منتديات الرسالة الخاتمة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    بداية أحداث سنة ست وثلاثين

    avatar
    الرسالة
    Admin


    عدد المساهمات : 3958
    تاريخ التسجيل : 01/01/2014

    بداية أحداث سنة ست وثلاثين Empty بداية أحداث سنة ست وثلاثين

    مُساهمة من طرف الرسالة الثلاثاء 30 أبريل 2019 - 10:14

    بداية أحداث سنة ست وثلاثين Alathe10

    بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
    أحوال البلاد وأخبار العباد
    بداية أحداث سنة ست وثلاثين
    بداية أحداث سنة ست وثلاثين 1410
    ● [ ثم دخلت سنة ست وثلاثين ] ●
    ذكر تفريق عليّ عماله وخلاف معاوية

    وفي هذه السنة فرق علي عماله على الأمصار، فبعث عثمان بن حنيف على البصرة، وعمارة بن شهاب على الكوفة، وكانت له هجرة، وعبيد الله بن عباس على اليمن، وقيس بن سعد على مصر، وسهل بن حنيف على الشام.
    فأما سهل فإنه خرج حتى إذا كان بتبوك لقيته خيلٌ فقالوا: من أنت؟ قال: أمير. قالوا: على أي شيء؟ أمير المؤمنينعلى الشام. قالوا: إن كان بعثك عثمان فحي هلاً بك، وإن كان بعثك غيره فارجع. قال: أوما سمعتم بالذي كان؟ قالوا: بلى. فرجع إلى علي. وأما قيس بن سعد فإنه لما انتهى إلى أيلة لقيته خيلٌ فقالوا له: من أنت؟ قال: من فالة عثمان، فأنا أطلب من آوي إليه فأنتصر به لله. قالوا: من أنت؟ قال: قيس بن سعد. قالوا: امض. فمضى حتى دخل مصر. فافترق أهل مصر فرقاً، فرقة دخلت في الجماعة فكانوا معه، وفرقة اعتزلت بخرنبا وقالوا: إن قتل قتلة عثمان فنحن معكم، وإلا فنحن على دديلتنا حتى نحرك أو نصيب حاجتنا، وفرقة قالوا: نحن مع علي ما لم يقد من إخواننا، وهم في ذلك مع الجماعة. وكتب قيس إلى علي بذلك.
    وأما عثمان بن حنيف فسار ولم يرده أحد عن دخول البصرة ولم يجد لابن عامر في ذلك رأياً ولا استقلالاً بحرب، وافترق الناس بها، فاتبعت فرقةٌ القوم، ودخلت فرقةٌ في الجماعة، وقالت فرقة: ننظر ما يصنع أهل المدينة فتصنع كما صنعوا. وأما عمارة بن شهاب فلما بلغ زبالة لقيه طليحة بن خويلد، وكان خرج يطلب بثأر عثمان وهو يقول: لهفي على أمر لم يسبقني ولم أدركه! وكان خروجه عند عود القعقاع من إغاثة عثمان، فلما لقي عمارة قال له: ارجع، فإن القوم لا يريدون بأميرهم بدلاً، فإن أبيت ضربت عنقك. فرجع عمارة إلى علي بالخبر. وانطلق عبيد الله بن عباس إلى اليمن، فجمع يعلى بن منية كل شيء من الجباية وخرج به إلى مكة فقدمها بالمال، ودخل عبيد الله اليمن.
    ولما رجع سهل بن حنيف من الشام وأتت علياً الأخبار دعا طلحة والزبير فقال: إن الأمر الذي كنت أحذركم قد وقع، وإن الذي قد وقع لا يدرك إلا بإماتته، وإنها فتنة كالنار كلما سعرت ازدادت واستثارت. فقالا له: ائذن لنا نخرج من المدينة فإما أن نكاثر وإما أن تدعنا. فقال: سأمسك الأمر ما استمسك، فإذا لم أجد بداً فآخر الداء الكي.
    وكتب إلى معاوية وإلى أبي موسى. فكتب إليه أبو موسى بطاعة أهل الكوفة وبيعتهم، وبين الكاره منهم للذي كان والراضي ومن بين ذلك حتى كان علي كأنه يشاهدهم. وكان رسول علي إلى أبي موسى معبدٌ الأسلمي، وكان رسوله إلى معاوية سبرة الجهني، فقدم عليه، فلم يجبه معاوية بشيء، كلما تنجز جوابه لم يزد على قوله:
    أدم إدامة حصن أو خذا بيدي ... حرباً ضروساً تشب الجذل والضرما
    في جاركم وابنكم إذ كان مقتله ... شنعاء شيبت الأصداغ واللمما
    أعيا المسود بها والسيدون فلم ... يوجد لنا غيرنا مولىً ولا حكما
    حتى إذا كان الشهر الثالث من مقتل عثمان في صفر دعا معاوية رجلاً من بني عبس يدعى قبيصة فدفع إليه طوماراً مختوماً عنوانه: من معاوية إلى علي: وقال له: إذا دخلت المدينة فاقبض على أسفل الطومار، ثم أوصاه بما يقول، وأعاد رسول علي معه. فخرجا فقدما المدينة في ربيع الأول، فدخلها العبسي كما أمره قد رفع الطومار، فتبعه الناس ينظرون إليه، وعلموا أن معاوية معترض، ودخل الرسول على علي فدفع إليه الطومار، ففض ختمه فلم يجد فيه كتاباً. فقال للرسول: ما وراءك؟ قال: آمن أنا؟ قال: نعم، إن الرسول لا يقتل. قال: ورائي أني تركت قوماً لا يرضون إلا بالقود. قال: ممن؟ قال: من خيط رقبتك. وتركت ستين ألف شيخ تبكي تحت قميص عثمان وهو منصوب لهم قد ألبسوه منبر دمشق. قال: أمني يطلبون دم عثمان، ألست موتوراً كترة عثمان؟ اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان! نجا والله قتلة عثمان إلا أن يشاء الله، فإنه إذا أراد أمراً اصابه، اخرج. قال: وأنا آمنٌ؟ قال: وأنت آمن. فخرج العبسي وصاحت السبئية وقالت: هذا الكلب رسول الكلاب، اقتلوه! فنادى: يا آل مضر! يا آل قيس! الخيل والنهل! أقسم بالله ليردنها عليكم أربعة آلاف خصي، فانظروا كم الفحول والركاب! وتعاونوا عليه، فمنعه مضر، فجعلوا يقولون له: اسكت، فيقول: لا والله لا يفلح هؤلاء أبداً، أتاهم ما يوعدون، لقد حل بهم ما يجدون، انتهت والله أعمالهم وذهبت ريحهم، فوالله ما أمسوا حتى عرف الذل فيهم.
    وأحب أهل المدينة أن يعلموا رأي علي في معاوية وقتاله أهل القبلة، أيجسر عليه أم ينكل عنه؟ وقد بلغهم أن ابنه الحسن دعاه إلى القعود وترك الناس، فدسوا زياد بن حنظلة التميمي وكان منقطعاً إلى علي فجلس إليه ساعة، فقال له علي: يا زياد تيسر، فقال: لأي شيء؟ فقال: لغزو الشام. فقال زياد: الأناة والرفق أمثل، وقال:
    ومن لم يصانع في أمورٍ كثيرةٍ ... يضرس بأنيابٍ ويوطأ بمنسم
    فتمثل علي وكأنه لا يريده:
    متى تجمع القلب الزكي وصارماً ... وأنفاً حمياً تجتنبك المظالم
    فخرج زياد والناس ينتظرونه وقالوا: ما وراءك؟ فقال: السيف يا قوم. فعرفوا ما هو فاعل. واستأذنه طلحة والزبير في العمرة، فأذن لهما، فلحقا بمكة؛ ودعا علي محمد بن الحنفية فدفع إليه اللواء، وولى عبد الله بن عباس ميمنته، وعمر بن أبي سلمة أو عمرو بن سفيان بن عبد الأسد ولاه ميسرته، ودعا أبا ليلى بن عمر بن الجراح ابن أخي أبي عبيدة بن الجراح فجعله على مقدمته، واستخلف على المدينة قثم بن العباس، ولم يول ممن خرج على عثمان أحداً، وكتب إلى قيس بن سعد وإلى عثمان بن حنيف وإلى أبي موسى أن يندبوا الناس إلى أهل الشام، ودعا أهل المدينة إلى قتالهم وقال لهم: إن في سلطان الله عصمة أمركم فأعطوه طاعتكم غير ملوية ولا مستكره بها، والله لتفعلن أو لينقلن عنكم سلطان الإسلام ثم لا ينقله إليكم أبداً حتى يأرز الأمر إليها، انهضوا إلى هؤلاء الذين يريدون تفريق جماعتكم لعل الله يصلح بكم ما أفسد أهل الآفاق وتقضون الذي عليكم.
    خرنبا بفتح الخاء المعجمة، وسكون الراء، وفتح النون، والباء الموحدة، وآخره ألف.
    ● [ ذكر ابتداء وقعة الجمل ] ●

