إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان
الرسالة- Admin
- عدد المساهمات : 3958
تاريخ التسجيل : 01/01/2014
- مساهمة رقم 1
إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان
الحمد لله الحكيم الكريم العلي العظيم السميع العليم الرءوف الرحيم الذي اسبغ على عباده النعمة وكتب على نفسه الرحمة وضمن الكتاب الذي كتبه ان رحمته تغلب عضبه فهو ارحم بعباده من الوالدة بولدها كما هو اشد فرحا بتوبة التائب من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الارض المهلكة اذا وجدها واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له رب العالمين وارحم الراحمين الذي تعرف الى خلقه بصفاته واسمائه وتحبب اليهم باحسانه والائه واشهد ان محمدا عبده
الرسالة- Admin
- عدد المساهمات : 3958
تاريخ التسجيل : 01/01/2014
- مساهمة رقم 2
تابع إغاثة اللهفان
● [ فصل ] ●واما الاعتبار واصول الشريعة فمن وجوه : الاول : ان المؤاخده انما ترتبت على الاقوال لكونها ادلة على ما في القلب من كسبه وارداته
كما قال تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في ايمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم
فجعل سبب المؤاخذة كسب القلب وكسبه هو ارادته وقصده ومن جرى على لسانه الكلام من غير قصد واختيار بل لشدة غضب وسكر او غير ذلك لم يكن من كسب قلبه
ولهذا لم يؤاخذ الله سبحانه الذي اشتد فرحه بوجود راحلته بعد الاباس منها فلما وجدها اخطا من شدة الفرح وقال : اللهم انت عبدي وانا ربك فجرى هذا اللفظ على لسانه من غير قصد فلم يؤاخذه كما يجري الغلط في القران على لسان القارىء
ولكن قد يقال هذا قصد الصواب فاخطا فلم يؤاخذ اذا كان قصده ضد ما تكلم به بخلاف الغضبان اذا طلق فانه قاصد للطلاق
قيل لا كلام في الغضبان العالم بما يقول القاصد المختار لحكمه دفعا لمكروه
البقاء مع الزوجة وانما الكلام في الذي اشتد غضبه حتى الجاه الشيطان الى التكلم بما لم يكن مختارا للتكلم به كما يلجئه الى فعل ما لم يكن لولا الغضب يفعله
يوضحه الوجه الثاني وهو : ان الارادة فيه هو محمول عليها ملجأ اليه كالمكره بل المكره احسن حالا منه فان له قصدا وارادة حقيقة لكن هو محمول عليه وهذا ليس له قصد في الحقيقة فاذا لم يقع طلاق المكره فطلاق هذا اولى بعدم الوقوع
يوضحه الوجه الثالث وهو : ان الامر الحامل المكره على التكلم بالطلاق يشبه الحامل للغضبان على التكلم به فان المتكلم مكرها انما يقصد الاستراحة من توقع ما اكره به ان لم يباشر به او من حصوله ان كان قد باشره بشئ منه فيتكلم بالطلاق قاصدا لراحته من الم ما اكره به وهكذا الغضبان فإنه اذا اشتد به الغضب يألم بحمله فيقول ما يقول ويفعل ما يفعل ليدفع عن نفسه حرارة الغضب فيستريح بذلك وكذلك يلطم وجهه ويصيح صياحا قويا ويشق ثيابه ويلقي ما في يده دفعا لالم الغضب والقاء لحمه منه وكذلك يدعو على نفسه واحب الناس اليه فهو يتكلم بصيغة الطلب والاستدعاء والدعاء وهو غير طالب لذلك في الحقيقة فكذلك يتكلم بصيغة الانشاء وهو غير قاصد لمعناها ولهذا يأمر الملوك وغيرهم عند الغضب بامور يعلم خواصهم انهم تكلموا بها دفعا لحرارة الغضب وانهم لا يريدون مقتضاها فلا يمتثله خواصهم بل يؤخرونه فيحمدونهم على ذلك اذا سكن غضبهم وكذلك الرجل وقت شدة الغضب يقوم ليبطش بولده او صديقه فيحول غيره بينه وبين ذلك فيحمدهم بعد ذلك كما يحمد السكران والمحموم ونحوهما من يحول بينه وبين ما يهم بفعله في تلك الحالة
الوجه الرابع : ان العاقل لا يستدعي الغضب ولا يريده بل هو اكره شئ اليه
وهو كما قال النبي : جمرة في قلب ابن ادم اما رأيتم من احمرار عينيه وانتفاخ اوداجه
والعاقل لا يقصد القاء الجمرة في قلبه فهو ناشئ فيه بغير اختياره واذا كان هو السبب الحامل على المتكلم بالطلاق وغيره لم يكن ذلك ايضا مضافا الى اختياره وارادته وهذا كما ان ارادة السبب ارادة للمسبب فكراهة السبب وبغضه كراهة للمسبب
