بسم الله الرحمن الرحيم
شرح إبن دقيق العيد للأربعين النووية
مقدمة المؤلف وشرحها
*************
الحمد لله رب العالمين، قيوم السَّموات والأرضين. مدبر الخلائق أجمعين. باعث الرُّسل- صلواته وسلامه عليهم- إلى المكلفين لهدايتهم وبيان شرائع الدين، بالدلائل القطعية، وواضحات البراهين. أحمده على جميع نعمه. وأسأله المزيد من فضله وكرمه.
وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد القهار. الكريم الغفار وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وحبيبه وخليله أفضل المخلوقين، المكرم بالقرآن العزيز المعجزة المستمرة على تعاقب السنين، وبالسنن المستنيرة للمسترشدين المخصوص بجوامع الكلم وسماحة الدين. صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين وآل كل وسائر الصالحين.
أما بعد ، فقد روينا عن علي بن أبي طالب، وعبد الله ابن مسعود ومعاذ بن جبل، وأبي الدرداء، وابن عمر، وابن عباس، وانس بن مالك وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم من طرق كثيرات بروايات متنوعات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من حفظ على أمتي أربعين حديثاً من أمر دينها بعثه الله يوم القيامة في زمرة الفقهاء والعلماء ) . وفي رواية: ( بعثه الله فقيهاً عالماً ) . وفي رواية أبي الدرداء: ( وكنت له يوم القيامة شافعاً وشهيداً ) . وفي رواية ابن مسعود قيل له: ( أدخل من أي أبواب الجنة شئت ) وفي رواية ابن عمر ( كُتب في زمرة العلماء وحشر في زمرة الشهداء ).
واتفق الحفاظ على أنه حديث ضعيف كثرت طرقه. وقد صنف العلماء رضي الله عنهم في هذا الباب ما لا يحصى من المصنفات فأول من علمته صنّف فيه هو عبد الله بن المبارك، ثم محمد بن أسلم الطوسي العالم الرباني، ثم الحسن بن سفيان النسائي، وأبو بكر الآجرّي، وأبو محمد بن إبراهيم الأصفهاني، والدارقطني، الحاكم، وأبو نعيم، وأبو عبد الرحمن السُّلمي، وأبو سعيد الماليني، وأبو عثمان الصابوني، وعبد الله بن محمد الأنصاري، وأبو بكر البيهقي، وخلائق لا يحصون من المتقدمين والمتأخرين، وقد استخرت الله تعالى في جمع أربعين حديثاً اقتداءً بهؤلاء الأئمة الأعلام وحفاظ الإسلام.
وقد اتفق العلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال. ومع هذا فليس اعتمادي على هذا الحديث، بل على قوله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة: ( ليُبلغ الشاهد منكم الغائب ) . وقوله صلى الله عليه وسلم: ( نضّر الله أمرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها ) .
ثم من العلماء من جمع الأربعين في أصول الدين، وبعضهم في الفروع، وبعضهم في الجهاد، وبعضهم في الزهد، وبعضهم في الآداب، وبعضهم في الخُطب، وكلها مقاصد صالحة رضي الله عن قاصديها.
وقد رأيت جمع أربعين أهم من هذا كله، وهي أربعون حديثاً مشتملة على جميع ذلك، وكل حديث منها قاعدة عظيمة من قواعد الدين قد وصفه العلماء بأن مدار الإسلام عليه، أو هو نصف الإسلام أو ثلثه أو نحو ذلك.
ثم ألتزم في هذه الأربعين أن تكون صحيحة، ومعظمها في صحيحي البخاري ومسلم، وأذكرها محذوفة الأسانيد، ليسهل حفظها، ويعم الانتفاع بها إن شاء الله تعالى، ثم أتبعها بباب في ضبط خفي ألفاظها.
وينبغي لكل راغب في الآخرة أن يعرف هذه الأحاديث، لما اشتملت عليه من المهمات، واحتوت عليه من التنبيه على جميع الطاعات وذلك ظاهر لمن تدبره، وعلى الله اعتمادي، وإليه تفويضي واستنادي وله الحمد والنعمة، وبه التوفيق والعصمة.
شرح ابن دقيق العيد للمقدمة
أي باسم المعبود بحق، الواجب الوجود، المبدع من أثر الكرم والجود أؤلف مستعيناً باسم الله إلخ. والرحمن العام الرحمة لجميع البرية، والرحيم الخاص الرحمة للمؤمنين، وأصل ( الرحمة ) انعطاف القلب والرقة، وهي في حقه سبحانه وتعالى إرادة الخير لمن يستحقها، أو ترك العقوبة لمن يستوجبها.
