منتديات الرسالة الخاتمة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    الحديث الثاني والثلاثون

    avatar
    الرسالة
    Admin


    عدد المساهمات : 3958
    تاريخ التسجيل : 01/01/2014

    الحديث الثاني والثلاثون Empty الحديث الثاني والثلاثون

    مُساهمة من طرف الرسالة الثلاثاء 16 مايو 2017 - 11:04

    الحديث الثاني والثلاثون Game10

    بّسم الله الرّحمن الرّحيم
    مكتبة الحديث الشريف
    جامع العلوم والحكم
    الحديث الثاني والثلاثون 1410
    ● [ الحديث الثاني والثلاثون ] ●

    عَنْ أبي سَعيدٍ الخُدريِّ - رضي الله عنه - : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، قالَ : ( لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ ). حديثٌ حَسَنٌ ، رَواهُ ابنُ ماجه والدَّارقطنيُّ وغيرهما مُسنداً ، ورواهُ مالكٌ في " الموطإ " عَن عَمْرو بن يحيى ، عَنْ أَبيهِ ، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُرسلاً ، فأَسقط أبا سعِيدٍ ، وله طُرُقٌ يَقْوى بَعضُها بِبَعْضٍ .
    حديث أبي سعيد لم يخرجه ابنُ ماجه ، إنَّما أخرجه الدارقطني والحاكم والبيهقي من رواية عثمان بن محمد بن عثمان بن ربيعة ، حدثنا الدراوردي ، عن عمرو بن يحيى المازني ، عن أبيه ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا ضررَ ولا ضرار ، من ضارَّ ضرَّه الله ، ومن شاقَّ شقَّ الله عليه )، وقال الحاكم : صحيح الإسناد على شرط مسلم ، وقال البيهقي : تفرَّد به عثمان عن الدراوردي ، وخرَّجه مالك في " الموطإ " عن عمرو بن يحيى ، عن أبيه ، مرسلاً.
    قال ابن عبد البر: لم يختلف عن مالك في إرسال هذا الحديث ، قال : ولا يُسند من وجهٍ صحيحٍ ، ثم خرَّجه من رواية عبدِ الملك بن معاذ النصيبي ، عن الدراوردي موصولاً ، والدراوردي كان الإمام أحمد يُضعف ما حدَّث به من حفظه ، ولا يعبأ به ، ولا شكَّ في تقديم قول مالكٍ على قوله . وقال خالد بن سعدٍ الأندلسي الحافظ : لم يصحَّ حديث : ( لا ضرر ولا ضرار ) مسنداً.
    وأما ابن ماجه ، فخرَّجه من رواية فضيل بن سليمان ، حدثنا موسى بن عقبة ، حدثني إسحاق بن يحيى بن الوليد ، عن عبادةَ بن الصامت : أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى أنَّ لا ضَرر ولا ضِرار، وهذا من جملة صحيفة تُروى بهذا الإسناد ، وهي منقطعةٌ مأخوذة من كتابٍ ، قاله ابنُ المديني وأبو زرعة وغيرهما ، وإسحاق بن يحيى قيل : هو ابن طلحة ، وهو ضعيف لم يسمع من عبادة ، قاله أبو زرعة وابنُ أبي حاتم والدارقطني في موضع، وقيل : إنَّه إسحاق بن يحيى بن الوليد بن عبادة ، ولم يسمع أيضاً من عبادة ، قاله الدارقطني أيضاً. وذكره ابن عدي في كتابه " الضعفاء " ، وقال : عامة أحاديثه غير محفوظة، وقيل : إنَّ موسى بن عقبة لم يسمع منه ، وإنَّما روى هذه الأحاديث عن أبي عياش الأسدي عنه ، وأبو عياش لا يُعرف.
    وخرَّجه ابن ماجه أيضاً من وجه آخر من رواية جابر الجعفي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا ضَرر ولا ضِرار ) ، وجابر الجعفي ضعَّفه الأكثرون ، وخرَّجه الدارقطني من رواية إبراهيم بن إسماعيل ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، وإبراهيم ضعفه جماعة، وروايات داود، عن عكرمة مناكير.
    وخرَّج الدَّارقطني من حديث الواقدي ، حدثنا خارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت ، عن أبي الرجال ، عن عمرة ، عن عائشة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا ضَرر ولا ضِرار ) والواقدي متروك ، وشيخه مختلف في تضعيفه . وخرَّجه الطبراني من وجهين ضعيفين أيضاً عن القاسم ، عن عائشة .
