى الشتاء ، والربيع مسافر عنه. واعلم أن اختلاف الفصول قد يثير في كل إقليم ضرباً من الأمراض ويجب على الطبيب أن يتعرف ذلك في كل إقليم حتى يكون الاحتراز والتقدم بالتدبير مبنياً عليه، وقد يشبه اليوم الواحد أيضاً بعض الفصول دون بعض فمن الأيام ما هو شتوي ومنها ما هو صيفي ومنها ما هو خريفي يسخن ويبرد في يوم واحد.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [ الفصل الرابع : أحكام الفصول وتعابيرها ] ●
كل فصل يوافق من به مزاج صحي مناسب له، ويخالف من به سوء مزاج غير مناسب له إلا إذا عرض خروج عن الاعتدال جداً فيخالف المناسب وغير المناسب بما يضعف من القوة، وأيضاً فإن كل فصل يوافق المزاج العرضي المضاد له، وإذا خرج فصلان عن طبعهما وكان مع ذلك خروجهما متضاداً ثم لم يقع إفراط متماد مثل أن يكون الشتاء كان جنوبياً، فورد عليه ربيع شمالي، كان لحوق الثاني بالأول موافقاً للأبدان معدلاً لها، فإن الربيع يتدارك جناية الشتاء. وكذلك إن كان الشتاء يابساً جداً والربيع رطباً جداً فإن الربيع يعدل بيبس الشتاء. وما لم تُفْرِط الرطوبة ولم يطل الزمان لم يتغيّر فعله عن الإعتدال إلى الترطيب الضار. تغيّر الزمان في فصل واحد أقل جلباً للوباء من تغيره في فصول كثيرة تغيّراً جالباً للوباء ليس تغير امتداد كالماء يجنيه التغيّر الأول على ما وصفنا. وأولى أمزجة الهواء بأن يستحيل إلى العفونة هو مزاج الهواء الحار الرطب، وأكثر ما تعرض تغيرات الهواء إنما هو في الأماكن المختلفة الأوضاع والغائرة، ويقلّ في المستوية والعالية خصوصاً. ويجب أن تكون الفصول ترد على واجباتها فيكون الصيف حاراً والشتاء بارداً، وكذلك كل فصل فإن انخرق ذلك، فكثيراً ما يكون سبباً لأمراض رديئة. والسنة المستمرة الفصول على كيفية واحدة، سنة رديئة مثل أن يكون جميع السنة رطباً أو يابساً أو حاراً أو بارداً، فإن مثل هذه السنة تكون كثيرة الأمراض المناسبة ليكفيتها، ثم تطول مددها، فان الفصل الواحد يثير المرض اللائق به، فكيف السنة مثل أن الفصل البارد إذا وجد بدناً بلغمياً حرك الصرع والفالج والسكتة والقوة والتشنُّج وما يشبه ذلك. والفصل الحار إذا وجد بدناً صفراوياً أثار الجنون والحمّيات الحادة والأورام الحارة، فكيف إذا استمرت السنة على طبع الفصل. وإذا استعجل الشتاء استعجلت الأمراض الشتوية، وإن استعجل الصيف استعجلت الأمراص الصيفية، وتغيّرت الأمراض التي كانت قبلها بحكم الفصل، وإذا طال فصل كثرت أمراضه وخصوصاً الصيف والخريف. واعلم أن لانقلاب الفصول تأثيراً ليس هو بسبب الزمان لأنه زمان، بل لما يتغيّر معه من الكيفية هو تأثير عظيم في تغيّر الأحوال وكذلك لو تغيّر الهواء في يوم واحد من الحر إلى برد لتغيّر مقتضاهما في الأبدان. وأصح الزمان هو أن يكون الخريف مطيراً والشتاء معتدلاً ليس عادماً للبرد ولكن غير مفرط فيه بالقياس إلى البلد. هان جاء الربيع مطيراً ولم يخل الصيف من مطر فهو أصحّ ما يكون.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [ الفصل الخامس : الهواء الجيد ] ●