يوضحه الوجه الخامس وهو : انك تقول للغضبان اذا اشتد غضبه ففعل ما لم يكن يفعله او تكلم بما لم يكن يتكلم به قبل الغضب : هل اردت ذلك او قصدته ؟ فيحلف انه ما اراده ولا قصده ولا كان له باختيار ويحلف انه وقع بغير اختيار ولا تنكر هذا فانك تجده من نفسك وتحقيق الامر ان له فيه ارادة هو : محمول عليها حملة عليها الغضب فهي : كارادة المكره بل المكره ادخل في الارادة كما تقدم وهذا يدل على ان الغضبان اولى بعدم الوقوع من المكره
يوضحه الوجه السادس وهو : ان الخوف في قلب المكره كالغضب في قلب الغضبان لكن المكره مقهور بغيره من خارج والغضبان مقهور بغضبه الداخل فيه وقهر الاكراه يبطل حكم الاقوال التي اكره عليها ويجعلها بمنزلة كلام النائم والمجنون دون حكم الافعال فانه يقتل اذا قتل ويضمن اذا تلف فكذلك قهر الغضب يبطل حكم اقوال الغضبان دون أفعاله حتى لو قتل في هذه الحالة قتل أو أتنلف شيئا ضمنه هذا كله في الغضبان الذي يكره ما قاله حقيقة فاما من هو مريد له على تقدير عدم غضبه لاقتضاء السبب ذلك فليس من هذا الباب كمن زنت امراته فغضب فطلقها لانه لا يرى المقام مع زانية فلم يقصد بالطلاق اطفاء نار الغضب بل التخلص من المقام مع زانية فهذا يقع طلاقة فتأمل هذا الفرق فانه حرف المسالة ونكتتها وهذا بخلاف من خاصمته امرأته وهو يعلم من نفسه ارادة المقام معها على الخصومة وسوء الخلق ولكن حملة الغضب على ان شفي نفسه بالتكلم بالطلاق كسرا لها واطفاء لنار غضبه
يوضحه الوجه السابع وهو : ان الغضبان يفعل امورا من شق الثياب واتلاف المال وغير ذلك مما لو اكره حتى يتكلم بالطلاق لم ينفذ طلاقه ولغت اقواله فاذا فعل هو هذه الامور علم ان الذي الجأه اليها اعظم من الاكراه فإن المكره لو اكره بها لم يفعلها وهذا قد فعلها ان المقتضي لفعلها فيه اولى من اقتضاء الاكراه لفعلها والمكره لو فعل به ذلك كان مكرها فالغضبان كذلك وهذا واضح جدا
فإن قيل : المكره اذا تكلم بما اكره عليه دفع عنه الضرر والغضبان لا يدفع عنه بهذا القول ضررا فليس كالمكره
قيل لا ريب انهما يفترقان في هذا الوجه ولكن لا يوجب ذلك ان يكون الغضبان مختارا مريدا لما قاله او فعله بك اكره شئ اليه وهذا امر لا يمكن دفعه
فإن قيل : فما الحامل على ما يكره ويؤديه من غير ان يتوصل به الى ما هو احب اليه منه ؟
قيل لما كان الغضب عدو العقل وهو له كالذئب للشاة قل ما يتمكن منه الا اغتال عقله فقد ازاله الغضب واطفا ناره وهذا مقصود صحيح في نفسه لكن لما غاب عنه عقله قصد ازالة ذلك مما فيه ضرر عليه ليخفف عن نفسه ما هو فيه من البلاء ولولا ذلك لم يفعل ما لا يفعله في الرضا ولا تكلم بما لم يكن به فهو قصد ان يستريح ويسكن ويبرد غضبه بتلك الاقوال والافعال وان لم يدفع ذلك عنه بجملته تلك الشدة فانها تخفف وتضعف فاقتضت رحمة الشارع به ان الغي اقواله في هذه الحال ان تمكن ان لا يترتب عليها اثرها وتكون كأقوال المبرسم والمجنون الهاجر ونحوهما و اما الافعال فلا يمكن الغاء اثرها فرتب عليه موجب فعله
فإن قيل : فيلزمكم على هذا انه لوحلف في هذه الحال ان لا تنعقد يمينه
قيل قد قال بذلك جماعة من السلف والخلف واختاره من لايرتاب في امامته وجلالته وكان يقرن بالائمة الكبار اسماعيل بن اسحاق القاضي
فان قيل لكن المنقول عن الصحابة وجمهور التابعين والائمة الاربعة اعتبار نذر اللجاج والغضب وان تنازعوا في موجبه فاوجب مالك واهل العراق الوفاء به كنذر التبرر وخبر الليث بن سعد والشافعي واحمد بن حنبل بين فعله وبين فعله وبين كفارة اليمين ولم يقل احد منهم : انه لا ينعقد وانه لغو
وقد ذكر الله تعالى الكفارة في الايمان كلها ولم يحصل منها يمين الغضب دون يمين الرضا
قيل نعم هذا حق ولكن اليمين لما قصد صاحبها الحض او المنع كانت الكفارة رافعة لما حصل بها من الضرر بخلاف الطلاق والعتاق فانهما اتلاف محض لملك البضع والرقبة ولا كفارة فيهما فالضرر الحاصل بوقوعهما لا يندفع بكفارة ولا غيرها وكما انه يفرق في الاكراه بين نوع ونوع فالاكراه يبيح الاقوال عندنا وعند الجمهور وكل قول اكره عليه بغير حق فانه باطل وابو حنيفة يفرق بين نوع ونوع والاكراه على الافعال ثلاثة انواع . نوع لا يباح بالاكراه كقتل المعصوم واتلاف اطرافه ونوع يبيحه الاكراه بشرط الضمان كاتلاف مال المعصوم . ونوع مختلف فيه كالزنا والشرب والسرقة وفيه روايتان عن الامام احمد فما امكن تلافيه ابيح بالاكراه كالاقوال والاموال وما كان ضرره كضرر الاكراه لم يبح به كالقتل فانه ليس قتل المعصوم بحياة المكره اولى من العكس