    فبينما هم كذلك على التجهز لأهل الشام أتاهم الخبر عن طلحة والزبير وعائشة وأهل مكة بنحو آخر وأنهم على الخلاف، فأعلم علي الناس ذلك، وأن عائشة وطلحة والزبير قد سخطوا إمارته ودعوا الناس إلى الإصلاح وقال لهم: سأصبر ما لم أخف على جماعتكم، وأكف إن كفوا، وأقتصر على ما بلغني. عنهم.
    ثم أتاه أنهم يريدون البصرة، فسره ذلك وقال: إن الكوفة فيها رجال العرب وبيوتاتهم. فقال له ابن عباس: إن الذي سرك من ذلك ليسوءني، إن الكوفة فسطاط فيه من أعلام العرب، ولا يحملهم عدة القوم، ولا يزال فيها من يسمو إلى أمر لا يناله، فإذا كان كذلك شغب علي الذي قد نال ما يريد حتى تكسر حدته.
    فقال علي: إن الأمر ليشبه ما تقول، وتهيأ للخروج إليهم، فندب أهل المدينة للمسير معهم فتثاقلوا، فبعث إلى عبد الله بن عمر كميلاً النخعي، فجاء به، فدعاه إلى الخروج معه، فقال: إنما أنا من أهل المدينة وقد دخلوا في هذا الأمر فدخلت معهم، فإن يخرجوا أخرج معهم، وإن يقعدوا أقعد. قال: فأعطني كفيلاً. قال: لا أفعل. فقال له علي: لولا ما أعرف من سوء خلقك صغيراً وكبيراً لأنكرتني، دعوه فأنا كفيله. فرجع ابن عمر إلى المدينة وهم يقولون: والله ما ندري كيف نصنع، إن الأمر لمشتبه علينا ونحن مقيمون حتى يضيء لنا.
    فخرج من تحت ليلته وأخبر أم كلثوم ابنة علي، وهي زوجة عمر، بالذي سمع، وأنه يخرج معتمراً مقيماً على طاعة علي ما خلا النهوض. فأصبح علي فقيل له: حدث الليلة حدث هو أشد من طلحة والزبير وعائشة ومعاوية. قال: وما ذاك؟ قالوا: خرج ابن عمر إلى الشام فأتى السوق وأعد الظهر والرجال وأخذ لكل طريق طلاباً وماج الناس. فسمعت أم كلثوم فأتت علياً فأخبرته الخبر، فطابت نفسه وقال: انصرفوا، والله ما كذبت ولا كذب، والله إنه عندي ثقة. فانصرفوا.
    وكان سبب اجتماعهم بمكة أن عائشة كانت خرجت إليها، وعثمان محصور، ثم خرجت من مكة تريد المدينة. فلما كانت بسرف لقيها رجلٌ من أخوالها من بني ليث يقال له عبيد بن أبي سلمة، وهو ابن أم كلاب، فقالت له: مهيم؟ قال: قتل عثمان وبقوا ثمانياً. قالت: ثم صنعوا ماذا؟ قال: اجتمعوا على بيعة علي. فقالت: ليت هذه انطبقت على هذه إن تم الأمر لصاحبك! ردوني ردوني! فانصرفت إلى مكة وهي تقول: قتل والله عثمان مظلوماً، والله لأطلبن بدمه! فقال لها: ولم؟ والله إن أول أمال حرفه لأنت، ولقد كنت تقولين: اقتلوا نعثلاً فقد كفر. قالت: إنهم استتابوه ثم قتلوه، وقد قلت وقالوا، وقولي الأخير خير من قولي الأول. فقال لها ابن أم كلاب:
    فمنك البداء ومنك الغير ... ومنك الرياح ومنك المطر
    وأنت أمرت بقتل الإمام ... وقلت لنا إنه قد كفر
    فهبنا أطعناك في قتله ... وقاتله عندنا من أمر
    ولم يسقط السقف من فوقنا ... ولم ينكسف شمسنا والقمر
    وقد بايع الناس ذا تدرإ ... يزيل الشبا ويقيم الصغر
    ويلبس للحرب أثوابها ... وما من وفى مثل من قد غدر
    فانصرفت إلى مكة فقصدت الحجر فسترت فيه، فاجتمع الناس حولها، فقالت: أيها الناس إن الغوغاء من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا على هذا الرجل المقتول ظلماً بالأمس ونقموا عليه استعمال من حدثت سنه، وقد استعمل أمثالهم قبله، ومواضع من الحمى حماها لهم فتابعهم ونزع لهم عنها. فلما لم يجدوا حجة ولا عذراً بادروا بالعدوان فسفكوا الدم الحرام واستحلوا البلد الحرام والشهر الحرام وأخذوا المال الحرام، والله لإصبعٌ من عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم! ووالله لو أن الذي اعتدوا به عليه كان ذنباً لخلص منه كما يخلص الذهب من خبثه أو الثوب من درنه إذ ماصوه كما يماص الثوب بالماء، أي يغسل.
    فقال عبد الله بن عامر الحضرمي، وكان عامل عثمان على مكة: ها أنا أول طالب! فكان أول مجيب، وتبعه بنو أمية على ذلك، وكانوا هربوا من المدينة بعد قتل عثمان إلى مكة ورفعوا رؤوسهم، وكان أول ما تكلموا بالحجاز وتبعهم سعيد بن العاص والوليد بن عقبة وسائر بني أمية، وقدم عليهم عبد الله بن عامر من البصرة بمال كثير، ويعلى بن أمية، وهو ابن منية، من اليمن ومعه ستمائة بعير وستمائة ألف درهم، فأناخ بالأبطح، وقدم طلحة والزبير من المدينة فلقيا عائشة، فقالت: ما وراءكما؟ فقالا: إنا تحملنا هراباً من المدينة من غوغاء وأعراب وفارقنا قومماً حيارى لا يعرفون حقاً ولا ينكرون باطلاً ولا يمنعون أنفسهم. فقالت: انهضوا إلى هذه الغوغاء. فقالوا: نأتي الشام. فقال ابن عامر: قد كفاكم الشام معاوية، فأتوا البصرة فإن لي به بها صنائع ولهم في طلحة هوىً. قالوا: قبحك الله! فوالله ما كنت بالمسالم ولا بالمحارب، فهلا أقمت كما أقام معاوية فنكفى بك ثم نأتي الكوفة فنسد على هؤلاء القوم المذاهب؟ فلم يجدوا عنده جواباً مقبولاً، فاستقام الرأي على البصرة، وقالوا لها: نترك المدينة فإنا خرجنا فكان معنا من لا يطيق من بها من الغوغاء ونأتي بلداً مضيعاً سيحتجون علينا ببيعة علي فتنهضينهم كما أنهضت أهل مكة، فإن أصلح الله الأمر كان الذي أردنا، وإلا دفعنا بجهدنا حتى يقضي الله ما أراد.
    فأجابتهم إلى ذلك. ودعوا عبد الله بن عمر ليسير معهم، فابى وقال: أنا من أهل المدينة أفعل ما يفعلون. فتركوه.
    وكان أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، معها على قصد المدينة، فلما تغير رأيها إلى البصرة تركن ذلك، وأجابتهم حفصة إلى المسير معهم، فمنعها أخوها عبد الله بن عمر. وجهزهم يعلى بن منية بستمائة بعير وستمائة ألف درهم، وجهزهم ابن عامر بمال كثير، ونادى مناديها: إن أم المؤمنين وطلحة والزبير شاخصون إلى البصرة، فمن أراد إعزاز الإسلام وقتال المحلين والطلب بثأر عثمان وليس له مركب وجهاز فليأت! فحملوا ستمائة على ستمائة بعير وساروا في ألف، وقيل: في تسعمائة من أهل المدينة ومكة، ولحقهم الناس فكانوا في ثلاثة آلاف رجل. وبعثت أم الفضل بنت الحرث أم عبد الله بن عباس رجلاً من جهينة يدعى ظفراً فاستأجرته على أن يأتي علياً بالخبر، فقدم على علي بكتابها.
    وخرجت عائشة ومن معها من مكة، فلما خرجوا منها وأذن مروان بن الحكم، ثم جاء حتى وقف على طلحة والزبير فقال: على أيكما أسلم بالإمرة وأؤذن بالصلاة؟ فقال عبد الله بن الزبير: على أبي عبد الله، يعني أباه الزبير. وقال محمد بن طلحة: على أبي محمد، يعني أباه طلحة. فأرسلت عائشة إلى مروان وقالت له: أتريد أن تفرق أمرنا! ليصل بالناس ابن أختي، تعني عبد الله بن الزبير. وقيل: بلى صلى بالناس عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد حتى قتل، فكان معاذ ابن عبيد الله يقول: والله لو ظفرنا لاقتتلنا، ما كان الزبير يترك طلحة والأمر ولا كان طلحة يترك الزبير والأمر.
    وتبعها أمهات المؤمنين إلى ذات عرق فبكوا على الإسلام، فلم ير يوم كان أكثر باكياً وباكيةً من ذلك اليوم، فكان يسمى يوم النحيب. فلما بلغوا ذات عرق لقي سعيد بن العاص مروان بن الحكم وأصحابه بها فقال: أين تذهبون وتتركون ثأركم على أعجاز الإبل وراءكم؟ يعني عائشة وطلحة والزبير، اقتلوهم ثم ارجعوا إلى منازلكم. فقالوا: نسير فلعلنا نقتل قتلة عثمان جميعاً. فخلا سعيد بطلحة والزبير فقال: إن ظفرتما لمن تجعلان الأمر؟ اصدقاني. قالا: نجعله لأحدنا أينا اختاره الناس. قال: بل تجعلونه لولد عثمان فإنكم خرجتم تطلبون بدمه. فقالا: ندع شيوخ المهاجرين ونجعلها لأيتام! قال: فلا أراني أسعى إلا لإخراجها من بني عبد مناف. فرجع ورجع عبد الله ابن خالد بن أسيد، وقال المغيرة بن شعبة: الرأي ما قال سعيد، من كان ههنا من ثقيف فليرجع. فرجع ومضى القوم ومعهم أبان والوليد ابنا عثمان.
    وأعطى يعلى بن منية عائشة جملاً اسمه عسكر اشتراه بثمانين ديناراً، فركبته، وقيل: بل كان جملها لرجل من عرينة.
    قال العرني: بينما أنا أسير على جمل إذ عرض لي راكب فقال: أتبيع جملك؟ قلت: نعم. قال: بكم؟ قلت: بألف درهم. قال: أمجنون أنت؟ قلت: ولم؟ والله ما طلبت عليه أحداً إلا أدركته ولا طلبني وأنا عليه أحدٌ إلا فته. قال: لو تعلم لمن نريده! إنما نريده لأم المؤمنين عائشة! فقلت: خذه بغير ثمن. قال: بل ترجع معنا إلى الرحل فنعطيك ناقة ودراهم. قال: فرجعت معه فأعطوني ناقة مهرية وأربعمائة درهم أو ستمائة، وقالوا لي: يا أخا عرينة هل لك دلالة بالطريق؟ قلت: أنا من أدل الناس. قالوا: فسر معنا. فسرت معهم فلا أمر على واد إلا سألوني عنه، حتى طرقنا الحوأب، وهو ماء، فنبحتنا كلابه، فقالوا: أي ماء هذا؟ فقلت: هذا ماء الحواب. فصرخت عائشة بأعلى صوتها وقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، إني لهيه، سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول وعنده نساؤه: ليت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحوأب! ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته وقالت: ردوني، أنا والله صاحبة ماء الحوأب. فأناخوا حولها يوماً وليلة، فقال لها عبد الله بن الزبير: إنه كذب، ولم يزل بها وهي تمتنع، فقال لها: النجاء النجاء! قد أدرككم علي بن أبي طالب. فارتحلوا نحو البصرة فلما كانوا بفنائها لقيهم عمير بن عبد الله التميمي وقال: يا أم المؤمنين أنشدك الله أن تقدمي اليوم على قوم لم تراسلي منهم أحداً فعجلي ابن عامر فإن له بها صنائع فليذهب إليهم ليلقوا الناس إلى أن تقدمي ويسمعوا ما جئتم به. فأرسلته فاندس إلى البصرة، فأتى القوم، وكتبت عائشة إلى رجال من أهل البصرة وإلى الأحنف بن قيس وصبرة بن شيمان وأمثالهم وأقامت بالحفير تنتظر الجواب.
    ولما بلغ ذلك أهل البصرة دعا عثمان بن حنيف عمران بن حصين وكان رجل عامة، وألزه بأبي الأسود الدئلي، وكان رجل خاصة، وقال لهما: انطلقا إلى هذه المرأة فاعلما علمها وعلم من معها. فخرجا فانتهيا إليها بالحفير، فأذنت لهما، فدخلا وسلما وقالا: إن أميرنا بعثنا إليك لنسألك عن مسيرك فهل أنت مخبرتنا؟ فقالت: والله ما مثل يعطي لبنيه الخبر، إن الغوغاء ونزاع القبائل غزوا حرم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأحدثوا فيه وآووا المحدثين فاستوجبوا لعنة الله ولعنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مع ما نالوا من قتل إمام المسلمين بلا ترةٍ ولا عذر فاستحلوا الدم الحرام وسفكوه وانتهبوا المال الحرام وأحلوا البلد الحرام والشهر الحرام فخرجت في المسلمين أعلمهم ما أتى هؤلاء وما الناس فيه وراءنا وما ينبغي لهم من إصلاح هذه القصة، وقرأت: (لا خير في كثيرٍ من نجواهم) النساء: 114 الآية، فهذا شأننا إلى معروف نأمركم به ومنكر ننهاكم عنه.
    فخرج عمران وأبو الأسود من عندها فأتيا طلحة وقالا: ما أقدمك؟ فقال: الطلب بدم عثمان. فقالا: ألم تبايع علياً؟ فقال: بلى والسيف على عنقي وما أستقيل علياً البيعة إن هو لم يحل بيننا وبين قتلة عثمان. ثم أتيا الزبير فقالا له مثل قولهما لطلحة، وقال لهما مثل قول طلحة، فرجعا إلى عثمان بن حنيف ونادى مناديها بالرحيل، فدخلا على عثمان فبادر أبو الأسود عمران فقال:
    يا ابن حنيفٍ قد أتيت فانفر ... وطاعن القوم وجالد واصبر
    وابرز لهم مستلئماً وشمر
    فقال عثمان: إنا لله وإنا إليه راجعون، دارت رحى الإسلام ورب الكعبة فانظروا بأي زيفان تزيف. فقال عمران: إي والله لتعركنكم عركاً طويلاً. قال: فأشر علي يا عمران. قال: اعتزل فإني قاعد. قال عثمان: بل أمنعهم حتى يأتي أمير المؤمنين. فانصرف عمران إلى بيته وقام عثمان في أمره، فأتاه هشام بن عامر فقال: إن هذا الأمر الذي تريده يسلم إلى شر مما تكره، إن هذا فتقٌ لا يرتق، وصدعٌ لا يجبر، فارفق بهم وسامحهم حتى يأتي أمر علي. فأبى ونادى عثمان في الناس وأمرهم بلبس السلاح، فاجتمعوا إلى المسجد، وأمرهم بالتجهز، وأمر رجلاً دسه إلى الناس خدعاً كوفياً قيسياً، فقام فقال: أيها الناس أنا قيس بن العقدية الحميسي، إن هؤلاء القوم إن كانوا جاؤوا خائفين، فقد أتوا من بلد يأمن فيه الطير، وإن كانوا جاؤوا يطلبون بدم عثمان فما نحن بقتلة عثمان، فأطيعوني وردوهم من حيث جاؤوا. فقام الأسود ابن سريع السعدي فقال: أو زعموا أنا قتلة عثمان؟ إنما أتوا يستعينون بنا على قتلة عثمان منا ومن غيرنا. فحصبه الناس فعرف عثمان أن لهم بالبصرة ناصراً فكسره ذلك.
    فأقبلت عائشة فيمن معها حتى انتهوا إلى المربد فدخلوا من أعلاه ووقفوا حتى خرج عثمان فيمن معه وخرج إليها من أهل البصرة من أراد أن يكون معها، فاجتمع القوم بالمربد، فتكلم طلحة وهو في ميمنة المربد وعثمان في ميسرته، فأنصتوا له، فحمد الله وأثنى عليه وذكر عثمان وفضله وما استحل منه ودعا إلى الطلب بدمه وحثهم عليه، وكذلك الزبير. فقال من في ميمنة المربد: صدقا وبرا. وقال من في ميسرته: فجرا وغدرا وأمرا بالباطل، فقد بايعا علياً ثم جاءا يقولان، وتحاثى الناس وتحاصبوا وأرهجوا.
