من طرف الرسالة الجمعة 13 نوفمبر 2015 - 10:50
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
مكتبة الثقافة الأدبية
الأصول في النحو
● [ مسائل من سائر أبواب إعراب الفعل ] ●
تقول : انتظرْ حتى إن يقسمْ شيءٌ تأخذْ تجزم ( تأخذْ ) لأنه جوابُ لقولك : إنْ يقسمْ وانتظرْ حتى إن قسَم شيءٌ تأخذْ تنصبُ ( تأخذ ) إن شئت على حتَّى تأخذَ إن قسمَ وإنْ شئتَ جزمت ( تأخذ ) فجعلته جواباً لقولك : إنْ قسَم هذا قول الأخفش وقبيح أن تفصل بين حتى وبينَ المنصوب قال : ومما يدلُّكَ على أنه يكون جواباً ولا يحمل على ( حتى ) أنك تقول : حتى إنْ قسَم شيءٌ أخذتُه يعني أنه معلقٌ بالجواب فلا يرجعُ إلى ( حتى ) ألا ترى أنك لا تقول : حتى أخذت إنْ قُسِمَ شيءٌ وتقول : اجلسْ حتى إنْ يقلْ شيئاً فتسمعه تجبْنَا جزمٌ كله ولا يجوز أن تنصب ( تُجبنا ) على حتى لأن قولك : إن تفعلُ مجزومٌ في اللفظ فلا بد من أن يكون جوابه مجزوماً في اللفظ وتقو ل : أَقم حتّى تأكلْ معَنا وأَقم حتى أيانا يخرجْ تخرجْ معَهُ فأيُّ مبتدأٌ لأنها للمجازاة وحتى معلقةٌ وكذلك اجلسْ حتى إنْ يخرجْ تخرجْ معَهُ وانتظر حتى مَن يذهبْ تذهبْ معهُ ( فَمن ) في موضعِ رفعٍ واجلس حتى ( أَياً ) يأخذْ تأخذْ معهُ ( أياً ) منصوبة ( بتأخذ ) وتقولُ : أقم حتى أي القومِ تعط يعطْكَ تعمل في ( أي ) ما بعدها ولا تعمل فيها ما قبلها وتقول : اجلس حتى غلامَ مَنْ تَلقّ تُكرَّمْ تنصب الغلام ( بتعلق ) واجلس حتى غلامُ مَنْ تلقه تكرمْ ترفع الغلام على الإبتداء ولو أن ( حَتَّى ) تكون معلقة في شيءٍ ما جاز دخولُها هَا هُنا لأن حرف الجزاء إذا دخل عليه عاملٌ أزالهُ عن حرف الجزاء ألا ترى أنك تقول : مَنْ يزرنا نزرْهُ فيكون مرفوعاً بالإبتداء وتكون للجزاء وذلك لأنَّ حال الإبتداء كحالِ ( إنْ ) التي للجزاء والشرط نظيرُ المبتدأِ والجوابُ نظيرُ الخبر
قال الأخفش : ومما يقوي ( مَنْ ) إذا كانت مبتدأة على الجزاء أنْ ( إنْ ) التي للجزاء تقع موقعها ولو أدخلت إنَّ المشددة على ( مَنْ ) لقلت : إنَّ مَنْ يزرونا نزورهُ لأنَّ المجازاة لا تقع ها هنا فإن قلت : فَلِمَ لا تعملُ إنَّ في ( مَنْ ) وتدعها للمجازاة كما أعملت إنَّ الإبتداء فلأن ( إنْ ) التي للمجازة لا تقع ها هنا لأن إنَّ المشددة توجب بها والمجازاة أمرٌ مبهمٌ يعني أنه لا تقع ( إنْ ) التي للمجازاة بعد ( أنَّ ) الناصبة والمجازاة ليسَ بشيءٍ مخصوص إنما هو للعامة وإن الناصبة للإِيجاب وكذلك : ليت مَنْ يزورنا نزورُه ولعلَ وكانَ وليسَ لأنك إذا قلت مَنْ يزورُنا نزوره ولعلَ وكانَ وليسَ لأنك إذا قلت مَنْ يزورُنا نزورثه وما تعطي تأخذْ فأنتَ تبهمُ ولا توضحُ وهكذا يجيءُ الجزاءُ بمَنْ وأخواته فإن أوضحت منه شيئاً بصلةٍ ذهبَ عنه هذا العملُ وجرى مجرى ( الذي ) وتقول : سكتَ حتى أردنا أن نقومَ تقول : افعلوا كذا وكَذا فترده على جواب ( إذا ) ولو رددته على حتى جاز على قبحه وحقُّ ( حَتى ) أن لا تفصل بينها وبين ما تعمل فيه وتقول : لا واللهِ حتى إذا أمرتُك بأَمرٍ تطيعني ترفع جواب ( إذا ) وإن شئتَ نصبت على ( حتى ) على قبحٍ عندي إلا أن الفصل بالظرف أحسن من الفصل بغيره
وتقول : لا والله حتى إنْ أَقلْ لكَ لا تشتمْ أَحداً لا تشتمه
ولا تشتمهُ جوابُ ( إنْ أَقلْ لك ) فلا يكون فيه النصبُ لأنه لا يرجع إلى : حتى لا والله وإذا قلت لكَ اركبْ تركب يا هذا تنصبُ ( تركبُ ) على أو وفصلت بالظرف والفصل بالظرف أحسنُ من الفصل بغيره أردت : ولا واللَّه أو تركب إذا قلت لكَ اركبْ ومَنْ رفع ما بعد ( أوْ ) في هذا المعنى رفع هذه المسألة وتقول : تسكت حتى إذا قلنا ارتحلوا لا يذهب الليلُ تخالفْنا فلا تَذهبْ ( تذهبُ ) معطوفٌ على ( تخالفنا ) وحتى إن نقل إيتِ فلاناً تصبْ منهُ خيراً لا تأتهِ فتصب خيراً جزمٌ على جواب إيتِ ولا تأته جواب ( إنْ نقلْ )
وتقول : لئن جئتني لأكرمنّكَ الأولى توكيدٌ والثانية لليمين ولا يجوز بغير النون ولئن جئتني لإِليكَ أقصدْ ولإِيّاك أَكرمْ ولا تنون أكرمْ لأن اللام لم تقع عليه ولو وقعت عليه فقلتَ أكرمنّكَ وكذلكَ : لئن جئتني لأكفلن بكَ وفي كتابِ اللِه عز و جل : ( ولئن مُتم أو قُتلتم لإلى اللِه تحشرون ) لما وقعت اللام على كلام مع الفعل لم تدخله النون وكذلك : ( ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرةٌ من الله ورحمةٌ خيُر مِمَا يجمعونَ ) وكذلك لئن جئتني لأهلٌ وكذلك : ولئن وصلتك للصلاة أنفعُ لك