واما الافعال كالقران يدل على رفع الاثم فيها . كقوله تعالى ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ان اردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فان الله من بعد اكراههن غفور رحيم
الوجه الثامن : ان النبي شرع للغضبان ان يقول : اعوذ بالله من الشيطان الرجيم وان يتوضا وان يتحول عن حالته فإن كان قائما فليقعد واذا كان قاعدا فليضطجع
قال : ان الغضب من الشيطان وان الشيطان من النار وانما تطفا النار بالماء فاذا غضب احدكم فليتوضا
وهذا يدل على انه محمول عليه من غيره وان الشيطان يغضبه ليحمله بغضبه على فعل ما يحبه الشيطان وعلى التكلم به وما يضاف الى الشيطان مما يكره العبد ولا يحبه فلا يؤاخذ به الانسان كالوسوسة والنسيان
كما قال فتى موسى لموسى وما انسانيه الا الشيطان ان اذكره فالله تعالى لا يؤاخذ بالوسوسة ولا بالنسيان اذ هما من اثر فعل الشيطان في القلب وقد اخبر النبي ان الغضب من الشيطان فيكون اثره مضافا اليه ايضا فلا يؤاخذ به العبد كاثر النسيان فإنه لو حلف ان لايتكلم بكذا فتكلم به ناسيا لم يحنث لعدم قصده وارادته لمخالفة ما عقد يمينه عليه وان كان قاصدا للكلام فانه لم يقع منه الا بقصده وارادته وهذه حال الغضبان فانه لم يقصد حقيقة ما تكلم به وموجبه بل جرى على لسانه كما جرى كلام الناسي على لسانه بل قصد الناسي للتكلم اظهر من قصد الغضبان ولهذا يقول الناسي : قصدت ان اقول كذا وكذا والغضبان يحلف انه لم يقصد
الوجه التاسع : ان المقصود في العقود معتبرة في عقدها كلها والغضبان ليس له قصد معتبر في حل عقدة النكاح كما ليس له قصد في قتل نفسه وولده واتلاف ماله فانه يفعل في الغضب هذا ويقول : هذا فاذا لم يكن له قصد معتبر لم يصح طلاقه
فإن قيل : هذا ينقص عليكم بالهازل فانه يصح طلاقه وان لم يكن له فيه قصد
قيل : الفرق بينهما : ان الهازل قصد التكلم باللفظ واراده رضا واختيار منه لم يحمل على التلفظ به وغايته ان لم يرد حكمة وموجبه وذلك الى الشارع ليس اليه فالسبب الذي اليه قد اتى به اختيارا وقصدا مع علمه به لم يحمل عليه والسبب الى المشرع ليس اليه فلا يصح اعتبار احدهما بالاخر وكيف يقاس الغضبان على المتخذ ايات الله هزؤا وهذا من افسد القياس ؟
الوجه ا لعاشر ان الغضب مرض من الامراض وداء من الادواء فهو في امراض القلوب نظير الحمى والوسواس والصرع في امراض الا بدان فالغضبان المغلوب في غضبه كالمريض والمحموم والمصروع المغلوب في مرضه والمبرسم المغلوب في برسامه وهذا قياس صحيح في الغضبان الذي قد اشتد به الغضب حتى لايعلم ما يقول واما اذا كان يعلم ما يقول ولكن يتكلم به حرجا وضيقا وغلقا لاقصدا للوقوع فو يشبه المبرسم والهاجر من الحمى من وجه ويشبه المكره القاصد للتكلم من وجه ويشبه المختار القاصد للطلاق من وجه فهو متردد بين هذا وهذا وهذا ولكن جهة الاختيار والقصد فيه ضعيف فإنه يعلم من نفسه انه لم يكن مختارا لما صدر منه من خراب بيته وفراق حبيبه وكونه يراه في يد غيره فان كان عاقلا لايختار هذا الا ليدفع به ما هو اكره اليه منه او ليحصل به ما هو احب اليه فاذا انتفى هذا او هذا لم يكن مختارا لذلك وهذا امر يعلمه كل انسان من نفسه فصار تردده بين المريض المغلوب والمكره المحمول على الطلاق وايهما كان فانه لاينفذ طلاقه
فان قيل الفرق بينهما ان المريض المغلوب لا يملك نفسه في الحال والمكره وان يملك نفسه لكنه لا يملك دفع المكروه عنه واما الغضبان فإنه يملك نفسه
كما قال النبي ليس الشديد بالصرعه ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب
قيل : من الغضب ما يمكن صاحبه ان يملك نفسه عنده وهو الغضب في مبادئه فإدا استحكم وتمكن منه لم يملك نفسه عند ذلك وكذلك الحزن الحامل على الجزع يمكن صاحبه ان يملك نفسه في اوله فاذا استحكم وقهر لم يملك نفسه وكذلك الغضب يمكن صاحبه ان يملك نفسه في اوله فاذا تمكن واستولى سلطانه على القلب لم يملك صاحبه قلبه فهو اختياري في اوله اضطراري في نهايته كما قال القائل : ... يا عاذلي والامر في يده ... هلا عذلت وفي يدي الأمر ...