الهواء الجيّد في الجوهر، هو الهواء الذي ليس يخالطه من الأبخرة والأدخنة شيء غريب ، وهو مكشوف للسماء غير محقون للجدران والسقوف، اللهم إلا في حال ما يصيب الهواء فساد عام فيكون المكشوف أقبل له من المغموم والمحجوب، وفي غير ذلك فإن المكشوف أفضل. فهذا الهواء الفاضل نقي صافٍ لا يخالطه بخار بطائح وآجام وخنادق وأرضين نزه ومباقل ، وخصوصاً ما يكون فيه مثل الكرنب والجرجير، وأشجار خبيثة الجوهر مثل الجوز والشوحط والتين وأرياح عفنة، ومع ذلك يكون بحيث لا يحتبس عنه الرياح الفاضلة، لأنّ مَهابُّها أرض عالية ومستوية فليس ذلك الهواء هواء محتبساً في وهدة يسخن مع طلوع الشمس ويبرد مع غروبها بسرعة، ولا أيضاً محقوناً في جدران حديثة العهد بالصهاريج ونحوها لم تجف بعد تمام جفافها، ولا عاصياً على النفس كأنما يقبض على الحلق، وقد علمت أن تغيرات الهواء منها طبيعية، ومنها مضادة للطبيعة، ومنها ما ليس بطبيعي ولا خارج عنه، واعلم أن تغيرات الهواء التي ليست عن الطبيعة كانت مضادة أو غير مضادة قد تكون بأدوار، وقد تكون غير حافظة للأدوار، وأصح أحوال الفصول أن تكون على طبائعها فإن تغيرها يجلب أمراضاً.
● [ يتم متابعة الجملة الأولى من التعليم الثانى ] ●
القانون فى الطب لإبن سينا
الكتاب الأول: الأمور الكلية فى علم الطب
منتدى حُكماء رُحماء الطبى . البوابة
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
القانون فى الطب لإبن سينا
الكتاب الأول: الأمور الكلية فى علم الطب
الفن الثانى: الأمراض والأسباب والأعراض الكلية
التعليم الثاني : الأسباب
● [ الجملة الأولى ] ●
الفصل الأول: قول كلي في الأسباب
أسباب أحوال البدن وقد قدمناها، أعني الصحة والمرض، والحال المتوسطة بينهما ثلاثة: السابقة والبادية والواصلة، وتشترك السابقة والواصلة في أنهما أمور بدنية، أعني خلطية، أو مزاجية، أو تركيبية. والأسباب البادية هي من أمور خارجة عن جوهر البدن، إما من جهة أجسام خارجة مثل ما يحدث عن الضرب وسخونة الجو والطعام الحار أو البارد الواردين على البدن، وإما من جهة النفس، فإن النفس شيء آخر غير البدن مثل ما يحدث عن الغضب والخوف وما يشبههما.
والأسباب السابقة والبادية تشترك في أنه قد يكون بينهما وبين هذه الأحوال واسطة ما.
والأسباب البادية والأسباب الواصلة تشترك في أنه قد لا يكون بينهما وبين الحالة المذكورة واسطة، لكن الأسباب السابقة تنفصل عن الأسباب الواصلة بأن الأسباب السابقة لا يليها الحالة بل بينهما أسباب أخرى أقرب إلى الحالة من السابقة.
والأسباب السابقة تنفصل من البادية بأنها بدنية، وأيضاً فإن الأسباب السابقة يكون بينها وبين الحالة واسطة لا محالة. والأسباب البادية ليس يجب فيها ذلك.
