من طرف الرسالة الخميس 13 ديسمبر 2018 - 3:38
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مكتبة علوم القرأن
الأمثال في القرآن الكريم
المقدمة والفصول الأربعة الأولى
● [ المقدمة ] ●
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير البرية محمد وآله وصحبه أجمعين قال شيخنا رحمه الله وقع في القرآن أمثال وان أمثال (1) القرآن لا يعقلها إلا العالمون وأنها شبيه (2) شئ بشئ في حكمه وتقريب المعقول من المحسوس أو أحد المحسوسين من الأخر واعتبار أحدهما بالآخر كقوله تعالى في حق المنافقين: (ومثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت وسلم ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يصبرون صم بكم عمي فهم لا يرجعون أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم - إلى قوله - إن الله على كل شئ قدير) (3) فضرب للمنافقين بحسب حالهم مثلين مثلا ناريا (4) ومثلا مائيا لما في الماء والنار (5) من الإضاءة والإشراق والحياة فإن النار مادة النور والماء مادة الحياة وقد جعل الله سبحانه الوحي الذي أنزل من السماء متضمنا لحياة القلوب واستنارتها ولهذا سماه روحا ونورا (6) وجعل قابليه أحياء في النور ومن لم يرفع به رأسا أمواتا في الظلمات، وأخبر عن حال المنافقين بالنسبة إلى حظهم من الوحي أنهم بمنزلة من استوقد نارا لتضئ له وينتفع بها وهذا لأنهم دخلوا في الإسلام، فاستضاءوا به وانتفعوا به تشبيه الكفار بالمطر المصاحب للظلمة والرعد والبرق وآمنوا به وخالطوا المسلمين ولكن لما لم يكن لصحبتهم (7) مادة من قلوبهم من نور الإسلام طغى عنهم وذهب الله بنورهم.
ولم يقل نارهم فإن النار فيها الإضاءة والإحراق فذهب الله بما فيها من الإضاءة وأبقى عليهم ما فيها من الإحراق وتركهم في ظلمات لا يبصرون فهذا حال من أبصر ثم عمي وعرف ثم أنكر ودخل في الإسلام ثم فارقه بقلبه لا يرجع إليه ولهذا قال (8): (فهم لا يرجعون).
ثم ذكر حالهم بالنسبة إلى المثل المائي فشبههم بأصحاب صيب وهو المطر الذي يصوب أي ينزل من السماء (9) فيه ظلمات ورعد وبرق فلضعف بصائرهم وعقولهم اشتدت عليهم زواجر القرآن ووعيده وتهديده وأوامره ونواهيه وخطابه الذي يشبه الصواعق فحالهم كحال من أصابه مطر فيه ظلمة ورعد وبرق فلضعفه وخوفه (10) جعل أصبعيه في أذنيه خشية من صاعقة تصيبه وقد شاهدنا نحن وغيرنا كثيرا من مخانيث تلاميذ الجهمية (11) والمبتدعة إذا سمعوا شيئا من آيات الصفات وأحاديث الصفات المنافية لبدعتهم رأيتهم عنها معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة، ويقول مخنثهم: سدوا عنا هذا الباب، واقرأوا شيئا غير هذا وترى قلوبهم مولية وهم يجمحون لثقل معرفة الرب سبحانه تعالى وأسمائه وصفاته على عقولهم وقلوبهم وكذلك المشركون على اختلاف شركهم إذا جرد لهم التوحيد وتليت عليهم نصوصه (12) المبطلة الماء الذي به الحياة لشركهم اشمأزت قلوبهم وثقل (13) عليهم لو وجدوا السبيل إلى سد آذانهم لفعلوا وكذلك (14) نجد أعداء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثقل ذلك عليهم جدا فأنكرته قلوبهم وهذا كله شبه ظاهر ومثل محقق من اخوانهم من المنافقين في المثل الذي ضربه الله لهم بالماء فإنهم لما تشابهت قلوبهم تشابهت أعمالهم (15)
● [ فصل ] ●
وقد ذكر سبحانه المثلين المائي والناري في سورة الرعد ولكن في حق المؤمنين فقال تعالى: (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله...) (16) شبه الوحي الذي أنزله لحياة القلوب والأسماع والأبصار بالماء الذي أنزله لحياة الأرض بالنبات وشبه القلوب بالأودية (17) فقلب كبير يسع علما عظيما كواد كبير يسع ماء كثيرا وقلب صغير إنما يسع بحسبه كالوادي الصغير فسالت أودية بقدرها واحتملت قلوب من الهدى والعلم بقدرها كما أن السيل إذا خالط الأرض ومر عليها احتملت (18) غثاء وزبدا فكذلك الهدى والعلم إذا خالط القلوب