    وخرَّج الطبراني أيضاً من رواية محمد بن سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن عمِّه واسع بن حبان ، عن جابرٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا ضَررَ ولا ضِرَارَ في الإسلام ) وهذا إسناد مقارب وهو غريبٌ ، لكن خرَّجه أبو داود في " المراسيل " من رواية عبد الرحمان بن مَغراء ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن عمه واسع مرسلاً ، وهو أصحُّ.
    وخرَّج الدارقطني من رواية أبي بكر بن عياش ، قال : أراه عن ابن عطاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا ضررَ ولا ضرورَة ، ولا يمنعنّ أحدُكم جاره أن يضع خشبه على حائطه ) ، وهذا الإسناد فيه شكٌّ ، وابن عطاء : هو يعقوب ، وهو ضعيفٌ.
    وروى كثير بنُ عبد الله بن عمرو بن عوف المزني ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا ضرر ولا ضرار ) قال ابنُ عبد البرِّ: إسناده غير صحيح.
    قلت : كثير هذا يصحح حديثَه الترمذي ويقول البخاري في بعض حديثه : هو أصحُّ حديثٍ في الباب ، وحسن حديثَه إبراهيمُ بن المنذر الحِزامي ، وقال : هو خير مِنْ مراسيل ابن المسيب ، وكذلك حسَّنه ابنُ أبي عاصم ، وترك حديثه آخرون، منهم : الإمام أحمد وغيره ، فهذا ما حضرنا مِن ذكر طُرُقِ أحاديث هذا الباب .
    وقد ذكر الشيخُ - رحمه الله - أنَّ بعضَ طرقه تُقوَّى ببعضٍ ، وهو كما قال ، وقد قال البيهقي في بعض أحاديث كثير بن عبد الله المزني : إذا انضمت إلى غيرها من الأسانيد التي فيها ضعفٌ قويت.
    وقال الشافعي في المرسل : إنَّه إذا أُسند من وجهٍ آخر ، أو أرسله من يأخذ العلمَ عن غير من يأخذ عنه المرسلُ الأوَّل ، فإنَّه يُقبل.
    وقال الجُوزجاني : إذا كان الحديثُ المسندُ من رجلٍ غير مقنع - يعني : لا يقنع برواياته - وشدَّ أركانه المراسيلُ بالطرق المقبولة عند ذوي الاختيار ، استعمل ، واكتُفي به ، وهذا إذا لم يُعارض بالمسند الذي هو أقوى منه .
    وقد استدلَّ الإمام أحمد بهذا الحديث ، وقال : قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( لا ضرر ولا ضرار ).
    وقال أبو عمرو بن الصلاح : هذا الحديثُ أسنده الدارقطنيُّ من وجوه ، ومجموعها يُقوِّي الحديثَ ويُحسنه ، وقد تقبَّله جماهيرُ أهلِ العلم ، واحتجُّوا به ، وقولُ أبي داود : إنَّه من الأحاديث التي يدورُ الفقه عليها يُشعِرُ بكونه غيرَ ضعيفٍ ، والله أعلم.
    وفي المعنى أيضاً حديثُ أبي صِرْمَة عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من ضارَّ ضارَّ الله به ، ومن شاقَّ شقَّ الله عليه ) . خرَّجه أبو داود والترمذي ، وابن ماجه ، وقال الترمذي : حسن غريب.
    وخرَّج الترمذي بإسناد فيه ضعف عن أبي بكرٍ الصديق ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ملعونٌ من ضارَّ مؤمناً أو مكر به ).
    وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا ضَررَ ولا ضرارَ ) . هذه الرواية الصحيحة ، ضِرار بغير همزة، ورُوي ( إضرار ) بالهمزة، ووقع ذلك في بعض روايات ابن ماجه والدراقطني ، بل وفي بعض نسخ " الموطأ " ، وقد أثبت بعضُهم هذه الرواية وقال : يقال : ضَرَّ وأضر بمعنى ، وأنكرها آخرون ، وقالوا : لا صحَّة لها.
    واختلفوا : هل بين اللفظتين - أعني : الضَّرر والضرار - فرقٌ أم لا ؟ فمنهم من قال : هما بمعنى واحد على وجه التأكيد ، والمشهورُ أنَّ بينهما فرقاً ، ثم قيل : إنَّ الضَّرر هو الاسم ، والضِّرار : الفعل ، فالمعنى أنَّ الضَّرر نفسَه منتفٍ في الشَّرع ، وإدخال الضَّرر بغير حقٍّ كذلك.
    وقيل : الضَّرر : أنْ يُدخِلَ على غيرِه ضرراً بما ينتفع هو به ، والضِّرار : أن يُدخل على غيره ضرراً بما لا منفعةَ له به، كمن منع ما لا يضرُّه ويتضرَّرُ به الممنوع ، ورجَّح هذا القول طائفةٌ ، منهم ابنُ عبد البرِّ ، وابنُ الصلاح.