والأسباب الواصلة لا يكون بينها وبين الحالة واسطة البتة. والأسباب البادية ليس يجب فيها ذلك، بل الأمر أن فيها ممكنان فالأسباب السابقة هي أسباب بدنية أعني خلطية، أو مزاجية، أو تركيبية، هي الموجبة للحالة إيجاباً غير أولي أعني توجبها بواسطة. والأسباب الواصلة أسباب بدنية توجب أحوالاً بدنية إيجاباً أولياً أي بغير واسطة والأسباب البادية أسباب غير بدنية توجب أحوالاً بدنية إيجاباً أولياً وغير أولي مثال الأسباب السابقة الإمتلاء للحمى، وإمتلاء أوعية العين لنزول الماء فيها. ومثال الأسباب الواصلة العفونة للحمى، والرطوبة السائلة إلى النفث للسدة، والسدة للحمى، ومثال الأسباب البادية حرارة الشمس وشدة الحرارة، أو الغم أو السهر أو تناول شيء مسخن كالثوم. كل ذلك للحمى، أو الضربة للانتشار ونزول الماء في العين. وكل سبب إما سبب بالذات، كالفلفل يسخن والأفيون يبرد، وإما بالعرض كالماء البارد إذا سخن بالتكثيف وتحقن الحرارة، والماء الحار إذا برد بالتحليل، والسقمونيا إذا برد باستفراغ الخلط المسخًن وليس كل سبب يصل إلى البدن يفعل فيه بل قد يحتاج مع ذلك إلى أمور ثلاثة: إلى قوة من قوته الفاعلة، وقوة من قوة البدن الإستعدادية، وتمكن من ملاقاة أحدهما الآخر زماناً في مثله يصدر ذلك الفعل عنه.
وقد تختلف أحوال الأسباب عند موجباتها، فربما كان السبب واحداً واقتضى في أبدان شتى أمراضاً شتى، أو في أوقات شتى أمراضاً شتى، وقد يختلف فعله في الضعيف والقوي وفي شديد الحسّ وضعيف الحس.
ومن الأسباب ما هو مخلِف ومنها ما هو غير مخلِف والمخلِف هو الذي إذا فارق، يبقى تأثيره. وغير المخلِف هو الذي يكون البرء مع مفارقته. ونقول: إن الأسباب المغيرة لأحوال الأبدان والحافظة لها، إما ضرورية لا يتأتى للإنسان التفصي عنها في حياته، وإما غير ضرورية. والضرورية ستة أجناس: جنس الهواء المحيط وجنس ما يؤكل ويشرب وجنس الحركة والسكون البدنيين وجنس الحركات النفسانية وجنس النوم واليقظة وجنس الاستفراغ والاحتقان فلنشرع أولاً في جنس الهواء.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [ الفصل الثاني : تأثير الهواء المحيط بالأبدان ] ●
الهواء عنصر لأبداننا وأرواحنا، ومع أنه عنصر لأبداننا وأرواحنا فهو مددة يصل إلى أرواحنا، ويكون علة إصلاحها لا كالعنصر فقط، لكن كالفاعل أعني المعدل وقد بيّنا ما نعني بالروح فيما سلف، ولسنا نعني به ما تسميه الحكماء النفس. وهذا التعديل الذي يصدر عن الهواء في أرواحنا يتعلق بفعلين هما الترويح والتنقية.
والترويح هو تعديل مزاج الروح الحار إذا أفرط بالإحتقان في الأكثر وتغيّره- وأعني بالتعديل- التعديل الإضافي الذي علمته، وهذا التعديل يفيده الإستنشاق من الرئة. ومن منافس النبض المتصلة بالشرايين والهواء الذي يحيط بأبداننا بارد جداً بالقياس إلى مزاج الروح الغريزي فضلاً عن المزاج الحادث بالاحتقان، فإذا وصل إليه صدمه الهواء و خالطه ومنعه عن الإستحالة إلى النارية والإحتقانية المؤدية إلى سوء مزاج يزول به عن الاستعداد لقبول التأثر النفساني فيه الذي هو سبب الحياة وإلى تحلل نفس جوهره البخاري الرطب.