    فتكلمت عائشة، وكانت جهورية الصوت، فحمدت الله وقالت: كان الناس يتجنون على عثمان ويزرون على عماله ويأتوننا بالمدينة فيستشيروننا فيما يخبروننا عنهم، فننظر في ذلك فنجده بريئاً تقياً وفياً، ونجدهم فجرة غدرة كذبة، وهم يحاولون غير ما يظهرون فلما قووا كاثروه واقتحموا عليه داره واستحلوا الدم الحرام والشهر الحرام والبلد الحرام بلا ترةٍ ولا عذر، ألا إن مما ينبغي ولا ينبغي لكم غيره، أخذ قتلة عثمان وإقامة كتاب الله، وقرأت: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله) آل عمران: 23 الآية؛ فافترق أصحاب عثمان فرقتين، فرقة قالت: صدقت وبرت، وقال الآخرون: كذبتم والله ما نعرف ما جئتم به! فتحاثوا وتحاصبوا. فلما رأت عائشة ذلك انحدرت وانحدر أهل الميمنة مفارقين لعثمان بن حنيف حتى وقفوا في المربد في موضع الدباغين، وبقي أصحاب عثمان على حالهم، ومال بعضهم إلى عائشة وبقي بعضهم مع عثمان.
    وأقبل جارية بن قدامة السعدي وقال: يا أم المؤمنين والله لقتل عثمان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون عرضة للسلاح! إنه قد كان لك من الله ستر وحرمة فهتكت سترك وأبحت حرمتك! إنه من رأى قتالك يرى قتلك! لئن كنت أتيتنا طائعة فارجعي إلى منزلك، وإن كنت أتيتنا مكرهة فاستعيني بالناس.
    وخرج غلام شاب من بني سعد إلى طلحة والزبير فقال: أما أنت يازبير فحواري رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأما أنت يا طلحة فوقيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بيدك وأرى أمكما معكما فهل جئتما بنسائكما؟ قالا: لا. قال: فما أنا منكم في شيء؛ واعتزل وقال في ذلك:
    صنتم حلائلكم وقدتم أمكم ... هذا لعمرك قلة الإنصاف
    أمرت بجر ذيولها في بيتها ... فهوت تشق البيد بالإيجاف
    غرضاً يقاتل دونها أبناؤها ... بالنبل والخطي والأسياف
    هكت بطلحة والزبير ستورها ... هذا امخبر عنهم والكافي
    وأقبل حكيم بن جبلة العبدي وهو على الخيل، فأنشب القتال، وأشرع أصحاب عائشة رماحهم وأمسكوا ليسمك حكيم وأصحابه، فلم ينته وقاتلهم وأصحاب عائشة كافون يدفعون عن أنفسهم وحكيم يذمر خيله ويركبهم بها، فاقتتلوا على فم السكة، وأمرت عائشة أصحابها فتيامنوا إلى مقبرة بني مازن وحجز الليل بينهم، ورجع عثمان إلى القصر، وأتى أصحاب عائشة إلى ناحية دار الرزق وباتوا يتأهبون وبات الناس يأتونهم واجتمعوا بساحة دار الرزق. فغاداهم حكيم بن جبلة وهو يسب وبيده الرمح، فقال له رجل من عبد القيس: من هذا الذي تسبه؟ قال: عائشة. قال: يا ابن الخبيثة الأم المؤمنين تقول هذا؟ فطعنه حكيم فقتله. ثم مر بامرأة وهو يسبها أيضاً، فقالت له: ألأم المؤمنين تقول هذا يا ابن الخبيثة؟ فطعنها فقتلها. ثم سار فاقتتلوا بدار الرزق قتالاً شديداً إلى أن زال النهار وكثر القتل في أصحاب عثمان بن حنيف وكثر الجراح في الفريقين. فلما عضتهم الحرب تنادوا إلى الصلح وتوادعوا، فكتبوا بينهم كتاباً على أن يبعثوا رسولاً إلى المدينة يسأل أهلها، فإن كان طلحة والزبير أكرها خرج عثمان ابن حنيف عن البصرة وأخلاها لهما، وإن لم يكونا أكرها خرج طلحة والزبير، وكتبوا بينهم كتاباً بذلك. وسار كعب بن سور إلى أهل المدينة يسألهم. فلما قدمها اجتمع الناس إليه، وكان يوم جمعة، فقام وقال: يا أهل المدينة، أنا رسول أهل البصرة، نسألكم هل أكره طلحة والزبير على بيعة علي أم أتياها طائعين؟ فلم يجبه أحد إلا أسامة بن زيد فإنه قام وقال: إنهما بايعا وهما مكرهان. فأمر به تمام بن العباس فواثبه سهل بن حنيف والناس وثار صهيب وأبو أيوب في عدة من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، فيهم محمد بن مسلمة حين خافوا أن يقتل أسامة فقالوا: اللهم نعم. فتركوه، وأخذ صهيب أسامة بيده إلى منزله وقال له: أما وسعك ما وسعنا من السكوت؟ قال: ما كنت أظن أن الأمر كما أرى. فرجع كعب وبلغ علياً الخبر، فكتب إلى عثمان يعجزه وقال: والله ما أكرها على فرقة ولقد أكرها على جماعة وفضل، فإن كان يريدان الخلع فلا عذر لهما، وإن كانا يريدان غير ذلك نظرنا ونظروا.
    فقدم الكتاب على عثمان، وقدم كعب بن سور، فأرسلوا إلى عثمان ليخرج، فاحتج بالكتاب وقال: هذا أمر آخر غير ما كنا فيه. فجمع طلحة والزبير الرجال في ليلة مظلمة ذات رياح ومطر ثم قصدا المسجد فوافقا صلاة العشاء، وكانوا يؤخرونها، فأبطأ عثمان، فقدما عبد الرحمن بن عتاب، فشهر الزط والسيابجة السلاح ثم وضعوه فيهم، فأقبلوا عليهم فاقتتلوا في المسجد فقتلوا، وهم أربعون رجلاً، فأدخلا الرجال على عثمان فأخرجوه إليهما. فلما وصل إليهما توطؤوه وما بقيت في وجهه شعرة، فاستعظما ذلك وأرسلا إلى عائشة يعلمانها الخبر، فأرسلت إليهما أن خلوا سبيله.
    وقيل: لما أخذ عثمان أرسله إلى عائشة يستشيرونها في أمره، فقالت: اقتلوه. فقالت لها امرأة: نشدتك الله في عثمان وصحبته لرسول الله، صلى الله عليه وسلم! فقالت لهم: احبسوه. فقال لهم مجاشع بن مسعود: اضربوه وانتفوا لحيته وحاجبيه وأشفار عينيه. فضربوه أربعين سوطاً ونتفوا لحيته وحاجبيه وأشفار عينيه وحبسوه ثم أطلقوه وجعلوا على بيت المال عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق.
    وقد قيل في إخراج عثمان غير ما تقدم، وذلك أن عائشة وطلحة والزبير لما قدموا البصرة كتبت عائشة إلى زيد بن صوحان: من عائشة أم المؤمنين حبيبة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى ابنها الخالص زيد بن صوحان، أما بعد فإذا أتاك كتابي هذا فاقدم فانصرنا، فإن لم تفعل فخذل الناس عن علي.
    فكتب إليها: أما بعد فأنا ابنك الخالص، لئن اعتزلت ورجعت إلى بيتك وإلا فأنا أول من نابذك.
    وقال زيد: رحم الله أم المؤمنين! أمرت أن تلزم بيتها وأمرنا أن نقاتل، فتركت ما أمرت به وأمرتنا به وصنعت ما أمرنا به ونهتنا عنه.
    وكان على البصرة عند قدومها عثمان بن حنيف فقال لهم: ما نقمتم على صاحبكم؟ فقالوا: لم نره أولى بها منا وقد صنع ما صنع. قال: فإن الرجل أمرني فأكتب إليه فأعلمه ما جئتم به على أن أصلي أنا بالناس حتى يأتينا كتابه.
    فوقفوا عنه، فكتب فلم يلبث إلا يومين أو ثلاثة حتى وثبوا على عثمان عند مدينة الرزق فظروا وأرادوا قتله ثم خشوا غضب الأنصار فنتفوا شعر رأسه ولحيته وحاجبيه وضربوه وحبسوه. وقام طلحة والزبير خطيبين فقالا: يا أهل البصرة توبة لحوبة، إنما أردنا أن نستعتب أمير المؤمنين عثمان فغلب السفهاء الحلماء فقتلوه! فقال الناس لطلحة: يا أبا محمد قد كانت كتبك تأتينا بغير هذا. فقال الزبير: هل جاءكم مني كتاب في شأنه؟ ثم ذكر قتل عثمان وأظهر عيب علي، فقام إليه رجل من عبد القيس فقال: أيها الرجل أنصت حتى نتكلم. فأنصت. فقال العبدي: يا معشر المهاجرين أنتم أول من أجاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فكان لكم بذلك فضل ثم دخل الناس في الإسلام كما دخلتم، فلما توفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بايعتم رجلاً منكم فرضينا وسلمنا ولم تستأمرونا في شيء من ذلك، فجعل الله للمسلمين في إمارته بركة، ثم مات واستخلف عليكم رجلاً فلم تشاورونا في ذلك فرضينا وسلمنا، فلما توفي جعل أمركم إلى ستة نفر فاخترتم عثمان وبايعتموه عن غير مشورتنا، ثم أنكرتم منه شيئاً فقتلتموه عن غير مشورة منا، ثم بايعتم علياً عن غير مشورة منا، فما الذي نقمتم عليه فنقاتله؟ هل استأثر بفيء أو علم بغير الحق أو أتى شيئاً تنكرونه فنكون معكم عليه، وإلا فما هذا؟ فهموا بقتل ذلك الرجل، فمنعته عشيرته، فلما كان الغد وثبوا عليه وعلى من معه فقتلوا منهم سبعين. وبقي طلحة والزبير بعد أخذ عثمان بالبصرة ومعهما بيت المال والحرس والناس، ومن لم يكن معهما استتر.
    وبلغ حكيم بن جبلة ما صنع بعثمان بن حنيف فقال: لست أخاف الله إن لم أنصره! فجاء في جماعة من عبد القيس ومن تبعه من ربيعة وتوجه نحو دار الرزق، وبها طعام أراد عبد الله بن الزبير أن يرزقه أصحابه، فقال له عبد الله: ما لك يا حكيم؟ قال: نريد أن نرتزق من هذا الطعام وأن تخلوا عثمان فيقيم في دار الإمارة على ما كتبتم بينكم حتى يقدم علي، وايم الله لو أجد أعواناً عليكم ما رضيت بهذه منكم حتى أقتلكم بمن قتلهم، ولقد أصبحتم وإن دماءكم لنا لحلال بمن قتلتم، أما تخافون الله؟ بم تستحلون الدم الحرام؟ قال: بدم عثمان. قال: فالذين قتلتم هم قتلوا عثمان، أما تخافون مقت الله؟ فقال له عبد الله: لا نرزقكم من هذا الطعام ولا نخلي سبيل عثمان حتى تخلع علياً. فقال حكيم: اللهم إنك حكم عدل فاشهد، وقال لأصحابه: لست في شك من قتال هؤلاء القوم، فمن كان في شك فلينصرف. وتقدم فقاتلهم. فقال طلحة والزبير: الحمد لله الذي جمع لنا ثأرنا من أهل البصرة، اللهم لا تبق منهم أحداً! فاقتتلوا قتالاً شديداً، ومع حكيم أربعة قواد، فكان حكيم بحيال طلحة، وذريح بحيال الزبير، وابن المحترش بحيال عبد الرحمن بن عتاب، وحرقوص بن زهير بحيال عبد الرحمن بن الحرث بن هشام، فزحف طلحة لحكيم وهو في ثلثمائة، وجعل حكيم يضرب بالسيف ويقول:
    أضربهم باليابس ... ضرب غلامٍ عابس
    من الحياة آيس ... في الغرفات نافس
    فضرب رجل رجله فقطعها، فحبا حتى أخذها فرمى بها صاحبه فصرعه وأتاه فقتله ثم اتكأ عليه وقال:
    يا ساقي لن تراعي ... إن معي ذراعي
    احمي بها كراعي
    وقال أيضاً:
    ليس علي أن أموت عار ... والعار في الناس هو الفرار
    والمجد لا يفضحه الدمار
    فأتى عليه رجل وهو رثيث، رأسه على آخر، فقال: ما لك يا حكيم؟ قال: قتلت. قال: من قتلك؟ قال: وسادتي. فاحتمله وضمه في سبعين من أصحابه، وتكلم يومئذ حكيم وإنه لقائم على رجل واحدة، وإن السيوف لتأخذهم وما يتتعتع ويقول: إنا خلفنا هذين، وقد بايعا علياً وأعطياه الطاعة ثم أقبلا مخالفين محاربين يطلبان بدم عثمان، ففرقا بيننا ونحن أهل دار وجوار، اللهم إنهما لم يريدا عثمان! فناداه منادٍ: يا خبيث! جزعت حين عضك نكال الله إلى كلام من نصبك وأصحابك بما ركبتم من الإمام المظلوم وفرقتم من الجماعة وأصبتم من الدماء، فذق وبال الله وانتقامه. وقتلوا وقتل معهم، قتله يزيد بن الأسحم الحداني، فوجد حكيم قتيلاً بين يزيد وأخيه كعب.
    وقيل: قتله رجل يقال له ضخيم وقتل معه ابنه الأشرف وأخوه الرعل بن جبلة. ولما قتل حكيم أرادوا قتل عثمان بن حنيف فقال لهم: أما إن سهلاً بالمدينة فإن قتلتموني انتصر، فخلوا سبيله، فقصد علياً. وقتل ذريح ومن معه، وأفلت حرقوص بن زهير في نفر من أصحابه، فلجأوا إلى قومهم، فنادى منادي طلحة والزبير: من كان فيهم أحد ممن غزا المدينة فليأتنا بهم، فجيء بهم فقتلوا ولم ينج منهم إلا حرقوص بن زهير، فإن عشيرته بني سعد منعوه، وكان منهم، فنالهم من ذلك أمر شديد، وضربوا فيه أجلاً وخشنوا صدور بني سعد، وكانوا عثمانية، فاعتزلوا، وغضبت عبد القيس حين غضبت سعد لمن قتل منهم بعد الوقعة ومن كان هرب إليهم إلى ما هم عليه من لزوم الطاعة لعلي، فأمر طلحة والزبير للناس بأعطياتهم وأرزاقهم وفضلا أهل السمع والطاعة، فخرجت عبد القيس وكثير من بكر بن وائل حين منعوهم الفضول فبادروهم إلى بيت المال وأكب عليهم الناس فأصابوا منهم وخرجوا حتى نزلوا على طريق علي. وأقام طلحة والزبير وليس معهما ثأر إلا حرقوص بن زهير، وكتبوا إلى أهل الشام بما صنعوا وصاروا إليه، وكتبت عائشة إلى أهل الكوفة بما كان منهم وتأمرهم أن يثبطوا الناس عن علي وتحثهم على طلب قتلة عثمان، وكتبت إلى أهل اليمامة وإلى أهل المدينة بما كان منهم أيضاً، وسيرت الكتب.
    وكانت هذه الوقعة لخمس ليال بقين من شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين.
    وبايع أهل البصرة طلحة والزبير، فلما بايعوهما قال الزبير: ألا ألف فارس أسير بهم إلى علي أقتله بياتاً أو صباحاً قبل أن يصل إلينا! فلم يجبه أحد، فقال: إن هذه للفتنة التي كنا نحدث عنها. فقال له مولاه: أتسميها فتنة وتقاتل فيها؟ قال: ويلك! إنا نبصر ولا نبصر، ما كان أمر قط إلا وأنا أعلم موضع قدمي فيه غير هذا الأمر فإني لا أدري أمقبل أنا فيه أم مدبر! وقال علقمة بن وقاص الليثي: لما خرج طلحة والزبير وعائشة رأيت طلحة وأحب المجالس إليه أخلاها وهو ضارب بلحيته على صدره، فقلت: يا أبا محمد أرى أحب المجالس إليك أخلاها وأنت ضارب بلحيتك على صدرك، إن كرهت شيئاً فاجلس. قال: فقال لي: يا علقمة بينا نحن يد واحدة على من سوانا إذ صرنا جبلين من حديد يطلب بعضنا بعضاً، إنه كان مني في عثمان شيء ليس توبتي إلا أن يسفك دمي في طلب دمه. قال: فقلت: فرد ابنك محمداً فإن لك ضيعة وعيالاً، فإن يك شيء يخلفك. قال: فامنعه. قال: فأتيت محمداً ابنه فقلت له: لو أقمت فإن حدث به حدث كنت تخلفه في عياله وضيعته. قال: ما أحب أن أسأل عنه الركبان.
    يعلى بن منية بضم الميم، وسكون النون، والياء المعجمة باثنتين من تحتها، وهي أمه، واسم أبيه أمية. عبد الله بن خالد بن أسيد. جارية ابن قدامة بالجيم. حكيم بن جبلة بضم الحاء، وفتح الكاف، وقيل بفتح الحاء، وكسر الكاف. وصوحان بضم الصاد، وآخره نون.
    ● [ ذكر مسير علي إلى البصرة والوقعة ] ●

