بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مختارات من فتح البارى
شرح صحيح البخارى
كتاب الإيمان
باب مَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْعَمَلُ
باب مَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْعَمَلُ
باب مَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْعَمَلُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وَقَالَ عِدَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ): عَنْ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ: (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ)
الشرح
قوله: (باب من قال) هو مضاف حتما.
قوله: (إن الإيمان هو العمل) مطابقة الآيات والحديث لما ترجم له بالاستدلال بالمجموع على المجموع، لأن كل واحد منها دال بمفرده على بعض الدعوى،
فقوله: (بما كنتم تعملون) عام فى الأعمال، وقد نقل جماعة من المفسرين أن قوله هنا: (تعملون) معناه تؤمنون، فيكون خاصا.
وقوله: (عما كانوا يعملون) خاص بعمل اللسان على ما نقل المؤلف.
وقوله: (فليعمل العاملون) عام أيضا.
وقوله فى الحديث: " إيمان بالله " فى جواب: " أى العمل أفضل " دال على أن الاعتقاد والنطق من جملة الأعمال. فإن قيل: الحديث يدل على أن الجهاد والحج ليسا من الإيمان، لما تقتضيه"ثم"من المغايرة والترتيب. فالجواب: أن المراد بالإيمان هنا التصديق، هذه حقيقته، والإيمان كما تقدم يطلق على الأعمال البدنية لأنها من مكملاته.
(1/78) قوله: (أورثتموها) أى: صيرت لكم إرثا. وأطلق الإرث مجازا عن الإعطاء لتحقق الاستحقاق. و" ما " فى قوله: " بما " إما مصدرية أى: بعملكم، وإما موصولة أى: بالذى كنتم تعملون. والباء للملابسة أو للمقابلة. فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية وحديث: " لن يدخل أحدكم الجنة بعمله " فالجواب: أن المنفى فى الحديث دخولها بالعمل المجرد عن القبول، والمثبت فى الآية دخولها بالعمل المتقبل، والقبول إنما يحصل برحمة الله، فلم يحصل الدخول إلا برحمة الله. وقيل فى الجواب غير ذلك كما سيأتى عند إيراد الحديث المذكور.
(تنبيه): اختلف الجواب عن هذا السؤال، وأجيب: بأن لفظ " من " مراد فى كل منهما، وقيل: وقع باختلاف الأحوال والأشخاص فأجيب كل سائل بالحال اللائق به، وهذا اختيار الحليمى ونقله عن القفال.
قوله (وقال عدة) أى: جماعة من أهل العلم، منهم أنس بن مالك روينا حديثه مرفوعا فى الترمذى وغيره وفى إسناده ضعف. ومنهم ابن عمر روينا حديثه فى التفسير للطبرى، والدعاء للطبرانى. ومنهم مجاهد رويناه عنه فى تفسير عبد الرزاق وغيره.
قوله: (لنسألنهم الخ) قال النووى: معناه عن أعمالهم كلها، أى: التى يتعلق بها التكليف، وتخصيص ذلك بالتوحيد دعوى بلا دليل. قلت: لتخصيصهم وجه من جهة التعميم فى قوله: (أجمعين) بعد أن تقدم ذكر الكفار إلى قوله: (ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين) فيدخل فيه المسلم والكافر، فإن الكافر مخاطب بالتوحيد بلا خلاف، بخلاف باقى الأعمال ففيها الخلاف، فمن قال إنهم مخاطبون يقول: إنهم مسؤولون عن الأعمال كلها، ومن قال إنهم غير مخاطبين يقول: إنما يسألون عن التوحيد فقط، فالسؤال عن التوحيد متفق عليه. فهذا هو دليل التخصيص، فحمل الآية عليه أولى، بخلاف الحمل على جميع الأعمال لما فيه من الاختلاف. والله أعلم.
قوله: (وقال) أى: الله عز وجل (لمثل هذا) أى: الفوز العظيم (فليعمل العاملون) أى: فى الدنيا. والظاهر أن المصنف تأولها بما تأول به الآيتين المتقدمتين، أى: فليؤمن المؤمنون، أو يحمل العمل على عمومه لأن من آمن لا بد أن يقبل، ومن قبل فمن حقه أن يعمل، ومن عمل لا بد أن ينال، فإذا وصل قال: لمثل هذا فليعمل العاملون.
(تنبيه): يحتمل أن يكون قائل ذلك المؤمن الذى رأى قرينه، ويحتمل أن يكون كلامه انقضى عند قوله: (الفوز العظيم) والذى بعده ابتداء من قول الله عز وجل أو بعض الملائكة، لا حكاية عن قول المؤمن. والاحتمالات الثلاثة مذكورة فى التفسير. ولعل هذا هو السر فى إبهام المصنف القائل، والله أعلم.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مختارات من فتح البارى
شرح صحيح البخارى
كتاب الإيمان
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ وَمُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَا: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -سُئِلَ: أَى الْعَمَلِ أَفْضَلُ، فَقَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا، قَالَ: الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ. قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا، قَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ."