وأما التنقية فهي باستصحابه عند رد النفس ما تسلمه إليه القوة المميّزة من البخار الدخاني الذي نسبته إلى الروح نسبة الخلط الفضلي إلى البدن. والتعديل هو بورود الهواء على الروح عند الاستنشاق، والتنقية بصدوره عنه عند رد النفس، وذلك لأن الهواء المستنشق إنما يحتاج إليه في تعديله أول وروده أن يكون بارداً بالفعل، فإذا إستحال إلى كيفية الروح بالتسخين لطول مكثه بطلت فائدته فاستغنى عنه. واحتيج إلى هواء جديد يدخل ويقوم مقامه فاحتيج ضرورة إلى إخراجه لإخلاء المكان لمعاقبة ولتندفع معه فضول جوهر الروح والهواء ما دام معتدلاَ وصافياً ليس يخالطه جوهر غريب مناف لمزاج الروح، فهو فاعل للصحة وحافظ لها، فإذا تغير فعل ضد فعله. والهواء يعرض له تغيرات طبيعية وتغيرات غير طبيعية وتغيّرات خارجة عن المجرى الطبيعي مضادة له. والتغيرات الطبيعية هي التغيرات الفضلية فإنه يستحيل عند كل فصل إلى مزاج آخر.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [ الفصل الثالث : طباع الفصول ] ●
اعلم أن هذه الفصول عند الأطباء غيرها عند المنجمين، فإن الفصول الأربعة عند المنجّمين هي أزمنة انتقالات الشمس في ربع، ربع، من فلك البروج مبتدئة من النقطة الربيعية، وأما عند الأطباء فإن الربيع هو الزمان الذي لا يحوج في البلاد المعتدلة إلى إدفاء يعتد به من البرد، أو ترويح يعتد به من الحر ويكون فيه ابتداء نشوء الأشجار، ويكون زمانه زمان ما بين الاستواء الربيعي أو قبله أو بعده بقليل إلى حصول الشمس في نصف من الثور. ويكون الخريف هو المقابل له في مثل بلادنا. ويجوز في بلاد أخرى أن يتقدم الربيع ويتأخر الخريف.
والصيف هو جميع الزمان الحار والشتاء هو جميع الزمان البارد فيكون زمان الربيع والخريف كل واحد منهما عند الأطباء أقصر من كل واحد من الصيف والشتاء.
وزمان الشتاء مقابل للصيف أو أقل أو أكثر منه بحسب البلاد.
فيشبه أن يكون الربيع زمان الأزهار ابتداء الأثمار والخريف زمان تغير لون الورق وابتداء سقوطه، وما سواهما شتاء وصيف. فنقول إن مزاج الربيع هو المزاج المعتدل وليس على ما يظن أنه حار رطب. وتحقيق ذلك بكنهه هو إلى الجزء الطبيعي من الحكمة بل ليسلم أن الربيع معتدل والصيف حار لقرب الشمس من سمت الرؤوس وقوة الشعاع الفائض عنها الذي يتوهم انعكاسه في الصيف، إما على زوايا حادة جداً، وإما ناكصاً على أعقابه في الخطوط التي نفذ فيها فيكثف عندها الشعاع.
وسبب ذلك في الحقيقة هو أن مسقط شعاع الشمس منه ما هو بمنزلة مخروط السهم من الأسطوانة، والمخروط كأنه ينفذ من مركز جرم الشمس إلى ما هو محاذيه. ومنه ما هو بمنزلة البسيط والمحيط، أو المقارب للمحيط وأن قوته عند سهمه أقوى إذ التأثير يتوجه إليه من الأطراف كلها، وأما ما يلي الأطراف فهو أضعف ونحن في الصيف واقعون في السهم أو بقرب منه ويدوم ذلك علينا، سكان العروض الشمالية. وفي الشتاء بحيث يقرب من المحيط، ولذلك ما يكون الضوء في الصيف أنور مع أن المسافة من مقامنا إلى مقام الشمس في قرب أوجهها أبعد. أما نسبة هذا القرب والبعد فتبتين في الجزء النجومي من الجزء الرياضي من الحكمة. وأما تحقيق إشتداد الحر لاشتداد الضوء، فهو يتبين في الجزء الطبيعي من الحكمة.
والصيف مع أنه حار فهو أيضاً يابس لتحلل الرطوبات فيه من شدّة الحرارة ولتخلخل جوهر الهواء ومشاكلته للطبيعة النارية ولقلة ما يقع فيه من الأنداء والأمطار.
والشتاء بارد رطب لضد هذه العلل.