وافتتح المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه هذا بالتسمية والتحميد تأسياً بالكتاب المجيد، وعملاً بالحديث الصحيح المفيد ( كل أمر ذي بال- أي شأن وحال- لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم، وبالحمد لله، أو بحمد الله أو بذكر الله، فهو أجذم أو أقطع أو أبتر ) روايات متعددة مؤداها أن متروك التسمية قليل البركة، أو مقطوع الزيادة، ورواية ( بذكر الله ) أعم
وأكثر العلماء أجمعوا على أن لفظ الجلالة اسم الله الأعظم، فهو علم على الذات الأقدس المستحق لجميع المحامد. ولذا قال: ( الحمد لله ) أي الثناء الجميل يستحق لله ( رب ) أي مالك، وخالق، ومدبر، وسيد ( العالمين ) جمع عالم- بفتح اللام- وفيه تغليب العاقل على غيره، إذ هو اسم لما سوى الله تعالى، غير أنه لا يطلق على المفرد، فلا يقال: زيد عالم إلا مجازاً، ( قيوم السموات ) معناه القائم بالتدبير والحفظ قال الله تعالى: (إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا) . ( والأرضين ) بفتح الراء وقد تسكن- جمع أرض. ( مدبر الخلائق ) أي مصرف أمور الخلائق، جمع ( خليقة ) بمعنى مخلوقة. إذ هو العالم بعواقب أمورهم. ( باعث ) أي مرسل. وقوله: ( إلى المكلفين ) متعلق بباعث، وجملة الصلاة والسلام معترضة بينهما إنشائية المعنى. أي اللهم صل وسلم، وفي بعض النسخ ( صلاته ) بالإفراد، وهي من مادة الصلة. فهي من العبد: طلب الاتصال والقرب من الله، وصلاتنا على الرسول: طلب الصلة اللائقة والمنحة الإلهية العظيمة له من الله على النعمة التي أسبغها الله علينا بسببه صلى الله عليه وسلم ويقال: إنها من الله الرحمة المقرونة بالتعظيم ( وسلامه ) أي تحيته التي تليق بجنابهم العظيم. وقوله: ( لهدايتهم ) أي دلالتهم الناس على سبيل الهدى متعلق أيضاً بباعث. ( شرائع ) جمع شريعة، من شرع بمعنى: بين، وهي والدين والملة بمعنى واحد وتختص بالاعتبار؛ فالأحكام من حيث إننا ندين، أي ننقل لها، وندان: أي نجاز عليها، دين، ومن حيث أن الملك يمليها للرسول والرسول يميلها علينا: ملة؛ ومن حيث شرعها لنا، أي نصبها وبينها: شرع وشريعة. والدين: وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى ما هو خير لهم بالذات. ( بالدلائل ) متعلق ببيان،جمع دلالة- مثلث الدال بمعنى الدليل، و ( القطعية ) ما تقطع جدال الخصم، لكونها عن الله ( وواضحات البراهين ) من إضافة الصفة للموصوف، أي البراهين الواضحة، وهي الحجج وعطفه على الدلائل من عطف الخاص على العام؛ لأن البرهان لا يكون إلا مركباً من تصديقتين، متى سلما لزمهما لذاتهما قول ثالث، كقولك: العدل متغير، وكل متغير حادث، فإنه ينتج العالم حادث، وأما الدليل فهو ما يلزم من العلم به العلم بشيء آخر. سواء كان مركباً كهذا المثال. أو منفرداً كقولك: هذه المخلوقات دليل على وجود الله تعالى ( أحمده ) أي أثني عليه ثانياً في مقابلة النعم. فأتى بالحمد أولاً في مقابلة الذات الأقدس المتصف بجميل الصفات، وثانياً في مقابلة جميع النعم المتعاقبات، وخص الأول بالجملة الأسمية المفيدة للاستمرار والدوام، والثاني بالجملة الفعلية المفيدة للتجدد والتعاقب، لمناسبة ما يليق بكل مقام. ( المزيد ) أي مزيد النعم، فأل عوض عن المضاف إليه، و( من فضله ) الفضل: هو العطاء عن اختيار. لا عن إيجاب، أي حصول بالطبع، بدون اختيار، كما تقول الحكماء، ولا عن وجوب كما تقول المعتزلة، والكرم إعطاء الكثير لغير علة. ( وأشهد ) أي أتحقق وأذعن ( أن ) أي أنه، فهي مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف ( لا إله ) أي لا معبود بجميع أنواع العبادة بحق ( إلا الله ) برفع لفظ الجلالة، على أنه بدل من الضمير المستتر في خبر ( لا ) المقدر بمستحق الإلهية، ويجوز نصبه على الاستثناء ( الغفار ) من الغفر، أي الستر للعيوب ( محمداً ) هو مشتق من الحمد، لكثرة خصاله المحمودة ( عبده ) قدمه لكونها أشرف المقامات، ولذلك ذكره الله بهذا اللقب في أسنى المقالات ( فقال: سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً ) وقال: ( وأنه لما قام عبد الله يدعوه ) فإن العبد الحقيقي لربه من يكون حراً عن هوى قلبه، والذل والخضوع لغيره، ولذا قيل:
أتمنى على الزمان محـالاً . . . أن ترى مقلتأي طلعة حر
( وحبيبه ) فعيل بمعنى فاعل، وبمعنى مفعول، فهو المحب المحبوب ( وخليله ) من الخلة- بالضم- أي صفاء المودة وتخللها في القلب، كما قيل في ذلك:
قد تخللت مسلك الروح مني . . . وبذا سمي الخليل خـلـيلا
( بالقرآن ) مصدر قرأ بمعنى جمع، لجمعه السور، أو ما في الكتب المنزلة و ( العزيز ) من عز يعز- بكسر العين- إذا لم يكن له نظير؛ أو بضمها إذا غلب، فهو الغالب المعجز لفصحاء العرب بما فيه من البلاغة ( وبالسنن ) أي ما سنه النبي، أي شرعه من الأحكام، فرضاً أو نفلاً، إذ هو المشرع صلى الله عليه وسلم ( للمسترشدين ) أي الطالبين الرشاد، وهو ضد الغي. ( بجوامع الكلم ) أي بالكلم الجوامع، بمعنى أنه يجمع المعاني الكثيرة في اللفظ القليل ( وسماحة الدين ) أي سهولته، قال الله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) بخلاف الأمم السابقين، فإن بعضهم لم تكن تقبل توبته إلا بقتل النفس، كما قال الله تعالى عن قوم موسى: (فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم) . ( صلوات الله ) إلخ أتى بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم امتثالاً لما في الكتاب العزيز ( وعلى سائر ) أي باقي أو جميع، الأول من السؤر بالهمزة، بمعنى البقية من الماء ونحوه. والثاني من سور المدينة المحيط بها، وفي مسند الإمام أحمد 0 أن عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، والرسل منهم ثلاثمائة وخمسة عشر، وكل أسمائهم وذواتهم أعجمية، إلا محمداً، وهوداً، وصالحاً، وشعيباً، فأسماؤهم وذواتهم عربية،وأما إسماعيل فذاته عربية، واسمه أعجمي، ولا يجب الإيمان نفصيلاً إلا بخمسة وعشرين من الأنبياء المرسلين، وهم المذكورون في سورة الأنعام في قوله تعالى: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه) الأيات، كما جمعهم بعضهم في قوله:
حتم على كل ذي التكليف معرفة . . . بأنبياء على التفصيل قد علمـوا
في ( تلك حجتنا ) منهم ثـمـانـية . . . من بعد عشر؛ويبقى سبعة وهم
إدريس هود شعيب صالح. وكذا . . . ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا
وأولوا العزم منهم مجموعون في قول بعضهم:
محمد إبراهيم موسى كلـيمـه . . . فعيسى فنوح أولوا العزم فاعلم
وهم في الفضل على هذا الترتيب ( وآل كل ) أي كل واحد من النبيين. والمرسلين. أي أقاربه المؤمنين به. والمراد هنا كل مؤمن. لأنه الأنسب بمقام الدعاء ( وسائر الصالحين ) أي القائمين بحقوق الله وحقوق عباده. فدخل الصحابة وغيرهم ممن اتصف بذلك. ( روينا )بصيغة المعلوم. أي نقلنا عن غيرنا. وجملة- أن رسول الله- إلخ مفعولة. ( وأبي هريرة ) تصغير ( هرة ) كناه النبي صلى الله عليه وسلم بذلك حين رآه حاملاً لها في كمه. ( من طرق كثيرات ) متعلق بروينا ( بروايات متنوعات ) أي مختلفة الألفاظ. ( من حفظ ) أي نقل. وإن لم يحفظ اللفظ، ولم يعرف المعنى، إذ به يحصل الانتفاع للمسلمين بخلاف حفظ ما لم ينقل إليهم، كذا نقل عن المصنف. ( على أمتي ) أي لأجلها، شفقة عليها، فعلى: بمعنى اللام؛ والأمة جمع ممن لهم جامع، من دين أو زمان أو مكان، والمراد هنا أمة الإجابة لا الدعوة. ( من أمر دينها ) أي مما يتعلق بأمر دينها أصولاً وفروعاً. ( في زمرة ) أي جماعة، و ( العلماء ) عطف عام، لتخصيص الفقهاء بالفروع الفقهية، و ( شهيداً ) أي شاهداً له بالكمال، و "الشهداء" جمع شهيد، أي قتيل المعركة، التي شهد الله وملائكته له بالجنة، ويجمع بين هذه الروايات بأن حفاظ الأربعين مختلفوا المراتب، فمنهم من يحشر في زمرة الشهداء، ومنهم من يحشر في زمرة العلماء، ومنهم من يبعث فقيهاً عالماً، وإن لم يكن في الدنيا كذلك، ومنهم غير ذلك.
والحكمة في تخصيص عدد الأربعين: أنه أول عدد له ربع عشر صحيح، فكما دل حديث الزكاة على تطهير ربع العشر للباقي، فكذلك العمل بربع عشر الأربعين، يخرج باقيها عن كونه غير معمول به، وقد كان بشر الحافي رضي الله عنه يقول: يا أهل الحديث، اعملوا من كل أربعين حديثاً بحديث ( واتفق الحفاظ ) أي أكثرهم ( على أنه ضعيف ) هو ما يكون بعض رواته مردوداً لعدم عدالته، أو لروايته عمن لم يره، أو سوء الحفظ، أو تهمة في العقيدة، أو عدم المعرفة بحال من يحدث عنه، أو غير ذلك مما هو مبين في كتب مصطلح الحديث
( وإن كثرت طرقه ) جمع طريق. وهم الرواة عن الرواة عن الصحابي وإن سفلوا. يقال هذه رواية أبي هريرة من طريق البخاري مثلاً، فالرواة طرق يتوصل بها إلى المتن، ولا يخلو طريق من طرق هذا الحديث من أن يكون فيه مجهول أو مشهور بالضعف، فوصف الحديث بالضعف أو غيره عن الصحة والحسن إنما هو باعتبار سنده، أي رجاله الذين رووه، فالحديث الذي اتصل إسناده، وكان رواته عدولاً: حديث صحيح، والحديث الضعيف ما عدا ذلك، وهو أقسام كثيرة، كما أشار إلى ذلك كله صاحب البيقونية في مصطلح الحديث بقوله:
أولها الصحيح وهو ما اتصـل . . . إسنـاده، ولـم يشـذ أو يعـل
يرويه عدل ضابط عن مثـلـه . . . معتمد في ضبطه ونـقـلـه
والحسن المعروف طرقاً وغدت . . . رجاله لا كالصحيح اشتهـرت
وكل ما عن رتبة الحسن قصر . . . فهو الضعيف وهو أقساماً كثر
( في هذا الباب ) أي باب الأربعينات ( ما لا يحصى ) الإحصاء في الأصل: العد بالحصى، والمقصود بذلك المبالغة في الكثرة، أي فله بهم أسوة و ( الطوسي ) قرية من قرى بخارى ( الرباني ) أي الذي أفيضت عليه المعارف الربانية، وربي الناس بعلمه، ( سفيان ) مثلث السين ( النسائي ) وفي نسخة النسوي بالواو وفتح النون والسين، نسبة إلى ( نسا ) بلد بخراسان قلبت ألفه واواً، كما يقال في النسبة إلى فتى: فتوى، ولكن الهمز في استعمال المحدثين أكثر وأشهر. ( الآجري ) بفتح الهمزة الممدودة وضم الجيم وشد الراء، نسبة إلى الآجر، وهو الطوب المحروق لبيعه أو عمله، كان عالماً ثقة. ( الأصفهاني ) بالفاء والباء مع كسر الهمزة وفتحها، والفتح أفصح، نسبة إلى أصفهان بلدة من بلاد فارس، ( والدارقطني ) بفتح الراء، نسبة إلى دار القطن، محلة كبيرة ببغداد. ( السلمي ) بضم السين وفتح اللام، نسبة إلى سليم قبيلة مشهورة. ( وأبو سعد ) في نسخة: وأبو سعيد بالياء، وهو موافق لما في كتاب الأنساب للسمعاني، والذي في طبقات الحفاظ، وتاريخ الخطيب البغدادي، ومعجم البلدان: أبو سعد، بدون ياء، وهو الأصح: لأن الأنساب غير مصححة تصحيحاً يعتمد عليه، 0 الماليني ) نسبة إلى مالين، قرى مجتمعة من أعمال هراة، يقال لجميعها: مالين، كان ثقة متقناً، صنف وحدث ورحل إلى مصر فمات بها. ( الصابوني ) نسبة إلى عمل الصابون. ( الأنصاري ) وفي نسخة: زيادة الهروي، كان ثقة عارفاً، توفي بهراة، ( والبيهقي ) نسبة إلى بيهق، قرية من ناحية نيسابور. ( وقد استخرت الله ) أي طلبت من الله أن يرشدني لما هو خير من الإقدام أو الإحجام، فإنه ربما كان مشغولاً بما هو أهم من جمع الأربعين من العبادات، فإن الاستخارة كما تكون في الأمور المباحة تكون في الأمور المندوبة، لترجيح بعضها على بعض وكيفيتها أن تصلي ركعتين وتدعو بالدعاء المشهور الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، ولا تتوقف هذه الاستخارة على نوم بل تتوجه إلى ما ينشرح له صدرك.