الشرح
قوله: (حدثنا أحمد بن يونس) هو أحمد بن عبد الله بن يونس اليربوعى الكوفى، نسب إلى جده.
قوله: (سئل) أبهم السائل، وهو أبو ذر الغفارى، وحديثه فى العتق.
قوله: (قيل ثم ماذا، قال: الجهاد) وقع فى مسند الحارث أبى أسامة عن إبراهيم ابن سعد " ثم جهاد " فواخى بين الثلاثة فى التنكير، بخلاف ما عند المصنف. وقال الكرمانى: الإيمان لا يتكرر كالحج، والجهاد قد يتكرر، فالتنوين للإفراد الشخصى، والتعريف للكمال. إذ الجهاد لو أتى به مرة مع الاحتياج إلى التكرار لما كان أفضل. وتعقب عليه بأن التنكير من جملة وجوهه التعظيم، وهو يعطى الكمال. وبأن التعريف من جملة وجوهه العهد، وهو يعطى الإفراد الشخصى، فلا يسلم الفرق. قلت: وقد ظهر من رواية الحارث التى ذكرتها أن التنكير والتعريف فيه من تصرف الرواة، لأن مخرجه واحد، فالإطالة فى طلب الفرق فى مثل هذا غير طائلة، والله الموفق.
قوله: (حج مبرور) أى: مقبول ومنه بر حجك، وقيل: المبرور الذى لا يخالطه إثم، وقيل: الذى لا رياء فيه.
(1/79) (فائدة) قال النووى: ذكر فى هذا الحديث الجهاد بعد الإيمان، وفى حديث أبى ذر لم يذكر الحج وذكر العتق، وفى حديث ابن مسعود بدأ بالصلاة ثم البر ثم الجهاد، وفى الحديث المتقدم ذكر السلامة من اليد واللسان.
قال العلماء: اختلاف الأجوبة فى ذلك باختلاف الأحوال، واحتياج المخاطبين، وذكر ما لم يعلمه السائل والسامعون وترك ما علموه، ويمكن أن يقال: إن لفظة " من " مرادة كما يقال: فلان أعقل الناس، والمراد من أعقلهم، ومنه حديث: " خيركم خيركم لأهله " ومن المعلوم أنه لا يصير بذلك خير الناس، فإن قيل: لم قدم الجهاد وليس بركن على الحج وهو ركن، فالجواب: إن نفع الحج قاصر غالبا، ونفع الجهاد متعد غالبا، أو كان ذلك حيث كان الجهاد فرض عين - ووقوعه فرض عين إذ ذاك متكرر - فكان أهم منه فقدم، والله أعلم.
فتح البارى . للإمام ابن حجر العسقلانى
باب مَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْعَمَلُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وَقَالَ عِدَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ): عَنْ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ: (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ)
الشرح
قوله: (باب من قال) هو مضاف حتما.
قوله: (إن الإيمان هو العمل) مطابقة الآيات والحديث لما ترجم له بالاستدلال بالمجموع على المجموع، لأن كل واحد منها دال بمفرده على بعض الدعوى،
فقوله: (بما كنتم تعملون) عام فى الأعمال، وقد نقل جماعة من المفسرين أن قوله هنا: (تعملون) معناه تؤمنون، فيكون خاصا.
وقوله: (عما كانوا يعملون) خاص بعمل اللسان على ما نقل المؤلف.
وقوله: (فليعمل العاملون) عام أيضا.
وقوله فى الحديث: " إيمان بالله " فى جواب: " أى العمل أفضل " دال على أن الاعتقاد والنطق من جملة الأعمال. فإن قيل: الحديث يدل على أن الجهاد والحج ليسا من الإيمان، لما تقتضيه"ثم"من المغايرة والترتيب. فالجواب: أن المراد بالإيمان هنا التصديق، هذه حقيقته، والإيمان كما تقدم يطلق على الأعمال البدنية لأنها من مكملاته.
(1/78) قوله: (أورثتموها) أى: صيرت لكم إرثا. وأطلق الإرث مجازا عن الإعطاء لتحقق الاستحقاق. و" ما " فى قوله: " بما " إما مصدرية أى: بعملكم، وإما موصولة أى: بالذى كنتم تعملون. والباء للملابسة أو للمقابلة. فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية وحديث: " لن يدخل أحدكم الجنة بعمله " فالجواب: أن المنفى فى الحديث دخولها بالعمل المجرد عن القبول، والمثبت فى الآية دخولها بالعمل المتقبل، والقبول إنما يحصل برحمة الله، فلم يحصل الدخول إلا برحمة الله. وقيل فى الجواب غير ذلك كما سيأتى عند إيراد الحديث المذكور.
(تنبيه): اختلف الجواب عن هذا السؤال، وأجيب: بأن لفظ " من " مراد فى كل منهما، وقيل: وقع باختلاف الأحوال والأشخاص فأجيب كل سائل بالحال اللائق به، وهذا اختيار الحليمى ونقله عن القفال.