قالَ الأخفش : المعنى : والله للصلة أنفعُ وإنْ وصلتكَ كما أن قولك : لئن جئتني لأكرمنكَ إنما هي : والله لأكرمنك إنْ جئتني قال : واللام التي في ( لئن جئتني ) زائدة وقوله عز و جل ( ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبةٌ مِن عندِ الله ) على معنى اليمين كأنه قال والله أعلَم واللِه لمثوبةٌ مِن عندِ اللِه خيرٌ لَهم ولو آمنوا وقال لا تقول : إنَّ زيداً لقامَ وتقولُ : إنَّ زيداً إليكَ كفيلٌ وإن زيداً لهُ ولك منزلٌ لأنَّ اللام لا تقع على فعلٍ فإذا كان قبلَها كلامٌ ضمتهُ معها جاز دخول اللام وتقول : سرت حتى أدخلُ أو أكادُ ترفعهما جميعاً لأنك تقول : حتى أكادُ والكيدودة كائنةٌ وكذلكَ سرت حتى أدخلَها أو أقرب منها لأنه قد كان القرب أو الدخول وكذلك : سرتُ حتى أكاد أو أدخلُ وأشكلَ عليَّ كُلُّ شيءٍ حتى أظن أني ذاهبُ العقلِ فجميع هذا مرفوع لأنه فِعلٌ وهو فيه قال الجعدي :
( ونُنْكِرُ يَوْمَ الرَّوْعِ أَلْوانَ خَيْلِنَا ... مِنَ الطَّعنِ حَتى تحسبَ الجونَ أشقرا )
قال : يجوز في ( تحسب ) الرفع والنصب والرفع على الحال والنصب على الغاية وكأنكَ أردت إلى أن تحسب وحكى الأخفش إن النحويين ينصبون إذا قالوا : سرتُ أكادَ أو أدخل يا هذا ينصبون الدخول ويقولون : الفعلُ لم يجبْ . والكيدودة قد وجَبَتْ
قال : وهذا عندي يجوز فيه الرفع يعني الدخول لأنه في حال فعل إذا قلت : حتى أكاد يعني إذا كنت في حال مقاربة و ( حتى ) لا تعملُ في هذا المعنى إنما تعمل في كل فعل لم يقع بعد والكيدودةُ قد وقعتْ وأنت فيها وتقول : الذي يأتيني فَلهُ درهمْ والذي في الدارِ فلَهُ درهمْ فدخولُ الفاء لمعنى المجازاة ولا يجوزُ : ظننتَ الذي في الدار فيأتيك
تريد : ظننتُ الذي في الدار يأتيك والأخفش يجيزه على أن تكون الفاء زائدة وقال : قول الله عز و جل : ( قُل إنَّ الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ) ولكن زدت ( إن ) توكيداً وقالَ : لو قلت : إن هذا لا يجوز أن يكون في معنى المجازاة كان صالحاً لأنك إذا قلت : إن الذي يأتينا فلهُ درهمْ فمعناه : الذي يأتينا فله درهمْ ولا يحسن ليتَ الذي يأتينا فلَهُ درهمْ ولا لعل الذي يأتينا فنكرمُه لأنَّ هذا لا يحوز أن يكون في معنى المجازاة ولا يحسنُ ( كأنَّ الذي يأتينا فلَهُ درهمْ ) لأن معنى الجزاء إنما يكون على ما يأتي لا على ما كان فإن قدرت فيه زيادة الفاء جاز على مذهب الأخفشِ
● [ فصل يذكر فيه قَلَّ وأقلّ ] ●
اعلم : أنَّ قَلَّ : فعلُ ماضٍ وأقلَّ : اسمْ إلاّ أن أقلّ رجلِ قد أَجروه مجرى قَلَّ رجلْ فلا تدخل عليه العوامل وقد وضعته العرب موضع ( ما ) لأنه أقرب شيءٍ إلى المنفى القليل كما أن أبعد شيءٌ منه الكثير وجعلت ( أقلَّ ) مبتدأةً صدراً إذا جُعلتْ تنوبُ عن النفي كما أن النفيَ صدرٌ فلا يبنونَ أقلَّ على شيءٍ فتقول : أقلّ رجلٍ يقول ذاك ولا تقولُ : لَيتَ أقلَّ رجلٍ يقول ذاك ولا لعل ولا إنَّ إلا أن تضمر في ( إنَّ ) وترفع أقلُّ بالإبتداء قال الأخفش : هو أيضاً قبيحٌ لأن أقلَّ رجلٍ يجري مجرى : قَلَّ رجلٍ وربُّ رجلٍ لو قلت : كان أقلُّ رجلٍ يقولُ ذاكَ فرفعت ( أقلّ ) على ( كانَ ) لم يجز ولكن تضمر في ( كانَ ) وترفع أقلَّ على الإبتداء وأقلُّ رجلٍ وقلَّ رجلٌ قد أجروه مجرى النفي فقالوا : أقلُّ رجلٍ يقولُ ذاكَ إلا زيدٌ وقال سيبويه : لأنه صار في معنى : ما أحَدٌ فيهما إلا زيد وقال : وتقولُ : قلَّ رجلٌ يقولُ ذاك إلا زيدٌ فليس زيدٌ بدلاً من الرجل في ( قَلَّ ) ولكن : قَلَّ رجلٌ في موضعِ أقلّ رجلٍ ومعناه كمعناه وأقل رجل مبتدأ مبني عليه والمستثنى بدل منه لأنك تدخله في شيءٍ يخرج من سواه
قال : وكذلك : أقلُّ مَنْ وقَلُّ مَنْ إذا جعلت ( مَنْ ) بمنزلة رجلٍ
حدثنا بذلك يونس عِنِ العرب يجعلونه نكرةً كما قال :
( رُبَّما تَجْزَعُ النُّفُوسُ مِنَ الأمرِ لهُ فَرْجَةٌ كَحَلِّ العِقَالِ ... )
