من طرف الرسالة الإثنين 28 أبريل 2014 - 10:05
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مكتبة الثقافة العلمية
المناظر لابن الهيثم
المقالة الثالثة
أغلاط البصر فيما يدركه على استقامة وعللها
الجزء الخامس من الفصل السابع
● [ غلط البصر من أجل كثافة المبصر ] ●
فأما كيف يكون غلط البصر في القياس من أجل خروج كثافة المبصر عن عرض الاعتدال فكالمبصر المشف الشديد الشفيف النقي البياض، كالزجاج والبلور وما جرى مجراهما، إذا كان الجسم من الأجسام ذا سمك مقتدر، وكان سطحه مستوياً، وكان سطحه مائلاً على خطوط الشعاع، وكان وراءه ضوء قوي. فإن البصر إذا أدرك المبصر الذي بهذه الصفة فإنه يدركه مضيئاً شديد الإضاءة. فإذا كان المبصر مرتفعاً عن سطح الأرض، ولم يكن مماساً لجسم من الأجسام الكثيفة، فإن البصر لا يتحقق ميل سطحه ولا يدركه إلا كما يدرك المبصر المواجه ولا يتحرر له أيضاً هيئة سطحه. وذلك لأن المبصر إذا كان في غاية الشفيف، وكان وراءه ضوء قوي، فإن البصر إنما يدرك الضوء الذي وراءه ولا يدرك الجسم المشف نفسه إذا كان في غاية الشفيف. وإذا كانت فيه كثافة يسيرة فإنه يدركه لما فيه من الكثافة، ولكن إدراكاً غير محقق. وإذا أدركه إدراكاً غير محقق فليس يتحقق وضعه ولا يفرق البصر بين السطح المائل الذي بهذه الصفة وبين السطح المواجه. وإذا أدرك البصر السطح المائل مواجهاً فهو غالط في وضعه وفي بعد أطرافه أيضاً، لأن المائل تكون أبعاد أطرافه مختلفة، والمواجه تكون أبعاد أطرافه متساوية، فإذا أدرك البصر المائل مواجهاً فهو يدرك الأبعاد المختلفة متساوية.
[ الشكل ]
كذلك إذا كان سطح المبصر الذي بهذه الصفة محدباً تحديباً يسيراً أو مقعراً تقعيراً يسيراً، فإن البصر لا يدرك تحديبه ولا تقعيره، ولا يفرق بين السطح المحدب والمقعر والمسطح، إذا كان الجسم شديد الشفيف ولم يكن فيه من الكثافة إلا قدر يسير، وكان التحديب أو التقعير الذي فيه يسيراً، وكان الضوء الذي يظهر من ورائه قوياً، لأنه لا يتحقق صورة سطحه من أجل شدة شفيفه وقوة الضوء الذي يظهر من ورائه. وإذا لم يدرك البصر التحديب والتقعير الذي في سطح المبصر، فيظن بسطح المبصر أنه مسطح، فهو غالط في شكل السطح.
[ العظم ]
وإذا أدرك البصر المبصر المشف الذي بهذه الصفة، وكان سطحه مسطحاً ومائلاً على خطوط الشعاع، وأدركه البصر مواجهاً، فإنه يغلط في عظم ذلك السطح أيضاً، لأن العظم إنما يدركه البصر من قياس العظم بالزاوية التي يوترها ذلك العظم وببعد ذلك العظم، فإذا كان المبصر مائلاً وأحس البصر بميله أدرك مقداره أعظم من مقدار المبصر المواجه الذي يوتر زاوية مساوية لتلك الزاوية. وإذا أدرك المبصر المائل مواجهاً فهو يقيس عظمه بالزاوية التي يوترها ذلك العظم وببعد أطرافه على أنها متساوية، فيدرك عظمه من أجل ذلك أصغر من مقداره الحقيقي.
