بّسم الله الرّحمن الرّحيم مكتبة الحديث الشريف جامع العلوم والحكم
● [ الحديث الثلاثون ] ●
عَنْ أَبي ثَعلَبَةَ الخُشَنيِّ - رضي الله عنه - ، عَن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قالَ : ( إنَّ الله فَرَضَ فرائِضَ ، فَلا تُضَيِّعُوها ، وحَدَّ حُدُوداً فلا تَعْتَدوها ، وحَرَّمَ أَشْياءَ ، فلا تَنتهكوها ، وسَكَتَ عنْ أشياءَ رَحْمةً لكُم غَيْرَ نِسيانٍ ، فلا تَبحَثوا عَنْها ) .حديثٌ حسنٌ ، رواه الدَّارقطنيُّ (1) وغيرُهُ. هذا الحديثُ من رواية مكحول ، عن أبي ثعلبة الخشني ، وله علتان : إحداهما : أنَّ مكحولاً لم يصحّ له السماع من أبي ثعلبة ، كذلك قال أبو مسهر الدمشقي وأبو نُعيم الحافظ وغيرهما. والثانية : أنَّه اختلف في رفعه ووقفه على أبي ثعلبة ، ورواه بعضهم عن مكحول من قوله ، لكن قال الدارقطني : الأشبه بالصَّواب المرفوعُ ، قال : وهو أشهرُ. وقد حسَّن الشيخُ رحمه الله هذا الحديث ، وكذلك حسّنه قبلَه الحافظ أبو بكر ابن السمعاني في " أماليه ". وقد رُويَ معنى هذا الحديث مرفوعاً من وجوه أُخر ، خرَّجه البزار في " مسنده " والحاكم من حديث أبي الدرداء ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ما أحلَّ الله في كتابه فهو حلالٌ ، وما حرَّم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو ، فاقبلوا منَ الله عافيتَهُ ، فإنَّ الله لم يكن لينسى شيئاً ) ثم تلا هذه الآية : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً }، وقال الحاكم : صحيح الإسناد ، وقال البزار : إسناده صالح . وخرَّجه الطبراني والدارقطني من وجه آخر ، عن أبي الدرداء ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بمثل حديث أبي ثعلبة ، وقال في آخره : ( رحمة من الله ، فاقبلوها ) ، ولكن إسناده ضعيف. وخرَّج الترمذي، وابن ماجه من رواية سيف بن هارون ، عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان ، عن سلمان قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَنِ السَّمن والجُبن والفراء ، فقال : ( الحلالُ ما أحلَّ الله في كتابه ، والحرامُ ما حرَّمَ الله في كتابه ، وما سكت عنه ، فهو مما عفا عنه ). وقال الترمذي : رواه سفيان - يعني : ابن عيينة - عن سليمان ، عن أبي عثمان ، عن سلمان من قوله ، قال : وكأنَّه أصحُّ . وذكر في كتاب " العلل " عن البخاري : أنَّه قال في الحديث المرفوع : ما أراه محفوظاً ، وقال أحمد : هو منكر ، وأنكره ابنُ معين أيضاً ، وقال أبو حاتم الرازي : هو خطأ ، رواه الثقات عن التيمي ، عن أبي عثمان ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً ، ليس فيه سلمان. قلت : وقد روي عن سلمان من قوله من وجوه أخر. وخرَّجه ابن عدي من حديث ابن عمر مرفوعاً وضعَّف إسناده. ورواه أبو صالح المري ، عن الجُريري ، عن أبي عثمان النهدي ، عن عائشة مرفوعاً ، وأخطأ في إسناده . وروي عن الحسن مرسلاً. وخرَّج أبو داود من حديث ابن عباس قال : كان أهلُ الجاهلية يأكلون أشياء ، ويتركون أشياء تقذراً ، فبعث الله نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - ، وأنزل كتابه ، وأحلَّ حلاله ، وحرَّم حرامه ، فما أحلَّ فهو حلال ، وما حرَّم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو ، وتلا : { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً }، وهذا موقوف. وقال عُبيد بن عمير : إنَّ الله - عز وجل - أحلَّ حلالاً وحرَّم حراماً ، وما أحلَّ فهو حلال ، وما حرَّم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفوٌ. فحديث أبي ثعلبة قسَّم فيه أحكام الله أربعةَ أقسام : فرائض ، ومحارم ، وحدود ، ومسكوت عنه ، وذلك يجمع أحكامَ الدين كلَّها. قال أبو بكر بن السَّمعاني : هذا الحديثُ أصلٌ كبيرٌ من أصولِ الدِّين ، قال : وحُكي عن بعضهم أنّه قال : ليس في أحاديث رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حديثٌ واحدٌ أجمع بانفراده لأصولِ العلم وفروعه من حديث أبي ثعلبة، قال: وحُكي عن أبي واثلة المزني أنَّه قال : جَمَعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الدِّين في أربعِ كلماتٍ ، ثم ذكر حديثَ أبي ثعلبة. قال ابنُ السَّمعاني : فمن عمِلَ بهذا الحديث ، فقد حاز الثَّواب ، وأمِنَ العقابَ ؛ لأنَّ من أدَّى الفرائضَ ، واجتنب المحارم ، ووقف عندَ الحدودِ ، وترك البحث عمَّا غاب عنه ، فقد استوفى أقسامَ الفضل ، وأوفى حقوق الدِّين ؛ لأنَّ الشرائع لا تخرُج عَنْ هذه الأنواع المذكورة في هذا الحديث . انتهى. فأما الفرائض ، فما فرضه الله على عباده وألزمهم القيام به ، كالصلاة والزكاة والصيام والحجِّ. وقد اختلفَ العلماء : هل الواجبُ والفرضُ بمعنى واحد أم لا ؟ فمنهم من قال : هما سواء ، وكلُّ واجب بدليلٍ شرعي من كتابٍ ، أو سنةٍ ، أو إجماعٍ ، أو غير ذلك من أدلة الشرع ، فهو فرضٌ ، وهو المشهور عن أصحاب الشَّافعي وغيرهم، وحُكي رواية عن أحمد ؛ لأنَّه قال : كلُّ ما في الصلاة فهو فرضٌ. ومنهم من قال : بل الفرضُ ما ثبتَ بدليلٍ مقطوعٍ به، والواجبُ ما ثبت بغير مقطوع به ، وهو قولُ الحنفيَّةِ وغيرهم. وأكثرُ النُّصوص عن أحمد تُفرِّق بين الفرض والواجب، فنقل جماعةٌ مِنْ أصحابه عنه أنَّه قال : لا يُسمَّى فرضاً إلا ما كان في كتاب الله تعالى ، وقال في صدقة الفطر : ما أجترئ أنْ أقول : إنَّها فرضٌ، مع أنَّه يقول بوجوبها ، فمِنْ أصحابنا مَنْ قال : مراده أنَّ الفرض : ما ثبت بالكتاب ، والواجب : ما ثبت بالسنَّة ، ومنهم من قال : أراد أنَّ الفرض : ما ثبت بالاستفاضة والنَّقل المتواتر ، والواجب : ما ثبت مِنْ جهة الاجتهاد ، وساغ الخلافُ في وجوبه. ويُشْكِلُ على هذا أنَّ أحمد قال في رواية الميموني في برِّ الوالدين : ليس بفرضٍ ، ولكن أقولُ : واجبٌ ما لم يكن معصية ، وبرُّ الوالدين مجمَعٌ على وجوبه ، وقد كثُرتِ الأوامرُ به في الكتاب والسُّنَّة ، فظاهرُ هذا أنَّه لا يقول : فرضاً إلاَّ ما ورد في الكتاب والسُّنة تسميته فرضاً. وقد اختلفَ السَّلفُ في الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر : هل يُسمَّى فريضةً أم لا ؟ فقالَ جويبر ، عن الضحاك : هما مِنْ فرائض الله - عز وجل - ، وكذا رُوي عَنْ مالك. وروى عبدُ الواحد بن زيد ، عن الحسن ، قال : ليس بفريضةٍ ، كان فريضةً على بني إسرائيل ، فرحم الله هذه الأمة لِضعفهم ، فجعله عليهم نافلة. وكتب عبدُ الله بن شبرمة إلى عمرو بن عُبيد أبياتاً مشهورةً أولها : الأَمْرُ بالمعروفِ يا عمرو نافِلَةٌ ● والقَائِمونَ بهِ لله أنْصارُ واختلف كلامُ أحمد فيه : هل يُسمَّى واجباً أم لا ؟ فروى عنه جماعةٌ ما يدلُّ على وجوبه ، وروى عنه أبو داود في الرجل يرى الطُّنبورَ ونحوَه : أواجبٌ عليه تغييره ؟ قال : ما أدري ما واجب إن غيَّر ، فهو فضل. وقال إسحاق بن راهويه : هو واجبٌ على كلِّ مسلمٍ ، إلاَّ أنْ يخشى على نفسه ، ولعلَّ أحمد يتوقَّفُ في إطلاقه الواجب على ما ليس بواجبٍ على الأعيان ، بل على الكفاية. وقد اختلف العلماءُ في الجهاد : هل هو واجبٌ أم لا ؟ فأنكر جماعةٌ منهم وجوبَه، منهم : عطاء، وعمرو بنُ دينار، وابنُ شبرمة، ولعلَّهم أرادوا هذا المعنى ، وقالت طائفة : هوَ واجبٌ ، منهم : سعيدُ بن المسيّب، ومكحولٌ ، ولعلَّهما أرادا وجوبَه على الكفاية. وقال أحمد في رواية حَنْبل : الغزوُ واجبٌ على النَّاس كلِّهم كوجوبِ الحجِّ ، فإذا غزا بعضهم أجزأ عنهم ، ولابدَّ للناس من الغزو. وسأله المروذي عن الجهاد : أفرضٌ هو ؟ قالَ : قد اختلفوا فيهِ ، وليس هوَ مثلَ الحجِّ ، ومرادُه : أنَّ الحجَّ لا يسقطُ عمَّن لم يحجَّ مع الاستطاعة بحجِّ غيره ، بخلاف الجهاد. وسُئِلَ عن النَّفير : متى يجب ؟ فقال : أما إيجابٌ فلا أدري ، ولكن إذا خافوا على أنفسهم ، فعليهم أنْ يخرُجوا . وظاهر هذا التوقُّف في إطلاق لفظ الواجب على ما لم يأت فيه لفظُ الإيجاب تورُّعاً ، ولذلك توقَّف في إطلاق لفظ الحرام على ما اختُلِفَ فيه ، وتعارضت أدلتُه من نصوص الكتاب أو السنة ، فقال في متعة النساء : لا أقولُ : هي حرامٌ ، ولكن يُنهى عنه ، ولم يتوقَّف في معنى التحريم ، ولكن في إطلاق لفظه ؛ لاختلاف النصوص والصحابةِ فيها ، هذا هو الصحيح في تفسير كلام أحمد. وقال في الجمع بين الأختين بملك اليمين : لا أقولُ : حرام ، ولكن يُنهى عنه، والصَّحيح في تفسيره أنه توقَّف في إطلاق لفظة الحرام دون معناها ، وهذا كله على سبيل الورع في الكلام ؛ حذراً من الدُّخول تحت قوله تعالى : { وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ }. قال الربيعُ بن خثيم : ليتق أحدُكم أنْ يقولَ : أحلَّ الله كذا ، وحرَّم كذا ، فيقولُ الله : كذبتَ ، لم أُحِلَّ كذا ولم أحرِّم كذا. وقال ابنُ وهب : سمعتُ مالك بنَ أنس يقول : أدركت علماءنا يقول أحدهم إذا سئل : أكره هذا ، ولا