وأما الخريف فإن الحر يكون قد انتقص فيه والبرد لا يستحكم بعد، وكأنَا قد حصلنا في الوسط من التبعد بين السهم المذكور وبين المحيط. فإذن هو قريب من الإعتدال في الحر والبرد إلا أنه غير معتدل في الرطوبة واليبوسة وكيف والشمس قد جففت الهواء، ولم يحدث بعد من العلل المرطبة ما يقابل تجفيف العلة المجففة، وليس الحال في التبريد كالحال في الترطيب لأن الإستحالة إلى البرودة تكون بسهولة، والإستحالة إلى الرطوبة لا تكون بتلك السهولة. وأيضاً ليست الإستحالة إلى الرطوبة بالبرد كالاستحالة إلى الجفاف بالحر لأن الاستحالة إلى الجفاف بالحر تكون بسهولة فإن أدنى الحر يجفف. وليس أدنى البرد يرطب، بل ربما كان أدنى الحرّ أقوى في الترطيب إذا وجد المادة من أدنى البرد فيه، لأنّ أدنى الحر يبخر ولا يحلّل. وليس أدنى البرد يكثف ويحقن ويجمع. ولهذا ليس حال بقاء الربيع على رطوبة الشتاء كحال بقاء الخريف على يبوسة الصيف، فإن رطوبة الربيع تعتدل بالحر في زمان لا تعتدل فيه يبوسة الخريف بالبرد ويشبه أن يكون هذا الترطيب والتجفيف شبيهاً بفعل ملكة وعدم، لا بفعل ضدين، لأن التجفيف في هذا الموضع ليس هو إلا إفقاد الجوهر الرطب.
والترطيب ليس هو إفقاد الجوهر اليابس، بل تحصيل الجوهر الرطب لأنا لسنا نقول في هذا الموضع هواء رطب وهواء يابس، ونذهب فيه إلى صورته أو كيفيته الطبيعية، بل لا نتعرض لهذا في هذا الموضع، أو نتعرض تعرضاً يسيراً، وإنما نعني بقولنا هواء رطب أي هواء خالطته أبخرة كثيفة مائية، أو هواء استحال بتكثفه إلى مشاكلة البخار المائي ، ونقول هواء يابس أي هواء قد تفشش عنه ما يخالطه من البخارات المائية، أو استحال إلى مشاكلة جوهر النار بالتخلخل، أو خالطته أدخنة أرضية تشاكل الأرض في تنشفها.
فالربيع ينتفض عنه فضل الرطوبة الشتوية مع أدنى حر يحدث فيه لمقارنة الشمس السمت.
والخريف ليس بأدنى برد يحدث فيه بترطب جوه. وإذا شئت أن تعرف هذا فتأمل هل تندى الأشياء اليابسة في الجو البارد كتجفف الأشياء الرطبة في الجو الحار على أن يجعل البارد في برده كالحار في حره تقريباً، فإنك إذا تأملت هذا وجدت الأمر فيهما مختلفاً على أن ههنا سبباَ آخر أعظم من هذا، وهو أن الرطوبات لا تثبت في الجور البارد والحار جميعاً إلاّ بدوام لحوق المدد. والجفاف ليس يحتاج إلى مدد البتة، وإنما صارت الرطوبة في الأجساد المكشوفة للهواء أو في نفس الهواء لا تثبت إلا بمدد، لأن الهواء إنما يقال له إنه شديد البرد بالقياس إلى أبداننا وليس يبلغ برده في البلاد المعمورة قبلنا إلى أن لا يحلل البتة، بل هو في الأحوال كلها محلل لما فيه من قوة الشمس والكواكب، فمتى انقطع المدد واستمر التحلل أسرع الجفاف.
وفي الربيع يكون ما يتحلل أكثر مما يتبخر، والسبب في ذلك أن التبخر يفعله أمران: حرارة ورطوبة لطيفة قليلة في ظاهر الجو، وحر كامن في الأرض قوي يتأذى منه شيء لطيف إلى ما يقرب من ظاهر الأرض.
وفي الشتاء يكون باطن الأرض حازَا شديد الحرارة، كما قد تبين في العلوم الطبيعية الأصلية وتكون حرارة الجو قليلة، فيجتمع إذن السببان للترطيب وهو التصعيد ثم التغليظ ولا سيما والبرد أيضاً يوجب في جوهر الهواء نفسه تكاثفاً واستحال إلى البخارية.