أثار ما فيها من الشهوات والشبهات ليقلعها ويذهبها كما يثير الدواء وقت شربه من البدن أخلاطه فتكرب (19) عنه بها شاربه وهي من تمام نفع الدواء فانه أثارها ليذهب بها فإنه لا يجامعها ولا يساكنها وهكذا (يضرب الله الحق والباطل) ثم ذكر المثل الناري فقال: (ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله) (20) وهو الخبث الذي يخرج عند سبك الذهب والفضة والنحاس والحديد (21) فتخرجه النار وتميزه وتفصله عن الجوهر الذي ينتفع به فيرمى ويطرح ويذهب جفاء فكذلك الشهوات والشبهات يرميها قلب المؤمن ويطرحها ويجفوها كما يطرح السيل والنار ذلك الزبد والغثاء والخبث ويستقر في قرار الوادي الماء الصافي الذي يسقي (22) منه الناس ويزرعون ويسقون أنعامهم كذلك يستقر في قرار القلب وجذره الإيمان الخالص الصافي الذي ينفع صاحبه وينتفع به غيره (23) (ومن لم يفقه هذين المثلين ولم يتدبرهما ويعرف ما يراد منهما فليس من أهلهما والله الموفق.
● [ فصل ] ●
ومنها قوله تعالى: (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون) (24) شبه سبحانه الحياة الدنيا في أنها تتزين في عين الناظر فتروقه بزينتها وتعجبه (25) فيميل إليها ويهواها اغترارا منه بها حتى إذا ظن أنه مالك لها قادر عليها سلبها بغتة (26) أحوج ما كان إليها وحيل بينه وبينها فشبهها بالأرض الذي ينزل الغيث عليها فتعشب ويحسن نباتها ويروق منظرها للناظر فيغتر به ويظن أنه قادر عليها مالك لها فيأتيها أمر الله فتدرك نباتها الآفة بغتة فتصبح كأن لم تكن قبل فيخيب ظنه وتصبح يداه صفرا منهما فهكذا (27) حال الدنيا والواثق بها سواء، وهذا من أبلغ التشبيه والقياس.
فلما كانت الدنيا عرضة لهذه الآفات والجنة سليمة منها قال تعالى تعالى: (والله يدعوا إلى دار السلام) (28) فسماها هنا دار السلام لسلامتها من هذه الآفات التي ذكرها في الدنيا فعم بالدعوة إليها وخص بالهداية من شاء فذلك عدله وهذا فضله (29).
● [ فصل ] ●
ومنها قوله تعالى: (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون) (30) فإنه سبحانه وتعالى ذكر الكفار ووصفهم بأنهم ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ثم ذكر المؤمنين ووصفهم بالإيمان والعمل الصالح والإخبات إلى ربهم فوصفهم بعبودية الظاهر وبالباطن جعل أحد الفريقين كالأعمى والأصم من حيث كان قلبه أعمى عن رؤية الحق أصم عن سماعه فشبهت (31) بمن بصره أعمى عن رؤية أحق الأشياء (32) وسمعه أصم عن سماع الأصوات والفريق الآخر بصير القلب سميعه كبصير العين وسميع الأذن فتضمنت الآية قياسين وتمثيلين للفريقين ثم نفى التسوية عن الفريقين بقوله (هل يستويان مثلا) (33)
● [ فصل ] ●
ومنها قوله تعالى: (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت) (34) فذكر سبحانه إنهم ضعفاء وأن الذين اتخذوهم أولياء أضعف منهم فهم في ضعفهم وما قصدوه من اتخاذ الأولياء كالعنكبوت اتخذت بيتا وهو أوهن البيوت وأضعفها (35) وتحت هذا المثل أن هؤلاء المشركين أضعف ما كانوا حيث اتخذوا من دون الله أولياء فلم يستفيدوا بمن اتخذوهم أولياء إلا ضعفا كما قال تعالى: (واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا. كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا) (36)، وقال تعالى: (واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون. لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون) (37) وقال بعد أن ذكر هلاك الأمم المشركين: (وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شئ لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب)) (38)، فهذه أربعة مواضع في القرآن تدل على أن من اتخذ من دون الله وليا يتعزز به ويتكثر به ويستنصر به لم يحصل له به إلا ضد مقصوده وفي القرآن أكثر من ذلك، وهذا من أحسن الأمثال وأدلها على بطلان الشرك وخسارة صاحبه وحصوله على ضد مقصوده.