    قد ذكرنا فيما تقدم تجهز علي إلى الشام، فبينما هو على ذلك أتاه الخبر عن طلحة والزبير وعائشة من مكة بما عزموا عليه، فلما بلغه ذلك دعا وجوه أهل المدينة وخطبهم، فحمد الله واثنى عليه ثم قال: إن آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله، فانصروا الله ينصركم ويصلح لكم أمركم. فتثاقلوا، فلما رأى زياد بن حنظلة تثاقل الناس انتدب إلى علي وقال له: من تثاقل عنك فإنا نخف معك فنقاتل دونك. وقام رجلان صالحان من أعلام الأنصار، أحدهما أبو الهيثم ابن التيهان، وهو بدري، والثاني خزيمة بن ثابت، وقيل: هو ذو الشهادتين، وقال الحكم: ليس بذي الشهادتين، مات ذو الشهادتين أيام عثمان، فأجابه إلى نصرته.
    قال الشعبي: ما نهض في تلك الفتنة إلا ستة نفر بدريون ما لهم سابع. وقال سعيد بن زيد: ما اجتمع أربعة من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، لخير يعملونه إلا وعلي أحدهم، قيل: وقال أبو قتادة الأنصاري لعلي: يا أمير المؤمنين إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قلدني هذا السيف وقد أغمدته زماناً وقد حان تجريده على هؤلاء القوم الظالمين الذين لا يألون الأمة غشاً، وقد أحببت أن تقدمني فقدمني. وقالت أم سلمة: يا أمير المؤمنين لولا أن أعصي الله وأنك لا تقبله مني لخرجت معك، وهذا ابن عمي، وهو والله أعز علي من نفسي، يخرج معك ويشهد مشاهدك. فخرج معه وهو لم يزل معه، واستعمله علي على البحرين ثم عزله واستعمل النعمان بن عجلان الزرقي. فلما أراد علي المسير إلى البصرة وكان يرجو أن يدرك طلحة والزبير فيردهما قبل وصولهما إلى البصرة أو يوقع بهما، فلما سار استخلف على المدينة تمام بن العباس، وعلى مكة قثم بن العباس، وقيل: أمر على المدينة سهل بن حنيف، وسار علي من المدينة في تعبيته التي تعباها لأه الشام آخر شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين، فقالت أخت علي بن عدي من بني عبد شمس:
    لا هم فاعقر بعلي جمله ... ولا تبارك في بعيرٍ حمله
    ألا علي بن عدي ليس له
    وخرج معه من نشط من الكوفيين والبصريين متخففين في تسعمائة، وهو يرجو أن يدركهم فيحول بينهم وبين الخروج أو يأخذهم، فلقيه عبد الله بن سلام فأخذ بعنانه وقال: يا أمير المؤمنين لا تخرج منها، فوالله إن خرجت منها لا يعود إليها سلطان المسلمين أبداً! فسبوه. فقال: دعوا الرجل من أصحاب محمد، صلى الله عليه وسلم.
    وسار حتى انتهى إلى الربذة، فلما انتهى إليها أتاه خبر سبقهم، فأقام بها يأتمر ما يفعل، وأتاه ابنه الحسن في الطريق فقال له: لقد أمرتك فعصيتني فتقتل غداً بمضيعة لا ناصر لك. فقال له علي: إنك لا تزال تخن خنين الجارية، وما الذي أمرتني فعصيتك؟ قال: أمرتك يوم أحيط بعثمان أن تخرج من المدينة فيقتل ولست بها، ثم أمرتك يوم قتل أن لا تبايع حتى تأتيك وفود العرب وبيعة أهل كل مصر فإنهم لن يقطعوا أمراً دونك، فأبيت علي، وأمرتك حين خرجت هذه المرأة وهذان الرجلان أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا فإن كان الفساد كان على يد غيرك، فعصيتني في ذلك كله.
    فقال: أي بني! أما قولك: لو خرجت من المدينة حين أحيط بعثمان، فوالله لقد أحيط بنا كما أحيط به، وأما قولك: لا تبايع حتى يبايع أهل الأمصار، فإن الأمر أمر أهل المدينة وكرهنا أن يضيع هذا الأمر، ولقد مات رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وما أرى أحداً أحق بهذا الأمر مني، فبايع الناس أبا بكر الصديق فبايعته، ثم إن أبا بكر انتقل إلى رحمة الله وما أرى أحداً أحق بهذا الأمر مني، فبايع الناس عمر فبايعته، ثم إن عمر انتقل إلى رحمة الله وما أرى أحداً أحق بهذا الأمر مني فجعلني سهماً من ستة أسهم، فبايع الناس عثمان فبايعته، ثم سار الناس إلى عثمان فقتلوه وبايعوني طائعين غير مكرهين، فأنا مقاتل من خالفني بمن أطاعني حتى يحكم الله، وهو خير الحاكمين. وأما قولك أن أجلس في بيتي حين خرج طلحة والزبير، فكيف لي بما قد لزمني أو من تريدني؟ أتريدني أن أكون كالضبع التي يحاط بها ويقال ليست ههنا حتى يحل عرقوباها حتى تخرج! وإذا لم أنظر فيما يلزمني من هذا الأمر ويعنيني فمن ينظر فيه؟ فكف عنك يا بني.
    ولما قدم علي الربذة وسمع بها خبر القوم أرسل منها إلى الكوفة محمد بن أبي بكر الصديق ومحمد بن جعفر وكتب إليهم: إني اخترتكم على الأمصار وفزعت إليكم لما حدث، فكونوا لدين الله أعواناً وأنصاراً وانهضوا إلينا، فالإصلاح نريد لتعود هذه الأمة إخواناً. فمضيا وبقي علي بالربذة يتهيأ، وأرسل إلى المدينة فأتاه ما يريده من دابة وسلاح وأمر أمره وقام في الناس فخطبهم وقال: إن الله تبارك وتعالى أعزنا بالإسلام ورفعنا به وجعلنا به إخواناً بعد ذلة وقلة وتباغض وتباعد، فجرى الناس على ذلك ما شاء الله، الإسلام دينهم والحق فيهم والكتاب إمامهم، حتى أصيب هذا الرجل بأيدي هؤلاء القوم الذين نزغهم الشيطان لينزغ بين هذه الأمة! ألا إن هذه الأمة لابد مفترقة كما افترقت الأمم قبلها، فنعوذ بالله من شر ما هو كائن؛ ثم عاد ثانية وقال: إنه لابد مما هو كائن أن يكون، ألا وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة شرها فرقة تنتحلني ولا تعمل بعملي، وقد أدركتم ورأيتم، فالزموا دينكم واهدوا بهديي فإنه هدي نبيكم واتبعوا سنته وأعرضوا عما أشكل عليكم حتى تعرضوه على القرآن فما عرفه القرآن فالزموه وما أنكره فردوه، وارضوا بالله رباً وبالإسلام ديناً ومحمد نبياً وبالقرآن حكماً وإماماً.
    فلما أراد المسير من الربذة إلى البصرة قام إليه ابن لرفعاعة بن رافع فقال: يا أمير المؤمنين أي شيء تريد وأين تذهب بنا؟ فقال: أما الذي نريد وننوي فالإصلاح إن قبلوا منا وأجابونا إليه. قال: فإن لم يجيبونا إليه؟ قال: ندعهم بعذرهم ونعطيهم الحق ونصبر. قال: فإن لم يرضوا؟ قال: ندعهم ما تركونا. قال: فإن لم يتركونا؟ قال: امتنعنا منهم. قال: فنعم إذاً. وقام الحجاج بن غزية الأنصاري فقال: لأرضينك بالفعل كما أرضيتني بالقوم؛ وقال:
    دراكها دراكها قبل الفوت ... فانفر بنا واسم بنا نحو الصوت
    لا وألت نفسي إن كرهت الموت
    والله لننصرن الله كما سمانا أنصاراً! ثم أتاه جمعة من طيء وهو بالربذة، فقيل لعلي: هذه جماعة قد أتتك، منهم من يريد الخروج معك ومنهم من يريد التسليم عليك. قال: جزى الله كليهما خيراً وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً. فلما دخلوا عليه قال لهم: ما شهدتمونا به؟ قالوا: شهدناك بكل ما تحب. فقال: جزاكم الله خيراً فقد أسلمتم طائعين وقاتلتم المرتدين ووافيتم بصدقاتكم المسلمين. فنهض سعيد بن عبيد الطائي فقال: يا أمير المؤمنين إن من الناس من يعبر لسانه عما في قلبه، وإني والله ما أجد لساني يعبر عما في قلبي، وسأجهد وبالله التوفيق، أما أنا فسأنصح لك في السر والعلانية، وأقاتل عدوك في كل موطن، وأرى من لحق لك ما لا أرها لأحد غيرك من أهل زمانك لفضلك وقرابتك. فقال: رحمك الله! قد أدى لسانك عما يجن ضميرك. فقتل معه بصفين.

