من طرف الرسالة الخميس 12 يونيو 2014 - 9:15
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
الرحلة الزكية للأراضى الحجازية
فضائل أهل مكة وعوائدهم الحسنة
● [ فضائل أهل مكة ] ●
لأهل مكة الأفعال الجميلة والمكارم التامة والأخلاق الحسنة والإيثار إلى الضعفاء والمنقطعين وحسن الجوار للغرباء. ومن مكارمهم أنهم متى صنع أحدهم وليمة يبدأ فيها بإطعام الفقراء المنقطعين المجاورين، ويستدعيهم بتلطف ورفق وحسن خلق، ثم يطعمهم. وأكثر المساكين المنقطعين يكونون بالأفران، حيث يطبخ الناس أخبازهم. فإذا طبخ أحدهم خبزه واحتمله إلى منزله فيتبعه المساكين فيعطي لكل واحد منهم ما قسم له، ولا يردهم خائبين، ولو كانت له خبزة واحدة فإنه يعطي ثلثها أو نصفها طيب النفس بذلك من غير ضجر. ومن أفعالهم الحسنة أن الأيتام الصغار يقعدون بالسوق، ومع كل واحد منهم قفتان: كبرى وصغرى وهم يسمون القفة مكتلاً فيأتي الرجل من أهل مكة إلى السوق، فيشتري الحبوب واللحم والخضر، ويعطي ذلك الصبي فيجعل الحبوب في إحدى قفتيه، واللحم والخضر في الأخرى، ويوصل ذلك إلى دار الرجل ليهيأ له طعامه منها، ويذهب الرجل إلى طوافه وحاجته، فلا يذكر أن أحداً من الصبيان خان الأمانة في ذلك قط، بل يؤدي ما حمل على ما أتم الوجوه. ولهم على ذلك أجرة معلومة من فلوس. وأهل مكة لهم ظرف ونظافة في الملابس وأكثر لباسهم البياض فترى ثيابهم أبداً ناصعة ساطعة. ويستعملون الطيب كثيراً ويكتحلون ويكثرون السواك بعيدان الأراك الأخضر. ونساء مكة فائقات الحسن بارعات الجمال ذوات صلاح وعفاف. وهن يكثرن التطيب، حتى إن إحداهن لتبيت طاوية وتشتري بقوتها طيباً. وهن يقصدن الطواف بالبيت في كل ليلة جمعة، فيأتين في أحسن زي وتغلب على الحرم رائحة طيبهن، وتذهب المرأة منهن فيبقى أثر الطيب بعد ذهابها عبقاً. ولأهل مكة عوائد حسنة.
● [ عادة أهل مكة في صلواتهم ومواضع أئمتهم ] ●
فمن عاداتهم أن يصلي أول الأئمة إمام الشافعية، وهو المقدم من قبل أولي الأمر. وصلاته خلف المقام الكريم، مقام إبراهيم الخليل عليه السلام في حطيم له هنالك بديع. وجمهور الناس بمكة على مذهبه. والحطيم خشبتان موصول ما بينها بأذرع شبه السلم، تقابلهما خشبتان على صفتهما، وقد عقدت على أرجل مجصصة، وعرض على أعلى الخشب خشبة أخرى فيها خطاطيف حديد يعلق فيها قناديل زجاج. فإذا صلى الإمام الشافعي صلى بعده إمام المالكية في محراب قبالة الركن اليماني، ويصلي إمام الحنبلية معه في وقت واحد مقابلاً ما بين الحجر الأسود والركن اليماني، ثم يصلي إمام الحنفية قبال الميزاب المكرم تحت حطيم له هنالك، ويوضع بين يدي الأئمة في محاربيهم الشمع. وترتيبهم هكذا في الصلوات الأربع، وأما صلاة المغرب فإنهم يصلونها في وقت واحد، كل إمام يصلي بطائفته، ويدخل على الناس من ذلك سهو تخليط، فربما ركع المالكي بركوع الشافعي وسجد الحنفي بسجود الحنبلي. وتراهم مصيخين كل واحد إلى صوت المؤذن الذي يسمع طائفته لئلا يدخل عليه السهو.