وفي الحديث الذي رواه الطبراني في الأوسط عن أنس: ما خاب من استخار ولا ندم من استشار، ولا عال من اقتصد، ( والأعلام ) جمع على بفتحتين، وهو ما يهتدي به إلى الطريق من جبل أو غيره على حد قول الخنساء في أخيها صخر:
وإن صخراً لتأتم الهداة به . . . كأنه علم في رأسه نار
قوله: ( في فضائل الأعمال ) أي لأنه إن كان صحيحاً في نفس الأمر، فقد أعطى حقه من العمل به. وإلا فلم يترتب على العمل به مفسدة تحليل ولا تحريم؛ وشرط جواز العمل به: أن لا يشتد ضعفه، بأن لا يخلو طريق من طرقه من كذاب أو متهم بالكذب، وأن يكون داخلاً تحت: أصل كلي، كما إذا ورد حديث ضعيف بصلاة ركعتين بعد الزوال مثلاً، فإنه يعمل به لدخوله تحت أصلي كلي؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر ) . رواه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة، أي خير شيء وضعه الله تعالى ( ومع هذا ) أي ما ذكر من جواز العمل به ( الشاهد ) أي السامع لما أقول، والخطاب للصحابة، ثم لمن بعدهم، وهلم جرا، فيجب التبليغ وجوب كفاية على أهل العلم، وكل من تعلم مسألة فهو من أهل العلم بها، فيجب عليه تعليمها لغيره. وإلا وقع في الإثم، إن لم يقم بها غيره، و ( نضر ) بفتح الضاد المعجمة، روى مخففاً ومشدداً، وهو الأكثر من النضارة، وهي حسن الوجه وبريقه، كما قال بعضهم:
من كان من أهل الحديث فإنـه . . . ذو نضرة في وجهه نور سطع
أن النبي دعا بنضرة وجه مـن . . . أدى الحديث كما تحمل واستمع
( امرءاً ): أي رجلاً، وليس بقيد، وإنما خصه نظراً للشأن والغالب؛ وإلا فالمرأة كذلك. ( فأداها ) أي باللفظ أبو المعنى، لجواز رواية الحديث بالمعنى بشروطه ( ثم من ) وفي نسخة- إن من العلماء- ( أصول الدين ) جمع أصل وهو ما يبني عليه غيره، والمراد هنا الإلهيات والنبوات، والحشر والنشر. ( في الفروع ) أي المسائل الفقهية. ( في الجهاد ) أي في فضل قتال الكفار. ( في الزهد ) أي في فضل ترك ما لا يحتاج إليه من الدنيا. ( في الآداب ) بالمد جمع أدب، أي الخصال المحمودة، فتشمل مكارم الأخلاق الموصلة إلى الكريم الخلاق. ( في الخطب ) أي التي كان يخطب بها النبي صلى الله عليه وسلم في نحو جمعة وعيد، وعند نزول الأمور المهمة، فهي مشتقة من الخطب- بفتح الخاء المعجمة- لأن العرب كانوا إذا نزل بهم خطب، أي أمر صعب، خطبوا له ليجتمعوا ويحتالوا في دفعه. ( جمع أربعين ) مفهوم العدد لا يفيد حصراً، فلا يردانه زاد حديثين؛ ومن زاد زاد الله في حسناته. ( قاعدة ) أي أصل من أصول الدين. ( مدار الإسلام ) أي غالب أحكامه يدور عليه كحديث- إن الحلال بين-( أو هو نصف الإسلام أو ثلثه ) كحديث- إنما الأعمال بالنيات- فإن أبا داود قال: إنه ضعيف الإسلام، كما سيأتي، أي لأن الدين: إما ظاهر، وهو العمل، أو باطن، وهو النية، والشافعي رضي الله عنه قال إنه ثلثه، أي لأن كسب العبد إما بقلبه أو بلسانه أو بجوارحه، والنية أحدها. ومما نسبه السعد للإمام الشافعي رضي الله عنه قوله.
عمدة الدين عندنا كلـمـات . . . أربع قالهن خير الـبـرية
اتق الشبهات وازهد ودع ما . . . ليس بعينك واعملن بنـية
( أو نحو ذلك ) بالرفع كالربع، كحديث ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) فإن قيل فيه، إنه ربع الإسلام. ( صحيحه ) أي غير ضعيفة، فتشمل الحسن ( وأذكرها ) بالرفع عطفاً على ( ألتزم ) وبالنصب على تكون ( الأسانيد )، جمع إسناد، وهو حكاية طريق المتن، والسند الطريق، فقولك: أخبرنا فلان عن فلان، إسناد، ونفس الرجال سند، والمتن: ألفاظ الحديث، ( ليسهل حفظها ) أي الأحاديث، فإن الأسانيد لا فائدة في ذكرها لكثير من الناس بعد أن علمت صحتها. ( ثم أتبعها ) بالرفع من الإتباع. ( خفي ألفاظها )0من إضافة الصفة للموصوف. أي ألفاظها الخفية. وقد أتينا على جميعها بالتوضيح الكافي، فلله الحمد. وحينئذ فلا حاجة لإتباعها في هذا الباب، فإنه نزر يسير بالنسبة لما ذكرناه، والله أعلم بالصواب. ( من المهمات ) وهي بيان العقائد الدينية، وأصول الشرائع الإلهية. ( وعلى الله ) في نسخ زيادة- الكريم- ( تفويضي ) هو رد الأمر إلى الفاعل المختار سبحانه. ( وبه ) في بعض النسخ، وبيده التوفيق، وهو خلق القدر في العبد على الطاعة، ( والعصمة ) هي فيض إلهي يقوي به العبد على تحري الخير وتجنب الشر، وطلبها جائز لجوازها، إذ المختص بالأنبياء وقوعها لهم ووجوبها في حقهم.