[ التفرق والاتصال ]
وإن كان في الجسم المشف الذي بهذه الصفة خط مخطوط في سطحه من جسم كثيف متلون، أو كان جزء من ذلك الجسم كثيفاً وممتداً في طوله أو عرضه، أو كان وراءه جسم كثيف ملتصق به كالعود وما يجري مجراه، وكان ذلك الخط أو ذلك الجزء أو ذلك العود مقتدر العرض، فإن البصر ربما ظن بالجسم المشف الذي بهذه الصفة أنه جسمان مفترقان، وأن الخط الكثيف أو الجزء الكثيف الذي يظهر في سطحه هو جسم ثالث متوسط بين الجسمين المشفين.وذلك لأن شدة الضوء الذي يظهر من وراء الجسم المشف يمنع البصر من تأمل المعاني التي تكون في ذلك المبصر. فإذا ظهر في سطح المبصر الذي بهذه الصفة جزء مقتدر العرض وكان كثيفاً فإن البصر لا يتحقق مع ذلك اتصال الجسم المشف. وإذا ظن البصر بالجسم المتصل أنه جسمان متفرقان فهو غالط فيما يدركه من التفرق وغالط في العدد أيضاً.
وكذلك إن كان المبصر المشف الذي بهذه الصفة جسمين أو أكثر من جسمين منطبق أحدهما على الآخر، وكانت سطوحها المنطبق بعضها على بعض في غاية التشابه، فإن البصر لا يدرك الانفصال الذي بين الأجسام التي بهذه الصفة.
وكذلك إن كان بين الجسمين من هذه الأجسام تفرق يسير، وكان نهاية التفرق الذي بينهما في السطح المائل على خطوط الشعاع، فإن البصر لا يدرك التفرق الذي بينهما، لأن نهاية التفرق إذا كان في السطح المائل فليس يدرك البصر الضوء الذي من وراء التفرق وإنما يدرك الضوء من وراء الجسم المشف فلا يحس بالتفرق.
وإذا لم يدرك البصر التفرق فإنه يظن بالجسمين أنهما جسم واحد متصل، وإذا ظن بالجسمين المتفرقين أو الأجسام المتفرقة أنها جسم واحد متصل فهو غالط فيما يدركه من الاتصال وغالط في عددها أيضاً. والغلط في البعد وفي الوضع وفي الشكل وفي العظم وفي التفرق وفي الاتصال وفي العدد هي أغلاط في القياس لأن هذه المعاني إنما تدرك بالقياس. وعلة هذه الأغلاط إنما هو خروج الكثافة التي في المبصر الذي بهذه الصفة عن عرض الاعتدال، لن المبصر الذي بهذه الصفة إذا كان كثيفاً، أو كان مشفاً شفيفاً يسيراً وكانت في كثافة قوية، لم يكن الضوء الذي يظهر من ورائه مسرف القوة، وإذا لم يكن الضوء الذي يظهر من وراء الجسم المشف مسرف القوة فإن البصر يدرك ميل سطحه إذا كان مائلاً، ويدرك اختلاف أبعاد أطرافه، ويدرك عظمه، ويدرك التفرق الذي يكون فيه إن كان فيه تفرق، ويدرك اتصاله إذا كان متصلاً، ويدرك جميع المعاني التي فيه ولا يعرض له الغلط في شيء منها، إذا كانت المعاني الباقية التي في ذلك الجسم في عرض الاعتدال.
[ الحركة والسكون ]
وقد يعرض الغلط في الحركة أيضاً من أجل خروج كثافة المبصر عن عرض الاعتدال. وذلك أن البصر إذا نظر إلى جسم مشف شديد الشفيف نقي البياض، وكانت أطراف ذلك الجسم مستترة عن البصر، وهو أن يكون البصر يدرك ذلك المبصر من ثقب أو من باب ضيق، وكان وراء الجسم وقريباً منه أو مماساً له جسم مختلف الألوان، وكان ذلك لجسم المختلف الألوان يتحرك حركة على الاستدارة أو حركة اضطراب أو حركة ترجح، أعني أن يتحرك في جهة عرض المشف ويعود سريعاً إلى الجهة التي منها تحرك، فإن البصر إذا أدرك المبصر المشف على هذه الصفة فإنه إن لم يكن قد تقدم علم الناظر بذلك الجسم أنه مشف فإنه يظن به أنه متحرك. وذلك لنه إذا لم يكن قد تقدم علم الناظر بشفيف ذلك الجسم فإنه يظن بالضوء الذي يظهر من ورائه أنه لون ذلك الجسم المشف وأنه كثيف، وإذا أدرك تبدل الألوان المختلفة التي في الجسم المتحرك الذي يظهر من وراء الجسم المشف أو اختلاف أوضاعها فإنه يظن أن تلك الحركة وذلك التبدل إنما هو حركة الجسم الذي يدركه الذي يظنه كثيفاً متلوناً. وإذا أدرك المبصر الساكن متحركاً فهو غالط في حركته.