    avatar
    الرسالة
    Admin


    عدد المساهمات : 3958
    تاريخ التسجيل : 01/01/2014

    بداية أحداث سنة ست وثلاثين Empty تابع وقعة الجمل

    مُساهمة من طرف الرسالة الثلاثاء 30 أبريل 2019 - 10:19

    وسار علي من الربذة وعلى مقدمته أبو ليلى بن عمر بن الجراح وعلى الميمنة عبد الله بن عباس وعلى الميسرة عمر بن أبي سلمة أو عمرو بن سفيان بن عبد الأسد، والراية مع محمد بن الحنفية، وعلي على ناقة حمراء يقود فرساً كميتاً.
    فلما نزل بفيد أتته أسد وطيء فعرضوا عليه أنفسهم، فقال: الزموا قراركم، في المهاجرين كفاية. وأتاه رجل بفيد من الكوفة، فقال له: من الرجل؟ قال: عامر بن مطر الشيباني. قال: أخبر عما وراءك. فأخبره، فسأله عن أبي موسى، فقال: إن أردت الصلح فأبو موسى صاحبه، وإن أردت القتال فليس بصاحبه. فقال علي: والله ما اريد إلا الصلح حتى يرد علينا.
    ولما نزل علي الثعلبية أتاه الذي لقي عثمان بن حنيف وحرسه فأخبر أصحابه الخبر فقال: اللهم عافني مما ابتليت به طلحة والزبير. فلما انتهى إلى الإساد أتاه ما لقي حكيم بن جبلة وقتلة عثمان فقال: الله أكبر! ما ينجيني من طلحة والزبير إن أصابا ثأرهما! وقال:
    دعا حكيمٌ دعوة الزماع ... حل بها منزلة النزاع
    فلما انتهى إلى ذي قار أتاه فيها عثمان بن حنيف وليس في وجهه شعرة، وقيل: أتاه بالربذة، وكانوا قد نتفوا شعر رأسه ولحيته، وعلى ما ذكرناه، فقال: يا أمير المؤمنين بعثتني ذا لحية وقد جئتك أمرد. فقال: أصبت أجراً وخيراً، إن الناس وليهم قبل رجلان فعملا بالكتاب والسنة، ثم وليهم ثالث فقالوا وفعلوا، ثم بايعوني وبايعني طلحة والزبير، ثم نكثا بيعتي وألبا الناس علي، ومن العجب انقيادهما لأبي بكر وعمر وعثمان وخلافهما علي، والله إنهما ليعلمان أني لست بدون رجل ممن تقدم، اللهم فاحلل ما عقدا ولا تبرم ما أحكما في أنفسهما وأرهما المساءة فيما قد عملا! وأقام بذي قار ينتظر محمداً ومحمداً، فأتاه الخبر بما لقيت ربيعة وخروج عبد القيس، فقال: عبد القيس خير ربيعة وفي كل ربيعة خير، وقال:
    يا لهف نفسي على ربيعه ... ربيعة السامعة المطيعه
    قد سبقتني فيهم الوقيعه ... دعا علي دعوةً سميعه
    حلوا بها المنزلة الرفيعه
    وعرضت عليه بكر بن وائل فقال لها ما قال لطيء واسد. وأما محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر فأتيا أبا موسى بكتاب علي وقاما في الناس بأمره، فلم يجابا إلى شيء. فلما أمسوا دخل ناس من أهل الحجى على أبي موسى فقالوا: ما ترى في الخروج؟ فقال: كان الرأي بالأمس ليس اليوم، إن الذي تهاونتم به فيما مضى هو الذي جر عليكم ما ترون، إنما هما أمران: القعود سبيل الآخرة والخروج سبيل الدنيا، فاختاروا. فلم ينفر إليه أحد، فغضب محمد ومحمد وأغلظا لأبي موسى. فقال لهما: والله إن بيعة عثمان لفي عنقي وعنق صاحبكما، فإن لم يكن بد من قتال لا نقاتل أحداً حتى نفرغ من قتلة عثمان حيث كانوا.
    فانطلقا إلى علي فأخبراه الخبر وهو بذي قار، فقال للأشتر، وكان معه: أنت صاحبنا في أبي موسى والمعترض في كل شيء، اذهب أنت وابن عباس فأصلح ما أفسدت. فخرجا فقدما الكوفة فكلما أبا موسى واستعانا عليه بنفر من أهل الكوفة، فقام لهم أبو موسى وخطبهم وقال: أيها الناس إن أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، الذين صحبوه أعلم بالله وبرسوله ممن لم يصحبه، وإن لكم علينا لحقاً، وأنا مؤد إليكم نصيحة، كان الرأي أن لا تستخفوا بسلطان الله وأن لا تجترئوا على الله وأن تأخذوا من قدم عليكم من المدينة فتردوهم إليها حتى يجتمعوا فهم أعلم بمن تصلح له الإمامة، وهذه فتنة صماء، النائم فيها خير من اليقظان، واليقظان خير من القاعد، والقاعد خير من القائم، والقائم خير من الراكب، والراكب خير من الساعي، فكونوا جرثومة من جراثيم العرب فأغمدوا السيوف وانصلوا الأسنة واقطعوا الأوتار وآووا المظلوم والمضطهد حتى يلتئم هذا الأمر وتنجلي هذه الفتنة.
    فرجع ابن عباس والأشتر إلى علي فأخبراه الخبر، فأرسل ابنه الحسن وعمار ابن ياسر، وقال لعمار: انطلق فأصلح ما أفسدت. فأقبلا حتى دخلا المسجد، وكان أول من أتاهما المسروق بن الأجدع فسلم عليهما، وأقبل على عمار فقال: يا أبا اليقظان علام قتلتم عثمان؟ قال: على شتم أعراضنا وضرب أبشارنا. قال: فوالله ما عاقبتم بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لكان خيراً للصابرين. فخرج أبو موسى فلقي الحسن فضمه إليه وأقبل على عمار فقال: يا أبا اليقظان أعدوت على أمير المؤمنين فيمن عدا فأحللت نفسك مع الفجار؟ فقال: لم أفعل ولم يسؤني. فقطع الحسن عليهما الكلام وأقبل على أبي موسى فقال له: لم تثبط الناس عنا؟ فوالله ما أردنا إلا الإصلاح ولا مثل أمير المؤمنين يخاف على شيء. فقال: صدقت يا بأبي أنت وأمي، ولكن المستشار مؤتمن، سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: (إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الراكب). وقد جعلنا الله إخواناً وقد حرم علينا دماءنا وأموالنا. فغضب عمار وسبه وقام وقال: يا أيها الناس إنما قال له وحده: أنت فيها قاعداً خير منك قائماً. فقام رجل من بني تميم فسب عماراً وقال: أنت أمس مع الغوغاء واليوم تسافه أميرنا! وثار زيد بن صوحان وطبقته وثار الناس وجعل أبو موسى يكفكف الناس، ووقف زيد على باب المسجد ومعه كتاب إليه من عائشة تأمره فيه بملازمة بيته أو نصرتها، وكتاب إلى أهل الكوفة بمعناه، فأخرجهما فقرأهما على الناس، فلما فرغ منهما قال: أمرت أن تقر في بيتها وأمرنا أن نقاتل حتى لا تكون فتنة، فأمرتنا بما أمرت به وركبت ما أمرنا به. فقال له شبث بن ربعي: يا عماني - لأنه من عبد القيس وهم يسكنون عمان - سرقت بجلولاء فقطعت يدك وعصيت أم المؤمنين! وتهاوى الناس.
    وقام أبو موسى وقال: أيها الناس أطيعوني وكوني جرثومة من جراثيم العرب يأوي إليكم المظلوم ويأمن فيكم الخائف، إن الفتنة إذا أقبلت شبهت فإذا أدبرت بينت، وإن هذه الفتنة فاقرة كداء البطن تجري بها الشمال والجنوب والصبا والدبور تذر الحليم وهو حيران كابن أمس، شيموا سيوفكم وقصدوا رماحكم وقطعوا أوتاركم والزموا بيوتكم، خلوا قريشاً إذا أبوا إلا الخروج من دار الهجرة وفراق أهل علم بالأمراء، استنصحوني ولا تسغشوني، أطيعوني يسلم لكم دينكم ودنياك ويشقى بحر هذه الفتنة من جناها.
    فقام زيد فشال يده المقطوعة فقال: يا عبد الله بن قيس رد الفرات على أدراجه، أردده من حيث يجيء حتى يعود كما بدأ، فإن قدرت على ذلك فستقدر على ما تريد، فدع عنك ما لست مدركه! سيروا إلى أمير المؤمنين وسيد المسلمين، انفروا إليه أجمعين تصيبوا الحق.
    فقام القعقاع بن عمرو فقال: إني لكم ناصح وعليكم شفيق، أحب لكم أن ترشدوا ولأقولن لكم قولاً هو الحق، أما ما قال الأمير فهو الحق، لو أن إليه سبيلاً، وأما ما قال زيد فزيد عدو هذا الأمر فلا تستنصحوه، والقول الذي هو الحق أنه لابد من إمارة تنظم الناس وتزع الظالم وتعز المظلوم، وهذا أمير المؤمنين ولي بما ولي وقد أنصف في الدعاء، وإنما يدعو إلى الإصلاح، فانفروا وكونا من هذا الأمر بمرأى ومسمع.
    وقال عبد الخير الخيراني: يا أبا موسى هل بايع طلحة والزبير؟ قال: نعم. قال: هل أحدث علي ما يحل بن نقض بيعته؟ قال: لا أدري. قال: لا دريت، نحن نتركك حتى تدري، هل تعلم أحداً خارجاً من هذه الفتنة؟ إنما الناس أربع فرق: علي بظهر الكوفة، وطلحة والزبير بالبصرة، ومعاوية بالشام، وفرقة بالحجاز لا غناء بها ولا يقاتل بها عدو. فقال أبو موسى: أولئك خير الناس، وهي فتنة. فقال عبد الخير: غلب عليك غشك يا أبا موسى! فقال سيحان ابن صوحان: أيها الناس لابد لهذا الأمر وهؤلاء الناس من والٍ يدفع الظالم ويعز المظلوم ويجمع الناس، وهذا واليكم يدعوكم لتنظروا فيما بينه وبين صاحبيه، وهو المأمون على الأمة الفقيه في الدين، فمن نهض إليه فإنا سائرون معه. فلما فرغ سيحان قال عمار: هذا ابن عم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يستنفركم إلى زوجة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإلى طلحة والزبير، وإني أشهد أنها زوجته في الدنيا والآخرة، فانظروا ثم انظروا في الحق فقاتلوا معه. فقال له رجل: أنا مع من شهدت له بالجنة على من لم تشهد له. فقال له الحسن: اكفف عنا فإن للإصلاح أهلاً. وقام الحسن بن علي فقال: أيها الناس أجيبوا دعوة أمركم وسيروا إلى إخوانكم فإنه سيوجد لهذا الأمر من ينفر إليه، ووالله لأن يليه أولو النهى أمثل في العاجل والآجل وخير في العاقبة، فأجيبوا دعوتنا وأعينونا على ما ابتلينا به وابتليتم، وإن أمير المؤمنين يقول: قد خرجت مخرجي هذا ظالماً أو مظلوماً، وإني أذكر الله رجلاً رعى حق الله إلا نفر، فإن كنت مظلوماً أعانني وإن كنت ظالماً أخذ مني، والله إن طلحة والزبير لأول من بايعني وأول من غدر، فهل استأثرت بمال أو بدلت حكماً؟ فانفروا فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر. فسامح الناس وأجابوا ورضوا. وأتى قوم من طيء عدي بن حاتم فقالوا: ماذا ترى وما تأمر؟ فقال: قد بايعنا هذا الرجل وقد دعانا إلى جميل وإلى هذا الحدث العظيم لننظر فيه، ونحن سائرون وناظرون. فقام هند بن عمرو فقال: إن أمير المؤمنين قد دعانا وأرسل إلينا رسله حتى جاءنا ابنه، فاسمعوا إلى قوله وانتهوا إلى أمره وانفروا إلى أميركم فانظروا معه في هذا الأمر وأعينوه برأيكم.
    وقام حجر بن عدي فقال: أيها الناس أجيبوا أمير المؤمنين وانفروا خفافاً وثقالاً، مروا وأنا أولكم. فأذعن الناس للمسير، فقال الحسن: أيها الناس إني عاذٍ فمن شاء منكم أن يخرج معي على الظهر ومن شهاء في الماء. فنفر معه قريب من تسعة آلاف،أخذ في البر ستة آلاف ومائتان، وأخذ في الماء ألفان وأربعمائة.
    وقيل: إن علياً أرسل الأشتر بعد ابنه الحسن وعمار إلى الكوفة، فدخلها والناس في المسجد وأبو موسى يخطبهم ويثبطهم والحسن وعمار معه في منازعة، وكذلك سائر الناس، كما تقدم، فجعل الأشتر لا يمر بقبيلة فيها جماعة إلا دعاهم، ويقول: اتبعوني إلى القصر، فانتهى إلى القصر في جماعة الناس، فدخله وأبو موسى في المسجد يخطبهم ويثبطهم والحسن يقول له: اعتزل عملنا لا أم لك! وتنح عن منبرنا! وعمار ينازعه، فأخرج الأشتر غلمان أبي موسى من القصر، فخرجوا يعدون وينادون: يا أبا موسى هذا الأشتر قد دخل القصر فضربنا وأخرجنا. فنزل أبو موسى فدخل القصر فصاح به الأشتر: اخرج لا أم لك أخرج الله نفسك! فقال: أجلني هذه العشية. فقال: هي لك ولا تبيتن في القصر الليلة. ودخل الناس ينهبون متاع أبي موسى، فمنعهم الأشتر وقال: أنا له جار. فكفوا عنه. فنفر الناس في العدد المذكور.
    وقيل: إن عدد من سار من الكوفة اثنا عشر ألف رجل ورجل. قال أبو الطفيل: سمعت علياً يقول ذلك قبل وصولهم، فقعدت فأحصيتهم فما زادوا رجلاً ولا نقصوا رجلاً. وكان على كنانة وأسد وتميم والرباب ومزينة معقل ابن يسار الرياحي، وكان على سبع قيس سعد بن مسعود الثقفي عم المختار، وعلى بكر وتغلب وعلة بن محدوج الذهلي، وكان على مذحج والأشعرين حجر ابن عدي، وعلى بجيلة وأنمار وخثعم والأزد مخنف بن سليم الأزدي، فقدموا على أمير المؤمنين بذي قار، فلقيهم في ناس معه فيهم ابن عباس فرحب بهم وقال: يا أهل الكوفة أنتم قاتلتم ملوك العجم وفضضتم جموعهم حتى صارت إليكم مواريثهم فمنعتم حوزتكم وأعنتم الناس على عدوهم، وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة فإن يرجعوا فذاك الذي نريد، وإن يلجوا داويناهم بالرفق حتى يبدأونا بظلم، ولم ندع أمراً فيه صلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله. واجتمعوا عنده بذي قار وعبد القيس بأسرها في الطريق بين علي وأهل البصرة ينتظرونه وهم ألوف.
    وكان رؤساء الجماعة من الكوفيين: القعقاع بن عمرو وسعد بن مالك وهند ابن عمرو والهيثم بن شهاب، وكان رؤساء النفار: زيد بن صوحان والأشتر وعدي بن حاتم والمسيب بن نجبة ويزيد بن قيس، وأمثال لهم ليسوا دونهم، إلا أنهم لم يؤمروا؛ منهم حجر بن عدي. فلما نزلوا بذي قار دعا علي القعقاع فأرسله إلى أهل البصرة وقال: الق هذين الرجلين، وكان القعقاع من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، فادعهما إلى الألفة والجماعة وعظم عليهما الفرقة، وقال له: كيف تصنع فيما جاءك منهما وليس عندك فيه وصاة مني؟ قال: نلقاهم بالذي أمرت به. فإذا جاء منهم ما ليس عندنا منك فيه رأي اجتهدنا رأينا وكلمناهم كما نسمع ونرى أنه ينبغي. قال: أنت لها. فخرج القعقاع حتى قدم البصرة فبدأ بعائشة فسلم عليها وقال: أي أمة ما أشخصك وما أقدمك هذه البلدة؟ قالت: أي بني الإصلاح بين الناس. قال: فابعثي إلى طلحة والزبير حتى تسمعي كلامي وكلامهما. فبعثت إليهما، فجاءا، فقال لهما: إني سألت أم المؤمنين ما أقدمها، فقالت: الإصلاح بين الناس، فما تقولان أنتما، أمتابعان أم مخالفان؟ قالا: متابعان. قال: فأخبراني ما وجه هذا الإصلاح؟ فوالله لئن عرفناه لنصلحن ولئن أنكرناه لا نصلح. قالا: قتلة عثمان، فإن هذا إن ترك كان تركاً للقرآن. قال: قد قتلتما قتلة عثمان من أهل البصرة وأنتم قبل قتلهم أقرب إلى الاستقامة منكم اليوم، قتلتم ستمائة رجل فغضب لهم ستة آلاف واعتزلوكم وخرجوا من بين أظهركم، وطلبتم حرقوص بن زهير فمنعه ستة آلاف، فإن تركتموهم كنتم تاركين لما تقولون، وإن قاتلتموهم والذين اعتزلوكم فأديلوا عليكم فالذي حذرتم وقويتم به هذا الأمر أعظم مما أراكم تكرهون، وإن أنتم منعتم مضر وربيعة من هذه البلاد اجتمعوا على حربكم وخذلانكم نصرة لهؤلائ كما اجتمع هؤلاء لأهل هذا الحدث العظيم والذنب الكبير.
    قالت عائشة: فماذا تقول أنت؟ قال: أقول: إن هذا الأمر دواؤه التسكين، فإذا سكن اختلجوا، فإن أنتم بايعتمونا فعلامة خير وتباشير رحمة ودرك بثأر هذا الرجل وعافية وسلامة لهذه الأمة، وإن أنتم أبيتم إلا مكابرة هذا الأمر واعتسافه كانت علامة شر وذهاب هذا المال، فآثروا العافية ترزقوها، وكونوا مفاتيح الخير كما كنتم، ولا تعرضونا للبلاء فتعرضوا له فيصرعنا وإياكم. وايم الله إني لأقول هذا القول وأدعوكم إليه! وإني لخائف أن لا يتم حتى يأخذ الله حاجته من هذه الأمة التي قل متاعها ونزل بها ما نزل، فإن هذا الأمر الذي حدث أمر ليس يقدر، وليس كقتل الرجل الرجل ولا النفر الرجل ولا القبيلة الرجل. قالوا: قد أصبت وأحسنت فارجع، فإن قدم علي وهو على مثل رأيك صلح هذا الأمر.
    فرجع إلى علي فأخبره فأعجبه ذلك، وأشرف القوم على الصلح كره ذلك من كرهه ورضيه من رضيه. وأقبلت وفود العرب من أهل البصرة نحو علي بذي قار قبل رجوع القعقاع لينظروا ما رأى إخوانهم من أهل الكوفة وعلى أي حال نهضوا إليهم وليعلموهم أن الذي عليه رأيهم الإصلاح ولا يخطر لهم قتالهم على بال.
    فلما لقوا عشائرهم من أهل الكوفة قال لهم الكوفيون مثل مقالتهم وأدخلوهم على علي فأخبروه بخبرهم، وسأل علي جرير بن شرس عن طلحة والزبير فأخبره بدقيق أمرهما وجليله وقال له: أما الزبير فيقول: بايعنا كرهاً، وأما طلحة فيتمثل الأشعار ويقول:
    ألا أبلغ بني بكرٍ رسولاً ... فليس إلى بني كعبٍ سبيل