    وقيل : الضَّرر : أنْ يضرّ بمن لا يضره ، والضِّرار : أن يضرَّ بمن قد أضرَّ به على وجهٍ غيرِ جائزٍ. وبكلِّ حال فالنَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّما نفى الضرر والضِّرار بغير حق.
    فأما إدخالُ الضرر على أحدٍ بحق ، إمَّا لكونه تعدَّى حدودَ الله ، فيعاقَبُ بقدر جريمته ، أو كونه ظلمَ غيره ، فيطلب المظلومُ مقابلتَه بالعدلِ ، فهذا غير مرادٍ قطعاً ، وإنما المرادُ : إلحاقُ الضَّررِ بغيرِ حقٍّ ، وهذا على نوعين:
    أحدهما : أنْ لا يكونَ في ذلك غرضٌ سوى الضَّررِ بذلك الغير ، فهذا لا ريبَ في قُبحه وتحريمه، وقد ورد في القرآن النَّهيُ عن المضارَّة في مواضع : منها في الوصية ، قال الله تعالى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَار }، وفي حديث أبي هريرة المرفوع : ( إنَّ العبدَ ليعملُ بطاعةِ اللهِ ستِّين سنةً ، ثم يحضُرُه الموتُ ، فيضارّ في الوصيّة ، فيدخل النار ) ، ثم تلا : { تِلْكَ حُدُوْدُ اللهِ } إلى قوله : { وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا }، وقد خرَّجه الترمذي وغيره بمعناه .
    وقال ابنُ عباس : الإضرار في الوصية من الكبائر، ثم تلا هذه الآية.
    والإضرار في الوصيَّةِ تارةً يكون بأنْ يَخُصَّ بعضَ الورثةِ بزيادةٍ على فرضِهِ الذي فرضَهُ الله له ، فيتضرَّرُ بقيَّةُ الورثة بتخصيصه ، ولهذا قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ الله قد أعطى كُلَّ ذي حقٍّ حقَّه ، فلا وصيةَ لوارث ).
    وتارة بأن يُوصي لأجنبيٍّ بزيادةٍ على الثُّلث ، فتنقص حقوقُ الورثةِ ، ولهذا قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( الثُّلث والثُّلث كثير ).
    ومتى وصَّى لوارثٍ أو لأجنبيٍّ بزيادةٍ على الثُّلث ، لم ينفذ ما وصَّى به إلاَّ بإجازة الورثةِ ، وسواءٌ قصدَ المضارَّةَ أو لم يقصد ، وأما إن قصدَ المضارَّة بالوصيّة لأجنبيٍّ بالثلث ، فإنَّه يأثم بقصده المضارَّة ، وهل تُردُّ وصيَّتُه إذا ثبتَ ذلك بإقراره أم لا ؟ حكى ابنُ عطية روايةً عن مالكٍ أنَّها تُردُّ ، وقيل : إنَّه قياسُ مذهب أحمد.
    ومنها : في الرجعة في النِّكاح ، قال تعالى : { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ }، وقال : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً } فدلَّ ذلك على أنَّ من كان قصدُه بالرجعة المضارَّة ، فإنَّه آثمٌ بذلك ، وهذا كما كانوا في أوَّل الإسلام قبل حصر الطَّلاق في ثلاث يطلِّقُ الرَّجلُ امرأتَه ، ثم يتركُها حتّى تقارب انقضاءَ عدَّتها ، ثم يُراجعها ، ثم يطلِّقُها ، ويفعل ذلك أبداً بغير نهاية ، فيدعُ المرأةَ لا مُطلَّقةً ولا ممسكةً ، فأبطل الله ذلك ، وحصر الطَّلاق في ثلاث مرات.
    وذهب مالكٌ إلى أنَّ من راجع امرأته قبل انقضاء عدَّتها ، ثم طلَّقها من غير مسيسٍ أنّه إن قصدَ بذلك مضارَّتها بتطويل العدَّةِ ، لم تستأنف العدّة ، وبنت على ما مضى منها ، وإن لم يقصد بذلك ، استأنفت عدَّةً جديدةً ، وقيل : تبني مطلقاً ، وهو قول عطاء وقتادة ، والشّافعي في القديم ، وأحمد في رواية ، وقيل : تستأنف مطلقاً ، وهو قول الأكثرين ، منهم أبو قلابة والزُّهري والثوري وأبو حنيفة والشافعي - في الجديد - وأحمد في رواية وإسحاق وأبو عُبيد وغيرهم.