يريد أنَّ ( رُبَّ ) دخلت على ( مَا ) وهي لا تدخلُ إلا على نكرةٍ فتنكيرُ ( مَا ) كتنكير ( مَنْ ) قالَ : وتقولُ : قَلَّ ما سرتُ حتى أدخلُها مِنْ قبل أنَّ قَلَّما نفي لقوله كَثُرَ مَا كما أنَّ ما سرتُ نفي لقوله : سرتُ ألا ترى أنه قبيحُ أن تقول : قلما سرتُ فأدخلها كما يقبح في ما سرت إذا أردت معنى فإذا أنا أدخل إنما قبحُه لأنه إذا لَمْ يكن سيرٌ لم يكن دخولٌ فكذلك قلّما لَمّا أُريدَ بها النفي كان حكمُها حكمُ قالَ وتقولُ : قلَّما سرت فأدخلها فاتنصب بالغاءها هنا كما تنصبُ فيما قال
وتقول : قلّما سرت إذا عنيت سيراً واحداً أو عنيت غير سيرٍ كأنك قد تنفي كثيرَ من السير الواحدِ كما تنفيه من غير سيرٍ يريدُ بقولِه : من غير سيرٍ أي سيراً بعد سيرٍ قالَ الأخفش : الدليلُ على أن أقلَّ رجلٍ يجري مجرى رُبَّ وما أشبهها أنَّك تقول : أقلَّ امرأةٍ تقولُ ذاك فتجعلُ اللفظَ على امرأة وأقلَّ امرأتين يقولان ذاكَ فينفي أقلَّ كأنه ليس له خبر ولا تحمله إلا على الآخر يعني : لا تحمل الفعلَ إلا على الذي أضفت إليه أقلَّ فهذا يدل على أنه لا يشبه الأسماء يعني إذا كان الخبر يجيء على الثاني وكذلك : أقلُّ رجالِ يقولون ذاك ولا يحسن كذلك لو قلت : أقَلُّ رجلينِ صالحانِ لم يُحسنْ ولا يحسنُ من خبره إلا الفعل والظرف أقلُّ رجلين صالحين في الدار وأقلُّ امرأةٍ ذاتُ جمةٍ في الدار وأقلُّ رجلٍ ذي جمةٍ في الدار كان جيداً ولو ألغيت الخبر كان مذهبه كمذهب ( رُبَّ ) فإنْ قلت : فمالي إذا قُلت : قلَّ رجلٌ يقولُ ذاك وقَلّ رجلٌ قائلٌ ذاكَ وهو صفة لا يجوز حذفه فلأنك إنما قللتَ الموصوفين ولم تقللِ الرجال مفردين في الوصف ألا ترى أنك لا تقول : قَلِّ رجلٌ قائلٌ ذاك إلا وأنت تريد القائلين ولست تريد أن تقلل الرجال كلهم
● [ فصل من مسائل الدعاء والأمر والنهي ] ●
اعلم : أن أصل الدعاء أن يكون على لفظ الأمر وإنما استعظم أن يقال أمرٌ والأمر لمن دونَك والدعاء لمن فوقك وإذا قلت : اللهم اغفر لي فهو كلفظك إذا أمرت فقلت : يا زيدُ أكرم عمراً وكذلك إذا عرضت فقلت : انزل فهو على لفظ اضربْ وقد يجيء الأمر والنهي والدعاء على لفظ الخبر إذا لم يلبس تقول : أطالَ الله بقاءهُ فاللفظُ لفظ الخبر والمعنى دعاءٌ ولم يلبسْ لأنك لا تعلم أنّ الله قد أطالَ بقاءهُ لا محالة فمتى أُلبسَ شيءٌ مِنْ ذَا بالخبر لم يجز حتى يبينَ فتقول على ذا : لا يغفر الله لَهُ ولا يرحمهُ فإن قلت : لا يغفرُ الله لَهُ ويقطعُ يدهُ لم يجز أن تجزم ( يقطعُ ) لأنهُ لا يشاكل الأول لأنَّ الأول دعاءٌ عليه وإذا جزمتَ ( يقطعُ ) فقد أردت : ولا يقطعُ الله فهذا دعاء له فلا يتفق المعنى
وإذا لم يتفق لم يجز النسق وكذلك إذا قلت : ليغفر الله لزيدٍ ويقطعُ يَدهُ لم يجز جزم ( يقطعُ ) لإختلاف المعنى ولكن يجوز في جميع ذا الرفع فيكون لفظه لفظ الخبر والمعنى الدعاءُ وإذا أسقطت اللام ولا رفعت الفعلَ المضارع فقلت : يغفرُ الله لكَ وغفَر الله لكَ وقال الله عز و جل : ( اليومَ يغفرُ الله لكم ) وقال : ( فلا يؤمنوا ) وقال الله تبارك وتعالى : ( ليضلوا عن سبيلك ) باللام
وقال : قومْ يجوزُ الدعاءُ بلَنْ مثل قوله : ( فَلَن أكونَ ظهيراً للمجرمينَ )
وقال الشاعر :
( لن تَزالوا كذلكم ثُمَ لا زلتَ لهم ... خالداً خُلُود الجبال )
والدعاء ( بلَنْ ) غير معروف إنما الأصلُ ما ذكرنا أن يجيء على لفظ الأمر والنهي ولكنه قد تجيء أخبار يقصدُ بها الدعاءُ إذا دلت الحالُ على ذلكَ الا ترى أنك إذا قلت : ( اللهم افعلْ بنَا ) لَم يحسنْ أن تأتي إلا بلفظ الأمر وقد حكى قوم : اللهم قطعت يده وفقئت عينهُ قال الشاعر :
( لا هم ربَّ الناس إن كذبت ليلى ... . . . )
وإن قدمتَ الأسماءَ فقلتَ : زيدٌ قطعتْ يده كانَ قبيحاً لأنه يشبهُ الخبرِ وهو جائزٌ إذا لم يشكل وإذا قلت : زيدٌ ليقطع الله يده كانَ أمثلَ لأنهُ غيرُ ملبسٍ وهو على ذلك اتساعٌ في الكلام لأن المبتدأ ينبغي أن يكون خبره يجوزُ فيه الصدق والكذب والأمر والنهي ليسا بخبرين والدعاء كالأمر وإنما قالوا : زيدٌ قم إليه وعمروٌ اضربْهُ اتساعاً كما قالوا : زيدٌ هَلْ ضربَتهُ فسدّ الإستفهام مسد الخبرِ وليس بخبر على الحقيقة وقال : إذا اجزت افعلْ ولا تفعل أمروا ولم ينهُوا وذلك في المصادر والأسماء والأدوات فتقول : ضرباً ضرباً والله تريد : اضربْ ضربا واتقِ الله