أحبُّه ، ولا يقول : حلال ولا حرام. وأما ما حُكي عن أحمد أنَّه قال : كلُّ ما في الصلاة فهو فرض ، فليس كلامه كذلك وإنَّما نقل عنه ابنُه عبد الله أنَّه قال : كلُّ شيءٍ في الصلاة مما وكَّده الله ، فهو فرض ، وهذا يعود إلى معنى قوله : إنَّه لا فرض إلاّ ما في القرآن والذي وكّده الله من أمر الصلاة القيامُ والقراءة والركوع والسجود ، وإنَّما قال أحمد هذا ؛ لأنَّ بعضَ النَّاس كان يقول : الصَّلاةُ فرضٌ ، و الرُّكوع والسجود لا أقول : إنَّه فرضٌ ، ولكنه سنَّةٌ . وقد سُئِلَ مالك بنُ أنس عمن يقول ذلك ، فكفَّره ، فقيل له : إنَّه يتأوَّل ، فلعنه ، وقال : لقد قال قولاً عظيماً . وقد نقله أبو بكر النَّيسابوري في كتاب " مناقب مالك " من وجوه عنه. وروى أيضاً بإسناده عن عبد الله بن عمرو بن ميمون بن الرماح ، قال : دخلتُ على مالكِ بن أنسٍ ، فقلت : يا أبا عبد الله ، ما في الصَّلاة من فريضةٍ وما فيها من سنةٍ ، أو قال : نافلة ؟ فقال مالك : كلامُ الزنادقة ، أخرِجوه. ونقل إسحاق بن منصور ، عن إسحاق بن راهويه : أنَّه أنكر تقسيمَ أجزاءِ الصَّلاة إلى سنَّةٍ وواجب ، فقال : كلُّ ما في الصَّلاة ، فهو واجبٌ ، وأشار إلى أنَّ منه ما تُعادُ الصَّلاةُ بتركه ، ومنه لا تعاد . وسببُ هذا - والله أعلم - أنَّ التعبير بلفظ السُّنَّة قد يُفضي إلى التَّهاونِ بفعل ذلك ، وإلى الزُّهد فيه وتركه ، وهذا خلافُ مقصودِ الشارع مِنَ الحثِّ عليه ، والتَّرغيب فيه بالطُّرق المؤدِّيةِ إلى فعله وتحصيله ، فإطلاقُ لفظ الواجب أَدْعى إلى الإتيان به ، والرغبة فيه. وقد ورد إطلاقُ الواجب في كلام الشَّارع على ما لا يأثمُ بتركه ، ولا يُعاقب عليه عندَ الأكثرين، كغُسلِ الجمعة ، وكذلك ليلة الضَّيفِ عندَ كثيرٍ من العلماء أو أكثرهم ، وإنَّما المرادُ به المبالغةُ في الحثِّ على فعله وتأكيده . وأمَّا المحارم : فهي التي حماها الله تعالى ، ومنع من قُربانها وارتكابها وانتهاكها. والمحرَّمات المقطوعُ بها مذكورة في الكتاب والسنة ، كقوله تعالى : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ } إلى آخر الآيات الثلاثة ، وقوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ }. وقد ذكر في بعض الآيات المحرَّمات المختصة بنوع من الأنواع كما ذكر المحرّمات من المطاعم في مواضع ، منها قولُه تعالى : { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ }، وقوله : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله } وفي الآية الأخرى : { وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِه }، وقوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ }. وذكر المحرَّمات في النكاح في قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ }. وذكر المحرَّمات من المكاسب في قوله : { وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا }. وأما السُّنة ، ففيها ذكر كثيرٍ من المحرَّمات ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ الله حرَّم بَيْعَ الخمر والميتة والخنْزير والأصنام ). وقوله: ( إنَّ الله إذا حرَّم شيئاً حرَّم ثمنه ). وقوله : ( كلُّ مسكرٍ حرام ). وقوله : ( إنَّ دماءكم وأموالَكم وأعراضكم عليكم حرام ). فما ورد التَّصريحُ بتحريمه في الكتاب والسنة ، فهو محرّم. وقد يستفادُ التحريمُ من النَّهي مع الوعيد والتَّشديدِ ، كما في قوله - عز وجل - : { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ }. وأما النهي المجرد ، فقد اختلفَ الناسُ : هل يُستفاد منه التَّحريمُ أم لا ؟ وقد روي عن ابن عمر إنكارُ استفادة التحريم منه . قالَ ابنُ المبارك : أخبرنا سلاَّمُ بن أبي مطيع ، عن ابن أبي دخيلةَ ، عن أبيه ، قالَ : كنتُ عندَ ابن عمر ، فقالَ : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الزَّبيب والتَّمر ، يعني : أنْ يُخلطا ، فقال لي رجل من خلفي : ما قال ؟ فقلتُ: حرَّم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الزبيب والتمر ، فقال عبد الله بنُ عمر : كذبتَ ، فقلتُ : ألم تقل : نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عنه ، فهو حرامٌ ؟ فقال : أنت تشهد بذاك ؟ قال سلاَّم : كأنه يقول : من نهي النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ما هو أدب. وقد ذكرنا فيما تقدم عن العلماء الورعين كأحمد ومالك توقِّي إطلاق لفظ الحرام على ما لم يتيقن تحريمُه ممَّا فيه نوعُ شبهةٍ أو اختلاف. وقال النَّخعي : كانوا يكرهون أشياء لا يُحرمونها ، وقال ابنُ عون : قال لي مكحول : ما تقولون في الفاكهة تُلقى بين القَوم فينتهبونها ؟ قلتُ : إنَّ ذَلِكَ عندنا لمكروهٌ ، قال : حرام هي ؟ قلت : إنَّ ذلك عندنا لمكروه ، قال : حرام هي ؟ قال ابن عون : فاستجفينا ذلك مِنْ قول مكحول. وقال جعفر بن محمد : سمعت رجلاً يسأل القاسم بن محمد : الغناءُ أحرامٌ هو ؟ فسكت عنه القاسمُ ، ثم عاد ، فسكت عنه ، ثم عاد ، فقال له : إنَّ الحرام ما حُرِّم في القرآن ؟ أرأيت إذا أتي بالحقِّ والباطل إلى الله ، في أيهما يكونُ الغناء ؟ فقال الرجل : في الباطل ، فقال : فأنت ، فأفتِ نفسكَ. قال عبد الله بن الإمام أحمد : سمعتُ أبي يقول : أما ما نهى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، فمنها أشياء حرامٌ ، مثل قوله : ( نهى أنْ تُنكحَ المرأةُ على عمَّتها ، أو على خالتها )، فهذا حرام ، ونهى عن جلودِ السِّباع، فهذا حرامٌ ، وذكر أشياء من نحو هذا. ومنها أشياء نهى عنها ، فهي أدبٌ. وأما حدودُ الله التي نهى عن اعتدائها ، فالمرادُ بها جملة ما أَذِنَ في فعله ، سواء كان على طريقِ الوجوبِ ، أو الندب ، أو الإباحة ، واعتداؤها : هو تجاوزُ ذلك إلى ارتكاب ما نهى عنه ، كما قال تعالى : { وتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } والمراد : من طلَّقَ على غير ما أمرَ الله به وأذن فيه ، وقال تعالى : { تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }، والمراد : من أمسك بعد أنْ طلَّق بغير معروف ، أو سرَّح بغير إحسانٍ ، أو أخذ ممَّا أعطى المرأة شيئاً على غير وجه الفدية التي أذِنَ الله فيها. وقال تعالى : { تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ } إلى قوله : { وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ }، والمراد : من تجاوز ما فرضه الله للورثة ، ففضَّلَ وارثاً ، وزاد على حقه ، أو نقصه منه ، ولهذا قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في خطبته في حجَّة الوداع : ( إنَّ الله قد أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه فلا وصية لوارث ). وروى النَّوَّاس بنُ سمعان ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً ، وعلى جَنَبَتيِّ الصِّراط سوران فيهما أبواب مفتَّحةٌ ، وعلى الأبواب ستورٌ مرخاة ، وعلى باب الصِّراط داعٍ يقول : يا أيُّها النَّاسُ ، ادخُلوا الصِّراط جميعاً ، ولا تُعرِّجوا، وداعٍ يدعو من جوفِ الصِّراط ، فإذا أراد أنْ يفتحَ شيئاً من تلك الأبواب ، قال : وَيْحَكَ لا تَفتحه ، فإنَّك إنْ تَفتحه تَلِجْه ، والصِّراطُ : الإسلامُ ، والسُّوران : حدودُ الله ، والأبواب المفتَّحةُ : محارمُ الله ، وذلك الداعي على رأس الصِّراط كتاب الله ، والداعي من فوقُ : واعظ الله في قلب كلِّ مسلم ) خرَّجه الإمام أحمد، وهذا لفظه ، والنَّسائي في " تفسيره "، والترمذي وحسنه. فضرب النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مثلَ الإسلام في هذا الحديث بصراطٍ مستقيمٍ ، وهو الطريقُ السَّهلُ الواسعُ ، الموصلُ سالكَه إلى مطلوبه ، وهو - مع هذا - مستقيمٌ ، لا عوَجَ فيه ، فيقتضي ذلك قربَه وسهولته ، وعلى جنبتي الصِّراط يمنة ويَسرة سوران ، وهما حدودُ الله ، وكما أنَّ السُّورَ يمنع من كان داخله مِن تعدِّيه ومجاوزته ، فكذلك الإسلامُ يمنع من دخله من الخُروج عن حدوده ومجاوزتها ، وليس وراءَ ما حدَّ الله من المأذونِ فيه إلاَّ ما نهى عنه ، ولهذا مدح سبحانه الحافظينَ لحدوده ، وذمَّ من لا يعرف حدَّ الحلال من الحرام ، كما قال تعالى : { الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ }. وقد تقدَّم حديث القرآن وأنَّه يقول لمن عمل به : حَفِظَ حدودي ، ولمن لم يعمل به : تعدَّى حدودي. والمراد : أنَّ من لم يُجاوز ما أُذِنَ له فيه إلى ما نُهِي عنه ، فقد حفظ حدودَ الله ، ومن تعدَّى ذلك ، فقد تعدَّى حدود الله. وقد تُطلق الحدودُ ، ويراد بها نفسُ المحارم، وحينئذٍ فيقال : لا تقربوا حدودَ الله ، كما قال تعالى : { تِلْكَ حُدُوْدُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها }، والمراد : النَّهي عن ارتكاب ما نهى عنه في الآية من محظورات الصِّيام والاعتكاف في المساجد ، ومن هذا المعنى - وهو تسميةُ المحارم حدوداً - قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( مَثَلُ القائمِ على حدودِ الله والمُدْهِنِ فيها ، كمثل قوم اقتسموا سفينة ) الحديث المشهور ، وأراد بالقائم على حدود الله : المنكر للمحرَّمات والناهي عنها. وفي حديث ابنِ عباس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إني آخذ بحُجَزِكُم أقول : اتَّقوا النَّارَ ، اتَّقوا الحدودَ ) قالها ثلاثاً ، خرَّجه الطبراني والبزار، وأراد بالحدود محارم الله ومعاصيه ، ومنه قولُ الرجل الذي قال للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : إني أصبتُ حداً فأقمه عليَّ. وقد تُسمى العقوباتُ المقدرة الرادعةُ عن المحارم المغلظة حدوداً ، كما يقال : حدُّ الزنى ، وحدُّ السرقة ، وحدُّ شرب الخمر ، ومنه قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لأسامة : ( أتشفع في حدٍّ من حدود الله ؟ )، يعني : في القطع في السَّرقة . وهذا هو المعروف من اسم الحدود في اصطلاح الفقهاء. وأمَّا قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يُجْلَدُ فَوقَ عشرِ جلدات إلا في حدٍّ مِنْ حُدودِ اللهِ ) فهذا قد اختلف الناسُ في معناه ، فمنهم من فسر الحدود هاهنا بهذه الحدود المقدرة ، وقال : إنَّ التَّعزير لا يُزاد على عشرِ جلدات ، ولا يُزادُ عليها إلاَّ في هذه الحدود المقدَّرة ، ومنهم من فسَّر الحدودَ هاهنا بجنس محارمِ الله ، وقال : المرادُ أنَّ مجاوزة العشر جلداتٍ لا يجوزُ إلا في ارتكاب محرَّم مِنْ محارم الله ، فأمَّا ضربُ التَّأديبِ على غير محرَّمٍ ، فلا يتجاوز به عشر جلدات. وقد حمل بعضُهم قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وحدَّ حُدُوداً فلا تعتدوها ) على هذه العقوبات الزَّاجرة عَنِ المحرَّمات ، وقال : المراد النَّهيُ عن تجاوُزِ هذه الحدود وتعديها عند إقامتها على أهل الجرائم . ورجَّح ذلك بأنَّه لو كان المراد بالحدود الوقوف عند الأوامر والنَّواهي لكان تكريراً لقوله : ( فرض فرائضَ فلا تُضيِّعُوها ، وحرَّم أشياء ، فلا تنتهكوها ) وليس الأمر على ما قاله ، فإنَّ الوقوفَ عندَ الحُدودِ يقتضي أنَّه لا يخرج عمَّا أذِنَ فيه إلى ما نهى عنه، وذلك أعمُّ من كونِ المأذون فيه فرضاً ، أو ندباً ، أو مباحاً كما تقدَّم ، وحينئذٍ فلا تكريرَ في هذا الحديث ، والله أعلم. وأمَّا المسكوتُ عنه ، فهو ما لم يُذكَرْ حكمُه بتحليلٍ ، ولا إيجابٍ ، ولا تحريمٍ ، فيكون معفوَّاً عنه ، لا حرجَ على فاعلِهِ ، وعلى هذا دلَّت هذه الأحاديثُ المذكورة هاهنا ، كحديث أبي ثعلبة وغيره. وقد اختلفت ألفاظُ حديث أبي ثعلبة ، فروي باللفظ المتقدِّم ، ورُوي بلفظ آخر، وهو : ( إنَّ الله فَرضَ فرائضَ فلا تُضيِّعُوها، ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها ، وعفا عن أشياء من غير نسيانٍ فلا تبحثوا عنها ) خرَّجه إسحاق بنُ راهويه . ورُوي بلفظ آخر وهو : ( إنَّ الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، وسنَّ لكم سنناً فلا تنتهكوها ، وحرَّم عليكم أشياء فلا تعتدوها ، وترك بين ذلك أشياء من غير نسيان رحمة منه فاقبلوها ولا تبحثوا عنها ) خرَّجه الطبراني. وهذه الرواية تبيِّنُ أنَّ المعفوَّ عنه ما تُرِكَ ذكرُه ، فلم يحرَّم ولم يُحلَّل. ولكن مما ينبغي أنْ يعلم : أنَّ ذكرَ الشيءِ بالتَّحريم والتَّحليل مما قد يخفى فهمُه مِنْ نُصوص الكتاب والسُّنة ، فإنَّ دلالة هذه النُّصوص قد تكونُ بطريق النَّصِّ والتَّصريح ، وقد تكونُ بطريق العُموم والشُّمول ، وقد تكون دِلالتُه بطريق الفحوى والتنبيه ، كما في قوله تعالى : { فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ }، فإنَّ دخُولَ ما هو أعظمُ من التَّأفيف مِنْ أنواع الأذى يكونُ بطريق الأولى ، ويُسمَّى ذلك مفهومَ الموافقةِ. وقد تكونُ دلالته بطريقِ مفهومِ المخالفة ، كقوله : ( في الغنم السَّائمة الزكاة ) فإنَّه يدلُّ بمفهومه على أنَّه لا زَكاةَ في غير السَّائمة ، وقد أخذ الأكثرون بذلك ، واعتبروا مفهوم المخالفة ، وجعلوه حجَّةً. وقد تكونُ دلالته مِنْ باب القياس ، فإذا نصَّ الشَّارع على حُكم في شيءٍ لمعنى من المعاني ، وكان ذلك المعنى موجوداً في غيره ، فإنَّه يتعدَّى الحكمُ إلى كلِّ ما وجد في ذلك المعنى عندَ جمهور العلماء ، وهو من باب العدل والميزان الذي أنزله الله، وأمر بالاعتبار به ، فهذا كلُّه ممَّا يعرَفُ به دلالة النُّصوص على