    ومنها في الإيلاء ، فإنَّ الله جعل مدَّة المؤلي أربعةَ أشهرٍ إذا حلف الرجل على امتناع وطءِ زوجته ، فإنَّه يُضْرَبُ له مدَّة أربعة أشهر ، فإن فاء ورجع إلى الوطءِ ، كان ذلك توبته ، وإن أصرَّ على الامتناع لم يُمكن من ذلك ، وفيه قولان للسَّلف والخلف : أحدهما : أنَّها تَطلُقُ عليه بمضيِّ هذه المدة ، والثاني : أنَّه يوقف ، فإن فاء ، وإلاَّ أُمِرَ بالطَّلاق ، ولو ترك الوطءَ لقصدِ الإضرار بغيرِ يمينٍ مدَّة أربعة أشهر ، فقال كثيرٌ من أصحابنا : حكمُه حكمُ المُؤلي في ذلك ، وقالوا : هو ظاهرُ كلام أحمد.
    وكذا قال جماعةٌ منهم : إذا ترك الوطءَ أربعةَ أشهرٍ لغير عذرٍ ، ثم طلبت الفُرقة ، فُرِّق بينهما بناءً على أنَّ الوطءَ عندنا في هذه المدَّة واجبٌ ، واختلفوا : هل يُعتَبر لذلك قصدُ الإضرار أم لا يعتبر ؟ ومذهبُ مالك وأصحابه إذا ترك الوطءَ من غير عُذر ، فإنّه يُفسَخُ نكاحُه ، مع اختلافهم في تقدير المدَّة.
    ولو أطال السَّفَر مِن غيرِ عذرٍ ، وطلبت امرأتُه قُدومَه ، فأبي ، فقال مالكٌ وأحمد وإسحاق : يفرِّقُ الحاكم بينهما ، وقدَّره أحمد بستة أشهر ، وإسحاق بمضيِّ سنتين.
    ومنها : في الرضاع ، قال تعالى : { لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ }، قال مجاهد في قوله : { لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } قال : لا يَمنع أمه أن تُرضِعَه ليحزُنَها ، وقال عطاء وقتادة والزُّهري وسفيان والسُّدِّي وغيرهم : إذا رضِيَتْ ما يرضى به غيرُها ، فهي أحقُّ به ، وهذا هو المنصوصُ عن أحمد ، ولو كانت الأُمُّ في حبال الزَّوج . وقيل : إن كانت في حبال الزَّوج ، فله منعُها مِنْ إرضاعه ، إلاَّ أن لا يُمكن ارتضاعُه من غيرها ، وهو قولُ الشَّافعيِّ ، وبعض أصحابنا ، لكن إنَّما يجوزُ ذلك إذا كان قصدُ الزَّوج به توفيرَ الزوجة للاستمتاع ، لا مجرد إدخال الضَّرر عليها .
    وقوله : { وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ }، يدخلُ فيه أنَّ المطلَّقة إذا طَلبت إرضاع ولدها بأجرة مثلها ، لَزِم الأبَ إجابتها إلى ذلك ، وسواءٌ وُجِدَ غيرُها أو لم يُوجَدْ . هذا منصوصُ الإمام أحمد ، فإن طلبت زيادةً على أجرةِ مثلها زيادةً كثيرةً ، ووجدَ الأب من يُرضعُه بأجرةِ المثل ، لم يلزمِ الأبَ إجابتُها إلى ما طلبت ، لأنَّها تقصد المضارَّة ، وقد نصَّ عليه الإمام أحمد.
    ومنها في البيع قد ورد النهيُ عن بيع المضطرِّ ، خرَّجه أبو داود من حديث عليِّ بن أبي طالب أنّه خطب الناسَ ، فقال : سيأتي على الناس زمانٌ عَضُوضٌ يعضُّ الموسرُ على ما في يديه ، ولم يؤمرْ بذلك ، قال الله تعالى : { ولا تَنْسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ } ويُبايع المضطرُّون ، وقد نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع المضطرِّ . وخرَّجه الإسماعيلي ، وزاد فيه : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن كان عندكَ خيرٌ تعودُ به على أخيك ، وإلاَّ فلا تزيدنَّه هلاكاً إلى هلاكه ) وخرَّجه أبو يعلي الموصلي بمعناه من حديث حُذيفة مرفوعاً أيضاً.
    وقال عبد الله بن معقِل : بيعُ الضَّرورة ربا.
    وقال حرب : سئل أحمد عن بيع المضطر ، فكرهه ، فقيل له : كيف هُو ؟ قال : يجيئك وهو محتاج ، فتبيعه ما يُساوي عشرة بعشرين ، وقال أبو طالب : قيل لأحمد : إنَّ ربح بالعشرة خمسة ؟ فكره ذلك ، وإنْ كان المشتري مسترسلاً لا يحسن أنْ يُماكس ، فباعه بغبنٍ كثيرٍ ، لم يجز أيضاً . قال أحمد : الخِلابة : الخداع ، وهو أنْ يَغْبِنه فيما لا يتغابَن الناسُ في مثله ؛ يبيعه ما يُساوي درهماً بخمسة ، ومذهب مالكٍ وأحمد أنّه يثبت له خيارُ الفسخ بذلك.