وهلمَّ وهاؤم إنما لم يجز في النهي لأنه لا يجوز أن يضمر شيئان لا والفعل ولو جاءوا ( بلا ) وحدها لم يجز أيضاً أن يحال بين ( لا ) والفعلِ لأنها عاملةٌ وتقولُ : ليضرب زيدٌ وليضرب عمروٌ وتقولُ : زيداً اضربْ تنصبُ زيداً ( باضربْ ) وقال قوم : تنصبُ زيداً بفعل مضمرٌ ودليلهم على ذلك أنك تدخلُ فيه الفاء فتقول : زيداً فاضربْ وقالوا : إنَّ الأمر والنهي لا يتقدمها منصوبهما لأن لهما الإستصدارَ والذين يجيزونَ التقديم يحتجون بقول العربِ بزيد امرر ويقولون : إن الباءَ متعلقة بامرر ولأنه لا يكون الفعل فارغاً وقد تقدمه مفعوله ويضمرون إذا شغلوا نحو قولهم : زيداً اضربْه ولهذا موضع يذكر فيه إن شاء الله
وتقول : ضرباً زيداً تريد : اضربْ زيداً
وقوم يجيزون ضرب زيد وأنت تريدُ : ضرباً زيداً ثم تضيف وهذا عندي قبيحٌ لأن ضرباً قامَ مقامَ اضربْ واضربْ لا يضاف والألفُ في الأمر تذهب إذا اتصلت بكلام نحو قولك : اضربْ اضربْ واذهبْ اذهبْ ويقولون : ادخلْ ادخلْ واذهبْ ادخلْ ويختارون الضم إذا كانت بعد مضمومٍ والكسر جائزٌ تقول : اذهبْ ادخلْ
وقد حكوا : ادخلِ الدارِ للواحدِ على الإِتباع وهو رديءٌ لأنه ملبسٌ وقالوا : يجوز الإِتباع في المفتوح مثل قولك : اصنع الخير
وقالوا : لا نجيزهُ ولم نسمعْهُ لأنّا قد سمعناهُ إذا حرك نحو قول الشاعر :
( يَحسَبُهُ الجَاهِلُ مَا لَمْ يَعْلَما ... )
وقوله :
( أَجِّرهِ الرُّمْحَ ولا تُهالَهْ ... )
لما كان قبله فتحٌ اتبع
فأما قول القائل : ما لَمْ يعلَما فقد قيلَ فيه أنهُ يريدُ النونَ الخفيفة وأما قولُه لا تُهالِه فإنه حركَ اللام لإلتقاء الساكنين لأنه قد علم أنه لا بد من حذفٍ أو تحريكٍ وكان الباب هُنا الحذف وأن تقولَ لا تهل ولكن فعلَ ذلك من أجل القافية لأن الالف لازمةٌ لحرف الروي فرده إلى أصله فالتقى ساكنان الألف واللام التي أسكنت للجزم فحرك اللام بالفتح لفتحة ما قبلها ولما منه الفتح وهي الألف وأدخل الهاءَ لبيان الحركة وتقولُ : زرني ولأزركَ فتدخل اللام لأن الأمر لكَ فإذا كان المأمور مخاطباً ففعلهُ مبنيٌ غير مجزومٍ وقد بينا هذا فيما تقدم وقوم من النحويين يزعمون أنَّ هذا مجزومٌ وأن أصلِ الأمرِ أن يكونَ باللامِ في المخاطب إلا أنه كثر فأسقطوا التاءَ واللامَ يعنونَ أن أصلَ اضربْ لتضربْ فأسقطوا اللامَ والتاء قال محمد بن يزيد وهذا خطأٌ فاحش وذلك لأن الإِعراب لا يدخل من الأفعال إلا فيما كان مضارعاً للأسماء وقولُكَ : اضربْ وقم ليسَ فيه شيءٌ من حروف المضارعة ولو كانت فيه لم يكن جزمهُ إلا بحرفٍ يدخل عليه
ويروى عن رسولِ الله أنه قرأ : ( فبذلك فلتفرحوا ) فإذا لم يكن الأمرُ للحاضرِ فلا بد من إدخال اللامِ تقول : ليقمْ زيدٌ وتقول : زرْ زيداً وليزرْكَ إذا كان الأمرُ لهما جميعاً لأن زيداً غائبٌ فلا يكون الأمر له إلا بإدخال اللام وكذلكَ إذا قلتَ : ضُرِبَ زيدٌ فأردتَ الأمرَ من هذا قلتَ : ليُضرَبْ زيداً لأنَّ المأمور ليس بمواجه والنحويون يجيزونَ إضمارَ هذه اللام للشاعر إذا اضطر وينشدون لمتمم بن نويرة :
( على مِثْلِ أصْحَابِ البَعُوضَةِ فاخْمِشِي ... لكِ الوَيْلَ حُرَّ الوَجْهِ أو يَبْكِ مَنْ بَكَى )
أراد : ليبكِ وقولُ الآخر :
( مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسُكَ كُلَّ نَفْسٍ ... إذا مَا خِفْتَ مِنْ شيءٍ تَبَالا )
قال أبو العباس : ولا أرى ذا على ما قالوا : لأنَّ عوامل الأفعالِ لا تضمرُ وأضعفها الجازمة لأن الجزم في الأفعال نظيرُ الخفض في الأسماء ولكن بيت متمم يُحملُ على المعنى لأنه إذا قال : فاخمشي فهو في موضع فلتَخْمشي فعطَف الثاني على المعنى
وأما هذا البيت الأخيرُ فليس بمعروف على أنه في كتاب سيبويه على ما ذكرت لكَ وتقول : ليقمْ زيدٌ ويقعدْ خالدُ وينطلقْ عبدُ اللِه لأنك عطفت على اللام
ولو قلت : قُمْ ويقعدْ زيدٌ لم يجزْ الجزم في الكلام
ولكنْ لو اضطر إليه الشاعر فحمله على موضع الأول لأنه مما كان حقهُ اللام جازَ وتقول : لا يقمْ زيدٌ ولا يقعدْ عبد الله لأنك عطفت نهياً على نهيٍ فإن شئتَ قلتَ : لا يقمْ زيدٌ ويقعْد عبد اللِه وهو بإعادتِكَ ( لا ) أوضحَ لأنك إذا قلت : لا يقمْ زيدٌ ولا يقعدْ عبد اللِه تبين أنكَ قد نهيتَ كل واحدٍ منهما على حياله فإذا قلت : لا يقمْ زيدٌ ويقعدْ عبدُ اللِه بغير ( لا ) ففيه أوجهٍ : قَد يجوزُ أن يقع عند السامع أنك أردتَ لا يجتمع هذان فإن قَعد عبدُ اللِه ولم يقمْ زيدٌ لم يكن المأمور مخالفاً وكذلك إن لَم يقمْ زيدٌ وقعدَ عبدُ الله