وقد يعرض الغلط في السكون أيضاً من اجل شدة الشفيف. وذلك أن البصر إذا أدرك جسماً من الأجسام المشفة الشديدة الشفيف، وكان ذلك الجسم كرياً كالكرة البلور، وكانت تلك الكرة تتحرك حركة مسديرة، وهي ان تكون في يد إنسان وهو يحركها والناظر لا يعلم بتحريك المحرك لها، فإن البصر يدرك الكرة التي بهذه الصفة ساكنة ولا يحس بحركتها. وذلك لأن الكرة التي بهذه الصفة إذا كانت شديدة الشفيف، ولم يكن فيها شيء كثيف، فإنها تكون متشابهة الأجزاء. وإذا كانت متحركة حركة مستديرة وهي في موضع واحد، فإن البصر ليس يدرك من ورائها إلا الجسم الواحد الذي هو وراءها. والحركة المستديرة إنما يدركها البصر من تبدل أجزاء المبصر. وإذا كانت الكرة متشابهة الجزاء، وكان الجسم الذي يظهر من ورائها واحداً وفي موضع واحد، فليس يدرك البصر تبدل أجزائها، وإذا لم يدرك تبدل أجزائها فليس يدرك حركتها، وإذا لم يدرك حركتها فهو يظنها ساكنة. وإذا أدرك البصر المبصر المتحرك ساكناً فهو غالط في سكونه.
والغلط في الحركة وفي السكون هما غلطان في القياس لأن الحركة والسكون يدركان بالقياس. وعلة هذا الغلط في الحركة التي على الصفة التي وصفناها وفي السكون الذي وصفناه هو شدة شفيف الجسم، لأن الجسم إذا كان كثيفاُ أو كان مشفاً وكان شفيفه يسيراً وكثافته قوية فإن البصر يدركه على ما هو عليه ويدرك شفيفه ويتميز له لونه من لون الجسم الذي وراءه. وإذا تميز للبصر لون الجسم المشف من لون الجسم الذي وراءه وكان الجسم الذي وراءه متحركاً والمشف ساكناً أو كان الذي وراءه ساكناً والمشف متحركاً فإنه يحس بحركة المتحرك وسكون الساكن إذا كانت المعاني الباقية التي في ذلك الجسم المشف في عرض الاعتدال.
[ الخشونة والملاسة ]
وقد يعرض الغلط في الخشونة والملاسة أيضاً من أجل شدة الشفيف. وذلك أن المبصر إذا كان في غاية الشفيف، وكان وراءه ضوء قوي، وكان البصر يدرك ذلك المبصر ويدرك الضوء القوي الذي يظهر من ورائه، وكان في سطح ذلك المبصر خشونة، فإن البصر لا يدرك الخشونة التي تكون في سطحه. وكذلك عن كان سطحه أملس فإن البصر لا يدرك ملاسته. وإن كان سطح ذلك المبصر أملس، وكان الضوء الذي يظهر من ورائه مختلف الصورة، وذلك بان يكون جسم قائم على جسم مختلف الألوان صغاراً، ويكون ذلك الجسم خشناً خشونة ظاهرة اعني الجسم الذي عليه الضوء، فإن البصر ربما ظن بالمبصر الذي على هذه الصفة أن سطحه خشن، ولا تكون فيه خشونة . وإذا ظن به انه خشن السطح، ولم تكن فيه خشونة، فهو غالط فيما يظنه من خشونته. وإذا كان سطح المبصر خشناً، ولم يحس بخشونته لقوة الضوء الذي يظهر من ورائه، فإنه يظنه أملس. وإذا ظن البصر بالجسم الخشن أنه أملس فهو غالط في ملاسته.