    ولو كان محتاجاً إلى نقدٍ ، فلم يجد من يُقرضه ، فاشترى سلعةً بثمن إلى أجل في ذمَّته ، ومقصودُه بيعُ تلك السلعة ، ليأخذ ثمنها ، فهذا فيه قولانِ للسَّلف ، ورخص أحمدُ فيه في رواية ، وقال في رواية : أخشى أنْ يكون مضطَرّاً ؛ فإن باعَ السِّلعة مِن بائعها له ، فأكثرُ السَّلف على تحريمِ ذلك ، وهو مذهبُ مالكٍ وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم.
    ومن أنواع الضرر في البيوع : التَّفريقُ بين الوالدةِ وولدها في البيع ، فإنْ كان صغيراً ، حَرُمَ بالاتفاق ، وقد رُوي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال : ( من فرَّق بين والدةٍ وولدِها ، فرَّق الله بينه وبين أحبَّته يوم القيامة )، فإنْ رضيت الأُمُّ بذلك ، ففي جوازه اختلافٌ ، ومسائل الضرر في الأحكام كثيرة جداً ، وإنَّما ذكرنا هذا على وجه المثال.
    والنوع الثاني : أنْ يكون له غرضٌ آخرُ صحيحٌ ، مثل أنْ يتصرَّف في ملكه بما فيه مصلحةٌ له ، فيتعدَّى ذلك إلى ضرر غيرِه ، أو يمنع غيرَه من الانتفاع بملكه توفيراً له ، فيتضرَّر الممنوعُ بذلك.
    فأما الأوَّل وهو التصرُّف في ملكه بما يتعدَّى ضررُه إلى غيره فإن كان على غير الوجه المعتادِ ، مثل أنْ يؤجِّجَ في أرضه ناراً في يومٍ عاصفٍ ، فيحترق ما يليه ، فإنَّه متعدٍّ بذلك ، وعليه الضَّمان ، وإنْ كان على الوجه المعتاد ، ففيه للعلماء قولان مشهوران:
    أحدهما : لا يمنع من ذلك ، وهو قولُ الشَّافعي وأبي حنيفة وغيرهما.
    والثاني : المنع ، وهو قولُ أحمد ، ووافقه مالكٌ في بعض الصُّور ؛ فمن صُوَر ذَلِكَ : أن يفتح كُوَّةً في بنائه العالي مشرفةً على جاره ، أو يبني بناءً عالياً يُشرف على جاره ولا يسترُه ، فإنَّه يُلزم بستره ، نصَّ عليهِ أحمد ، ووافقه طائفةٌ من أصحاب الشافعي ، قالَ الروياني منهم في كتاب " الحلية " : يجتهد الحاكم في ذلك ، ويمنع إذا ظهر له التعنُّتُ ، وقصد الفساد ، قال : وكذلك القولُ في إطالة البناء ومنع الشمس والقمر.
    وقد خرَّج الخرائطي وابنُ عدي بإسنادٍ ضعيف عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده مرفوعاً حديثاً طويلاً في حقِّ الجار ، وفيه : ( ولا يستطيل عليهِ بالبناء فيحجبَ عنه الرِّيح إلاَّ بإذنه ).
    ومنها أن يحفرَ بئراً بالقرب من بئر جاره ، فيذهب ماؤها ، فإنَّها تُطَمُّ في ظاهر مذهب مالك وأحمد ، وخرّج أبو داود في " المراسيل " من حديث أبي قلابة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تَضارُّوا في الحفر ، وذلك أن يحفرَ الرَّجلُ إلى جنبِ الرَّجل ليذهبَ بمائِه ).
    ومنها أنْ يحدث في ملكه ما يضرُّ بملك جاره من هزٍّ أو دقٍّ ونحوهما ، فإنَّه يُمنع منه في ظاهر مذهب مالك وأحمد ، وهو أحدُ الوجوه للشافعية. وكذا إذا كان يضرُّ بالسُّكَّان ، كما له رائحةٌ خبيثة ونحو ذلك.