وأما في الربيع، فان الهواء يكون تحليله أقوى من تبخيره، والحرارة الباطنة الكامنة تنقص جداً ويظهر منها ما يميل إلى بارز الأرض دفعه شيء، هو أقوى من المبخر أو شيء هو لطيف التبخير لشدة استيلائه على المادة فيلطفها: ويصادف تبخيره اللطيف زيادة حر الجو فيتمّ به التحليل. هذا بحسب الأكثر وبحسب انفراد هذه الأسباب دون أسباب أخرى توجب أشياء غير ما ذكرناه. ثم لا تكون هناك مادة كثيرة تلحق ما يصعد ويلطف، فلهذا يجب أن يكون طباع الربيع إلى الاعتدال في الرطوبة واليبس، كما هو معتدل في الحرارة والبرودة على إنا لا نمنع أن تكون أوائل الربيع إلى الرطوبة ما هي إلا أن بعد ذلك عن الإعتدال ليس كبعد مزاج الخريف من اليبوسة عن الاعتدال، ثم إن الخريف من لم يحكم عليه بشدة الإعتدال في الحر والبرد لم يبعد عن الصواب، فإن ظهائره صيفية لأن الهواء الخريفي شديد اليبس مستعد جداً لقبول التسخين والاستحالة إلى مشاكلة النارية بتهيئة الصيف إياه لذلك ولياليه وغدواته باردة لبعد الشمس في الخريف عن سمت الرؤوس ولشدة قبول اللطيف المتخلخل لتأثير ما يبرد. وأما الربيع فهو أقرب إلى الاعتدال في الكيفيتين لأن جوه لا يقبل من السبب المشاكل للسبب في الخريف ما يقبله جو الخريف من التسخين والتبريد فلا يبعد ليله كثيراً عن نهاره. فإن قال قائل: ما بال الخريف يكون ليله أبرد من ليل الربيع وكان يجب أن يكون هواؤه أسخن لأنه ألطف، فنجيبه ونقول: إن الهواء الشديد التخلخل يقبل الحرّ والبرد أسرع، وكذلك الماء الشديد التخلخل، ولهذا إذا سخنت الماء وعرضته للإجماد كان أسرع جموداً من البارد لنفوذ التبريد فيه لتخلخله، على أن الأبدان لا تحس من برد الربيع ما تحس من برد الخريف لأن الأبدان في الربيع منتقلة من البرد إلى الحرّ متعودة للبرد وفي الخريف بالضدّ، وعلى أن الخريف متوجه إلى الشتاء ، والربيع مسافر عنه. واعلم أن اختلاف الفصول قد يثير في كل إقليم ضرباً من الأمراض ويجب على الطبيب أن يتعرف ذلك في كل إقليم حتى يكون الاحتراز والتقدم بالتدبير مبنياً عليه، وقد يشبه اليوم الواحد أيضاً بعض الفصول دون بعض فمن الأيام ما هو شتوي ومنها ما هو صيفي ومنها ما هو خريفي يسخن ويبرد في يوم واحد.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [ الفصل الرابع : أحكام الفصول وتعابيرها ] ●
كل فصل يوافق من به مزاج صحي مناسب له، ويخالف من به سوء مزاج غير مناسب له إلا إذا عرض خروج عن الاعتدال جداً فيخالف المناسب وغير المناسب بما يضعف من القوة، وأيضاً فإن كل فصل يوافق المزاج العرضي المضاد له، وإذا خرج فصلان عن طبعهما وكان مع ذلك خروجهما متضاداً ثم لم يقع إفراط متماد مثل أن يكون الشتاء كان جنوبياً، فورد عليه ربيع شمالي، كان لحوق الثاني بالأول موافقاً للأبدان معدلاً لها، فإن الربيع يتدارك جناية الشتاء. وكذلك إن كان الشتاء يابساً جداً والربيع رطباً جداً فإن الربيع يعدل بيبس الشتاء. وما لم تُفْرِط الرطوبة ولم يطل الزمان لم يتغيّر فعله عن الإعتدال إلى الترطيب الضار. تغيّر الزمان في فصل واحد أقل