    سيرجع ظلمكم منكم عليكم ... طويل الساعدين له فضول
    فتمثل علي عندها:
    ألم تعلم أبا سمعان أنا ... نرد الشيخ مثلك ذا الصداع
    ويذهل عقله بالحرب حتى ... يقوم فيستجيب بغير داع
    فدافع عن خزاعة جمع بكر ... وما بك يا سراقة ومن دفاع
    ورجعت وفود أهل البصرة برأي أهل الكوفة، ورجع القعقاع من البصرة، فقام علي خطيباً فحمد الله وذكر الجاهلية وشقاءها والإسلام والسعادة وإنعام الله على الأمة بالجماعة بالخليفة بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم الذي يليه ثم الذي يليه، ثم حدث هذا الحدث الذي جره على هذه الأمة أقوام طلبوا هذه الدنيا وحسدوا من أفاءها الله عليه وعلى الفضيلة وأرادوا رد الإسلام والأشياء على أدبارها، والله بالغ أمره. ألا وإني راحل غداً فارتحلوا، ولا يرتحلن أحد أعان على عثمان بشيء من أمور الناس، وليغن السفهاء عني أنفسهم. فاجتمع نفر، منهم: علباء بن الهيثم وعدي بن حاتم وسالم بن ثعلبة القيسي وشريح بن أوفى والأشتر في عدة ممن سار إلى عثمان ورضي بسير من سار، وجاء معهم المصريون وابن السوداء وخالد بن ملجم فتشاوروا فقالوا: ما الرأي؟ وهذا علي وهو والله أبصر بكتاب الله ممن يطلب قتلة عثمان وأقرب إلى العمل بذلك، وهو يقول ما يقول ولم ينفر إليه سواهم والقليل من غيرهم، فكيف به إذا شام القوم وشاموه ورأوا قلتنا في كثرتهم، وأنتم والله ترادون وما أنتم بالحي من شيء! فقال الأشتر: قد عرفنا رأي طلحة والزبير فينا، وأما علي فلم نعرف رأيه إلى اليوم، ورأي الناس فينا واحد، فإن يصطلحوا مع علي فعلي دمائنا، فهلموا بنا نثب على علي فنلحقه بعثمان فتعود فتنة يرضى منا فيها بالسكون. فقال عبد الله بن السوداء: بئس الرأي رأيت، أنتم يا قتلة عثمان بذي قار ألفان وخمسمائة أو نحو من ستمائة، وهذا ابن الحنظلية، يعني طلحة، وأصحابه في نحو من خمسة آلاف بالأشواق إلى أن يجدوا إلى قتالكم سبيلاً. فقال علباء ابن الهيثم: انصرفوا بنا عنهم ودعوهم، فإن قلوا كان أقوى لعدوهم عليهم، وإن كثروا كان أحرى أن يصطلحوا عليكم، دعوهم وارجعوا فتعلقوا ببلد من البلدان حتى يأتيكم فيه من تقوون به وامتنعوا من الناس. فقال ابن السوداء: بئس ما رأيت، ود والله الناس أنكم انفردتم ولم تكونوا مع أقوام برآء، ولو انفردتم لتخطفكم الناس كل شيء. فقال عدي بن حاتم: والله ما رضيت ولا كرهت، ولقد عجبت من تردد من تردد عن قتله في خوض الحديث، فأما إذا وقع ما وقع ونزل من الناس بهذه المنزلة فإن لنا عتاداً من خيول وسلاح، فإن أقدمتم أقدمنا وإن أمسكتم أمسكنا. فقال ابن السوداء: أحسنت. وقال سالم ابن ثعلبة: من كان أراد بما أتى الدنيا فإني لم ارد ذلك، والله لئن لقيتهم غداً لا أرجع إلى شيء، وأحلف بالله إنكم لتفرقن السيف فرق قوم لا تصير أمورهم إلا إلى السيف. فقال ابن السوداء: قد قال قولاً. وقال شريح بن أوفى: أبرموا أموركم قبل أن تخرجوا، ولا تؤخروا أمراً ينبغي لكم تعجيله، ولا تعجلوا أمراً ينبغي لكم تأخيره، فإنا عند الناس بشر المنازل وما أدري ما الناس صانعون إذا ما هم التقوا. وقال ابن السوداء: يا قوم إن عزكم في خلطة الناس، فإذا التقى الناس غداً فأنشبوا القتال ولا تفرغوهم للنظر، فمن أنتم معه لا يجد بداً من أن يمتنع، ويشغل الله علياً وطلحة والزبير ومن رأى رأيهم عما تكرهون. فأبصروا الرأي وتفرقوا عليه والناس لا يشعرون.
    وأصبح علي على ظهر ومضى، ومضى معه الناس حتى نزل على عبد القيس فانضموا إليه، وسار من هناك فنزل الزاوية، وسار من الزاوية يريد البصرة، وسار طلحة والزبير وعائشة من الفرضة، فالتقوا عند موضع قصر عبيد الله بن زياد. فلما نزل الناس أرسل شقيق بن ثور إلى عمرو بن مرحوم العبدي أن اخرج فإذا خرجت فمل بنا إلى عسكر علي. فخرجا في عبد القيس وبكر بن وائل فعدلوا إلى عسكر علي، فقال الناس: من كان هؤلاء معه غلب. وأقاموا ثلاثة أيام لم يكن بينهم قتال، فكان يرسل علي إليهم يكلمهم ويدعوهم، وكان نزولهم يوم الخميس في النصف من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين، ونزل بهم علي وقد سبق أصحابه وهم يتلاحقون به. فلما نزل قال أبو الجرباء للزبير: إن الرأي أن تبعث ألف فارس إلى علي قبل أن يوافي إليه أصحابه. فقال: إنا لنعرف أمور الحرب ولكنهم أهل دعوتنا وهذا أمر حدثٌ لم يكن قبل اليوم، من لم يلق الله فيه بعذر انقطع عذره يوم القيامة، وقد فارقنا وفدهم على أمر وأنا أرجو أن يتم لنا الصلح فأبشروا واصبروا. وأقبل صبرة بن شيمان فقال لطلحة والزبير: انتهزا بنا هذا الرجل فإن الرأي في الحرب خير من الشدة. فقالا: إن هذا أمر لم يكن قبل اليوم فينزل فيه قرآن أو يكون فيه سنة من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد زعم قوم أنه لا يجوز تحريكه، وهم علي ومن معه، وقلنا نحن: إنه لا ينبغي لنا أن نتركه ولا نؤخره، وقد قال علي: ترك هؤلاء القوم شر وهو خير من شر منه، وقد كان يتبين لنا، وقد جاءت الأحكام بين المسلمين بأعمها منفعة. وقال كعب بن سور: يا قوم اقطعوا هذا العنق ن هؤلاء القوم، فأجابوه بنحو ما تقدم. وقام علي فخطب الناس، فقام إليه الأعور بن بنان المنقري فساله عن إقدامهم على أهل البصرة، فقال له علي: على الإصلاح وإطفاء النائرة لعل الله يجمع شمل هذه الأمة بنا ويضع حربهم. قال: فإن لم يجيبونا؟ قال: تركناهم ما تركونا. قال: فإن لم يتركونا؟ قال: دفعناهم عن أنفسنا. قال: فهل لهم من هذا مثل الذي عليهم؟ قال: نعم.
    وقام إليه أبو سلامة الدألاني فقال: أترى لهؤلاء القوم حجة فيما طلبوا من هذا الدم إن كانوا أرادوا الله بذلك؟ قال: نعم. قال: أفترى لك حجة بتأخير ذلك؟ قال: نعم، إن الشيء إذا كان لا يدرك فإن الحكم فيه أحوطه وأعمه نفعاً. قال: فما حالنا وحالهم إن ابتلينا غداً؟ قال: إني لأرجو أن لا يقتل منا ومنهم أحد نقى قلبه لله إلا أدخله الله الجنة.
    وقال في خطبته: أيها الناس املكوا عن هؤلاء القوم أيديكم وألسنتكم وإياكم أن تسبقونا فإن المخصوم غداً من خصم اليوم. وبعث إليهم حكيم بن سلامة ومالك بن حبيب: إن كنتم على ما فارقتم عليه القعقاع فكفوا حتى ننزل وننظر في هذا الأمر. وخرج إليه الأحنف بن قيس وبنو سعد مشمرين قد منعوا حرقوص بن زهير وهم معتزلون، وكان الأحنف قد بايع علياً بالمدينة بعد قتل عثمان لأنه كان قد حج وعاد من الحج فبايعه. قال الأحنف: ولم أبايع علياً حتى لقيت طلحة والزبير وعائشة بالمدينة وأنا أريد الحج وعثمان محصور، فقلت لكل منهم: إن الرجل مقتول فمن تأمرونني أبايع؟ فكلهم قال: بايع علياً. فقلت: أترضونه لي؟ فقالوا: نعم. فلما قضيت حجي ورجعت إلى المدينة رأيت عثمان قد قتل فبايعت علياً ورجعت إلى أهلي ورأيت الأمر قد استقام. فبينما أنا كذلك إذ أتاني آتٍ فقال: هذه عائشة وطلحة والزبير بالخريبة يدعونك. فقلت: ما جاء بهم؟ قال: يستنصرونك على قتال علي في دم عثمان، فأتاني أفظع أمر، فقلت: إن خذلاني أم المؤمنين وحواري رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لشديدٌ، وإن قتال ابن عم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد أمروني ببيعته أشد، فلما أتيتهم قالوا: جئنا لكذا وكذا. قال: فقلت: يا أم المؤمنين ويا زبير ويا طلحة، نشدتكم الله أقلت لكم. من تأمرونني أبايع؟ فقلتم: بايع علياً. فقالوا: نعم ولكنه بدل وغير. فقلت: والله لا أقاتلكم ومعكم أم المؤمنين ولا اقاتل ابن عم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد أمرتموني ببيعته، ولكني أعتزل. فأذنوا له في ذلك، فاعتزل بالجلحاء ومعه زهاء ستة آلاف، وهي من البصرة على فرسخين. فلما قدم علي أتاه الأحنف فقال له: إن قومنا بالبصرة يزعمون أنك إن ظهرت عليهم غداً قتلت رجالهم وسبيت نساءهم. قال: ما مثلي يخاف هذا منه، وهل يحل هذا إلا لمن تولى وكفر وهم قوم مسلمون؟ قال: اختر مني واحدة من اثنتين، إما أن اقاتل معك وإما أن أكف عنك عشرة آلاف سيف. قال: فكيف بما أعطيت أصحابك من الاعتزال؟ قال: إن من الوفاء لله قتالهم. قال: فاكفف عنا عشرة آلاف سيف. فرجع إلى الناس فدعاهم إلى القعود ونادى: يا آل خندف! فأجابه ناس، ونادى: يا آل تميم! فأجابه ناس، ثم نادى: يا آل سعد! فلم يبق سعدي إلا أجابه، فاعتزل بهم ونظر ما يصنع الناس، فلما كان القتال وظفر علي دخلوا فيما دخل فيه الناس وافرين.
    فلما تراءى الجمعان خرج الزبير على فرس عليه سلاح، فقيل لعلي: هذا الزبير. فقال: أما إنه أحرى الرجلين إن ذكر بالله تعالى أن يذكر.
    وخرج طلحة فخرج إليهما حتى اختلفت أعناق دوابهم، فقال علي: لعمري قد أعددتما سلاحاً وخيلاً ورجالاً إن كنتما أعددتما عند الله عذراً، فاتقيا الله ولا تكونا (كالتي نقضت غزلها من بعد قوةٍ أنكاثاً) النحل: 92، ألم أكن أخاكما في دينكما تحرمان دمي وأحرم دمكما، فهل من حدث أحل لكما دمي؟ قال طلحة: ألبت على عثمان. قال علي: (يومئذٍ يوفيهم الله دينهم الحق) النور: 25. يا طلحة، تطلب بدم عثمان فلعن الله قتلة عثمان! يا طلحة، أجئت بعرس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تقاتل بها وخبأت عرسك في البيت! أما بايعتني؟ قال: بايعتك والسيف على عنقي. فقال علي للزبير: يا زبير ما أخرجك؟ قال: أنت، ولا أراك لهذا الأمر أهلاً ولا أولى به منا. فقال له علي: ألست له أهلاً بعد عثمان؟ قد كنا نعدك من بني عبد المطلب حتى بلغ ابنك ابن السوء ففرق بيننا. وذكره أشياء، وقال له: تذكر يوم مررت مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في بني غنم فنظر إلي فضحك وضحكت إليه فقلت له لا يدع ابن أبي طالب زهوه، فقال لك رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (ليس به زهو، لتقاتلنه وأنت ظالم له). قال: اللهم نعم، ولو ذكرت ما سرت مسيري هذا، والله لا أقاتلك أبداً. فانصرف علي إلى أصحابه فقال: أما الزبير فقد أعطى الله عهداً أن لا يقاتلكم. ورجع الزبير إلى عائشة فقال لها: ما كنت في موطن منذ عقلت إلا وأنا أعرف فيه أمري غير موطني هذا. قالت: فما تريد أن تصنع؟ قال: أريد أن أدعهم وأذهب. قال له ابنه عبد الله: جمعت بين هذين الغارين حتى إذا حدد بعضهم لبعض أردت أن تتركهم وتذهب، لكنك خشيت رايات ابن أبي طالب وعلمت أنها تحملها فتيةٌ أنجادٌ وأن تحتها الموت الأحمر فجبنت. فأحفظه ذلك، وقال: إني حلفت أن لا أقاتله. قال: كفر عن يمينك وقاتله. فأعتق غلامه مكحولاً، وقيل سرجس، فقال عبد الرحمن بن سليمان التميمي:
    لم أر كاليوم أخا إخوان ... أعجب من مكفر الأيمان
    الأبيات. وقيل: إنما عاد الزبير عن القتال لما سمع أن عمار بن ياسر مع علي، فخاف أن يقتل عماراً، وقد قال النبي، صلى الله عليه وسلم: (يا عمار تقتلك الفئة الباغية)، فرده ابنه عبد الله، كما ذكرناه. وافترق أهل البصرة ثلاث فرق: فرقة مع طلحة والزبير، وفرقة مع علي، وفرقة لا ترى القتال، منهم الأحنف وعمران بن حصين وغيرهما. وجاءت عائشة فنزلت في مسجد الحدان في الأزد، ورأس الأزد يومئذ صبرة بن شيمان، فقال له كعب بن سور: إن الجموع إذا تراءت لم تستطع، إنما هي بحور تدفق، فأطعني ولا تشهدهم واعتزل بقومك فإني أخاف أن لا يكون صلح، ودع مضر وربيعة فهما أخوان فإن اصطلحا فالصلح أردنا وإن اقتتلا كنا حكاماً عليهم غداً.
    وكان كعب في الجاهلية نصرانياً، فقال له صبرة: أخشى أن يكون فيك شيء من النصرانية! أتأمرني أن أغيب عن إصلاح بين الناس وأن أخذل أم المؤمنين وطلحة والزبير إن ردوا عليهم الصلح وأدع الطلب بدم عثمان؟ والله لا أفعل هذا أبداً! فأطبق أهل اليمن على الحضور، وحضر مع عائشة المنجاب بن راشد في الرباب، وهم: تيم، وعدي، وثور، وعكل بنو عبد مناف بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر، وضبة بن أد بن طابخة، وحضر أيضاً أبو الجرباء في بني عمرو بن تميم، وهلال بن وكيع في بني حنظلة، وصبرة بن شيمان على الأزد، ومجاشع بن مسعود السلمي على سليم، وزفر بن الحرث في بني عامر و على غطفان أعصر بن النعمان الباهلي، وعلى اليمن ذو الآجرة الحميري.
    ولما خرج طلحة والزبير نزلت مضر جميعاً وهم لا يشكون في الصلح، ونزلت ربيعة فوقهم وهم لا يشكون في الصلح، ونزلت اليمن أسفل منهم ولا يشكون في الصلح، وعائشة في الحدان، والناس بالزابونة على رؤسائهم هؤلاء، وهم ثلاثون ألفاً، وردو حكيماً ومالكاً إلى علي إننا على ما فارقنا عليه القعقاع، ونزل علي بحيالهم، فنزلت مضر إلى مضر، وربيعة إلى ربيعة، واليمن إلى اليم، فكان بعضهم يخرج إلى بعض لا يذكرون إلا الصلح، وكان أصحاب علي عشرين ألفاً، وخرج علي وطلحة والزبير فتواقفوا فلم يروا أمراً أمثل من الصلح ووضع الحرب، فافترقوا على ذلك. وبعث علي من العشي عبد الله بن عباس إلى طلحة والزبير، وبعثاهما محمد بن أبي طلحة إلى علي، وأرسل علي إلى رؤساء أصحابه، وطلحة والزبير إلى رؤساء أصحابهما بذلك، فباتوا بليلة لم يبيتوا بمثلها للعافية التي أشرفوا عليها والصلح، وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشر ليلة وقد أشرفوا على الهلكة، وباتوا يتشاورون، فاجتمعوا على إنشاب الحرب، فغدوا مع الغلس وما يشعر بهم، فخرجوا متسللين وعليهم ظلمة، فقصد مضرهم إلى مضرهم، وربيعتهم إلى ربيعتهم، ويمنهم إلى يمنهم، فوضعوا فيهم السلاح، فثار أهل البصرة وثار كل قوم في وجوه أصحابهم الذين أتوهم، وبعث طلحة والزبير إلى الميمنة، وهم ربيعة، أميراً عليها عبد الرحمن بن الحرث، وإلى الميسرة عبد الرحمن بن عتاب، وثبتا في القلب وقالا: ما هذا؟ قالوا: طرقنا أهل الكوفة ليلاً. فقالا: قد علمنا أن علياً غير منته حتى يسفك الدماء وأنه لن يطاوعنا. فرد أهل البصرة أولئك الكوفيين إلى عسكرهم.
    فسمع علي وأهل الكوفة الصوة وقد وضع السبئية رجلاً قريباً منه يخبره بما يريد، فلما قال علي: ما هذا؟ قال ذلك الرجل: ما شعرنا إلا وقوم منهم قد بيتونا فرددناهم فوجدنا القوم على رجل فركبونا وثار الناس. فارسل علي صاحب الميمنة إلى الميمنة وصاحب الميسرة إلى الميسرة وقال: لقد علمت أن طلحة والزبير غير منتهين حتى يسفكا الدماء وأنهما لن يطاوعانا والسبئية لا تفتر إنشاباً، ونادى علي في الناس: كفوا فلا شيء، وكان من رأيهم جميعاً في تلك الفتنة أن لا يقتتلوا حتى يبدأوا، يطلبون بذلك الحجة، وأن لا يقتلوا مدبراً ولا يجهزوا على جريح ولا يستحلوا سلباً ولا يرزأوا بالبصرة سلاحاً ولا ثياباً ولامتاعاً. وأقبل كعب بن سور حتى أتى عائشة فقال: أدركي فقد أبى القوم إلا القتال لعل الله أن يصلح بك.
    فركبت وألبسوا هودجها الأدراع، فلما برزت من البيوت وهي على الجمل بحيث تسمع الغوغاء وقفت واقتتل الناس وقاتل الزبير فحمل عليه عمار ابن ياسر فجعل يحوزه بالرمح والزبير كافٌّ عنه ويقول: أتقتلني يا أبا اليقظان؟ فيقول: لا يا أبا عبد الله. وإنما كف الزبير عنه لقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (تقتل عمار الفئة الباغية)، ولولا ذلك لقتله. وبينما عائشة واقفة إذ سمعت ضجةً شديدةً فقالت: ما هذا؟ قالوا: ضجة العسكر. قالت: بخير أو بشر؟ قالوا: بشر، فما فجأها إلا الهزيمة، فمضى الزبير من وجهه إلى وادي السباع، وإنما فارق المعركة لأنه قاتل تعذيراً لما ذكر له علي.