● [ عاداتهم في الخطبة وصلاة الجمعة ] ●
وعادتهم في يوم الجمعة أن يلصق المنبر المبارك إلى صفح الكعبة الشريفة، فيما بين الحجر الأسود والركن العراقي، ويكون الخطيب مستقبلاً المقام الكريم. فإذا خرج الخطيب، أقبل لابساً ثوب سواد، معتماً بعمامة سوداء، وعليه طيلسان أسود. كل ذلك من كسوة الملك الناصر. وعليه الوقار والسكينة، وهو يتهادى بين رايتين سوداوين، يمسكهما رجلان من المؤذنين، وبين يديه أحد القومه، في يده الفرقعة، وهي عود في طرفه جلد رقيق مفتول، ينفضه في الهواء فيسمع له صوت عال يسمعه من بداخل الحرم وخارجه، فيكون إعلاماً بخروج الخطيب. ولا يزال كذلك إلى أن يقرب من المنبر فيقبل الحجر الأسود ويدعو عنده، ثم يقصد المنبر، والمؤذن الزمزمي، وهو رئيس المؤذنين بين يديه، لابساً السواد وعلى عاتقه السيف ممسكاً له بيده، وتركز الرايتان عن جانبي المنبر. فإذا صعد أول درج من درج المنبر قلده المؤذن السيف، فيضرب بنصل السيف ضربة في الدرج يسمع بها الحاضرين، ثم يضرب في الدرج الثاني ضربة، ثم في الثالث أخرى.فإذا استوى في عليا الدرجات ضرب ضربة رابعة، ووقف داعياً بدعاء خفي، مستقبل الكعبة. ثم يقبل على الناس فيسلم عن يمينه وشماله، ويرد عليه الناس، ثم يقعد. ويؤذن المؤذنون في أعلى قبة زمزم في حين واحد. فإذا فرغ الأذان، خطب الخطيب خطبة يكثر بها من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول في أثنائها: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ما طاف بهذا البيت طائف، ويشير بأصبعه إلى البيت الكريم: اللهم صل على محمد وآل محمد ما وقف بعرفة واقف. ويترضى عن الخلفاء الأربعة وعن سائر الصحابة وعن النبي صلى الله عليه وسلم وسبطيه وأمهما وخديجة جدتهما، على جميعهم السلام. ثم يدعو للملك الناصر، ثم للسلطان المجاهد نور الدين علي ابن الملك المؤيد داود ابن الملك المظفر يوسف بن علي بن رسول، ثم للسيدين الشريفين الحسنيين أميري مكة. سيف الدين عطيفة، وهو أصغر الأخوين، ويقدم اسمه لعدله، وأسد الدين رميثة، ابني أبي نمي بن أبي سعيد بن علي بن قتادة. وقد دعا لسلطان العراق مرة، ثم قطع ذلك. فلما فرغ من خطبته وانصرف، والرايتان عن يمينه وشماله والفرقعة أمامه إشعاراً بانقضاء الصلاة، ثم يعاد المنبر إلى مكانه الكريم.
● [ عاداتهم في استهلال الشهور ] ●
وعادتهم في ذلك أن يأتي أمير مكة في أول يوم من الشهر، وقواده يحفون به، وهو لابس البياض معتم متقلد سيفاً وعليه السكينة والوقار، فيصلي عند المقام الكبير ركعتين، ثم يقبل الحجر، ويسرع في طواف اسبوع . ورئيس المؤذنين على أعلى قبة زمزم. فعند ما يكمل الأمير شوطاً واحداً. ويقصد الحجر لتقبيله، يندفع رئيس المؤذنين بالدعاء له، والتهنئة بدخول الشهر، رافعاً بذلك صوته، ثم يذكر شعراً في مدحه ومدح سلفه الكريم. ويفعل به هكذا في السبعة أشواط. فإذا فرغ منها ركع عند الملتزم ركعتين، ثم ركع خلف المقام أيضاً ركعتين، ثم انصرف. ومثل هذا سواء يفعل إذا أراد سفراً وإذا قدم من سفر أيضاً.
مقتبسة من كتاب رحلة أبن بطوطة
منتديات الرسالة الخاتمة - البوابة