ووجه الإجتماع إذا قصدته أن تقول : لا يقمْ زيدٌ ويقصدْ عبدُ الله أي لا يجتمع قيام عبد الله وأنْ يقعدْ زيدٌ ( فلا ) المؤكدة تدخل في النفي لمعنى تقول : ما جاءني زيدٌ ولا عمرٌو إذا أردت أنه لم يأتِكَ واحد منهما على الإنفرادِ ولا مع صاحبه لأنك لو قلت : لم يأتني زيدٌ وعمروٌ وقد أتاك أحدُهما لم تكن كاذباً ( فلا ) في قولك : لا يقمْ زيدٌ ولا يقعدْ عمروٌ يجوزُ أن تكون التي للنهي وتكون المؤكدة التي تقعُ لما ذكرت لكَ في كل نفيٍ
واعلم : أن الطلب من النهي بمنزلته من الأمر يجري على لفظه وتقول ائتني أكرمْكَ وأينَ بيتُك أزرك وهل تأتيني أعطك وأحسن إليكَ لأنَّ المعنى : فإنَّكَ إنْ تفعلْ أفعلْ فأما قول الله عز و جل : ( يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارةٍ تنجيكم من عذابٍ أليمٍ ) ثم قَال : ( تؤمنونَ بالله ) فإن أبا العباس رحمه الله يقول : ليسَ هذا الجواب ولكنه شرح ما دعوا إليه
والجواب : ( يغفرْ لكم ذنوبكم ويدخلكم ) فإن قال قائلٌ : فَهلا كان الشرح ( أن تؤمنوا ) لأنه بدلٌ من تجارةٍ
فالجواب في ذلك : أن الفعل يكون دليلاً على مصدره فإذا ذكرت ما يدل على الشيء فهو كذكرِكَ إياهُ ألا ترى أنهم يقولون : منْ كذبَ كانَ شَراً لَهُ يريدون : كانَ الكذبُ
وقال الله عز و جل : ( ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم ) لأن المعنى البخل خير لهم فدل عليه بقوله ( يبخلون ) وقال الشاعر :
( أَلا أيُّهذا الزَّاجِرِي أحْضُرُ الوَغَى ... )
المعنى : عن أن أحضر الوَغَى فأنْ والفعل كقولك : عن حضور الوغى فلما ذكر ( أَحضرُ ) دل على الحضور وقد نصبُه قومٌ على إضمار ( أنْ ) وقدموا الرفع
فأما الرفع فلأن الفعلَ لا يضمرُ عامله فإذا حذف رفع الفعل وكان دالاً على مصدره بمنزلة الآية
وهي : ( هل أدلكم على تجارةٍ تنجيكم مِنْ عَذاب أليم ) ثم قال : ( تؤمنون بالله ) وذلك لو قالَ قائلٌ : ما يصنع زيدٌ فقلت : يأكلُ أو يصلي لأغناك عن أن تقول : الأكلُ والصلاةُ
ألا ترى أنَّ الفعل إنَّما مفعوله اللازم له إنما هو مصدرهُ لأن قولك : قد قامَ زيدٌ بمنزلة قولك : قد كان منه قيامٌ
فأما الذين نصبوا فلمْ يأبوا الرفعَ ولكنهم أجازوا معه النصب لأن المعنى ( بأنْ ) وقَد أبانَ ذلك بقوله فيما بعده
( وأنْ أَشهد ) فجعله بمنزلة الأسماء التي تجيءُ بعضها محذوفاً للدليل عليه وفي كتاب الله عز و جل : ( يسألُه مَنْ في السمواتِ والأرضِ ) قال : والقولُ عندنا أنَّ ( مَنْ ) مشتملةٌ على الجميعِ لأنها تقعُ للجميعِ على لفظها للواحد
وقد ذهب هؤلاء إلى أن المعنى : ومَنْ في الأرضِ وليسَ القولُ عندي كما قالوا
وقالوا في بيت حسان بن ثابت :
( فَمَنْ يَهْجُو رَسُول الله مِنْكُمْ ... ويَمْدَحهُ ويَنْصُره سَوَاءُ )
إنما المعنى : ومن يمدحهُ وينصرهُ وليس الأمر عند أهلِ النظر كذلك ولكنه جعل ( مَنْ ) نكرةً وجعل الفعلَ وصفاً لها ثم أقام في الثانية الوصف مقامَ الموصوف فكأنه قال : وواحدٌ يمدحهُ وينصرهُ لأن الوصف يقعُ موضع الموصوفِ إذا كان دالاً عليه
وعلى هذا قول الله عز و جل : ( وإنْ مِنْ أهلِ الكتَاب إلاَّ ليَؤُمنن بهِ ) وقال الشاعر:
( كأنَّك مِنْ جَمالِ بني أُقَيْشٍ ... يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنِّ )
يريدُ : كأنَكَ جَملٌ ولذلك قال : يقعقعُ خلفَ رجليهِ . وقالَ في أشدِ مِن ذا :
( مَا لَك عِنْدِي غَيْرُ سَهْم وحَجَرْ ... وغَيْر كَبْدَاءَ شَدِيدَةِ الوَتَرْ )
( جَادَت بِكفِّيْ كانَ مِنْ أرمى البَشَرْ ... )
قال أبو بكر : وهذا كله قولُ أبي العباس ومذهبه
● [ فصل من مسائل الجواب بالفاء ] ●
يَقول : هَلْ يقوم زيدٌ فتكرمُهُ يجوزُ الرفع والنصب النصب على الجواب والرفعُ على العطف وقال الله عز و جل : ( منَ ذا الذي يقرضُ الله قرضاً حسناً فيضاعفُهُ ) يقرأ بالرفع والنصب وتقول : ما أنَتَ الذي تقومُ فتقومَ إليهِ الرفع والنصب فالرفعُ على النسق والنصبُ على الجواب وتقول : مَنْ ذا الذي يقومَ فيقومُ إليهِ زيدٌ الرفع والنصب وقوم يجيزون توسط الفاء في الجزاء فيقولون : هَلْ تضربْ فيأتيكَ زيدٌ وهو عندي في الجزاء كما قالوا : لأنَّ ما بعد الفاء إذا نُصِبَ فهو مع ما قبله من جملةٍ واحدةٍ والجزاء وجوابه جملتان تنفصلُ كلُّ واحدة منهما عن صاحبتها