    avatar
    الرسالة
    Admin


    عدد المساهمات : 3958
    تاريخ التسجيل : 01/01/2014

    بداية أحداث سنة ست وثلاثين Empty تابع ذكر وقعة الجمل

    مُساهمة من طرف الرسالة الثلاثاء 30 أبريل 2019 - 10:24

    وأما طلحة فأتاه سهم غربٍ فأصابه فشك رجله بصفحة الفرس وهو ينادي: إلي إلي عباد الله! الصبر الصبر! فقال له القعقاع بن عمرو: يا أبا محمد إنك لجريح وإنك عما تريد لعليل، فادخل البيوت. فدخل ودمه يسيل وهو يقول: اللهم خذ لعثمان مني حتى ترضى، فلما امتلأ خفه دماً وثقل قال لغلامه: أردفني وأمسكني وأبلغني مكاناً أنزل فيه. فدخل البصرة، فأنزله في دار خربة فمات فيها، وقيل: إنه اجتاز به رجل من أصحاب علي فقال له: أنت من أصحاب أمير المؤمنين؟ قال: نعم. قال: امدد يدك أبايعك له؛ فبايعه، فخاف أن يموت وليس في عنقه بيعة. ولما قضى دفن في بني سعد، وقال: لم أر شيخاً أضيع دماً مني. وتمثل عند دخول البصرة مثله ومثل الزبير:
    فإن تكن الحوادث أقصدتني ... وأخطأهن سهمي حين أرمي
    فقد ضيعت حين تبعت سهماً ... سفاهاً ما سفهت وضل حلمي
    ندمت ندامة الكسعي لما ... شريت رضا بني سهمٍ برغمي
    أطعتهم بفرقة آل لأيٍ ... فألقوا للسباع دمي ولحمي
    وكان الذي رمى طلحة مروان بن الحكم، وقيل غيره. وأما الزبير فإنه مر بعسكر الأحنف بن قيس فقال: والله ما هذا انحياز، جمع بين المسلمين حتى ضرب بعضهم بعضاً لحق ببيته. وقال الأحنف للناس: من يأتيني بخبره؟ فقال عمرو بن جرموز لأصحابه: أنا، فاتبعه، فلما لحقه نظر إليه الزبير قال: ما وراءك؟ قال: إنما أريد أن أسألك. فقال غلام للزبير اسمه عطية: إنه معد. قال: ما يهولك من رجل! وحضرت الصلا، فقال ابن جرموز: الصلاة. فقال الزبير: الصلاة، فلما نزلا استدبره ابن جرموز فطعنه في جربان درعه فقتله وأخذ فرسه وسلاحه وخاتمه وخلى عن الغلام فدفنه بوادي السباع ورجع إلى الناس بالخبر. وقال الأحنف لابن جرموز: والله ما أدري أحسنت أم أسأت.
    فأتى ابن جرموز علياً فقال لحاجبه: استأذن لقاتل الزبير. فقال علي: ائذن له وبشره بالنار. وأحضر سيف الزبير عند علي فأخذه فنظر إليه وقال: طالما جلى به الكرب عن وجه رسول الله، صلى الله عليه وسلم! وبعث به إلى عائشة لما انجلت الوقعة وانهزم الناس يريدون البصرة، فلما رأوا الخيل أطافت بالجمل عادوا قلباً كما كانوا حيث التقوا وعادوا في أمر جديد، ووقفت ربيعة بالبصرة ميمنة وبعضهم ميسرة، وقالت عائشة لما انجلت الوقعة وانهزم الناس لكعب بن سور: خل عن الجمل وتقدم بالمصحف فادعهم إليه. وناولته مصحفاً. فاستقبل القوم والسبئية أمامهم فرموه رشقاً واحداً فقتلوه ورموا أم المؤمنين في هودجها، فجعلت تنادي: البقية البقية يا بني! ويعلو صوتها كثرة: الله الله! اذكروا الله والحساب! فيأبون إلا إقداماً، فكان أول شيء أحدثته حين أبوا أن قالت: أيها الناس العنوا قتلة عثمان وأشياعهم. وأقبلت تدعو، وضج الناس بالدعاء. فسمع لي فقال: ما هذه الضجة؟ قالوا: عائشة تدعو على قتلة عثمان وأشياعهم. فقال علي: اللهم العن قتلة عثمان! فأرسلت إلى عبد الرحمن بن عتاب وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام أن اثبتا مكانكما، وحرضت الناس حين رأت القوم يريدونها ولا يكفون، فحملت مضر البصرة حتى قصفت مضر الكوفة حتى زحم علي فنخس قفا ابنه محمد، وكانت الراية معه، وقال له: احمل! فتقدم حتى لم يجد متقدماً إلا على سنان رمح، فأخذ علي الراية من يده وقال: يا بني بين يدي.
    وحملت مضر الكوفة، فاجتلدوتا قدام الجمل حتى ضرسوا والمجنبتان على حالهما لا تصنع شيئاً، ومع علي قوم من غير مضر، منهم زيد بن صوحان، طلبوا ذلك منه، فقال له رجل: تنح إلى قومك، ما لك ولهذا الموقف؟ ألست تعلم أن مضر بحيالك والجمل بين يديك وأن الموت دونه؟ فقال: الموت خيرٌ من الحياة، الموت أريد، فأصيب هو وأخوه سيحان وارتث صعصعة أخوهما واشتدت الحرب، فلما رأى علي ذلك بعث إلى ربيعة وغلى اليمن أن اجمعوا من يليكم. فقام رجل من عبد القيس من أصحاب علي فقال: ندعوكم إلى كتاب الله. فقالوا: وكيف يدعونا إليه من لا يستقيم ولا يقيم حدود الله وقد قتل كعب بن سور داعي الله! ورمته ربيعة رشقاً واحداً فقتلوه، فقام مسلم بن عبد الله العجلي مكانه فرشقوه رشقاً واحداً فقتلوه، ودعت يمن الكوفة يمن البصرة فرشقوهم، وأبى أهل الكوفة إلا القتال ولم يريدوا إلا عائشة، فذكرت أصحابها فاقتتلوا حتى تنادوا فتحاجزوا ثم رجعوا فاقتتلوا وتزاحف الناس وظهرت يمن البصرة على يمن الكوفة فهزمتهم، وربيعة البصرة على ربيعة الكوفة فهزمتهم، ثم عاد يمن الكوفة فقتل على رايتهم عشرة، خمسة من همدان وخمسة من سائر اليمن. فلما رأى ذلك يزيد بن قيس أخذها فثبتت في يده وهو يقول:
    قد عشت يا نفسي وقد عشيت ... دهراً فقدك اليوم ما بقيت
    ألب طول العمر ما حييت
    وإنما تمثلها، وقال ابن أبي نمران الهمداني:
    جردت سيفي في رجال الأزد ... أضرب في كهولهم والمرد
    كل طويل الساعدين نهد
    ورجعت ربيعة الكوفة فاقتتلوا قتالاً شديداً فقتل على رايتهم، وهم في الميسرة: زيد وعبد الله بن رقبة وأبو عبيدة بن راشد بن سلمى وهو يقول: اللهم أنت هديتنا من الضلالة واستنقذتنا من الجهالة وابتليتنا بالفتنة فكنا في شبهة وعلى ريبة، وقتل. واشتد الأمر حتى لزقت ميمنة أهل الكوفة بقلبهم وميسرة أهل البصرة بقلبهم ومنعوا ميمنة أهل الكوفة أن يختلطوا بقلبهم وإن كانوا إلى جنبهم، وفعل مثل ذلك ميسرة أهل الكوفة بميمنة أهل البصرة، فلما رأى الشجعان من مضر الكوفة والبصرة الصبر تنادوا: طرفوا إذا فرغ الصبر، فجعلوا يقصدون الأطراف الأيدي والأرجل، فما رؤي وقعة كانت أعظم منها قبلها ولا بعدها ولا أكثر ذراعاً مقطوعة ولا رجلاً مقطوعة، واصيبت يد عبد الرحمن ابن عتاب قبل قتله. فنظرت عائشة من يسارها فقالت: من القوم عن يساري؟ قال صبرة بن شيمان: بنوك الأزد. فقالت: يا آل غسان حافظوا اليوم على جلادكم الذي كنا نسمع به، وتمثلت:
    وجالد من غسان أهل حفاظها ... وكعب وأوسٌ جالدت وشبيب
    فكان الأزد يأخذون بعر الجمل يشمونه ويقولون: بعر جمل أمنا ريحه ريح المسك. وقالت لمن عن يمينها: من القوم عن يميني؟ قال: بكر بن وائل. قالت: لكم يقول القائل:
    وجاؤوا إلينا في الحديد كأنهم ... من العزة القعساء بكر بن وائل
    إنما بإزائكم عبد القيس. فاقتتلوا أشد من قتالهم قبل ذلك. وأقبلت على كتيبة بين يديها فقالت: من القوم؟ قالوا: بنو ناجية. قالت: بخ بخ سيوف أبطحية قرشية! فجالدوا جلاداً يتفادى منه. ثم أطافت بها بنو ضبة فقالت: ويهاً جمرة الجمرات! فلما رقوا خالطهم بنو عدي بن عبد مناة وكثروا حولها، فقالت: من أنتم؟ قالوا: بنو عدي خالطنا إخوتنا، فأقاموا رأس الجمل وضربوا ضرباً شديداً ليس بالتعذير ولا يعدلون بالتطريف، حتى إذا كثر ذلك وظهر في العسكرين جميعأً راموا الجمل وقالوا: لا يزال القوم أو يصرع الجمل، وصار مجنبتا علي إلى القلب، وفعل ذلك أهل البصرة، وكره القوم بعضهم بعضاً. وأخذ عميرة بن يثربي برأس الجمل وكان قاضي البصرة قبل كعب بن سور، فشهد الجمل هو وأخوه عبد الله، فقال علي: من يحمل على الجمل؟ فانتدب له هند بن عمرو الجملي المرادي، فاعترضه ابن يثربي فاختلفا ضربتين فقتله ابن يثربي، ثم حمل علباء بن الهيثم فاعترضه ابن يثربي فقتله وقتل سيحان بن صوحان وارتث صعصعة، وقال ابن يثربي:
    أنا لمن ينكرني ابن يثربي ... قاتل علباء وهند الجملي
    وابن لصوحان على دين علي
    وقال ابن يثربي أيضاً:
    أضربهم ولا أرى أبا حسن ... كفى بهذا حزناً من الحزن
    إنما نمر الأمر إمرار الرسن
    فناداه عمار: لقد عذت بحريز وما إليك من سبيل، فإن كنت صادقاً فاخرج من هذه الكتيبة إلي. فترك الزمام في يد رجل من بني عدي، حتى إذا كان بين الصفين تقدم عمار، وهو ابن تسعين سنة، وقيل أكثر من ذلك، عليه فرو وقد شد وسطه بحبل ليف، وهو أضعف من بارزه، واسترجع الناس وقالوا: هذا لاحق بأصحابه، وضربه ابن يثربي فاتقاه عمار بدرقته فنشب سيفه فيها فعالجه فلم يخرج، وأسف عمار لرجليه فضربه فقطهما فوقع على استه وأخذ أسيراً فأتي به إلى علي، فقال: استبقني. فقال: أبعد ثلاثة تقتلهم! وأمر به فقتل. وقيل: إن المقتول عمرو بن يثربي وإن عميرة بقي حتى ولي قضاء البصرة مع معاوية، ولما قتل ابن يثربي تولى ذلك العدوي الزمام فتركه بيد رجل من بني عدي وبرز، فخرج إليه ربيعة العقيلي يرتجز ويقول:
    يا أمتا أعق أمٍ نعلم ... والأم تغذو ولداً وترحم
    ألا ترين كم شجاعٍ يكلم ... وتختلى منه يدٌ ومعصم
    كذب فهي من أبر أمٍ نعلم. ثم اقتتلا فأثخن كل واحد منهما صاحبه، فماتا جميعاً، وقام مقام العدوي الحرث الضبي، فما رؤي أشد منه، وجعل يقول:
    نحن بنو ضبة أصحاب الجمل ... نبارز القرن إذا القرن نزل
    ننعى ابن عفانٍ بأطراف الأسل ... الموت أحلى عندنا من العسل
    ردوا علينا شيخنا ثم بجل
    وقيل: إن هذه الأبيات لوسيم بن عمرو الضبي، وكان عمرو يحرض أصحابه يوم الجمل، وقد أخذ الخطام، ويقول:
    نحن بنو ضبة لا نفر ... حتى نرى جماجماً تخر
    يخر منها العلق المحمر
    ويقول:
    يا أمتا يا عيس لن تراعي ... كل بنيك بطلٌ شجاع
    ويقول:
    يا أمتا يا زوجة النبي ... يا زوجة المبارك المهدي
    ولم يزل الأمر كذلك حتى قتل على الخطام أربعون رجلاً. قالت عائشة: ما زال جملي معتدلاً حتى فقدت أصوات بني ضبة. قال: وأخذ الخطام سبعون رجلاً من قريش كلهم يقتل وهو آخذ بخطام الجمل، وكان ممن أخذ بزمام الجمل محمد بن طلحة، وقال: يا أمتاه مريني بأمرك. قالت: آمرك أن تكون خير بني آدم إن تركت، فجعل لا يحمل عليه أحد إلا حمل عليه، وقال: حاميم لا ينصرون، واجتمع عليه نفر كلهم ادعى قتله، المكعبر الأسدي، والمكعبر الضبي، ومعاوية بن شداد العبسي، وعفار السعدي النصري، فأنفذه بعضهم بالرمح، ففي ذلك يقول:
    وأشعث قوامٍ بآيات ربه ... قليل الأذى فيما ترى العين مسلم
    هتكت له بالرمح جيب قميصه ... فخر صريعاً لليدين وللفم
    يذكرني حاميم والرمح شاجرٌ ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم
    على غير شيءٍ غير أن ليس تابعاً ... علياً ومن لا يتبع الحق يندم
    وأخذ الخطام عمرو بن الأشرف فجعل لا يدنو منه أحدٌ إلا خبطه بالسيف، فأقبل إليه الحرث بن زهير الأزدي وهو يقول:
    يا أمنا يا خير أم نعلم ... أما ترين كم شجاع يكلم
    وتختلى هامته والمعصم
    فاختلفا ضربتين فقتل كل واحد منهما صاحبه، وأحدق أهل النجدات والشجاعة بعائشة، فكان لا يأخذ الخطام أحد إلا قتل، وكان لا يأخذه والراية إلا معروف عند المطيفين بالجمل فينتسب: أنا فلان بن فلان، فوالله إن كان ليقاتلون عليه وإنه للموت لا يوصل إليه إلا بطلبة وعنت، وما رامه أحد من أصحاب علي إلا قتل أو أفلت ثم لم يعد، وحمل عدي بن حاتم الطائي عليهم ففقئت عينه، وجاء عبد الله بن الزبير ولم يتكلم فقالت: من أنت؟ فقال: ابنك ابن أختك. قالت: واثكل أسماء! وانتهى إليه الأشتر، فاقتتلا، فضربه الأشتر على رأسه فجرحه جرحاً شديداً، وضربه عبد الله ضربةً خفيفة، واعتنق كل رجل منهما صاحبه وسقطا إلى الأرض يعتركان، فقال ابن الزبير:
    اقتلوني ومالكاً ... واقتلوا مالكاً معي
    فلو يعلمون من مالك لقتلوه، إنما كان يعرف بالأشتر، فحمل أصحاب علي وعائشة فخلصوهما. قال الأشتر: لقيت عبد الرحمن بن عتاب فلقيت أشد الناس وأخرقه ما لبثت أن قتلته، ولقيت الأسود بن عوف فلقيت أشد الناس وأشجعه فما كدت أنجو منه فتمنيت أني لم أكن لقيته، ولحقني جندب بن زهير الغامدي فضربته فقتلته، قال: ورأيت عبد الله بن حكيم بن حزام وعنده راية قريش وهو يقاتل عدي بن حاتم وهما يتصاولان تصاول الفحلين فتعاورناه فقتلناه. قال: وأخذ الخطام الأسود بن أبي البختر فقتل، وهو قرشي أيضاً، وأخذه عمرو بن الأشرف فقتل وقتل معه ثلاثة عشر رجلاً من أهل بيته، وهو أزدي، وجرح مروان بن الحكم، وجرح عبد الله بن الزبير سبعاً وثلاثين جراحة من طعنة ورمية، قال: وما رأيت مثل يوم الجمل ما ينهزم منا أحد وما نحن إلا كالجبل الأسود، وما يأخذ بخطام الجمل أحد إلا قتل حتى ضاع الخطام، ونادى علي: اعقروا الجمل فإنه إن عقر تفرقوا، فضربه رجل فسقط فما سمعت صوتاً قط أشد من عجيج الجمل. وكانت راية الأزد من أهل الكوفة مع مخنف بن سليم فقتل وأخذها الصقعب، وأخوه عبد الله بن سليم فقتل، وأخذها العلاء بن عروة، فكان الفتح وهي بيده. وكانت راية عبد القيس من أهل الكوفة مع القاسم بن سليم فقتل، وقتل معه زيد وسيحان ابنا صوحان، وأخذها عدة نفر فقتلوا، منهم عبد الله بن رقية، ثم أخذها منقذ بن النعمان فدفعها إلى ابنه مرة بن منقذ فانقضت الحرب وهي في يده، وكانت راية بكر بن وائل في بني ذهل مع الحرث بن حسان الذهلي، فأقدم وقال: يا معشر بكر لم يكن أحد له من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مثل منزلة صاحبكم فانصروه، فتقدم وقاتلهم فقتل ابنه وخمسة من بني أهله، وقتل الحرث، فقيل فيه:
    أنعى الرئيس الحرث بن حسان ... لآل ذهل ولآل شيبان
    وقال رجل من بني ذهل:
    تنعى لنا خير امرىء من عدنان ... عند الطعان ونزال الأقران
    وقال أخوه بشر بن حسان:
    أنا ابن حسان بن خوط وأبي ... رسول بكر كلها إلى النبي
    وقتل رجال من بني محدوج، وقتل من بني ذهل خمسة وثلاثون رجلاً، وقال رجل لأخيه وهو يقاتل: يا أخي ما أحسن قتالنا إن كنا على الحق! قال: فإنا على الحق، إن الناس أخذوا يميناً وشمالاً، وإنا تمسكنا بأهل بيت نبينا؛ فقاتلا حتى قتلا. وجرح يومئذ عمير بن الأهلب الضبي، فمر به رجل من أصحاب علي وهو في الجرحى يفحص برجليه ويقول:
    لقد أوردتنا حومة الموت أمنا ... فلم ننصرف إلا ونحن رواء
    لقد كان في نصر ابن ضبة أمه ... وشيعتها مندوحةٌ وغناء
    أطعنا قريشاً ضلةً من حلومنا ... ونصرتنا أهل الحجاز عناء
    أطعنا بني تيم بن مرة شقوةً ... وهل تيم إلا أعبدٌ وإماء
    فقال له الرجل: قل لا إله إلا الله. قال: ادن مني فلقني فبي صمم. فدنا منه الرجل، فوثب عليه فعض أذنه فقطعها.
    وقيل في عقر الجمل: إن القعقاع لقي الأشتر وقد عاد من القتال عند الجمل فقال: هل لك في العود؟ فلم يجبه. فقال: يا أشتر بعضنا أعلم بقتال بعض منك، وحمل القعقاع والزمام مع زفر بن الحرث، وكان آخر من أخذ الخطام، فلم يبق شيخ من بني عامر إلا أصيب قدام الجمل، وزفر بن الحرث يرتجز ويقول:
    يا أمنا مثلك لا يراع ... كل بنيك بطلٌ شجاع
    ليس بوهواهٍ ولا براع
    وقال القعقاع:
    إذا وردنا آجناً جهرناه ... ولا يطاق ورد ما منعناه
    وزحف إلى زفر بن الحرث الكلائي، وتسرعت عامر إلى حربه فأصيبوا، فقال القعقاع لبجير بن دلجة، وهو من أصحاب علي: يا بجير بن دلجة صح بقومك فليعقروا الجمل قبل أن تصابوا وتصاب أم المؤمنين. فقال بجير: يا آل ضبة! يا عمرو بن دلجة! ادع بي إليك، فدعاه، فقال: أنا آمن حتى أرجع عنكم؟ قال: نعم. فاجتث ساق البعير فرمى نفسه على شقه وجرجر البعير، فقال القعقاع لمن يليه: أنتم آمنون. واجتمع هو وزفر على قط بطان البعير وحملا الهودج فوضعاه، وإنه كالقنفذ لما فيه من السهام، ثم أطافا به، وفر من وراء ذلك من الناس. فلما انهزموا أمر علي منادياً فنادى: ألا لا تتبعوا مدبراً ولا تجهزوا على جريح ولا تدخلوا الدور. وأمر علي نفراً أن يحملوا الهودج من بين القتلى، وأمر أخاها محمد بن أبي بكر أن يضرب عليها قبة، وقال: انظر هل وصل إليها شيء من جراحة؟ فأدخل راسه في هودجها، فقالت: من أنت؟ فقال: أبغض أهلك إليك. قالت: ابن الخثعمية؟ قال: نعم. قالت: يا بأبي، الحمد لله الذي عافاك! وقيل: لما سقط الجمل أقبل محمد بن أبي بكر إليه ومعه عمار فاحتملا الهودج فنحياه، فأدخل محمد يده فيه، فقالت: من هذا؟ فقال: أخوك البر. قالت: عقق! قال: يا أخية هل أصابك شيء؟ قالت: ما أنت وذاك؟ قال: فمن إذاً الضلال؟ قالت: بل الهداة. وقال لها عمار: كيف رأيت ضرب بنيك اليوم يا أماه؟ قالت: لست لك بأم. قال: بلى وإن كرهت. قالت: فخرتم أن ظفرتم وأتيتم مثل الذي نقمتم، هيهات والله لن يظفر من كان هذا دأبه! فأبرزوا هودجها فوضعوه ليس قربها أحد، وأتاها علي فقال: كيف أنت يا أمه؟ قالت: بخير. قال: يغفر الله لك. وجاء أعين بن ضبيعة ابن أعين المجاشعي حتى اطلع في الهودج، فقالت:إليك لعنك الله! فقال: والله ما أرى إلا حميراء! فقالت له: هتك الله سترك وقطع يدك وأبدى عورتك. فقتل بالبصرة، وسلب، وقطعت يده ورمي عرياناً في خربة من خربات الأزد. ثم أتى وجوه الناس عائشة وفيهم القعقاع بن عمرو فسلم عليها فقالت: إني رأيت بالأمس رجلين اجتلدا وارتجزا بكذا فهل تعرف كوفيك؟ قال: نعم، ذاك الذي قال: أعق أم نعلم، وكذب، إنك لأبر أمٍ نعلم ولكن لم تطاعي. قالت: والله لوددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة.
    وخرج من عندها فأتى علياً، فقال له علي: والله لوددت أني مت من قبل اليوم بعشرين سنة، وكان علي يقول ذلك اليوم بعد الفراغ من القتال:
    إليك أشكو عجري وبجري ... ومعشراً أغشوا علي بصري
    قتلت منهم مضراً بمضري ... شفيت نفسي وقتلت معشري
    فلما كان الليل أدخلها أخوها محمد بن أبي بكر البصرة فأنزلها في دار عبد الله ابن خلف الخزاعي على صفية بنت الحرث بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان ابن عبد الدر، وهي أم طلحة الطلحات بن عبد الله بن خلف، وتسلل الجرحى من بين القتلى ليلاً فدخلوا البصرة، فأقام علي بظاهر البصرة ثلاثاً وأذن للناس في دفن موتاهم، فخرجوا إليهم فدفنوهم، وطاف علي في القتلى، فلما أتى على كعب بن سور قال: أزعمتم أنه خرج معهم السفهاء وهذا الحبر قد ترون! وأتى على عبد الرحمن بن عتاب فقال: هذا يعسوب القوم، يعني أنهم كانوا يطيفون به، واجتمعوا على الرضا به لصلاتهم، ومر على طلحة بن عبيد الله وهو صريع فقال: لهفي عليك يا أبا محمد! إنا لله وإنا إليه راجعون، والله لقد كنت أكره أن أرى قريشاً صرعى، أنت والله كما قال الشاعر:
    فتىً كان يدنيه الغنى من صديقه ... إذا ما هوا استغنى ويبعده الفقر
    وجعل كلما مر برجل فيه خير قال: زعم من زعم أنه لم يخرج إلينا إلا الغوغاء وهذا العابد المجتهد فيهم. وصلى علي على القتلى من أهل البصرة والكوفة، وصلى على قريش من هؤلاء وهؤلاء، وأمر فدفنت الأطراف في قبر عظيم، وجمع ما كان في العسكر من شيء وبعث به إلى مسجد البصرة وقال: من عرف شيئاً فليأخذه إلا سلاحاً كان في الخزائن عليه سمة السلطان. وكان جميع القتلى عشرة آلاف نصفهم من أصحاب علي ونصفهم من أصحاب عائشة، وقيل غير ذلك، وقتل من ضبة ألف رجل، وقتل من بني عدي حول الجمل سبعون رجلاً كلهم قد قرأ القرآن سوى الشباب ومن لم يقرأ. ولما فرغ علي من الوقعة أتاه الأحنف بن قيس في بني سعد، وكانوا قد اعتزلوا القتال، فقال له علي: تربصت؟ فقال: ما كنت أراني إلا وقد أحسنت وبأمرك كان ما كان يا أمير المؤمنين، فارفق فإن طريقك الذي سلكت بعيد وأنت إلي غداً أحوج منك أمس، فاعرف إحساني واستصف مودتي لغدٍ ولا تقل مثل هذا فإني لم أزل لك ناصحاً.
    ثم دخل علي البصرة يوم الإثنين فبايعه أهلها على راياتهم حتى الجرحى والمستأمنة، وأتاه عبد الرحمن بن أبي بكرة في المستأمنين أيضاً فبايعه، فقال له علي: و ما عمل المتربص المتقاعد بي أيضاً؟ يعني أباه أبا بكرة! فقال: والله إنه لمريض وإنه على مسرتك لحريص. فقال علي: امش أمامي! فمشى معه إلى أبيه، فلما دخل عليه علي قال له تقاعدت بي وتربصت؟ ووضع يده على صدره وقال: هذا وجع بين؛ واعتذر إليه، فقبل عذره، واراده على البصرة، فامتنع وقال: رجل من أهلك يسكن إليه الناس وسأشير عليه. فافترقا على ابن عباس، وولى زياداً على الخراج وبيت المال، وأمر ابن عباس أن يسمع منه ويطيع، وكان زياد معتزلاً. ثم راح إلى عائشة، وهي في دار عبد الله بن خلف، وهي أعظم دار بالبصرة، فوجد النساء يبكين على عبد الله وعثمان ابني خلف، وكان عبد الله قتل مع عائشة وعثمان قتل مع علي، وكانت صفية زوجة عبد الله مختمرة تبكي، فلما رأته قالت له: يا علي! يا قاتل الأحبة! يا مفرق الجمع! أيتم الله منك بنيك كما أيتمت ولد عبد الله منه! فلم يرد عليها شيئاً. ودخل على عائشة فسلم عليها وقعد عندها، ثم قال: جبهتنا صفية، أما إني لم أرها منذ كانت جارية.
    فلما خرج علي أعادت عليه القول، فكف بغلته وقال: لقد هممت أن أفتح هذا الباب، وأشار إلى باب في الدار، وأقتل من فيه، وكان فيه ناس من الجرحى، فأخبر علي بمكانهم فتغافل عنهم فسكت، وكان مذهبه أن لا يقتل مدبراً ولا يذفف على جريح ولا يكشف ستراً ولا يأخذ مالاً.
    ولما خرج علي من عند عائشة قال له رجل من أزد: والله لا تغلبنا هذه المرأة! فغضب وقال: مه! لا تهتكن ستراً ولا تدخلن داراً لا تهيجن امرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم وسفهن أمراءكم وصلحاءكم، فإن النساء ضعيفات، ولقد كنا نؤمر بالكف عنهن وهن مشركات، فكيف إذا هن مسلمات؟ ومضى علي فلحقه رجل فقال له: يا أمير المؤمنين قام رجلان على الباب فتناولا من هو أمض شتيمة لك من صفية. قال: ويحك لعلها عائشة! قال: نعم. قال أحدهما: جزيت عنا أمنا عقوقنا. وقال الآخر: يا أمي توبي فقد أخطأت. فبعث القعقاع بن عمرو إلى الباب، فأقبل بمن كان عليه، فأحالوا على رجلين من أزد الكوفة، وهما: عجلان وسعد ابنا عبد الله، فضربهما مائة سوط وأخرجهما من ثيابهما.
    وسألت عائشة يومئذ عمن قتل من الناس منهم معها ومنهم عليها والناس عندها، فكلما نعي واحد من الجميع قالت: يرحمه الله. فقيل لها: كيف ذلك؟ قالت: كذلك قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلان في الجنة، وفلان في الجنة، وقال علي: إني لأرجو أن لا يكون أحد نقى قلبه لله من هؤلاء إلا أدخله الله الجنة.
    ثم جهز علي عائشة بكل ما ينبغي لها من مركب وزاد ومتاع وغير ذلك وبعث معها كل من نجا مم خرج معها إلا من أحب المقام، واختار لها أربعين امرأة من نساء البصرة المعروفات، وسير معها أخاها محمد بن أبي بكر، فلما كان اليوم الذي ارتحلت فيه أتاها علي فوقف لها وحضر الناس فخرجت وودعتهم وقالت: يا بني لا يعتب بعضنا على بعض، إنه والله ما كان بيني وبين علي في القديم إلا ما يكون بيني وبينها إلا ذاك، وإنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة.
    وخرجت يوم السبت غرة رجب وشيعها أميالاً وسرح بنيه معها يوماً، فكان وجهها إلى مكة، فأقامت إلى الحج ثم رجعت إلى المدينة، وقال لها عمار حين ودعها: ما أبعد هذا المسير من العهد الذي عهد إليك! قالت: والله إنك ما علمت لقوال بالحق. قال: الحمد لله الذي قضى على لسانك لي.
    وأما المنهزمون فقد ذكرنا حالهم، وكان منهم: عتبة بن أبي سفيان، فخرج هو وعبد الرحمن ويحيى ابنا الحكم فساروا في البلاد، فلقيهم عصمة ابن أبير التيمي فقال لهم: هل لكم في الجوار؟ فقالوا: نعم. فأجارهم وأنزلهم حتى برأت جراحهم وسيرهم نحو الشام في أربعمائة راكب، فلما وصلوا إلى دومة الجندل قالوا: قد وفيت ذمتك وقضيت ما عليك. فرجع. وأما ابن عامر فإنه خرج أيضاً فلقيه رجلٌ مه بني حرقوص يدعى مري، فأجاره وسيره إلى الشام. وأما مروان بن الحكم فاستجار بمالك بن مسمع، فأجاره ووفى له، وحفظ له بنو مروان ذلك في خلافتهم وانتفع بهم وشرفوه بذلك. وقيل: إن مروان نزل مع عائشة بدار عبد الله بن خلف وصحبها إلى الحجاز، فلما سارت إلى مكة سار إلى المدينة. وأما عبد الله بن الزبير فإنه نزل بدار رجل من الأزد يدعى وزيراً، فقال له: ائت أم المؤمنين فأعلمها بمكاني ولا يعلم محمد بن أبي بكر. فأتى عائشة فأخبرها، فقالت: علي بمحمد. فقال لها: إنه قد نهاني أن يعلم محمد. فلم تسمع قوله وأرسلت إلى محمد وقالت: اذهب مع هذا الرجل حتى تأتيني بابن أختك. فانطلق معه، وخرج عبد الله ومحمد حتى انتهيا إلى دار عائشة في دار عبد الله بن خلف.
    ولما فرغ علي من بيعة أهل البصرة نظر في بيت المال فرأى فيه ستمائة ألف وزيادة، فقسمها على من شهد معه، فأصاب كل رجل منهم خمسمائة خمسمائة، فقال لهم: إن أظفركم الله بالشام فلكم مثلها إلى أعطياتكم. فخاض في ذلك السبئية، وطعنوا على علي من وراء وراء، وطعنوا فيه أيضاً حين نهاهم عن أخذ أموالهم، فقالوا: ما له يحل لنا دماءهم ويحرم علينا أموالهم؟ فقال لهم علي: القوم أمثالكم، من صفح عنا فهو منا ومن لج حتى يصاب فقتاله مني على الصدر والنحر.
    وقال القعقاع: ما رأيت شيئاً أشبه بشيء من قتال القلب يوم الجمل بقتال صفين، لقد رأيتنا ندافعهم بأسنتنا ونتكىء على أزجتنا وهم مثل ذلك، حتى لو أن الرجال مشت عليها لاستقلت بهم. وقال عبد الله بن سنان الكاهلي: لما كان يوم الجمل ترامينا بالنبل حتى فنيت، وتطاعنا بالرماح حتى تكسرت وتشبكت في صدورنا وصدورهم حتى لو سيرت عليها الخيل لسارت. ثم قال علي: السيوف يا بني المهاجرين! فما شبهت أصواتها إلا بضرب القصارين.
    وعلم أهل المدينة بالوقعة يوم الحرب قبل أن تغرب الشمس من نسر مر بماء حول المدينة ومعه شيء معلق فسقط منه فإذا كف فيه خاتم نقشه: عبد الرحمن بن عتاب. وعلم من بين مكة والمدينة والبصرة بالوقعة بما ينقل إليهم النسور من الأيدي والأقدام.
    وأراد علي المقام بالبصرة لإصلاح حالها فأعجلته السبئية عن المقام، فإنهم ارتحلوا بغير إذنه، فارتحل في آثارهم ليقطع عليهم أمراً إن أرادوه.
    وقد قيل في سبب القتال يوم الجمل غير ما تقدم مع الاتفاق على مسير أصحاب عائشة ونزولهم البصرة والوقعة الأولى مع عثمان بن حنيف وحكيم.
    ● [ لأحداث سنة ست وثلاثين بقية ] ●

    بداية أحداث سنة ست وثلاثين Fasel10

    مختصر الكامل في التاريخ لابن الأثير
    منتدى نافذة ثقافية - البوابة
    بداية أحداث سنة ست وثلاثين E110


      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة 22 نوفمبر 2024 - 13:55