شرح إبن دقيق العيد للأربعين النووية
مقدمة المؤلف وشرحها
*************
الحمد لله رب العالمين، قيوم السَّموات والأرضين. مدبر الخلائق أجمعين. باعث الرُّسل- صلواته وسلامه عليهم- إلى المكلفين لهدايتهم وبيان شرائع الدين، بالدلائل القطعية، وواضحات البراهين. أحمده على جميع نعمه. وأسأله المزيد من فضله وكرمه.
وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد القهار. الكريم الغفار وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وحبيبه وخليله أفضل المخلوقين، المكرم بالقرآن العزيز المعجزة المستمرة على تعاقب السنين، وبالسنن المستنيرة للمسترشدين المخصوص بجوامع الكلم وسماحة الدين. صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين وآل كل وسائر الصالحين.
أما بعد ، فقد روينا عن علي بن أبي طالب، وعبد الله ابن مسعود ومعاذ بن جبل، وأبي الدرداء، وابن عمر، وابن عباس، وانس بن مالك وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم من طرق كثيرات بروايات متنوعات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من حفظ على أمتي أربعين حديثاً من أمر دينها بعثه الله يوم القيامة في زمرة الفقهاء والعلماء ) . وفي رواية: ( بعثه الله فقيهاً عالماً ) . وفي رواية أبي الدرداء: ( وكنت له يوم القيامة شافعاً وشهيداً ) . وفي رواية ابن مسعود قيل له: ( أدخل من أي أبواب الجنة شئت ) وفي رواية ابن عمر ( كُتب في زمرة العلماء وحشر في زمرة الشهداء ).
واتفق الحفاظ على أنه حديث ضعيف كثرت طرقه. وقد صنف العلماء رضي الله عنهم في هذا الباب ما لا يحصى من المصنفات فأول من علمته صنّف فيه هو عبد الله بن المبارك، ثم محمد بن أسلم الطوسي العالم الرباني، ثم الحسن بن سفيان النسائي، وأبو بكر الآجرّي، وأبو محمد بن إبراهيم الأصفهاني، والدارقطني، الحاكم، وأبو نعيم، وأبو عبد الرحمن السُّلمي، وأبو سعيد الماليني، وأبو عثمان الصابوني، وعبد الله بن محمد الأنصاري، وأبو بكر البيهقي، وخلائق لا يحصون من المتقدمين والمتأخرين، وقد استخرت الله تعالى في جمع أربعين حديثاً اقتداءً بهؤلاء الأئمة الأعلام وحفاظ الإسلام.
وقد اتفق العلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال. ومع هذا فليس اعتمادي على هذا الحديث، بل على قوله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة: ( ليُبلغ الشاهد منكم الغائب ) . وقوله صلى الله عليه وسلم: ( نضّر الله أمرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها ) .
ثم من العلماء من جمع الأربعين في أصول الدين، وبعضهم في الفروع، وبعضهم في الجهاد، وبعضهم في الزهد، وبعضهم في الآداب، وبعضهم في الخُطب، وكلها مقاصد صالحة رضي الله عن قاصديها.
وقد رأيت جمع أربعين أهم من هذا كله، وهي أربعون حديثاً مشتملة على جميع ذلك، وكل حديث منها قاعدة عظيمة من قواعد الدين قد وصفه العلماء بأن مدار الإسلام عليه، أو هو نصف الإسلام أو ثلثه أو نحو ذلك.
ثم ألتزم في هذه الأربعين أن تكون صحيحة، ومعظمها في صحيحي البخاري ومسلم، وأذكرها محذوفة الأسانيد، ليسهل حفظها، ويعم الانتفاع بها إن شاء الله تعالى، ثم أتبعها بباب في ضبط خفي ألفاظها.
وينبغي لكل راغب في الآخرة أن يعرف هذه الأحاديث، لما اشتملت عليه من المهمات، واحتوت عليه من التنبيه على جميع الطاعات وذلك ظاهر لمن تدبره، وعلى الله اعتمادي، وإليه تفويضي واستنادي وله الحمد والنعمة، وبه التوفيق والعصمة.
شرح ابن دقيق العيد للمقدمة
أي باسم المعبود بحق، الواجب الوجود، المبدع من أثر الكرم والجود أؤلف مستعيناً باسم الله إلخ. والرحمن العام الرحمة لجميع البرية، والرحيم الخاص الرحمة للمؤمنين، وأصل ( الرحمة ) انعطاف القلب والرقة، وهي في حقه سبحانه وتعالى إرادة الخير لمن يستحقها، أو ترك العقوبة لمن يستوجبها.