وهكذا السكران سبب السكر مقدور له يمكنه فعله وتركه فإذا اتى بالسبب خرج الأمر عن يده ولم يملك نفسه عند السكر فاذا كان السكر الذي هو مفرط بتعاطي اسبابه ويقدر على ملك نفسه باجتنابها قد عذر الصحابة وغيرهم من الفقهاء صاحبة اذا طلق في هذه الحال مع كونه غير مغدور في تعاطي سببه فلان يعذر سكران الغضب الذي لم يفر مع شدة سكره على سكر الخمر اولى واحرى
الوجه الحادي عشر وهو ان من الناس من اذا لم ينفذ غضبه قتله غضب غضبه ومات اومرض او اغشي عليه كما يذكر عن بعض العرب ان رجلا سبه فاراد ان يرد على الساب فامسك جليس له بيده على فمه ثم رفع يده لما ظن ان غضبه قد سكن فقال : قتلتني رددت غضبي في جوفي ومات من ساعته فاذا نفذ مثل هذا غضبه بقتل او ظلم لغيره لم يعذر بذلك السكران واما اذا نفذ بقول فانه يمكن اهدار قوله وان لا يترتب اثره عليه كما اهدر الله سبحانه دعاءه و لم يرتب اثره عليه ولم يستجبه له ولهذا ذهب بعض الفقهاء الى انه لا يجلد القذف في حال الخصومة والغضب وانما يجلد به اذا اتى به اختيارا وقصدا لقذفه وهو قول قوي جدا ويدل عليه ان الخصم لا يعذر بجرحه لخصمه وطعنه فيه حال الخصومة بقوله : هو فاجر ظالم غاشم يحلف على الكذب ونحو ذلك :
ومن يحده في هذه الحال يفرق بين قذفه وطلاقة بان القدف حق لادمي وانتهاك لعرضه او قدحه في نفسه فيجري مجرى اتلاف نفسه وماله فلا يعذر فيه بالغضب لا سيما ولو عذر فيه بذلك لامكن كل قاذف ان يقول في حال الغضب فيسقط الحد بخلاف الطلاق فانه يمكن ان يدين فيما بينه وبين الله والحق لا يعدوه
والمقصود انه اذا تكلم بالطلاق دواء لهذا المرض وشفاء له باخراج هذه الكلمة من صدره وتنفسه بها فمن كمال هذه الشريعة ومحاسنها وما اشتملت عليه من الرحمة والحكمة والمصلحة ان لا يؤاخذبها ويلزم بموجبها وهو لم يلتزمه
الوجه الثاني عشر : ان قاعدة الشريعة ان العوارض النفسية لها تأثير في القول اهدارا واعتبارا واعمالا والغاء وهذا كعارض النسيان والخطأ والاكراه والسكر والجنون والخوف والحزن والغفلة والذهول ولهذا يحتمل من الواحد من هؤلاء من القول ما لا يحتمل من غيره ويعذر بما لا يعذر به غيره لعدم تجرد القصد و الارادة ووجود الحامل على القول ولهذا كان الصحابة يسال احدهم الناذر : في رضا قلت ذلك ام في غضب ؟ فان كان في غضب امره بكفارة يمين لانهم استدلوا بالغضب على ان مقصوده الحض والمنع كالحلف لا التقرب
وقد قال تعالى ياايها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون
فجعل عارض السكر مانعا من اعتبار قراءة السكران وذكره وصلاته كما
جعله النبي مانعا من صحة اقراره لما امر باستنكاه من اقر بين يديه بالزنا
وجعله مانعا من تكفير من قال له ولاصحابه : هل انتم الا عبيد لابي
وجعل الله سبحانه الغضب مانعا من إجابة الداعي على نفسه واهله
وجعل سبحانه الاكراه مانعا من كفر المتكلم بكلمة الكفر
وجعل الخطأ والنسيان مانعا من المؤاخذة بالقول والفعل
وعارض الغضب قد يكون اقوى من كثير من هذه العوارض فإذا كان الواحد من هؤلاء لا يترتب على كلامه مقتضاه لعدم القصد فالغضبان الذي لم يقصد ذلك ان لم يكن اولى بالعذر منهم لم يكن دونهم
يوضحه الوجه الثالث عشر ان الطلاق في حال الغضب له ثلاث صور احداها ان يبلغه عن امراته امر يشتد غضبه لاجله ويظن انه حق فيطلقها لاجله ثم يتبين انها بريئة منه
فهذا في وقوع الطلاق به وجهان اصحهما انه لا يقع طلاقه لانه انما طلقها لهذا السبب والعلة والسبب كالشرط فكانه قال ان كانت فعلت ذلك فهي طالق فاذا لم تفعله لم يوجد الشرط وقد ذكر المسالة بعينها ابو الوفاء ابن عقيل وذكر الشريف ابن ابي موسى في ارشاده فيما اذا قال انت طالق ان دخلت الدار بفتح الهمزة مرارا وهو يعرف العربية ثم تبين انها لم تدخل لم تطلق ولا يقال هو ها هنا قد صرح بالتعليل بخلاف ما اذا لم يصرح به فان هذا لا تأثير له فإنه قد أوقع الطلاق لعلة فاذا انتفت العلة تبينا انه لم يكن مريدا لوقوعه بدونها سواء صرح بالعلة او لم يصرح بها وغاية الامر ان تكون العلة بمنزلة الشرط وهو لو قال انت طلق وقال اردت ان فعلت كذا وكذا دين فيما بينه وبين الله تعالى وقد ذكر اصحاب الشافعي احمد فيما اذا كاتب عبده على عوض فاداه اليه فقال : انت حر ثم تبين ان العوض مستحق لم يعتق مع تصريحه بالحرية فالطلاق اولى بعدم الوقوع في هذه الصورة