    ومنها أنْ يكونَ له ملكٌ في أرض غيره ، ويتضرَّرُ صاحبُ الأرض بدخوله إلى أرضه ، فإنَّه يُجبرُ على إزالته ليندفعَ به ضررُ الدخول ، وخرّج أبو داود في " سننه " من حديث أبي جعفر محمد بن علي أنَّه حدَّث سَمُرة بن جندبٍ أنَّه كانت له عَضُدٌ من نخلٍ في حائطِ رجلٍ من الأنصار ، ومع الرجل أهلُه ، وكان سمرة يدخل إلى نخله ، فيتأذَّى به ويشقُّ عليه ، فطلب إليه أنْ يُناقله ، فأبى ، فأتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فذكر ذلك له ، فطلب إليه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَبيعه ، فأبى ، فطلب إليه أنْ يُناقِلَه ، فأبى ، قال : ( فهَبْه له ولك كذا وكذا ) أمراً رغَّبه فيه ، فأبى ، فقال : ( أنت مُضارٌّ ) ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للأنصاري : ( اذهب فاقلع نخله ) ، وقد روي عن أبي جعفر مرسلاً . قال أحمد في رواية حنبل بعد أنْ ذُكِرَ له هذا الحديثُ : كلُّ ما كان على هذه الجهة ، وفيه ضرر يمنع من ذلك ، فإن أجاب وإلا أجبره السُّلطان ، ولا يضرُّ بأخيه في ذلك ، فيه مِرفَقٌ له .
    وخرَّج أبو بكر الخلاّل من رواية عبد الله بن محمد بن عقيل عن عبد الله بن سَلِيط بن قيس ، عن أبيه : أنَّ رجلاً من الأنصار كانت له في حائطه نخلةٌ لرجلٍ آخر ، فكان صاحبُ النَّخلة لا يَريمُها غدوةً وعشيةً ، فشقَّ ذلك على صاحب الحائطِ ، فأتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فذكر ذلك له ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لصاحب النخلة : ( خذ منه نخلةً ممَّا يلي الحائطَ مكان نخلتك ) ، قال : لا والله ، قال : ( فخذ منِّي ثنتين ) قال : لا والله ، قال : ( فهبها لي ) ، قال : لا والله ، قال : فردد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأبى ، فأمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يُعطيه نخلة مكان نخلته.
    وخرّج أبو داود في "المراسيل" من رواية ابن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حَبّان ، عن عمِّه واسع بن حبّان ، قال : كان لأبي لُبابَة عَذْقٌ في حائط رجلٍ ، فكلَّمه ، فقال : إنَّك تطأُ حائطي إلى عَذْقِكَ ، فأنا أُعطيكَ مثلَه في حائطك ، وأخرجه عنِّي ، فأبى عليه ، فكلَّم النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فيه ، فقال : ( يا أبا لُبابة ، خذ مثل عَذقك ، فحُزْها إلى مالك ، واكفُفْ عن صاحبك ما يكره ) ، فقال : ما أنا بفاعل ، فقال : ( اذهب ، فأخرج له مثلَ عَذْقِه إلى حائطه ، ثم اضرب فوقَ ذلك بجدارٍ ، فإنه لا ضررَ في الإسلام ولا ضِرار ).
    ففي هذا الحديث والذي قبلَه إجبارُه على المعاوضة حيث كان على شريكه أو جاره ضررٌ في تركه ، وهذا مثلُ إيجاب الشُّفعة لدفع ضررِ الشَّريك الطَّارئ.
    ويُستدلُّ بذلك أيضاً على وجوب العمارة على الشَّريك الممتنع مِنَ العمارة ، وعلى إيجاب البيع إذا تعذَّرَت القسمة ، وقد ورد من حديث محمد بن أبي بكر ، عن أبيه مرفوعاً : ( لا تَعْضِية في الميراث إلا ما احتمل القسم ) وأبو بكر : هو ابن عمرو بن حزم ، قاله الإمام أحمد ، فالحديث حينئذ مرسل ، والتعضية : هي القسمة . ومتى تعذَّرَتِ القسمةُ ، لكون المقسوم يتضرَّرُ بقسمته ، وطلب أحدُ الشَّريكين البيعَ ، أجبر الآخر ، وقسم الثَّمنُ ، نصَّ عليه أحمدُ وأبو عبيد وغيرهما مِنَ الأئمة.
    وأما الثاني - وهو منع الجار من الانتفاع بملكه ، والارتفاق به - فإن كان ذلك يضرُّ بمن انتفعَ بملكه ، فله المنعُ ، كمن له جدارٌ واهٍ لا يحتمل أنْ يُطرَحَ عليه خشَبٌ ، وأمَّا إنْ لم يضرَّ به ، فهل يجب عليه التَّمكين ، ويحرم عليه الامتناع أم لا ؟ فمن قال في القسم الأول : لا يمنع المالك مِنَ التَّصرُّف في ملكه ، وإن أضرَّ بجاره ، قال هنا : للجار المنع منَ التصرُّف في ملكه بغير إذنه ، ومن قال هناك بالمنع ، فاختلفوا هاهنا على قولين : أحدهما : المنع هاهنا وهو قول مالك . والثاني : أنَّه لا يجوزُ المنع ، وهو مذهبُ أحمد في طرح الخشب على جدار جاره ، ووافقه الشافعيّ في القديم وإسحاق وأبو ثور ، وداود ، وابنُ المنذر ، وعبدُ الملك بن حبيب المالكي ، وحكاه مالكٌ عن بعض قُضاة المدينة.