والغلط في الخشونة وفي الملاسة هو غلط في القياس لن الخشونة والملاسة يدركان بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج كثافة المبصر عن عرض الاعتدال، لأن المبصر الكثيف والذي فيه كثافة قوية، إذا كان فيه خشونة أو كان فيه ملاسة، فإن البصر يدرك خشونة الخشن وملاسة الأملس إذا كانت المعاني الباقية التي في ذلك المبصر في عرض الاعتدال.
[ الشفيف ]
وقد يعرض الغلط في الشفيف أيضاً من أجل فرط الشفيف. وذلك أن المبصر المشف التقي البياض، إذا كان وراءه جسم آخر مشف وكان الثاني ضعيف الشفيف وكان مع ذلك ذا لون قوي مشرق، وكان مع ذلك لون قوي مشرق، وكان الجسم الثاني ملتصقاً بالجسم الأول، فإن البصر يدرك الجسمين اللذين بهذه الصفة كأنهما جسم واحد، ويدرك الجسم الأول متلوناً بلون الجسم الثاني، ويدرك شفيف الجسم الأول كمثل شفيف الجسم الثاني إذا كان ملتصقاً به. وهذا المعنى يوجد كثيراً في الزجاج المطبق بعضه على بعض، وفي الفصوص المتخذة من الزجاج المطبق بعضه على بعض، وفي الفصوص المتخذة من الزجاج المطبق بعضها على بعض، إذا كان أحدها متلوناً والآخر نقي البياض. وذلك لأن الجسم الأول إذا كان شديد الشفيف، وكان الثاني ضعيف الشفيف، وكان مع ذلك متلوناً بلون قوي، فإن البصر يدرك الثاني ولا يحس بالأول لفرط شفيفه، وتظهر جملة الجسمين كأنهما جسم واحد. وقد يكون الجسمان جميعاً أبيضين متساويي الشفيف، ويجعل فيما بينهما صبغ، ويطبق أحدهما على الآخر، فيظهران جميعاً متلونين بذلك الصبغ، ومع ذلك يظهر شفيفهما أقل من شفيفهما الحقيقي فهو غالط في شفيفه.
وقد يعرض الغلط في الكثافة أيضاً على هذا الوجه. وذلك إذا كان الجسم الأول المشف نقي البياض شديد الشفيف، وكان الجسم الذي وراءه كثيفاً متلوناً، وكان الثاني ملتصقاً بالأول، فإن البصر يدرك الأول المشف كثيفاً إذا لم يكن قد تقدم علم الناظر بشفيفه. وجميع الواني المشفة إذا كان فيها جسم متلون كثيف أو شراب قوي اللون، ولم يكن الضوء يظهر من ورائها ولم يظهر شفيف الشراب الذي فيها، فإن البصر لا يحس بشفيف تلك الواني. فإذا لم يتقدم علم الناظر بشفيف تلك الآنية، ولم يدرك البصر الفسل من تلك الآنية عن الشراب الذي فيها، فإنه ربما ظنها كثيفة، وذلك إنما هو لفرط شفيف الآنية ولقوة اللون الذي يظهر من ورائها. فإذا لم يتقدم علم الناظر بشفيف تلك الأواني فإنه ربما ظن أن ذلك اللون هو لون الآنية وأنها كثيفة. وإذا ظن أن ذلك اللون هو لون الآنية وأنها كثيفة. وإذا ظن أن ذلك اللون هو لون الآنية وأنها كثيفة. وإذا ظن البصر بالجسم المشف أنه كثيف فهو غالط في كثافته.