الصورة الثانية ان يكون قد غضب عليها لامر قد علم وقوعه منها فتكلم بكلمة الطلاق قاصدا للطلاق عالما بما يقول عقوبة لها على ذلك فهذا يقع طلاقه اذ لو يقع هذا الطلاق لم يقع اكثر الطلاق فانه غالبا يقع مع الرضا 92 مكرر
الصورة الثالثة : ان لايقصد امرا بعينه ولكن الغضب حمله على ذلك وغير عقله ومنعه كمال التصور والقصد فكان بمنزلة الذي فيه نوع من السكر والجنون فليس هو غائب العقل بحيث لا يفهم ما يقول بالكلية ولا هو حاضر العقل بحيث يكون قصده معتبرا فهذا لا يقع به الطلاق ايضا كما لا يقع بالمبرسم والمجنون
يوضحه الوجه الرابع عشر ان المجنون والمبرسم والموسوس والهاجر قد يشعر احدهم بما قاله ويستحي منه وكذلك السكران ولهذا لم يشترط اكثر الفقهاء في كونه سكران ان يعدم تمييزه بالكلية
بل قد قال الامام احمد وغيره : انه الذي يخلط في كلامه ولا يعرف رداءه من رداء غيره وفعله من فعل غيره
والسنة الصريحة الصحيحة تدل عليه فان النبي امر ان يستنكه من اقر بالزنا مع انه حاضر العقل والذهن يتكلم بكلام مفهوم ومنتظم صحيح الحركة ومع هذا فجوز النبي ان يكون به سكر يحول بينه وبين كمال عقله وعلمه فامر باستنكاهه
والمقصود ان هؤلاء ليسوا مسلوبي التمييز بالكلية وليسوا كالعقلاء الذين لهم قصد صحيح فان ماعرض لهم اوجب تغير العقل الذي منع صحة القصد فلم يبق احدهم يقصد قصد العقلاء الذي مراده جلب ما ينفع ودفع ما يضر فلم يتصور احدهم لوازم ما تكلم به ولا غاب عقله عن الشعورية بل هو ناقص التصور ضعيف القصد والغضبان في حال غضبه قد يكون اسوا حالا من هؤلاء واشبه بالمجانين ولهذا يقول ويفعل مالا يقوله المجنون ولا يفعله
فإن قيل فهل يحجر عليه في هذه الحال كما يحجر على المجنون قيل لا والفرق بينهما ان هذه الحالة لا تدوم فهو كالذي يجن احيانا نادرا ثم يفيق فانه لا يحجر عليه نعم لو صدر منه تلك الحال قول عن غير قصد منه كان مثل القول الصادر عن المجنون في عدم ترتب اثره عليه ولا ريب انه قد يحصل للغضبان اغماء وغشي وهو في هذه الحالة غير مكلف قطعا كما يحصل ذلك للمريض فيزيل تكليفه حال الاغماء حتى ان بعض الفقهاء لا يوجب عليه قضاء الصلاة في هذه الحالة الحاقا بالمجنون
كما يقوله الشافعي واحمد يوجب عليه القضاء الحاقا له بالنائم
وابو حنيفة يفرق بين الطويل والزائد على اليوم والليلة فيحلفه بالمجنون وبين القصير الذي هو دون ذلك فيلحقه بالنوم
وقد ينكر كثير من الناس ان الغضب يزيل العقل ويبلغ بصاحبه الى هذه الحالة فإنه لا يعرف من الغضب الا ما يجد من نفسه وهو لم يعلم غضبا انتهى الى هذه الحالة وهذا غلط فان الناس متفاوتون في الغضب تفاوتا عظيما فمنه ما هو كالنشوة ومنه ما هو كالسكر ومنه ماهو كالجنون ومنه ما هو سريع الحصول سريع الزوال وعكسه ومنه سريع الحصول بطئ الزوال وعكسه
كما قسمه النبي الى هذه الاقسام
وقوى الناس متفاوته تفاوتا عظيما في ملك تقواهم عند الغضب والطمع والحزن والخوف والشهوة فمنهم من يملك ذلك ويتصرف فيه ومنهم من يملكه ذلك ويتصرف فيه
الوجه الخامس عشر ان الغضبان الذي قد انغلق عليه القصد والراي وقد صار الى الجنون والعارض اقرب منه الى العقل الثابت اولى بعدم وقوع طلاقه من الهازل المتلفظ بالطلاق في حال عقله وان لم يرده بقلبه وقد الغي طلاق الهازل بعض الفقهاء
وهو احدى الروايتين عن الامام احمد حكاها ابو بكر عبد العزيز وغيره وبه يقول بعض اصحاب مالك اذا قام دليل الهزل فلم يلزمه عتق ولا نكاح ولا طلاق
ولا ريب ان الغضبان اولى بعدم وقوع طلاقه من هذا