وافتتح المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه هذا بالتسمية والتحميد تأسياً بالكتاب المجيد، وعملاً بالحديث الصحيح المفيد ( كل أمر ذي بال- أي شأن وحال- لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم، وبالحمد لله، أو بحمد الله أو بذكر الله، فهو أجذم أو أقطع أو أبتر ) روايات متعددة مؤداها أن متروك التسمية قليل البركة، أو مقطوع الزيادة، ورواية ( بذكر الله ) أعم
وأكثر العلماء أجمعوا على أن لفظ الجلالة اسم الله الأعظم، فهو علم على الذات الأقدس المستحق لجميع المحامد. ولذا قال: ( الحمد لله ) أي الثناء الجميل يستحق لله ( رب ) أي مالك، وخالق، ومدبر، وسيد ( العالمين ) جمع عالم- بفتح اللام- وفيه تغليب العاقل على غيره، إذ هو اسم لما سوى الله تعالى، غير أنه لا يطلق على المفرد، فلا يقال: زيد عالم إلا مجازاً، ( قيوم السموات ) معناه القائم بالتدبير والحفظ قال الله تعالى: (إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا) . ( والأرضين ) بفتح الراء وقد تسكن- جمع أرض. ( مدبر الخلائق ) أي مصرف أمور الخلائق، جمع ( خليقة ) بمعنى مخلوقة. إذ هو العالم بعواقب أمورهم. ( باعث ) أي مرسل. وقوله: ( إلى المكلفين ) متعلق بباعث، وجملة الصلاة والسلام معترضة بينهما إنشائية المعنى. أي اللهم صل وسلم، وفي بعض النسخ ( صلاته ) بالإفراد، وهي من مادة الصلة. فهي من العبد: طلب الاتصال والقرب من الله، وصلاتنا على الرسول: طلب الصلة اللائقة والمنحة الإلهية العظيمة له من الله على النعمة التي أسبغها الله علينا بسببه صلى الله عليه وسلم ويقال: إنها من الله الرحمة المقرونة بالتعظيم ( وسلامه ) أي تحيته التي تليق بجنابهم العظيم. وقوله: ( لهدايتهم ) أي دلالتهم الناس على سبيل الهدى متعلق أيضاً بباعث. ( شرائع ) جمع شريعة، من شرع بمعنى: بين، وهي والدين والملة بمعنى واحد وتختص بالاعتبار؛ فالأحكام من حيث إننا ندين، أي ننقل لها، وندان: أي نجاز عليها، دين، ومن حيث أن الملك يمليها للرسول والرسول يميلها علينا: ملة؛ ومن حيث شرعها لنا، أي نصبها وبينها: شرع وشريعة. والدين: وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى ما هو خير لهم بالذات. ( بالدلائل ) متعلق ببيان،جمع دلالة- مثلث الدال بمعنى الدليل، و ( القطعية ) ما تقطع جدال الخصم، لكونها عن الله ( وواضحات البراهين ) من إضافة الصفة للموصوف، أي البراهين الواضحة، وهي الحجج وعطفه على الدلائل من عطف الخاص على العام؛ لأن البرهان لا يكون إلا مركباً من تصديقتين، متى سلما لزمهما لذاتهما قول ثالث، كقولك: العدل متغير، وكل متغير حادث، فإنه ينتج العالم حادث، وأما الدليل فهو ما يلزم من العلم به العلم بشيء آخر. سواء كان مركباً كهذا المثال. أو منفرداً كقولك: هذه المخلوقات دليل على وجود الله تعالى ( أحمده ) أي أثني عليه ثانياً في مقابلة النعم. فأتى بالحمد أولاً في مقابلة الذات الأقدس المتصف بجميل الصفات، وثانياً في مقابلة جميع النعم المتعاقبات، وخص الأول بالجملة الأسمية المفيدة للاستمرار والدوام، والثاني بالجملة الفعلية المفيدة للتجدد والتعاقب، لمناسبة ما يليق بكل مقام. ( المزيد ) أي مزيد النعم، فأل عوض عن المضاف إليه، و( من فضله ) الفضل: هو العطاء عن اختيار. لا عن إيجاب، أي حصول بالطبع، بدون اختيار، كما تقول الحكماء، ولا عن وجوب كما تقول المعتزلة، والكرم إعطاء الكثير لغير علة. ( وأشهد ) أي أتحقق وأذعن ( أن ) أي أنه، فهي مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف ( لا إله ) أي لا معبود بجميع أنواع العبادة بحق ( إلا الله ) برفع لفظ الجلالة، على أنه بدل من الضمير المستتر في خبر ( لا ) المقدر بمستحق الإلهية، ويجوز نصبه على الاستثناء ( الغفار ) من الغفر، أي الستر للعيوب ( محمداً ) هو مشتق من الحمد، لكثرة خصاله المحمودة ( عبده ) قدمه لكونها أشرف المقامات، ولذلك ذكره الله بهذا اللقب في أسنى المقالات ( فقال: سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً ) وقال: ( وأنه لما قام عبد الله يدعوه ) فإن العبد الحقيقي لربه من يكون حراً عن هوى قلبه، والذل والخضوع لغيره، ولذا قيل:
أتمنى على الزمان محـالاً . . . أن ترى مقلتأي طلعة حر
( وحبيبه ) فعيل بمعنى فاعل، وبمعنى مفعول، فهو المحب المحبوب ( وخليله ) من الخلة- بالضم- أي صفاء المودة وتخللها في القلب، كما قيل في ذلك:
قد تخللت مسلك الروح مني . . . وبذا سمي الخليل خـلـيلا
( بالقرآن ) مصدر قرأ بمعنى جمع، لجمعه السور، أو ما في الكتب المنزلة و ( العزيز ) من عز يعز- بكسر العين- إذا لم يكن له نظير؛ أو بضمها إذا غلب، فهو الغالب المعجز لفصحاء العرب بما فيه من البلاغة ( وبالسنن ) أي ما سنه النبي، أي شرعه من الأحكام، فرضاً أو نفلاً، إذ هو المشرع صلى الله عليه وسلم ( للمسترشدين ) أي الطالبين الرشاد، وهو ضد الغي. ( بجوامع الكلم ) أي بالكلم الجوامع، بمعنى أنه يجمع المعاني الكثيرة في اللفظ القليل ( وسماحة الدين ) أي سهولته، قال الله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) بخلاف الأمم السابقين، فإن بعضهم لم تكن تقبل توبته إلا بقتل النفس، كما قال الله تعالى عن قوم موسى: (فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم) . ( صلوات الله ) إلخ أتى بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم امتثالاً لما في الكتاب العزيز ( وعلى سائر ) أي باقي أو جميع، الأول من السؤر بالهمزة، بمعنى البقية من الماء ونحوه. والثاني من سور المدينة المحيط بها، وفي مسند الإمام أحمد 0 أن عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، والرسل منهم ثلاثمائة وخمسة عشر، وكل أسمائهم وذواتهم أعجمية، إلا محمداً، وهوداً، وصالحاً، وشعيباً، فأسماؤهم وذواتهم عربية،وأما إسماعيل فذاته عربية، واسمه أعجمي، ولا يجب الإيمان نفصيلاً إلا بخمسة وعشرين من الأنبياء المرسلين، وهم المذكورون في سورة الأنعام في قوله تعالى: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه) الأيات، كما جمعهم بعضهم في قوله:
حتم على كل ذي التكليف معرفة . . . بأنبياء على التفصيل قد علمـوا
في ( تلك حجتنا ) منهم ثـمـانـية . . . من بعد عشر؛ويبقى سبعة وهم
إدريس هود شعيب صالح. وكذا . . . ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا
وأولوا العزم منهم مجموعون في قول بعضهم:
محمد إبراهيم موسى كلـيمـه . . . فعيسى فنوح أولوا العزم فاعلم
وهم في الفضل على هذا الترتيب ( وآل كل ) أي كل واحد من النبيين. والمرسلين. أي أقاربه المؤمنين به. والمراد هنا كل مؤمن. لأنه الأنسب بمقام الدعاء ( وسائر الصالحين ) أي القائمين بحقوق الله وحقوق عباده. فدخل الصحابة وغيرهم ممن اتصف بذلك. ( روينا )بصيغة المعلوم. أي نقلنا عن غيرنا. وجملة- أن رسول الله- إلخ مفعولة. ( وأبي هريرة ) تصغير ( هرة ) كناه النبي صلى الله عليه وسلم بذلك حين رآه حاملاً لها في كمه. ( من طرق كثيرات ) متعلق بروينا ( بروايات متنوعات ) أي مختلفة الألفاظ. ( من حفظ ) أي نقل. وإن لم يحفظ اللفظ، ولم يعرف المعنى، إذ به يحصل الانتفاع للمسلمين بخلاف حفظ ما لم ينقل إليهم، كذا نقل عن المصنف. ( على أمتي ) أي لأجلها، شفقة عليها، فعلى: بمعنى اللام؛ والأمة جمع ممن لهم جامع، من دين أو زمان أو مكان، والمراد هنا أمة الإجابة لا الدعوة. ( من أمر دينها ) أي مما يتعلق بأمر دينها أصولاً وفروعاً. ( في زمرة ) أي جماعة، و ( العلماء ) عطف عام، لتخصيص الفقهاء بالفروع الفقهية، و ( شهيداً ) أي شاهداً له بالكمال، و "الشهداء" جمع شهيد، أي قتيل المعركة، التي شهد الله وملائكته له بالجنة، ويجمع بين هذه الروايات بأن حفاظ الأربعين مختلفوا المراتب، فمنهم من يحشر في زمرة الشهداء، ومنهم من يحشر في زمرة العلماء، ومنهم من يبعث فقيهاً عالماً، وإن لم يكن في الدنيا كذلك، ومنهم غير ذلك.
والحكمة في تخصيص عدد الأربعين: أنه أول عدد له ربع عشر صحيح، فكما دل حديث الزكاة على تطهير ربع العشر للباقي، فكذلك العمل بربع عشر الأربعين، يخرج باقيها عن كونه غير معمول به، وقد كان بشر الحافي رضي الله عنه يقول: يا أهل الحديث، اعملوا من كل أربعين حديثاً بحديث ( واتفق الحفاظ ) أي أكثرهم ( على أنه ضعيف ) هو ما يكون بعض رواته مردوداً لعدم عدالته، أو لروايته عمن لم يره، أو سوء الحفظ، أو تهمة في العقيدة، أو عدم المعرفة بحال من يحدث عنه، أو غير ذلك مما هو مبين في كتب مصطلح الحديث
( وإن كثرت طرقه ) جمع طريق. وهم الرواة عن الرواة عن الصحابي وإن سفلوا. يقال هذه رواية أبي هريرة من طريق البخاري مثلاً، فالرواة طرق يتوصل بها إلى المتن، ولا يخلو طريق من طرق هذا الحديث من أن يكون فيه مجهول أو مشهور بالضعف، فوصف الحديث بالضعف أو غيره عن الصحة والحسن إنما هو باعتبار سنده، أي رجاله الذين رووه، فالحديث الذي اتصل إسناده، وكان رواته عدولاً: حديث صحيح، والحديث الضعيف ما عدا ذلك، وهو أقسام كثيرة، كما أشار إلى ذلك كله صاحب البيقونية في مصطلح الحديث بقوله:
أولها الصحيح وهو ما اتصـل . . . إسنـاده، ولـم يشـذ أو يعـل
يرويه عدل ضابط عن مثـلـه . . . معتمد في ضبطه ونـقـلـه
والحسن المعروف طرقاً وغدت . . . رجاله لا كالصحيح اشتهـرت
وكل ما عن رتبة الحسن قصر . . . فهو الضعيف وهو أقساماً كثر
( في هذا الباب ) أي باب الأربعينات ( ما لا يحصى ) الإحصاء في الأصل: العد بالحصى، والمقصود بذلك المبالغة في الكثرة، أي فله بهم أسوة و ( الطوسي ) قرية من قرى بخارى ( الرباني ) أي الذي أفيضت عليه المعارف الربانية، وربي الناس بعلمه، ( سفيان ) مثلث السين ( النسائي ) وفي نسخة النسوي بالواو وفتح النون والسين، نسبة إلى ( نسا ) بلد بخراسان قلبت ألفه واواً، كما يقال في النسبة إلى فتى: فتوى، ولكن الهمز في استعمال المحدثين أكثر وأشهر. ( الآجري ) بفتح الهمزة الممدودة وضم الجيم وشد الراء، نسبة إلى الآجر، وهو الطوب المحروق لبيعه أو عمله، كان عالماً ثقة. ( الأصفهاني ) بالفاء والباء مع كسر الهمزة وفتحها، والفتح أفصح، نسبة إلى أصفهان بلدة من بلاد فارس، ( والدارقطني ) بفتح الراء، نسبة إلى دار القطن، محلة كبيرة ببغداد. ( السلمي ) بضم السين وفتح اللام، نسبة إلى سليم قبيلة مشهورة. ( وأبو سعد ) في نسخة: وأبو سعيد بالياء، وهو موافق لما في كتاب الأنساب للسمعاني، والذي في طبقات الحفاظ، وتاريخ الخطيب البغدادي، ومعجم البلدان: أبو سعد، بدون ياء، وهو الأصح: لأن الأنساب غير مصححة تصحيحاً يعتمد عليه، 0 الماليني ) نسبة إلى مالين، قرى مجتمعة من أعمال هراة، يقال لجميعها: مالين، كان ثقة متقناً، صنف وحدث ورحل إلى مصر فمات بها. ( الصابوني ) نسبة إلى عمل الصابون. ( الأنصاري ) وفي نسخة: زيادة الهروي، كان ثقة عارفاً، توفي بهراة، ( والبيهقي ) نسبة إلى بيهق، قرية من ناحية نيسابور. ( وقد استخرت الله ) أي طلبت من الله أن يرشدني لما هو خير من الإقدام أو الإحجام، فإنه ربما كان مشغولاً بما هو أهم من جمع الأربعين من العبادات، فإن الاستخارة كما تكون في الأمور المباحة تكون في الأمور المندوبة، لترجيح بعضها على بعض وكيفيتها أن تصلي ركعتين وتدعو بالدعاء المشهور الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، ولا تتوقف هذه الاستخارة على نوم بل تتوجه إلى ما ينشرح له صدرك.