والغلط في الشفيف وفي الكثافة هو غلط في القياس لأنهما يدركان بالقياس. وعلة هذين الغلطين هو شدة الشفيف الذي في الجسم الأول. لأن الجسم الأول إذا كان فيه كثافة قوية وكان فيه شفيف يسير، وكان وراءه جسم آخر مشف، فليس يشتبه على البصر شفيفه ومقدار شفيفه، إذا كان الجسم الذي وراءه ذا لون مشرق قوي وكان الجسم الأول أبيض نقي البياض وكانت المعاني الباقية التي فيهما في عرض الاعتدال.
[ الظل ]
وقد يعرض الغلط في الظل أيضاً من أجل شدة الشفيف. وذلك إذا كان في حائط من حيطان بيت من البيوت ثقب يفضي إلى بيت آخر أو فضاء، وكان وجه ذلك الثقب مسدوداً بجسم مشف كالجمات الزجاج التي تكون في الحيطان للضوء، وكان ذلك الجام المشف شديد الشفيف نقي البياض وكان سطحه مستوياً، وكان الحائط المقابل لذلك الثقب ثقب آخر نافذ منكسف للسماء، ودخل ضوء الشمس من الثقب النافذ وانتهى إلى الجسم المشف المقابل له، وكان مقدار الضوء لا يفضل على ذلك الجسم المشف، فإن البصر إذا نظر إلى الجسم المشف الذي بهذه الصفة ولم يكن البصر في الموضع الذي ينعكس إليه الضوء من سطح ذلك الجسم المشف ولا على سمت الانعكاس، فإن البصر يدرك الجسم المشف الذي بهذه الصفة مستظلاً ولا يدرك ضوء الشمس المشرق عليه. وذلك لأن الجسم المشف إذا كان في غاية الشفيف فإن الضوء إذا أشرق عليه نفذ فيه لشفيفه ولم يثبت في سطحه. وإذا كان ذلك المشف صقيلاً فإن الضوء مع نفوذه فيه ينعكس عن سطحه كما ينعكس عن سطوح الأجسام الصقيلة. وإذا لم يثبت في سطحه ولم يكن البصر في الموضع الذي ينعكس إليه الضوء ولا على سمت الانعكاس فإن البصر لا يدرك الضوء الذي أشرق على ذلك الجسم. وإذا كان ما يحيط بذلك الجسم من الأجسام الكثيفة وحيطان الموضع مستظلة، وذلك الجسم المشف فيما بينها، فإن لا يشك في أن حال ذلك الجسم في الظل كحال الأجسام التي حوله، إذا لم يتقدم علم الناظر بدخول ضوء الشمس من الثقب المقابل.
وإذا أدرك البصر الجسم الذي قد أشرق عليه ضوء الشمس مستظلاً فهو غالط في ما يدركه من استظلاله. والغلط في الظل هو غلط في القياس لأن الظل يدرك في القياس. وعلة هذا الغلط هو فرط شفيف الجسم المشف الذي يدركه البصر على الصفة التي وصفناها، لأن الجسم الذي وصفناه، إذا كان كثيفً أو كان فيه كثافة قوية، فإن الضوء إذا أشرق عليه ثبت في سطحه، وأدرك البصر الضوء الذي في سطحه ولم يدركه مستظلاً إذا كانت المعاني الباقية التي فيه في عرض الاعتدال.
[ الظلمة ]
وقد يعرض الغلط في الظلمة أيضاً من أجل فرط الشفيف. وذلك أن البخار والمياه الواقفة، إذا كانت صافية مشفة شديدة الشفيف وكانت مع ذلك عميقة كثيرة السمك، فإن البصر يدركها مظلمة مع إشراق الضوء عليها ونفوذ الضوء في شفيفها، وإن لم تكن تربتها سوداء، وخاصة إذا أدركها البصر في أول النهار وآخره قبل طلوع الشمس وبعد غروبها، أو إذا كانت محتجبة بالسحاب، ولم يكون صريح ضوء الشمس من فاعل الماء. فإن البصر إذا أدرك البحر والمياه الواقفة الصافية الشفيف الكثيرة العمق في هذه الأوقات فإنه يدركها مظلمة وليس هناك ظلمة.