الوجه السادس عشر ان جماعة من اصحابنا لم يشترطوا في الجنون والمبرسم ان لا يكون ذاكرا لطلاقه
وان كان ظاهرنص احمد انه متى ذكر الطلاق لزمه فانه قال في رواية ابي طالب في المجنون يطلق فقيل له لما افاق انك طلقت امراتك فقال انا ذاكر اني طلقت ولم يكن عقلي معي فقال اذا كان يذكر انه طلق فقد طلقت . قال ابو محمد المقدسي وهذا هو المنقول عن الامام احمد فيمن كان جنونه لذهاب معرفته بالكلية وبطلان حواسه فأما من كان جنونه لنشاف اوكان مبرسما فإن ذلك يسقط حكم تصرفه مع ان معرفته غير ذاهبة بالكلية فلا يضره ذكر الطلاق ان شاء الله انتهى كلامه
معلوم ان الغضبان الممتلىء اسوا حالا ممن جنونه من نشاف او برسام واقل احواله ان يكون مثله
يوضحه الوجه السابع عشر وهو ان الموسوس لا يقع طلاقه
صرح به اصحاب ابو حنيفة وغيرهم
وما ذاك الا عدم صحة العقل والارادة منه فهكذا هذا
الوجه الثامن عشر : انه لم يقل احد ان مجرد التكلم بلفظ الطلاق موجب لوقوعه على أي حال كان بل لابد من امر اخر وراء التكلم باللفظ وطائفة اشترطت ان ياتي به في حال التكليف فقط سواء قصده او جرى على لسانه من غير سواء اكره عليه او اتى به اختيارا وهذا مذهب من يوقع طلاق المكره والطلاق الذي يجري على لسان العبد من غير قصد منه
وهو المنصوص عن ابي حنيفة في الموضعين
وطائفة اشترطت مع ذلك ان ياتي باللفظ مختار قاصدا له وهو قول الجمهور الذين لا ينفدون طلاق المكره
ثم منهم من اشترط مع ذلك ان يكون عالما بمعناه فان تكلم به اختيارا غير عارف بمعناه لم يلزمه حكمه وهذا قول من يقول لا يلزم المكلف احكام الاقوال حتى يكون عارفا بمدلولها وهذا هو الصواب
ومنهم : من اشترط مع ذلك ان يكون مريدا لمعناه ناويا له فان لم ينو معناه ولم يرده لم يلزمه حكمه وهذا قول من يقول : لا يلزم لصريح الطلاق النية وقول من لا يوقع الطلاق الهازل
وهو قول في مذهب الامام احمد ومالك في المسالتين فيشترط هؤلاء الرضا بالنطق اللساني والعلم بمعناه وارادة مقتضاه
ومنهم : من يشترط مع ذلك كون الطلاق مأوذنا فيه من جهة الشارع و هو قول من لا يوقع الطلاق المحرم وهو قول طائفة من السلف من الصحابة والتابعين و من بعدهم
وقال عمر بن عبدالسلام الخشني : حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبدالوهاب بن عبد المجيد الثقفي حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر انه قال : في الرجل يطلق امراته وهي حائض لا يعتد بذلك وحسبك بهذا الاسناد اذا صح
رواه محمد بن حزم قال : حدثنا يوسف بن عبدالله قال : حدثنا احمد بن عبدالله بن عبد الرحيم قال : حدثنا احمد بن خالد قال : حدثنا محمد بن عبدالسلام فذكره
وهذا مذهب افقه التابعين على الاطلاق سعيد بن المسيب حكاه عنه الثعلبي في تفسير سورة الطلاق
وهو مذهب افقه التابعين من اصحاب ابن عباس وهو طاوس قال عبدالرزاق عن جريج عن عبدالله بن طاووس عن ابيه : انه كان لا يرى طلاقا مما خالف وجه الطلاق ووجه العدة وكان يقول : وجه الطلاق يطلقها طاهرا من غير جماع واذا استبان حملها
وهذا مذهب خلاس بن عمرو قال ابن خزم : حدثنا محمد بن سعيد بن ساث قال : حدثنا عباس بن اصبع قال : حدثنا محمد بن قاسم بن محمد قال : حدثنا محمد بن عبدالسلام الخشني قال : حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا عبدالرحمن من مهدي قال : حدثنا هشام بن يحيى عن قتادة عن خلاس بن عمرو انه قال : في الرجل يطلق امراته وهي حائض فقال : لا يعتد بها
وهذا قول ابي قلابة قال ابن ابي شيبة : حدثنا عبدالرزاق عن معمر عن ابي قلابة قال : اذا طلق الرجل امراته وهي حائض فلا يعتد بها
وهذا اختيار ابن عقيل في كتابه الواضح في اصول الفقه صرح به في مسالة النهي يقتضي الفساد
وهو اختيار شيخ الاسلام ابن تيمية
وهو احد الوجهين في مذهب احمد
وقال ابو جعفر الباقر لا طلاق الا على بينة ولا طلاق الا على طهر من غير جماع وكل طلاق في غضب او يمين او عتق فليس بطلاق الا لمن اراد الطلاق والمقصود ان هؤلاء يشترطون في وقوع الطلاق اذن الشارع فيه ومالم يأذن فيه الشارع فهو عندهم لاغ غير نافذ