التَّحليل والتَّحريم . فأمَّا ما انتفى فيه ذلك كلُّه ، فهُنا يُستدلُّ بعدم ذكره بإيجابٍ أو تحريمٍ على أنَّه معفوٌّ عنه ، وهاهنا مسلكان: أحدهما: أنْ يُقال : لا إيجابَ ولا تحريمَ إلاَّ بالشَّرع ، ولم يوجب الشَّرعُ كذا ، أو لم يحرِّمه ، فيكونُ غيرَ واجبٍ ، أو غير حرامٍ ، كما يقال مثلُ هذا في الاستدلال على نفي وجوب الوتر والأُضحية ، أو نفي تحريم الضَّبِّ ونحوه ، أو نفي تحريم بعض العُقود المختلف فيها ، كالمساقاة والمزارعة ونحو ذلك ، ويرجعُ هذا إلى استصحاب براءةِ الذِّمَّةِ حيث لم يُوجَدْ ما يدلُّ على اشتغالها ، ولا يصْلُحُ هذا الاستدلالُ إلاَّ لمن عرف أنواعَ أدلَّة الشَّرع وسبرَهَا ، فإنْ قطع - مع ذلك - بانتفاء ما يدلُّ على إيجابٍ أو تحريمٍ ، قطع بنفي الوجوب أو التحريم ، كما يقطع بانتفاء فرضية صلاةٍ سادسةٍ ، أو صيام شهر غير شهر رمضان ، أو وجوب الزَّكاة في غير الأموال الزَّكويَّة ، أو حَجَّةٍ غير حجَّةِ الإسلام ، وإنْ كان هذا كلُّه يستدلُّ عليه بنصوصٍ مصرِّحةٍ بذلك ، وإنْ ظنَّ انتفاء ما يدلُّ على إيجابٍ أو تحريمٍ ، ظنَّ انتفاء الوجوب والتحريم من غير قطع. والمسلك الثاني : أنْ يذكر مِنْ أدلَّة الشَّرع العامة ما يدلُّ على أنَّ ما لم يوجبه الشَّرع ، ولم يحرِّمه ، فإنَّه معفوٌّ عنه ، كحديث أبي ثعلبة هذا وما في معناه من الأحاديث المذكورة معه ، ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم - لمَّا سُئلَ عنِ الحجِّ أفي كلِّ عام ؟ فقال : ( ذروني ما تركتُكم ، فإنَّما هلك مَنْ كان قَبلَكم بكثرةِ سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتُكم عن شيءٍ ، فاجتنبوه ، وإذا أمرتُكم بأمرٍ ، فأتوا منه ما استطعتم ). ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث سعد بن أبي وقَّاص : ( إنَّ أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيءٍ لم يحرَّم ، فحرِّم من أجل مسألته ). وقد دلَّ القرآنُ على مثلِ هذا أيضاً في مواضعَ ، كقوله - عز وجل - : { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً }، فإنّ هذا يدلُّ على أنّ ما لم يجِد تحريمه ، فليس بمحرَّمٍ ، وكذلك قوله : { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ }، فعنفهم على تركِ الأكل ممّا ذُكِرَ اسمُ الله عليه ، معلِّلاً بأنَّه قد بيَّن لهمُ الحرامَ ، وهذا ليس منه ، فدلَّ على أنَّ الأشياء على الإباحة ، وإلاَّ لمَا أَلحَقَ اللَّومَ بمن امتنع من الأكل ممَّا لم ينصَّ له على حِلِّه بمجرَّد كونه لم ينصَّ على تحريمه. واعلم أنَّ هذه المسألة غيرُ مسألةِ حُكم الأعيان قبل وُرود الشَّرع : هل هو الحظرُ أو الإباحة ، أو لا حُكم فيها ؟ فإنَّ تلك المسألة مفروضةٌ فيما قبل وُرودِ الشَّرع، فأمَّا بعد وُروده فقد دلت هذه النُّصوصُ وأشباهُها على أنَّ حكم ذلك الأصل زال واستقرَّ أنَّ الأصل في الأشياء الإباحة بأدلَّة الشَّرع . وقد حكى بعضُهم الإجماع على ذلك ، وغلَّطوا من سوَّى بين المسألتين ، وجعل حكمهما واحداً. وكلام الإمام أحمد يدلُّ على أنَّ ما لا يدخل في نصوص التَّحريم ، فإنَّه معفوٌّ عنه. قال أبو الحارث : قلت لأبي عبد الله - يعني : أحمد - : إنَّ أصحاب الطَّير يذبَحُون مِنَ الطير شيئاً لا نعرفه ، فما ترى في أكله ؟ فقال : كل ما لم يكن ذا مِخلَبٍ أو يأكلُ الجِيفَ ، فلا بأس به ، فحصر تحريمَ الطير في ذي المخلب المنصوص عليه ، وما يأكل الجِيفَ ؛ لأنَّه في معنى الغراب المنصوص عليه وحكم بإباحة ما عداهما . وحديث ابن عباس الذي سبق ذكره يدلُّ على مثل هذا ، وحديث سلمان الفارسي فيه النهي عن السؤال عن الجبن والسمن والفراء ، فإنَّ الجبن كان يُصنعُ بأرضِ المجوس ونحوهم من الكُفَّارِ ، وكذلك السَّمن ، وكذلك الفراء تُجلب من عندِهم ، وذبائحهم ميتةٌ ، وهذا مما يستدلُّ به على إباحة لبن الميتة وأنفحتها ، وعلى إباحة أطعمة المجوس ، وفي ذلك كُلِّه خلافٌ مشهورٌ ، ويُحملُ على أنَّه إذا اشتبه الأمرُ ، لم يجبِ السُّؤالُ والبحثُ عنه ، كما قال ابن عمر لمَّا سُئل عن الجُبن الذي يصنعه المجوسُ ، فقال : ما وجدته في سوق المسلمين اشتريتُه ولم أسأل عنه، وذكر عندَ عمر الجبن وقيل له : إنَّه يُصنع بأنافح الميتة ، فقال : سموا الله وكلوا. قال الإمام أحمد: أصحُّ حديث فيه هذا الحديث ، يعني : جبن المجوس. وقد رُوي من حديث ابن عباس : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُتي بجبنة في غزوة الطَّائِفِ، فقال : ( أين تُصنَعُ هذه ؟ ) قالوا : بفارس ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : ( ضعوا فيها السِّكِّينَ واقطعوا ، واذكروا اسمَ الله وكلوا ) خرَّجه الإمام أحمد، وسئل عنه ، فقال : هو حديث منكرٌ ، وكذا قال أبو حاتم الرازي. وخرَّج أبو داود معناه من حديث ابن عمر ، إلاَّ أنَّه قال : في غزوة تبوك ، وقال أبو حاتم : هو منكر أيضاً . وخرَّجه عبد الرزاق في " كتابه " مرسلاً ، وهو أشبه ، وعنده زيادة ، وهي : أنَّه قيل له : يا رسول الله ، نخشى أنْ تكونَ ميتة ؟ قال : ( سمُّوا عليه وكُلوه ). وخرَّج الطبراني معناه من حديث ميمونة ، وإسناده جيِّد ، لكنه غريب جداً. وفي " صحيح البخاري " عن عائشة : أنَّ قوماً قالوا للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : إنَّ قوماً يأتوننا باللَّحم ، لا ندري أَذُكِرَ اسمُ الله عليه أم لا ؟ فقال : ( سمُّوا عليه أنتم وكلوا ) قالت : وكانوا حديثي عهدٍ بالكُفر. وفي " مسند الإمام أحمد " عن الحسن : أنَّ عمر أراد أنْ ينهى عن حُلَلِ الحِبَرَةِ ؛ لأنَّها تُصبَغُ بالبَوْلِ ، فقال له أُبيٌّ : ليس ذلك لك ، قد لبسهنَّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ولبسناهنَّ في عهده ، وخرَّجه الخلاَّل من وجه آخر وعنده : إنَّ أُبَيّاً قال له : يا أمير المؤمنين ، قد لبسها نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - ، ورأى اللهُ مكانها ، ولو علم اللهُ أنَّها حرامٌ ، لنهى عنها ، فقال : صدقت. وسئل الإمام أحمد عن لبس ما يَصبغُه أهلُ الكتاب من غير غسلٍ ، فقال : لم تسأل عمَّا لا تعلم ، لم يزلِ النَّاسُ منذ أدركناهم لا يُنكرون ذلك . وسئِلَ عن يهود يَصبغُون بالبول ، فقال : المسلم والكافرُ في هذا سواء ، ولا تسأل عن هذا ، ولا تبحث عنه ، وقال : إذا علمت أنَّه لا محالةَ يصبغ بشيءٍ مِنَ البولِ ، وصحَّ عندكَ ، فلا تصلِّ فيه حتّى تغسله. وخرَّج من حديث المغيرة بن شعبة : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُهدي إليه خُفَّان ، فلبسهما ولا يعلم أذكيٌّ هما أم لا. وقد ورد ما يستدلُّ به على البحث والسؤال ، فخرَّج الإمام أحمد من حديث رجلٍ عن أمِّ مسلمٍ الأشجعية : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أتاها وهي في قبَّةٍ فقال : ( ما أحسنها إنْ لم يكن فيها ميتةٌ ) ، قالت : فجعلت أتتبعها . والرجل مجهول. وخرَّج الأثرمُ بإسنادِه عن زيد بن وهب ، قال : أتانا كتابُ عمر بأَذربيجان : إنَّكم بأرضٍ فيها الميتة ، فلا تلبِسُوا مِنَ الفراء حتّى تعلموا حِلَّه من حرامه. وروى الخلال بإسناده عن مجاهد : أنَّ ابن عمر رأى على رجل فرواً ، فمسَّه وقال : لو أعلم أنَّه ذُكِّيَ ، لسرَّني أنْ يكون لي منه ثوب. وعن محمد بن كعب أنَّه قال لعائشة : ما يمنعك أنْ تتخذي لحافاً من الفراء ؟ قالت : أكره أنْ ألبس الميتة. وروى عبد الرزاق بإسناده عن ابن مسعود : أنَّه قال لمن نزلَ من المسلمين بفارس : إذا اشتريتُم لحماً فسلوا ، إنْ كان ذبيحةَ يهودي أو نصراني فكُلوا ، وهذا لأنَّ الغالب على أهل فارس المجوس وذبائحُهم محرَّمةٌ. والخلاف في هذا يُشبه الخلاف في إباحة طعام من لا تُباح ذبيحته من الكفَّار ، وفي استعمال أواني المشركين وثيابهم ، والخلاف فيها يرجعُ إلى قاعدةِ تعارُض الأصل والظاهر ، وقد سبق ذكرُ ذلك في الكلام على حديث : ( الحلال بيِّن والحرام بيِّن ، وبينهما أمورٌ مشتبهات ). وقوله في الأشياء التي سكت عنها : ( رحمة من غير نسيان ) يعني : أنَّه إنَّما سكت عن ذكرها رحمةً بعباده ورفقاً ؛ حيث لم يحرِّمْها عليهم حتّى يُعاقبَهم على فعلها ، ولم يُوجِبها عليهم حتّى يعاقبَهم على تركها ، بل جعلها عفواً ، فإنْ فعلوها ، فلا حرجَ عليهم ، وإنْ تركوها فكذلك ، وفي حديث أبي الدرداء : ثم تلا : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } ومثلُه قوله - عز وجل - : { لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى }. وقوله : ( فلا تبحثوا عنها ) يحتمِلُ اختصاص هذا النهي بزمن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنَّ كثرةَ البحث والسؤال عمَّا لم يذكر قد يكونُ سبباً لنزول التَّشديد فيه بإيجابٍ أو تحريمٍ ، وحديث سعد بن أبي وقَّاص يدلُّ على هذا ، فيحتمل أنْ يكون النَّهيُ عامَّاً ، والمروى عن سلمان من