    وفي الصحيحين عن أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا يمنعنَّ أحدُكُم جارَه أنْ يَغرِزَ خشبة على جِداره ) قال أبو هريرة : مالي أراكم عنها مُعرِضين ، والله لأَرمِينَّ بها بَيْنَ أكتافِكُم.
    وقضى عمر بن الخطاب على محمد بن مسلمة أن يُجري ماء جاره في أرضه ، وقال : لتمرنّ به ولو على بطنِكَ.
    وفي الإجبار على ذلك روايتان عن الإمام أحمد ، ومذهبُ أبي ثور الإجبار على إجراء الماء في أرض جارِه إذا أجراه في قناة في باطن أرضه ، نقله عنه حربٌ الكرمانيُّ .
    ومما يُنهى عن منعه للضَّرر منعُ الماء والكلأ ، وفي " الصحيحين " عن أبي هريرةَ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تمنعوا فضلَ الماء لتمنعوا به الكلأ ) . وفي " سنن أبي داود " أنَّ رجلاً قال : يا نبيَّ الله ، ما الشَّيء الذي لا يحلُّ منعه ؟ قال : ( الماء ) ، قال : يا نبيَّ الله ، ما الشيء الذي لا يحلّ منعه ؟ قال : ( الملح ) قال : ما الشيء الذي لا يحلّ منعه ، قال : ( أن تفعل الخيرَ خيرٌ لك ).
    وفيه أيضاً أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( النَّاس شركاء في ثلاث : الماء والنار والكلأ ).
    وذهب أكثر العلماء إلى أنَّه لا يُمنَعُ فضلُ الماء الجاري والنَّابعِ مطلقاً ، سواء قيل : إنَّ الماء ملك لمالك أرضه أم لا ، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عُبيد وغيرهم ، والمنصوص عن أحمد وجوبُ بذلِه مجاناً بغيرِ عِوَضٍ للشُّربِ ، وسقي البهائم ، وسقي الزروع ، ومذهب أبي حنيفة والشافعي : لا يجب بذلُه للزُّروع .
    واختلفوا : هل يجبُ بذلُه مطلقاً ، أو إذا كان بقرب الكلأ ، وكان منعه مُفضِياً إلى منع الكلأ ؟ على قولين لأصحابنا وأصحاب الشافعي ، وفي كلام أحمد ما يدلُّ على اختصاصِ المنع بالقُرب من الكلأ ، وأما مالكٌ ، فلا يجبُ عندَه بذلُ فضلِ الماء المملوك بملك منبعِه ومجراه إلا للمضطرّ كالمُحاز في الأوعية ، وإنما يجب عندَه بذلُ فضل الماء الذي لا يملك.
    وعند الشافعي: حكم الكلأ كذلك يجوزُ منعُ فضله إلاَّ في أرض الموات . ومذهب أبي حنيفة وأحمد وأبي عبيد أنّه لا يمنعُ فضل الكلأ مطلقاً ، ومنهم من قال : لا يمنع أحدٌ الماء والكلأ إلاّ أهلَ الثغور خاصَّة ، وهو قولُ الأوزاعي ، لأنَّ أهلَ الثُّغور إذا ذهب ماؤهم وكلؤهم لم يقدِرُوا أن يتحوَّلوا من مكانهم من وراء بَيضَةِ الإسلام وأهله.
    وأما النَّهي عن منع النار ، فحملَه طائفةٌ من الفُقهاء على النَّهي عن الاقتباس منها دُونَ أعيانِ الجمر ، ومنهم من حمله على منع الحجارة المُورِيَة للنَّارِ ، وهو بعيدٌ ، ولو حمل على منع الاستضاءة بالنَّار ، وبذل ما فضل عن حاجة صاحبها لمن يستدفئ بها ، أو يُنضجُ عليها طعاماً ونحوه ، لم يبعد.
    وأما الملح ، فلعلَّه يُحمل على منع أخذِهِ مِنَ المعادن المُباحَة ، فإنَّ الملحَ منَ المعادن الظَّاهرة ، لا يُملَكُ بالإحياء ، ولا بالإقطاع ، نصّ عليه أحمد ، وفي " سنن أبي دواد " : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أقطع رجلاً الملحَ ، فقيل له : يا رسول الله إنّه بمنْزلة الماء العدِّ ، فانتزعه منه.