قال شيخ الاسلام وقولهم اصح في الدليل من قول من يوقع الطلاق الذي لم يأذن فيه الله وسوله ويراه صحيحا لازما
والمقصود ان احدا لم يقل ان مجرد التكلم بالطلاق موجب لترتب اثره على أي وجه كان
الوجه التاسع عشر ان هذا مقتضى نص احمد كما تقدم تفسيره الاغلاق في رواية حنبل بالغضب
وقال عبد الله ابنه في مسائلة سالت ابي عن المجنون اذا طلق في وقت زولان عقله . . . . ايجوز ؟ قال ابي : كل من كان صحيح العقل فزال عقله عن صحته فطلق فليس طلاقه بشىء
فهذا عموم كلامه وذاك خاصة فقد جعل تغير العقل عن صحته مانعا من وقوع الطلاق ولا ريب ان اغلاق الغضب بغير العقل عن صحته
الوجه العشرون : ان الفقهاء اختلفوا في صحة حكم الحاكم في الغضب على ثلاثة اقوال : وهي ثلاثة اوجه في مذهب احمد : احدها : لا يصح و لا ينفذ لان النهي يقتضي الفساد والثاني : ينفذ والثالث : ان عرض له الغضب بعد فهم الحكم نفذ حكمه وان عرض له قبل ذلك لم ينفذ
فان الحاكم يجب ان يكون عالما عدلا فمن نفذ حكمه قال : الغضب لايمنع العلم والعدل
فقد حكم النبي للزبير في شراج الحرة وهو غضبان
ومن لم ينفذ حكمه قال الغضب يمنعه كمال المقصود وحسن القصد فيمنعه العلم والعدل ولا يصح القياس على النبي فانه معصوم في غضبه ورضاه فكان اذا غضب لم يقل الا حقا كما كان في رضاه كذلك ومن فرق قال اذا علم الحق قبل الغضب لم يمنعه الغضب من العلم و حينئذ فيمكنه ان ينفذ الحق الذي علمه واذا غضب قبل الفهم لم ينفذ حكمه لامكان ان يحول الغضب بينه وبين الفهم وهؤلاء يحتجون بقضية الزبير وان النبي انما عرض له الغضب بعد فهم الحكومة والمقصود ان الغضب اذا اثر عند هؤلاء في بطلان الحكم علم ان كلام الغضبان غير كلام الراضي المختار وان للغضب تاثيرا في ذلك
الوجه الحادي والعشرون ان وقع الطلاق حكم شرعي فيستدعي دليلا شرعيا والدليل اما كتاب او سنة او اجماع او قياس يستوي فيه حكم الاصل والفرع وليس شىء منها موجودا في مسالتنا واذا شئت قلت الدليل اما نص او معقول نص وكلاهما منتف وان شئت قلت لو ثبت الوقوع لزم وجود دليله واللازم منتف فالملزوم مثله
والوجه الثاني والعشرون ان نكاح هذا مثبت بإجماع فلا يزول الا بالاجماع مثله وان شئت قلت : نكاحه قبل صدور هذا اللفظ منه ثابت بالاجماع والاصل بقاؤه حتى يثبت ما يرفعه
الوجه الثالث والعشرون : ان جمهور العلماء يقولون ان طلاق الصبي المميز العاقل لا ينفذ ولا يصح
هذا قول ابي حنيفة ومالك والشافعي واحدى الروايتين عن الامام احمد اختارها الشيخ ابو محمد وهو قول اسحق مع كونه عارفا باللفظ وموجبه بكلماته اختيارا وقصدا وله قصد صحيح وارادة صحيحة وقد امر الله سبحانه بابتلائه واختياره في تصرفاته
وقد نفذ صبر عمر به الخطاب وصيته
واعتبر النبي قصده واختياره في التخيير بين ابويه
فالغضبان الشديد الغضب الذي قد اغلق عليه باب القصد والعلم اولى بعدم وقوع طلاقه من هذا بلا ريب
فان قيل الغضبان مكلف وهذا غير مكلف لان القلم مرفوع عنه
قيل نعم الامر كذلك ولكن لا يلزم من كونه مكلفا ان يترتب الحكم على مجرد لفظة كما تقدم كيف والمكره مكلف ولا يصح طلاقه والسكران مكلف والمريض مكلف ولا يلزم من كون العبد مكلفا ان لا يعرض له حال يمنع اعتبار اقواله ونقص افعاله
الوجه الرابع والعشرون : ان غاية التلفظ بالطلاق ان يكون جزء سبب والحكم لا يتم الا بعد وجود سببه وانتفاء ما نعه وليس مجرد التلفظ سببا تاما باتفاق الائمة كما تقدم وحينئذ فالقصد والعلم والتكليف اما ان تكون بقيةاجزاء الكسب او تكون شروطا في اقتضائه او يكون عدمها مانعا من تاثيره وعلى التقادير الثلاثة فلا يؤثر التكلم بالطلاق بدونها وليس مع من اوقع طلاق الغضبان والسكران والمكره ومن جرى على لسانه بغير قصد منه الا مجرد السبب او جزؤه بدون شرطه وانتفاء مانعه وذلك غير كاف في ثبوت الحكم والله اعلم