فلا يجوز أن يختلطا فإن قالَ قائلٌ : ينبغي أن يكون غيرَ جائز علىمذهبكم من قبل أن التقدير عندكم : هَلْ يقع ضَربٌ زيداً فإتيانك فلو أجزت ( زيداً ) في هذه المسألة لم يجزْ لأنه في صلة ( ضَربٌ ) فلا يجوز أن تفصل بين الصلة والموصول بشيءٍ فالجواب في ذلك أنك إذا قلت : هل تضربُ فيأتيكَ زيداً فإنما العطفُ على مصدرٍ يدلُ عليه ( يضربُ ) فأغنى عنه وعلى ذلك فينبغي أن لا يجري على التقديم والتأخير في مثل هذا إلا أن يسمع نحوه من العرب لأنه قد خولفَ به الكلام للمعنى الحادث وإذا أزيلَ الكلام عن جهته لمعنىً فحقه أن لا يزال بضده ولا يتصرف فيه التصرف الذي له في الأصل إلا أن يقول العرب شيئاً فتقوله والفراء يقول : إنما نصبوا الجواب بالفاء لأن المعنى كان جواباً بالجواب
فلما لم يؤتِ بالجزاء فينسقَ على غير شكله فنصب مثل قولكَ : هل تقومَ فأقومَ ومَا قمتُ فأقوم إنما التأويلُ لو قمت لقمتُ وشبههُ بقولهم : لو تركت والأسدَ لأكلك
وتقول : لا يسعني شيء ويضيقَ عنكَ لم يحسن التكريرُ فنصبتَ وقال بعضهم : إنما نصب الجواب بالفاء وإنْ لا تلي إلا المستقبلَ فشبه ( بأنْ ) والفاء في الجزاء تلي كل شيءٍ فبطلتْ والذي يجيزون توسط الجواب يقولون : ما زيدٌ فنأتيَهُ بمذنبٍ يجيزونَ النصب ولا يجيزون الرفع ولا يجوز أن تقول : ما زيدٌ نأتيهِ إلا أن تريد الإستفهامَ
وأعلم : أنه لا يجوز أن تلي الفاء ( ما ) ولا شيءٌ مما يكون جواباً وفي كتاب سيبويه في هذا الباب مسألةٌ مشكلةٌ وأنا ذاكرٌ لفظَهُ وما يجب فيها من السؤال والجواب عنه
قال سبيويه : لا تدنُ من الأسدِ يأكُلكَ قبيحٌ إن جزمت وليس وجه كلام الناس لأنك لا تريد أن تجعل تباعدهُ مِنَ الأسد سبباً لأكله فإن رفعت فالكلام حسنٌ فإن أدخلت الفاء فحسنٌ وذلك قولك : لا تدنُ منهُ فيأكلُكَ وليس كل موضعٍ تدخل فيه الفاءُ يحسنُ فيه الجزاء ألا ترى أنه يقول : ما أتيتنا فتحدثنا والجزاء ها هنا محال وإنما قَبُحَ الجزم في هذا لأنه لا يجىء فيه المعنى الذي يجيء إذا أدخلت الفاء فمما يسأل عنه في هذا أن يقال : لِمَ حَسُنَ مع الفاءِ النصبُ وقبح في الجزم ولمْ يفصل بينهما سيبويه بشيءٍ قَبحه فالجواب في ذلك أن الفرق بين المنصوب والمجرور أنك إذا جزمت إنما تقدر مع حرف الجزاء الفعل الذي ظهر وإن كان أمراً قدرت فِعلاً موجباً وإن كان نهياً قدرت فِعلاً منفياً ألا ترى أنك إذا قلت : قُم أعطكَ فالتأويلُ : إنْ تَقم أعطِكَ وإذا قلتَ لا تقمْ أعطكَ
فالتأويل : إلاّ تقمْ أعطكَ فالإِيجابُ نظيرُ الأمرِ والنفي نظيرُ النهي لأنَّ النهيَ نفيٌ فهذا الجزاء على أنه لم ينقل فيه فِعلٌ إلى اسمٍ ولا يستدلُ فيه بفعل على اسم ثم عطف عليه وإن قال : ما تأتيني فتحدثني فما بعد الفاء في تقدير اسم قد عطف على اسم دل عليه ( تأتيني ) لأن الأفعال تدل على مصادرها وكذلك إذا قال : لا تفعلْ فأضربكَ فالتأويل على ما قال سيبويه : أن المنصوب معطوفٌ على اسم كأنه إذا قال : ليس تأتيني فتحدثَني قال : ليسَ إتيانٌ فحديثٌ وإذا قال : لا تفعلْ فتضربْ قد قال : لا يكنْ فِعلٌ فتضربَ وهذا تمثيلٌ وقد فَسرهُ وقواهُ ودل على أن الثاني المنصوب من الجملة الأولى : وإن كانت الأولى مسألة
قال : اعلم : أن ما ينتصب على باب الفاء ينتصب على غير معنى واحدٍ وكل ذلك على إضمار ( أنْ ) إلا أن المعاني مختلفة كما أن قولك : ( يعلمُ اللَّهُ ) يرتفع كما يرتفعُ : يذهبُ زيدٌ وعَلِمَ اللَّهُ يُفتحُ كما يُفتح : ذَهَب زيدٌ وفيها معنى اليمينِ قال : فالنصب هنا كأنك قلت : لم يكنْ إتيانٌ فإن تحدثَ والمعنى غير ذلك كما أن معنى : عَلِمَ اللَّهُ لأفعلن غير معنى : رَزقَ اللَّهُ فإن ( تحدث ) في اللفظ فمرفوعة بيكن لأن المعنى لم يكن إتيانٌ فيكون حديثٌ فقوله مرفوعةٌ يدل على أن الفاءَ عاطفةٌ عطفت اسماً على اسمٍ والكلامُ جملةٌ واحدةٌ ومن شأن العرب إذا أزالوا الكلام عن أصله إلى شيءٍ آخر غيروا لفظه وحذفوا منه شيئاً وألزموه موضعاً واحداً إذا لم يأتوا بحرف يدلُّ على ذلك المعنى ولم يصرفوه وجعلوه كالمثل ليكون ذلك دليلاً لهم على أنهم خالفوا به أصل الكلام فقد دل ما قال سيبويه : على أن النفي والنهي إنما وقعا على المصدرين اللذين دل عليهما الفعلان ويقوى أن الفاء للعطف إذا نصبت ما بعدها الواو إن قصتها في النصب وهما للعطف فإن قال قائلٌ : فَلِمَ جاءوا بالفعلِ بعدَ الفاء وهم يريدون الأسمَ قيل : لأن الظاهر الذي عُطِفَ عليهِ فعلٌ