قوله (وقال عدة) أى: جماعة من أهل العلم، منهم أنس بن مالك روينا حديثه مرفوعا فى الترمذى وغيره وفى إسناده ضعف. ومنهم ابن عمر روينا حديثه فى التفسير للطبرى، والدعاء للطبرانى. ومنهم مجاهد رويناه عنه فى تفسير عبد الرزاق وغيره.
قوله: (لنسألنهم الخ) قال النووى: معناه عن أعمالهم كلها، أى: التى يتعلق بها التكليف، وتخصيص ذلك بالتوحيد دعوى بلا دليل. قلت: لتخصيصهم وجه من جهة التعميم فى قوله: (أجمعين) بعد أن تقدم ذكر الكفار إلى قوله: (ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين) فيدخل فيه المسلم والكافر، فإن الكافر مخاطب بالتوحيد بلا خلاف، بخلاف باقى الأعمال ففيها الخلاف، فمن قال إنهم مخاطبون يقول: إنهم مسؤولون عن الأعمال كلها، ومن قال إنهم غير مخاطبين يقول: إنما يسألون عن التوحيد فقط، فالسؤال عن التوحيد متفق عليه. فهذا هو دليل التخصيص، فحمل الآية عليه أولى، بخلاف الحمل على جميع الأعمال لما فيه من الاختلاف. والله أعلم.
قوله: (وقال) أى: الله عز وجل (لمثل هذا) أى: الفوز العظيم (فليعمل العاملون) أى: فى الدنيا. والظاهر أن المصنف تأولها بما تأول به الآيتين المتقدمتين، أى: فليؤمن المؤمنون، أو يحمل العمل على عمومه لأن من آمن لا بد أن يقبل، ومن قبل فمن حقه أن يعمل، ومن عمل لا بد أن ينال، فإذا وصل قال: لمثل هذا فليعمل العاملون.
(تنبيه): يحتمل أن يكون قائل ذلك المؤمن الذى رأى قرينه، ويحتمل أن يكون كلامه انقضى عند قوله: (الفوز العظيم) والذى بعده ابتداء من قول الله عز وجل أو بعض الملائكة، لا حكاية عن قول المؤمن. والاحتمالات الثلاثة مذكورة فى التفسير. ولعل هذا هو السر فى إبهام المصنف القائل، والله أعلم.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مختارات من فتح البارى
شرح صحيح البخارى
كتاب الإيمان
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ وَمُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَا: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -سُئِلَ: أَى الْعَمَلِ أَفْضَلُ، فَقَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا، قَالَ: الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ. قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا، قَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ."
الشرح
قوله: (حدثنا أحمد بن يونس) هو أحمد بن عبد الله بن يونس اليربوعى الكوفى، نسب إلى جده.
قوله: (سئل) أبهم السائل، وهو أبو ذر الغفارى، وحديثه فى العتق.
قوله: (قيل ثم ماذا، قال: الجهاد) وقع فى مسند الحارث أبى أسامة عن إبراهيم ابن سعد " ثم جهاد " فواخى بين الثلاثة فى التنكير، بخلاف ما عند المصنف. وقال الكرمانى: الإيمان لا يتكرر كالحج، والجهاد قد يتكرر، فالتنوين للإفراد الشخصى، والتعريف للكمال. إذ الجهاد لو أتى به مرة مع الاحتياج إلى التكرار لما كان أفضل. وتعقب عليه بأن التنكير من جملة وجوهه التعظيم، وهو يعطى الكمال. وبأن التعريف من جملة وجوهه العهد، وهو يعطى الإفراد الشخصى، فلا يسلم الفرق. قلت: وقد ظهر من رواية الحارث التى ذكرتها أن التنكير والتعريف فيه من تصرف الرواة، لأن مخرجه واحد، فالإطالة فى طلب الفرق فى مثل هذا غير طائلة، والله الموفق.
قوله: (حج مبرور) أى: مقبول ومنه بر حجك، وقيل: المبرور الذى لا يخالطه إثم، وقيل: الذى لا رياء فيه.
(1/79) (فائدة) قال النووى: ذكر فى هذا الحديث الجهاد بعد الإيمان، وفى حديث أبى ذر لم يذكر الحج وذكر العتق، وفى حديث ابن مسعود بدأ بالصلاة ثم البر ثم الجهاد، وفى الحديث المتقدم ذكر السلامة من اليد واللسان.
قال العلماء: اختلاف الأجوبة فى ذلك باختلاف الأحوال، واحتياج المخاطبين، وذكر ما لم يعلمه السائل والسامعون وترك ما علموه، ويمكن أن يقال: إن لفظة " من " مرادة كما يقال: فلان أعقل الناس، والمراد من أعقلهم، ومنه حديث: " خيركم خيركم لأهله " ومن المعلوم أنه لا يصير بذلك خير الناس، فإن قيل: لم قدم الجهاد وليس بركن على الحج وهو ركن، فالجواب: إن نفع الحج قاصر غالبا، ونفع الجهاد متعد غالبا، أو كان ذلك حيث كان الجهاد فرض عين - ووقوعه فرض عين إذ ذاك متكرر - فكان أهم منه فقدم، والله أعلم.
فتح البارى . للإمام ابن حجر العسقلانى