    ومما يدخل في عمومِ قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا ضرَرَ ) أنّ الله لم يكلِّف عبادَه فعلَ ما يَضُرُّهم البتَّة ، فإنَّ ما يأمرهم به هو عينُ صلاحِ دينهم ودنياهم ، وما نهاهم عنه هو عينُ فساد دينهم ودنياهم ، لكنَّه لم يأمر عبادَه بشيءٍ هو ضارٌّ لهم في أبدانهم أيضاً ، ولهذا أسقط الطَّهارة بالماء عَنِ المريض ، وقال : { مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ }، وأسقط الصيام عن المريض والمسافر ، وقال : { يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ }، وأسقط اجتناب محظورات الإحرام ، كالحلق ونحوه عمن كان مريضاً ، أو به أذى من رأسه ، وأمرَ بالفدية . وفي " المسند " عن ابن عباس ، قال : قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أيُّ الأديان أحبُّ إلى الله ؟ قال : ( الحنيفيَّةُ السَّمحةُ ) . ومن حديث عائشة (1) ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنِّي أرسلتُ بحنيفيَّةٍ سَمحَةٍ ).
    ومن هذا المعنى ما في " الصحيحين " عن أنسٍ : أنَّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - : رأى رجلاً يمشي ، قيل : إنّه نذرَ أن يحجَّ ماشياً ، فقال : ( إنَّ الله لغنيٌّ عن مشيه ، فليركب ) ، وفي رواية : ( إن الله لغنيٌّ عن تعذيب هذا نفسَه ).
    وفي " السنن " عن عُقبة بن عامر أنَّ أختَه نذرت أنْ تمشي إلى البيت ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ الله لا يَصنَعُ بشقاءِ أختك شيئاً فلتَرْكَبْ ).
    وأصل الحديث في الصحيحين ( البخاري 3/25 ( 1866 ) ، ومسلم 5/78 ( 1644 ) ) ، ولفظه عن عقبة بن عامر أنَّه قال : نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله ، وأمرتني أن استفتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( لتمشِ ولتركب ).
    وقد اختلفَ العلماءُ في حكم من نذَر أن يحجَّ ماشياً ، فمنهم من قال : لا يلزمُه المشيُ ، وله الرُّكوبُ بكلِّ حالٍ ، وهو رواية عن أحمد والأوزاعيِّ . وقال أحمد : يصومُ ثلاثة أيَّام ، وقال الأوزاعي : عليه كفَّارةُ يمين ، والمشهور أنَّه يلزمُه ذلك إن أطاقه ، فإن عجز عنه ، فقيل : يركبُ عند العجز ، ولاشيءَ عليه ، وهو أحدُ قولي الشَّافعيِّ.
    وقيل : بل عليه - مع ذلك - كفارةُ يمين ، وهو قول الثَّوري وأحمد في رواية.
    وقيل : بل عليه دمٌ ، قاله طائفةٌ مِنَ السَّلف ، منهم عطاءٌ ومُجاهدٌ والحسنُ واللَّيثُ وأحمدُ في رواية.
    وقيل : يتصدَّقُ بكراء ما ركبَ ، وروي عن الأوزاعيِّ ، وحكاه عن عطاء ، وروي عن عطاء : يتصدَّقُ بقدر نفقته عند البيت.
    وقالت طائفة من الصَّحابة وغيرهم : لا يُجزئُه الرُّكوبُ ، بل يَحُجُّ من قابِلٍ ، فيمشي ما رَكِبَ ، ويركبُ ما مشى ، وزاد بعضُهم : وعليه هديٌ ، وهو قول مالكٍ إذا كان ما ركبه كثيراً.
    وممَّا يدخل في عمومه أيضاً أنَّ من عليه دينٌ لا يُطالَبُ به مع إعساره ، بل يُنظَرُ إلى حال إيساره ، قال تعالى : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ }، وعلى هذا جمهورُ العلماء خلافاً لشريح في قوله : إنَّ الآية مختصَّةٌ بديون الرِّبا في الجاهلية، والجمهورُ أخذُوا باللَّفظ العام ، ولا يُكلَّفُ المدينُ أن يقضيَ مما عليه في خروجه من ملكه ضررٌ ، كثيابه ومسكنه المحتاج إليه ، وخادمه كذلك ، ولا ما يحتاجُ إلى التجارة به لِنفقته ونفقة عياله هذا مذهب الإمام أحمد.

    الحديث الثاني والثلاثون Fasel10

    جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي
    منتدى ميراث الرسول
    صلى الله عليه وسلم
    الحديث الثاني والثلاثون E110


      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة 22 نوفمبر 2024 - 6:41