فكانَ الأحسن أن يعطفَ فعلٌ على فعل ويغير اللفظُ فيكون ذلكَ التغيير دليلاً على المصدرين ألا تراهم في النفي كما قالوا : لا أبالكَ فأضافوا إلى المعرفِة أقحموا اللام ليشبه النكرة والمعطوف بالفاء والواو وغيرهما على ما قبله يجوز أن يكون ما قبله سبباً لَهُ ويجوز أن لا يكون سبباً لهُ إذا كان لفظهُ كلفظهِ نحو قولك : يقومُ زيدٌ فيضربُ ويقومُ ويضربُ وزيدٌ يقوم فيقعد عمروٌ فيجوز أن يكون القيامُ سبباً للضرب ويجوز أن لا يكونَ إلا أن الفاء معناه اتباعُ الثاني الأولَ بلا مهلةٍ فإذا أرادوا أن يجعلوا الفعل سبباً للثاني جاءوا به في الجزاء وفيما ضارعَ الجزاء وجميع هذه المواضع يصلح فيها المعنى الذي فيها من الإتباع ألا ترى أن الشاعر إذا اضطر فعطف على الفعل الواجب الذي على غير شرطٍ بالفاءِ وكان الأول سبباً للثاني نصب كما قال :
( سَأَتْرُكُ مَنْزِلي لِبَني تَمِيمٍ ... وألْحَقَ بالحِجَازِ فأَسْتَرِيَحا )
جعل لحاقَهُ بالحجاز سبباً لأستراحته فتقديرهُ لما نصب كأنه قال : يكونُ لحاقٌ فاستراحةٌ وقد جاء مثله في الشعر أبياتٌ لقوم فصحاءَ إلاّ أنهُ قبيحٌ أن تنصب وتعطف على الواجبِ الذي على غير شِعْرٍ وأَلحق بالحجاز فإذا لحقتَ استرحتَ وإنْ أَلحقْ أسترح ومع ذلك فإن الإِيحاب على غير الشرط أصلُ الكلامِ وإزالةُ اللفظ عن جهتهِ في الفروعِ أحسنُ منها في الأَصولِ لأنها أَدَلُّ على المعاني ألا ترى أنهم جازوا بحرف الإستفهامِ والإستفهام وإنما جازوا بالأخبارِ لأفعالِ المستفهمِ عنها فقالَ أَينَ بيتُكَ يُرادُ به أعلمني
والعطفُ بالفاء مضارعٌ للجزاءِ لأنَّ الأولَ سببٌ للثاني وهو مخالف له من قبل عقدَهُ عَقدَ جملةٍ واحدةٍ ألا ترى أنهم مثلوا
ما تأتينا فتحدثَنا في بعض وجوهها بما يأتينا محدثنا فإن قلت : لا تعصِ فتدخل النار فالنهي هُو النفي كما عرفتُكَ فصارَ بمنزلةِ قولك : ما تعصي فتدخلُ النارَ فقد نفيتَ العصيانَ الذي يتبعُه دخولُ النار ِوكذلك قد نهيتَ عنه
فالنهي قد اشتمل على الجميع إلا أن فيه من المعنى في النصب ما ذكرنا فإن قلت : قُمْ فاعطيكَ فالمعنى ليكن منكَ قيامٌ يوجبُ عَطيتي وكذلك اقعدْ فتستريحُ أي : ليكن منكَ قعودٌ تتبعهُ راحةٌ فيقرب معناه من الجزاء إذا قلتَ : قم أعطكَ أي إن تقم أعطك وإذا دخلت الفاء في جواب الجزاء فهي غيرُ عاطفةٍ إلاّ أنَّ معناها الذاتي يخصها تفارقهُ إنها تتبع ما بعدها ما قبلها في كُلِّ موضعٍ وقالَ الشاعرُ في جواب الأمر :
( يَا نَاقُ سِيرِي عَنقاً فَسِيحَا ... إلى سُلَيْمَانَ فَنَسْتَريحَا )
فقد جعل سير ناقته سبباً لراحتِه فكأنه قال : ليكن منك سيرٌ يوجبُ راحتَنا وهذا مضارعٌ لقولهِ : إنْ تسيري نستريحْ ولذلكَ سمى النحويون ما عُطفَ بالفاء ونُصِبَ جواباً لشبهه بجواب الجزاءِ وكذلك إذا قالَ : أدنُ مِنَ الأسدِ يأكلُكَ فهو مضارعٌ لقولهِ : ادنُ مِنَ الأسد فيأكلُكَ لأن معنى ذاكَ إنْ تدنُ مِنَ الأسدِ يأكلُكَ ومعنى هذا : ليكن مِنك دنوٌ مِنَ الأسدِ يوجبُ أكَلكَ أو يتبعهُ أَكَلُكَ إلاّ أنّ هذا مما لا يؤمر بهِ لأنَّ مِنْ شأنِ الناس النهيُ عَن مثلِ ذلكَ لا الأمرُ به فإنْ أردتَ ذاك جازَ فإذا قلت : لا تدن مِنَ الأسد يأكلْكَ لَم يجزْ لأن المعنى : أنكَ تدنُ مِنَ الأسدِ يأكلُكَ لم يكنْ إلاّ على المجازِ وإن السامعَ يعلمُ ما تعني لأنَّ المعنى : إلاّ تدنِ مِن الأسدِ يأكلْكَ وهذا محالٌ لأن البعدَ لا يوجبُ الأكلَ فإذا قلتَ : لا تدنِ من الأسدِ فيأكلُكَ جاز لأنَّ النهي مشتملٌ في المعنى على الجميع كأنه قال : لا يكنْ منكَ دنوٌ مِنَ الأسدِ يوجبُ أكَلكَ أو يتبعه أكلُكَ وكذلك قوله : ما تدنو من الأسدِ فيأكلُكَ هو مثل لا تدنِ لا فرقَ بينهما
وفي الجزاء قد جعل نفي الدنِّو موجباً للأكلِ