فإن قيل فهم (39) يعلمون أن أوهن البيوت بيت العنكبوت فكيف نفى عنهم علم ذلك بقوله: (لو كانوا يعلمون).
فالجواب أنه سبحانه لم ينف (40) عنهم علمهم بوهن بيت العنكبوت وإنما نفى علمهم بأن اتخاذهم أولياء من دونه كالعنكبوت اتخذت بيتا فلو علموا ذلك لما فعلوه، ولكن ظنوا أن اتخاذهم الأولياء من دونه يفيدهم عزا وقوة فكان الأمر بخلاف ما ظنوا (41).
__________
(1) شيخنا هو الامام ابن القيم وهذه العبارة من كلام أحد تلامذة ابن القيم [ والمثل بالكسر والتحرك ومنه (مثل الجنه التى...) ] انظر ترتيب القاموس المحيط ح 4 / 203.
(2) في م، ع (فأنا تشبيه).
(3) سورة البقرة: 17 - 20.
(4) الزيادة من م، ع.
(5) إشارة إلى الايه (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا...) الشورى 52 / 53.
(6) المراد بالروح القرآن والنور هو الوحى القرآني انظر الشورى: 52.
(7) في ع (ولكن ستصحبهم).
(8) في ع (قال فيههم).
(9) (أنا صببنا الماء صبا) انظر تفسير النسفى 1 / 26، ومفردات الراغب 228.
(10) الضمير يعود للمنافقين (وخوره) من ع.
(11) وابن القيم كتابه القيم الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة وانظر مقالات الاسلامين للاشعري...(12) من م (النصوص).
(13) من م (وثقلت).
(14) من م (ولذلك).
(15) يعنى بذلك الرافضة وهم غلاة الشيعة الذين يؤذون رسول الله بكراهية أصحابهه وسبهم.
(16) الرعد: 17.
(17) الامثال في الكتاب والسنة: 19.
(18) من م (احتمل).
(19) من م (فيتكرر) وكربت الارض قلبهما للحدث مختار الصحاح ص 566.
(20) الرعد: 17.
(21) تفسير النسفى 2 / 247، الطبري: 14 / 136.
(22) من م، ع (يستقى).
(23) انظر تفسير الطبري 14 / 134، النسفى 2 / 247 وابن كثير 2 / 508 انظر مختار الصحاح ص 509.
(24) يونس: 24.
(25) في ع (فيروقه تزينها ويعجبه).
(26) إما بالموت وهذا ظاهر وإما بمرض ينزل بالمرء فلا يستفيد بها أو بآفة تجتاحها وتزيلها.
(27) في م (فكذا).
(28) يونس: 25
(29) معترك الاقران 1 / 467 وابن كثير 2 / 413، والنسفي 2 / 159 والطبري 11 / 102.
(30) هود: 24.
(31) في م (فشبهه).
(32) في م، ع (رؤية الاشياء).
(33) هود: 24 انظر تفسير الطبري 12 / 25 وغرائب القرآن 11 / 17.
(34) العنكبوت: 41.
(35) في ع (فانهم).
(36) مريم: 81: 82.
(37) يس: 74، 75.
(38) هود: 101.
(39) في ع (فانهم).
(40) في الاصل (ينفى) والواجب حذفها.
(41) انظر الجمان 186 - الامثال 27 - 28 وتفسير ابن كثير 3 / 314 والطبري 20 / 152، 153.
كتاب : الأمثال في القرآن الكريم
المؤلف : محمد بن أبي بكر ابن القيم الجوزية
منتدى بنات بنوتات . البوابة