وفي الحديث الذي رواه الطبراني في الأوسط عن أنس: ما خاب من استخار ولا ندم من استشار، ولا عال من اقتصد، ( والأعلام ) جمع على بفتحتين، وهو ما يهتدي به إلى الطريق من جبل أو غيره على حد قول الخنساء في أخيها صخر:
وإن صخراً لتأتم الهداة به . . . كأنه علم في رأسه نار
قوله: ( في فضائل الأعمال ) أي لأنه إن كان صحيحاً في نفس الأمر، فقد أعطى حقه من العمل به. وإلا فلم يترتب على العمل به مفسدة تحليل ولا تحريم؛ وشرط جواز العمل به: أن لا يشتد ضعفه، بأن لا يخلو طريق من طرقه من كذاب أو متهم بالكذب، وأن يكون داخلاً تحت: أصل كلي، كما إذا ورد حديث ضعيف بصلاة ركعتين بعد الزوال مثلاً، فإنه يعمل به لدخوله تحت أصلي كلي؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر ) . رواه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة، أي خير شيء وضعه الله تعالى ( ومع هذا ) أي ما ذكر من جواز العمل به ( الشاهد ) أي السامع لما أقول، والخطاب للصحابة، ثم لمن بعدهم، وهلم جرا، فيجب التبليغ وجوب كفاية على أهل العلم، وكل من تعلم مسألة فهو من أهل العلم بها، فيجب عليه تعليمها لغيره. وإلا وقع في الإثم، إن لم يقم بها غيره، و ( نضر ) بفتح الضاد المعجمة، روى مخففاً ومشدداً، وهو الأكثر من النضارة، وهي حسن الوجه وبريقه، كما قال بعضهم:
من كان من أهل الحديث فإنـه . . . ذو نضرة في وجهه نور سطع
أن النبي دعا بنضرة وجه مـن . . . أدى الحديث كما تحمل واستمع
( امرءاً ): أي رجلاً، وليس بقيد، وإنما خصه نظراً للشأن والغالب؛ وإلا فالمرأة كذلك. ( فأداها ) أي باللفظ أبو المعنى، لجواز رواية الحديث بالمعنى بشروطه ( ثم من ) وفي نسخة- إن من العلماء- ( أصول الدين ) جمع أصل وهو ما يبني عليه غيره، والمراد هنا الإلهيات والنبوات، والحشر والنشر. ( في الفروع ) أي المسائل الفقهية. ( في الجهاد ) أي في فضل قتال الكفار. ( في الزهد ) أي في فضل ترك ما لا يحتاج إليه من الدنيا. ( في الآداب ) بالمد جمع أدب، أي الخصال المحمودة، فتشمل مكارم الأخلاق الموصلة إلى الكريم الخلاق. ( في الخطب ) أي التي كان يخطب بها النبي صلى الله عليه وسلم في نحو جمعة وعيد، وعند نزول الأمور المهمة، فهي مشتقة من الخطب- بفتح الخاء المعجمة- لأن العرب كانوا إذا نزل بهم خطب، أي أمر صعب، خطبوا له ليجتمعوا ويحتالوا في دفعه. ( جمع أربعين ) مفهوم العدد لا يفيد حصراً، فلا يردانه زاد حديثين؛ ومن زاد زاد الله في حسناته. ( قاعدة ) أي أصل من أصول الدين. ( مدار الإسلام ) أي غالب أحكامه يدور عليه كحديث- إن الحلال بين-( أو هو نصف الإسلام أو ثلثه ) كحديث- إنما الأعمال بالنيات- فإن أبا داود قال: إنه ضعيف الإسلام، كما سيأتي، أي لأن الدين: إما ظاهر، وهو العمل، أو باطن، وهو النية، والشافعي رضي الله عنه قال إنه ثلثه، أي لأن كسب العبد إما بقلبه أو بلسانه أو بجوارحه، والنية أحدها. ومما نسبه السعد للإمام الشافعي رضي الله عنه قوله.
عمدة الدين عندنا كلـمـات . . . أربع قالهن خير الـبـرية
اتق الشبهات وازهد ودع ما . . . ليس بعينك واعملن بنـية
( أو نحو ذلك ) بالرفع كالربع، كحديث ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) فإن قيل فيه، إنه ربع الإسلام. ( صحيحه ) أي غير ضعيفة، فتشمل الحسن ( وأذكرها ) بالرفع عطفاً على ( ألتزم ) وبالنصب على تكون ( الأسانيد )، جمع إسناد، وهو حكاية طريق المتن، والسند الطريق، فقولك: أخبرنا فلان عن فلان، إسناد، ونفس الرجال سند، والمتن: ألفاظ الحديث، ( ليسهل حفظها ) أي الأحاديث، فإن الأسانيد لا فائدة في ذكرها لكثير من الناس بعد أن علمت صحتها. ( ثم أتبعها ) بالرفع من الإتباع. ( خفي ألفاظها )0من إضافة الصفة للموصوف. أي ألفاظها الخفية. وقد أتينا على جميعها بالتوضيح الكافي، فلله الحمد. وحينئذ فلا حاجة لإتباعها في هذا الباب، فإنه نزر يسير بالنسبة لما ذكرناه، والله أعلم بالصواب. ( من المهمات ) وهي بيان العقائد الدينية، وأصول الشرائع الإلهية. ( وعلى الله ) في نسخ زيادة- الكريم- ( تفويضي ) هو رد الأمر إلى الفاعل المختار سبحانه. ( وبه ) في بعض النسخ، وبيده التوفيق، وهو خلق القدر في العبد على الطاعة، ( والعصمة ) هي فيض إلهي يقوي به العبد على تحري الخير وتجنب الشر، وطلبها جائز لجوازها، إذ المختص بالأنبياء وقوعها لهم ووجوبها في حقهم.