واعلَمْ : أنَّ كل نفيٍ معنى تحقيق للإِيجاب بالفاء نحو : ما زال ولَم يزْل لا تقول : ما زالَ زيدٌ قائماً فأعطيكَ وإنما صار النفي في معنى الإِيجاب من أجلِ أنَّ قولهم زالَ بغير ذكر ما في معنى النفي لأنك تريدُ عدم الخَبرِ فكأنَكَ لو قلت : زالَ زيدٌ قائماً لكان المعنى زالَ قيامُه فهو ضد كان زيدٌ قائماً وكانَ وأَخواتُها إنما الفائدة في أخبارها والإِيجابُ والنفي يقع على الأخبار فلما كان زالَ بمعنى : ما كانَ ثم أدخلتْ ( ما ) صار إيجاباً لأنَّ نفيَ النفي إيجابٌ فلذلك لم يجزْ أن يجابَ بالفاءِ وقوم يجيزونَ أنت غيرُ قائمٍ فَتأتيكَ قال أبو بكر : وهذا عندي لا يجوز لأنَّا إنما نَعطف المنصوب على مصدر يدلُّ عليه الفعلُ فيكون حرف النفي منفصلاً وغير اسمٍ مضافٍ وليست بحرفٍ فتقول : ما قامَ زيدٌ فيحسَنْ إلاّ حُمِدَ وما قامَ فيأكل إلا طعامَهُ قال الشاعر :
( ومَا قَام مِنَّا قَائمٌ في نَدِيِّنَا ... فَيَنْطِقَ إلا بالَّتِي هِىَ أَعْرَفُ )
تقول : ألا سيفٌ فأكونَ أَوَلَ مقاتلٍ وليتَ لي مالاً فأعينَك
وقوله : ( يا ليتنا نُردُ ولا نكذب ) كانَ حمزةُ ينصبُ لأنه اعتبر قراءة ابن مسعود الذي كانَ يقرأُ بالفاء وينصبُ
والفراءُ يختار في الواو والفاء الرفع لأن المعنى : يا ليتنا نرد ولسنا نكذبُ استأنفَ ومن مسائلهم لعلِّي سأَحجُّ فأزورَكَ ولعلكَ تشتمنا فأقومَ إليكَ ويقولون ( لعل ) تُجاب إذا كانت استفهاماً أو شكاً وأصحابنا لا يعرفون الإستفهامَ بلعلَ وتقول : إنَّما هي ضربةٌ مِنَ الأسدِ فتحطم ظهرهُ كأنه قال : إنَّما هي ضربةٌ فحطمهُ فأضمر ( أنْ ) ليعطفَ مصدراً على مصدر وقالوا : الأمرُ مَنْ ينصبُ الجوابُ فيه والنهي يُجابُ بالفاءِ لأنهُ بمنزلةِ النفي ويجوزُ النسق
وقالوا : العَربُ تذهبُ بالأمر إلى الإستهزاء والنهي فتنصب الجواب فيقولون : استأذنْ فيؤذنَ لكَ أي لا تستأذنْ وتحركْ فأصبنَكَ قالوا : والعربُ تحذفُ الفعلَ الأول مع الإستفهام للجواب ومعرفة الكلام فيقولون : متى فأَسيرُ معكَ وأجازوا : متى فآتيكَ تخرجْ ولَم فأسيرَ تسرْ وقالوا : كأنَّ ينصب الجواب معها وليس بالوجه وذاك إذا كانت في غير معنى التشبيه نحو قولك
كأنَّكَ والٍ علينَا فتشتمنَا والمعنى لست والياً علينا فتشتمنا وتقول أريد أن آتيك فأستشيرك لأنك تريد إتيانه ومشورته جميعاً
فلذلك عطفت على ( أن ) فإن قلت أريد أن آتيك فيمنعني الشغل رفعت لأنك لا تريد منع الشغلِ فإنْ أردت ذلك نصبت وقالوا : ( لولا ) إذا وليتْ فعلاً فهي بمنزلةِ هَلاّ ولَوما تكون استفهاماً وتجاب بالفاء وإذا وليت الأسماء لم ينسق عليها بلا ولَم تجب بالفاء وكانت خبراً نحو قوله : ( ولولا أنتم لكنا مؤمنين ) و ( لولا أخرتني إلى أَجلٍ قَريبٍ فأصدقَ ) وقالوا : الإختيارُ في الواجبِ منها الرفعُ وقد نصبَ منها الجوابُ قال الشاعر :
( ولَو نُبِشَ المَقَابِرُ عَن كُلَيْبٍ ... فَيَعْلَمَ بالذَّنائبِ أَيُّ زِيرِ )
ذهب بِه مذهب ( ليتَ ) والكلام الرفع في قولهِ عز و جل : ( ودوُّا لَو تُدْهِنُ فيُدهنونَ )
واعلم أن الأسماء التي سمى بها الأمر وسائر الألفاظ التي أقيمت مقام فعلِ الأمر وليست بفعل لا يجوز أن تجاب بالفاء نحو قولك : تراكَها ونَزالِ ودونَك زيداً وعليك زيداً لا يجابُ لأنه لا ينهى به
وكذلك إليك لا يجابُ بالفاءِ لأنه لم يظهر فعلٌ ومَه وصه كذلك
قالوا : الدعاءُ أيضاً لا يجابُ نحو قولك : ليغفرُ اللَّهُ وغفرَ اللَّهُ لَك والكسائي يجيزُ الجواب في ذلك كله وأما الفراء فقال في الدعاء : إنَّما يكون مع الشروط : غَفر الله لكَ إنْ اسلمتَ وإنْ قلتَ : غَفَر اللَّهُ لكَ فيدخلُك الجنةَ جازَ وهو عندي في الدعاء جائزٌ إذا كان في لفظ الأمر لا فرق بينهما ولا يكونُ للفاء جواب ثانٍ ولا لشيءٍ جَوابانِ وأما قولهُ عزَ وجلَ : ( ولا تَطْرُدِ الَّذِينَ يدعونَ ربَّهم بالغَدَاةِ والعشي يريدونَ وجهُه ما عليكَ مِنْ حسابهم مِن شيءِ ومَا مِن حسابِكَ عليهم من شيءٍ فتطردَهم فتكونَ من الظالمين )
إنما هُوَ : ولا تطردِ الذين يدعونَ ربهم فتكون من الظالمينَ ما عليك من حسابهم من شيءٍ فتطردَهم فتكونَ جَوابُ ( لا ) وقولهُ : فتطردهم جَوابُ ( مَا ) وتقول : ما قاَم أَحدٌ إلا زيدٌ فتحسنَ إليهِ إنْ كانتِ الهاءُ لأحدٍ فجائز لأن التقدير ما قام أَحدٌ فيحسنَ إليه وإنْ كانت الفاءُ لزيدٍ فَخطأٌ لأن الموجبَ لا يكون له جوابٌ والإستثناء إذا جاء بعد النفي فالمستثنى موجبٌ
وكذلك إنْ قلت : ما قامَ إلاّ زيدٌ فتحسنَ إليه محالٌ لأن التحقيق لا جوابَ لَهُ
كتاب : الأصول في النحو
المؤلف : أبي بكر محمد بن سهل بن السراج النحوي البغدادي
منتدى الرسالة الخاتمة - البوابة