قوله يدلُّ على ذلك ، فإنَّ كثرة البحث والسُّؤال عن حكمٍ ما لم يُذكر في الواجبات ولا في المحرمات ، قد يُوجِب اعتقاد تحريمه ، أو إيجابه ؛ لمشابهته لبعضِ الواجبات أو المحرَّمات ، فقَبولُ العافية فيه ، وتركُ البحث والسُّؤالِ عنه خيرٌ ، وقد يدخلُ ذلك في قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( هلك المتنطعون ) ، قالها ثلاثاً . خرَّجه مسلم من حديث ابن مسعود مرفوعاً ، والمتنطع : هو المتعمِّقُ البحَّاث عمَّا لا يعنيه، وهذا قد يتمسَّك به من يتعلَّق بظاهرِ اللَّفظ ، وينفي المعاني والقياس كالظاهرية. والتَّحقيق في هذا المقام - والله أعلم - أنَّ البحث عمَّا لم يُوجَدْ فيه نصٌّ خاصٌّ أو عامٌّ على قسمين: أحدهما : أنْ يبحث عن دخوله في دلالات النُّصوص الصَّحيحة من الفحوى والمفهوم والقياس الظاهر الصَّحيح ، فهذا حقٌّ ، وهو ممَّا يتعيَّنُ فعلُه على المجتهدين في معرفة الأحكام الشرعية. والثاني : أنْ يدقِّق النَّاظِر نظرَه وفكرَه في وُجوهِ الفُروق المستبعدةِ ، فيفرِّق بين متماثلين بمجرَّد فرقٍ لا يظهر له أثرٌ في الشَّرع ، مع وجود الأوصاف المقتضية للجمعِ ، أو يجمع بين متفرِّقين بمجرَّد الأوصاف الطرديَّة التي هي غيرُ مناسبة ، ولا يدلُّ دليلٌ على تأثيرها في الشَّرع ، فهذا النَّظر والبحثُ غيرُ مرضيٍّ ولا محمودٍ ، مع أنَّه قد وقع فيه طوائفٌ مِنَ الفُقَهاءِ ، وإنَّما المحمودُ النَّظرُ الموافقُ لنظرِ الصحابة ومَنْ بعدهُم مِنَ القُرونِ المفضَّلةِ كابنِ عبَّاسٍ ونحوه ، ولعلَّ هذا مرادُ ابن مسعود بقوله : إيَّاكم والتنطُّع ، إياكم والتعمُّق ، وعليكم بالعتيق ، يعني : بما كان عليه الصَّحابة - رضي الله عنهم -. ومن كلام بعض أئمة الشافعية : لا يليقُ بنا أنْ نكتفيَ بالخيالات في الفروق ، كدأبِ أصحاب الرأي ، والسر في تلك أنَّ متعلَّق الأحكام في الحال الظُّنونُ وغلباتُها، فإذا كان اجتماعُ مسألتين أظهرَ في الظنِّ مِنَ افتراقهما ، وجب القضاءُ باجتماعهما ، وإنِ انقدحَ فرقٌ على بعد ، فافهموا ذلك فإنَّه من قواعد الدين . انتهى . ومما يدخل في النَّهي عن التعمُّق والبحث عنه : أمورُ الغيب الخبريّة التي أمر بالإيمان بها، ولم يُبين كيفيتها ، وبعضُها قد لا يكونُ له شاهدٌ في هذا العالم المحسوس ، فالبحث عن كيفيَّة ذلك هو ممَّا لا يعني ، وهو مما يُنهى عنه ، وقد يوجِبُ الحيرة والشَّكَّ ، ويرتقي إلى التَّكذيب. وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا يزال النَّاس يَسألون حتّى يقال : هذا الله خلَقَ الخَلْق ، فمن خلق الله ؟ فمن وجد مِنْ ذَلِكَ شيئاً ، فليقل : آمنت بالله ) ، وفي روايةٍ لهُ : ( لا يزالُ النَّاسُ يسألونَكم عَنِ العِلم ، حتّى يقولوا : هذا الله خلقنا ، فمن خلق الله ؟ ) وفي روايةٍ له أيضاً: ( لَيسألَنَّكُم النَّاسُ عَنْ كلِّ شيءٍ ، حتى يقولوا : الله خلق كلَّ شيءٍ ، فمن خلقه ؟ ). وخرَّجه البخاري، ولفظه : ( يأتي الشيطان أحدَكُم فيقول : من خلق كذا ؟ من خلق كذا ؟ حتى يقول : من خلق ربَّك ؟ فإذا بلغه فليستعذْ بالله ولينتَهِ ). وفي " صحيح مسلم " عن أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( قال الله - عز وجل - : إنَّ أمَّتك لا يزالون يقولون : ما كذا ما كذا ، حتّى يقولوا : هذا الله خلق الخلق ، فمن خلق الله ؟ ) . وخرَّجه البخاري، ولفظه : ( لن يبرحَ الناس يتساءلون : هذا الله خالِقُ كلِّ شيءٍ ، فمن خلق الله ؟ ). قال إسحاق بن راهويه : لا يجوزُ التفكُّر في الخالق ، ويجوز للعباد أن يتفكَّروا في المخلوقين بما سمعوا فيهم ، ولا يزيدون على ذلك ؛ لأنَّهم إنْ فعلوا تاهوا ، قال : وقد قال الله : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ }، فلا يجوز أنْ يقال : كيف تُسبِّحُ القِصَاعُ ، والأَخْوِنَةُ ، والخبزُ المخبوزُ ، والثِّيابُ المنسوجة ؟ وكلُّ هذا قد صحَّ العلم فيهم أنَّهم يسبحون ، فذلك إلى الله أنْ يجعل تسبيحَهم كيف شاء وكما شاء ، وليس للنَّاس أنْ يخوضُوا في ذلك إلاَّ بما علموا ، ولا يتكلَّموا في هذا وشِبْهِهِ إلاَّ بما أخبر الله ، ولا يزيدُوا على ذلك ، فاتَّقوا الله ، ولا تخوضوا في هذه الأشياء المتشابهة ، فإنَّه يُرْديكم الخوض فيه عن سنن الحقِّ . نقل ذلك كلَّه حربٌ ، عن إسحاق - رحمه الله -.
جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي منتدى ميراث الرسول صلى الله عليه وسلم