وإذا أدرك البصر الظلمة في موضع من المواضع ولم يكن هناك ظلمة على ما يدركها البصر فهو غالط فيما يدركه من الظلمة. والغلط في الظلمة هو غلط في القياس لأن الظلمة تدرك بالقياس. وعلة هذا الغلط هو شدة شفيف الماء الذي بهذه الصفة، لأن البصر إذا أدرك الماء الكدر أو الذي فيه كدورة يسيرة الذي ليس شفيفه في الغاية فليس يدركه مظلماً وإن كان عميقاً كثير السمك.
فأما لم يدرك البصر ماء البحر مظلماً إذا كان شديد الشفيف فإن ذلك لأن الماء ليس يبلغ شفيفه شفيف الهواء وإن كان شديد الشفيف. فإذا أشرق عليه الضوء كان له ظل على أرضه، وكان لبعضه ظل على بعض، وكان قبوله لصورة الضوء ليس كقبول الهواء لصورة الضوء الذي فيه، فيكون الضوء الذي في الجسم المشف الذي هو جسم الماء دون الضوء الذي في الهواء، ولا ينفذ الضوء فيه كنفوذه في الهواء. فإذا لم ينفذ الضوء فيه كنفوذه في الهواء، والبصر مع ذلك يدرك الماء للغلط الذي فيه ويدرك ما في داخل الماء إذا كان مشفاً صافي الشفيف، فالبصر يدرك الظل الذي في داخل الماء الذي هو ظل بعضه على بعض. وإذا كان الماء مشفاً صافي الشفيف، وكان مع ذلك عميقاً، فإن البصر يدرك منه مسافة لها قدر. وإذا أدرك البصر من الماء مسافة لها قدر، وهو يدرك كل جزء من الماء الذي في تلك المسافة مستظلاً، فهو يدرك في الماء ظلاً ذا سمك مقتدر، فهو يدرك ظلاً متضاعفاً . وإذا تضاعف الظل صار ظلمة قوية. لأن الظل الذي يدركه البصر هو بمنزلة اللون الرقيق إذا تضاعف صار لوناً قوياً.
ولهذا المعنى نظير في الجسم المشف المتلون، وهو الشراب المشف الرقيق اللون. فإن الشراب الريق اللون إذا سكب في الإناء ظهر في حال انسكابه أبيض أو ذا لون خفي، وظهر شفيف ما ينسكب منه ظهوراً بيناً، وإذا اجتمع ذلك الشراب في إناء كبير مشف فإن يظهر لونه قوياً صبغاً. وإن لم يكن وراءه ضوء قوي ظهر كثيفاً. واللون القوي الذي يظهر للشراب الرقيق اللون إذا اجتمع في الإناء إنما يظهر لوناً قوياً لتضاعف لونه بتضاعف أجزاءه. وكذلك الظل الذي يدركه البصر في داخل الماء هو ظل رقيق. وإذا كان الماء عميقاً كثير السمك تضاعف ذلك الظل الرقيق لتضاعف أجزاء الماء. وإذا تضاعف الظل صار ظلمة قوية. فلذلك يدرك البصر ماء البحر العميق مظلماً.
والماء الكدر الذي شفيفه يسير ليس يدركه البصر مظلماً لأن الماء الكدر ذو لون ظاهر وكثافة قوية، فليس يدرك البصر من جميعه إلا مسافة يسيرة لقوة لونه وضعف شفيفه، فليس يدرك الظل في داخله لقلة سمك ما يدركه البصر من الظل ولاستظهار لون الماء الذي في تلك المسافة على صورة الظل الذي فيها.