جلباً للوباء من تغيره في فصول كثيرة تغيّراً جالباً للوباء ليس تغير امتداد كالماء يجنيه التغيّر الأول على ما وصفنا. وأولى أمزجة الهواء بأن يستحيل إلى العفونة هو مزاج الهواء الحار الرطب، وأكثر ما تعرض تغيرات الهواء إنما هو في الأماكن المختلفة الأوضاع والغائرة، ويقلّ في المستوية والعالية خصوصاً. ويجب أن تكون الفصول ترد على واجباتها فيكون الصيف حاراً والشتاء بارداً، وكذلك كل فصل فإن انخرق ذلك، فكثيراً ما يكون سبباً لأمراض رديئة. والسنة المستمرة الفصول على كيفية واحدة، سنة رديئة مثل أن يكون جميع السنة رطباً أو يابساً أو حاراً أو بارداً، فإن مثل هذه السنة تكون كثيرة الأمراض المناسبة ليكفيتها، ثم تطول مددها، فان الفصل الواحد يثير المرض اللائق به، فكيف السنة مثل أن الفصل البارد إذا وجد بدناً بلغمياً حرك الصرع والفالج والسكتة والقوة والتشنُّج وما يشبه ذلك. والفصل الحار إذا وجد بدناً صفراوياً أثار الجنون والحمّيات الحادة والأورام الحارة، فكيف إذا استمرت السنة على طبع الفصل. وإذا استعجل الشتاء استعجلت الأمراض الشتوية، وإن استعجل الصيف استعجلت الأمراص الصيفية، وتغيّرت الأمراض التي كانت قبلها بحكم الفصل، وإذا طال فصل كثرت أمراضه وخصوصاً الصيف والخريف. واعلم أن لانقلاب الفصول تأثيراً ليس هو بسبب الزمان لأنه زمان، بل لما يتغيّر معه من الكيفية هو تأثير عظيم في تغيّر الأحوال وكذلك لو تغيّر الهواء في يوم واحد من الحر إلى برد لتغيّر مقتضاهما في الأبدان. وأصح الزمان هو أن يكون الخريف مطيراً والشتاء معتدلاً ليس عادماً للبرد ولكن غير مفرط فيه بالقياس إلى البلد. هان جاء الربيع مطيراً ولم يخل الصيف من مطر فهو أصحّ ما يكون.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [ الفصل الخامس : الهواء الجيد ] ●
الهواء الجيّد في الجوهر، هو الهواء الذي ليس يخالطه من الأبخرة والأدخنة شيء غريب ، وهو مكشوف للسماء غير محقون للجدران والسقوف، اللهم إلا في حال ما يصيب الهواء فساد عام فيكون المكشوف أقبل له من المغموم والمحجوب، وفي غير ذلك فإن المكشوف أفضل. فهذا الهواء الفاضل نقي صافٍ لا يخالطه بخار بطائح وآجام وخنادق وأرضين نزه ومباقل ، وخصوصاً ما يكون فيه مثل الكرنب والجرجير، وأشجار خبيثة الجوهر مثل الجوز والشوحط والتين وأرياح عفنة، ومع ذلك يكون بحيث لا يحتبس عنه الرياح الفاضلة، لأنّ مَهابُّها أرض عالية ومستوية فليس ذلك الهواء هواء محتبساً في وهدة يسخن مع طلوع الشمس ويبرد مع غروبها بسرعة، ولا أيضاً محقوناً في جدران حديثة العهد بالصهاريج ونحوها لم تجف بعد تمام جفافها، ولا عاصياً على النفس كأنما يقبض على الحلق، وقد علمت أن تغيرات الهواء منها طبيعية، ومنها مضادة للطبيعة، ومنها ما ليس بطبيعي ولا خارج عنه، واعلم أن تغيرات الهواء التي ليست عن الطبيعة كانت مضادة أو غير مضادة قد تكون بأدوار، وقد تكون غير حافظة للأدوار، وأصح أحوال الفصول أن تكون على طبائعها فإن تغيرها يجلب أمراضاً.
● [ يتم متابعة الجملة الأولى من التعليم الثانى ] ●