[ الحسن والقبح ]
وقد يعرض الغلط في الحسن والقبح أيضاً من أجل فرط الشفيف. وذلك أن الأواني المشفة كالبلور والزجاج إذا كانت أشكالها حسنة وكانت صافية الشفيف وكان في تضاعيفها مواضع متلونة بألوان غير مستحسنة كالعيوب التي تكون في البلور والزجاج، وكانت تلك المواضع تشين تلك الأواني وتقبحها، فإن البصر إذا أدرك الأواني التي بهذه الصفة وهي خالية فإنه يدرك شفيفها ويدرك المواضع التي تشينها، وإذا أدرك المواضع التي تشينها فهو يدرك صورتها مستقبحة. فإذا كان في تلك الأواني شراب قوي اللون، ومع ذلك حسن اللون، فإن تلك الأواني تظهر حسنة الصورة لحسن أشكالها وحسن الشراب الذي فيها ولا تظهر تلك المعاني التي تشينها، لأن لون الشراب الذي في داخلها يخفي تلك المواضع التي فيها. وإذا أدرك البصر الأواني التي بهذه الصفة، ولم يكن أدركها من قبل، فإنه يدركها حسنة الصورة ويحس بقبحها. وإذا أدرك البصر المبصر القبيح حسناً فهو غالط في حسنه.
وعلى هذه الصفة بعينها يعرض الغلط في قبح المبصر من أجل الشفيف.
وذلك أن الأواني المشفة المحكمة الصنعة التي فيها نقو وتماثيل مستحسنة إذا كانت أشكال تلك الأواني مستقبحة، وكان فيها شراب قوي مظلم اللون أو شيء من الأجسام السيالة المتلونة بألوان غير مستحسنة، فإن البصر يدركها مستقبحة ولا يحس بشيء من محاسنها إذا كانت في غاية الشفيف. لأنها إذا كانت في غاية الشفيف لم تظهر النقوش التي فيها، أو لم تظهر على ما هي عليه وإذا كانت أشكالها مستقبحة والشراب الذي فيها مستقبح اللون فالبصر يدرك مقابحها ولا يدرك محاسنها.
وإذا أدرك البصر مقابح المبصر ولم يدرك محاسنه فهو يدركه مستقبحاً. وإذا أدرك البصر المبصر الذي بهذه الصفة مستقبحاً فهو غالط فيما يدركه من قبحه.
وعلى هذه الصفة بعينها يعرض الغلط في التشابه والاختلاف من أجل فرط الشفيف وذلك أن المبصرين إذا كانا مشفين، وكانا متشابهين في أشكالهما وفي شفيفهما، وكانت فيهما نقوش وخروش وتماثيل، وكانت النقوش التي في ذينك المبصرين مختلفة، وكان المبصران في غاية الشفيف، وكان فيهما شراب متشابه اللون، فإن البصر يدرك المبصرين اللذين بهذه الصفة متشابهين ولا يحس بشيء من اختلافهما ولا يحكم لهما بشيء من الاختلاف. وإذا أدرك البصر المبصرين المختلفين في معنى من المعاني متشابهين على الإطلاق، ولم يحس باختلافهما، فهو غالط في تشابههما.
وكذلك إذا كان المبصران اللذان بهذه الصفة مختلفين في المعاني الظاهرة ومتشابهين في النقوش والمعاني اللطيفة فإن البصر يدركهما مختلفين ولا يحس بتشابههما ويكون غالطاً في اختلافهما.
والغلط في الحسن وفي القبح وفي التشابه وفي الاختلاف هي أغلاط في القياس، لأن هذه المعاني تدرك بالقياس، ولأن هذه الأغلاط إنما هي لتعويل البصر على المعاني الظاهرة وسكونه إلى نتائجها. وعلة هذه الأغلاط هو فرط الشفيف، لأن المبصرات التي بهذه الصفة إذا كان شفيفها يسيراً، وكان فيها كثافة، فإن البصر يدرك المعاني التي فيها ويدرك حسن الحسن منها وقبح القبيح وتشابه المتشابه واختلاف المختلف على ما هو عليه، ولا يعرض له غلط فيما يدركه منها، إذا كانت المعاني الباقية التي في هذه المبصرات التي بها يتم إدراك المبصرات على ما هي عليه في عرض الاعتدال.
فعلى هذه الصفات وأمثالها يكون غلط البصر في القياس من أجل خروج كثافة المبصر عن عرض الاعتدال.
كتاب : المناظر ● تأليف : ابن الهيثم
منتدى نافذة ثقافية . البوابة