الوجه الخامس والعشرون انه لو سبق لسانه بالطلاق و لم يرده دين فيما بينه وبين الله تعالى
ويقبل منه ذلك في الحكم في احدى الروايتين عن احمد الا ان تكذبه قرينه والرواية الاخرى يدين ولا يقبل في الحكم
وكذلك قال أصحاب الشافعي اذا سبق الطلاق الى لسانه بغير قصد فهو لغو ولكن لا تقبل دعوى سبق اللسان الا اذا ظهرت قرينة تدل عليه فقبلوا منه في الباطن دون الحكم الا بقرينة
وكذلك قال اصحاب مالك : من سبق لسانه الى الطلاق لم يقع عليه الطلاق قالوا : ويقبل في الفتوى
وابو حنيفة لا يرى سبق اللسان مانعا من وقوع الطلاق وعنه في سبق اللسان في العتق روايتان وقرر اصحابه بان المراة تملك بضعها لسبب يستوي فيه القصد وعدم القصد كالسكران والمكره والهازل وكالرضاع بالاتفاق فزوال البضع لا يختلف في سببه القصد وعدم القصد بخلاف العتق فان السبب الذي يملك به نفسه يختلف فيه القصد وعدمه وروى ابو يوسف عن ابي حنيفة التسوية بينهما ثم اختلف اصحابه فقالت طائفة هما سواء في الوقوع وقالت طائفة بل هما سواء في عدم الوقوع
والمقصود ان سبق اللسان الى الطلاق من غير قصد له مانع من وقوعه عند الجمهور
والغضبان اذا علم من نفسه ان لسانه سبقه بالطلاق من غير قصد جاز له الاقامة على نكاحه ويدين في الفتوى واما قبوله في الحكم فيخرج على الخلاف والاظهر انه ان قامت قرينة ظاهرة تدل على صحة قوله قبل في الحكم والغضب الشديد من اقوى القرائن ولا سيما فان كثيرا ممن يطلق في شدة الغضب يحلف بالله جهد يمينه انه لم يقصد الطلاق وانما سبق لسانه وحينئذ فالجمهور لا يوقعون عليه الطلاق كما صرح به اصحاب احمد والشافعي ومالك
وفي قوله في القضاء ثلاثة اقوال اصحها انه ان قامت قرينة ظاهرة على صحة قوله قبل والا فلا
● [ فصل ] ●وما يبين أن الغضبان قد يتكلم في الغضب بما لا يريده
ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله
يقول سمعت رسول الله يقول إنما أنا بشر وإني اشترطت على ربي عز و جل أي عبد من المسلمين شتمته أبو سببته أن يكون ذلك له زكاة وأجرا
وفي مسند الامام احمد من حديث مسروق عن عائشة قالت : دخل على النبي رجلان فاغلظ لهما وسبهما قالت فقلت : يارسول الله لمن اصاب منك خير ما اصاب هذان منك خير قالت فقال او ما علمت ما عاهدت عليه ربي عز و جل قلت ايما مؤمن سببته او جلدته او لعنته فاجعلهما له مغفرة وعافية
وفي الصحيحين من حديث ابي هريرة انه سمع النبي يقول اللهم ايما عبد مؤمن سببته فاجعل ذلك قربة اليك يوم القيامة
وفي بعض الفاظ الحديث انما انا بشر ارضى كما يرضى البشر واغضب كما يغضب البشر فايما مؤمن سببته او لعنته فاجعلها له زكاة
فلو كان النبي مريدا لما دعا به في الغضب لما شرط على ربه وساله ان يفعل بالمدعو عليه ضد ذلك اذ من الممتنع اجتماع ارادة الضدين وقد صرح بارادة احدهما مشترطا على ربه فدل على عموم ارادته لما دعا به في الحال الغضب هذا وهو النبي معصوم الغضب كما هو معصوم الرضا وهو مالك لفظه بتصرفه فكيف بمن لم يعصمه في غضبه وتمليكه ويتصرف فيه غضبه ويتلاعب الشيطان به فيه واذا كان الغضبان يتكلم بما لا يريده ولا يريد مضمونه فهو بمنزلة المكره الذي يلجا الى الكلام او يتكلم به باختياره ولا يريد مضمونه والله اعلم
فان قيل : ما ذكر ثم معارض بما يدل على وقوع الطلاق فان الغضبان اتى بالسبب اختيارا واراد في حال الغضب ترتب اثره عليه ولا يضر عدم ارادته له في حال رضاه اذ الاعتبار بالارادة انما هو التلفظ بخلاف المكره فانه محمول على التكلم بالسبب غير مريد لترتب اثره عليه وبخلاف السكران المغلوب عقله فإنه غير مكلف والغضبان مكلف مختار فلا وجه لالغاء كلامه
فالجواب : ان يقال ان اريد بالاختيار رضاه به وايثاره له فليس بمختار وان اردتم انه يوقع بمشيئته وارادته التي هو غير راض بها ولا باثرها فهذا بمجرده لا يوجب ترتب الاثر فان هذا الاختيار ثابت للمكره والسكران فانا لا نشترط في السكران ان لا يفرق بين الارض والسماء بل المشترط في عدم ترتب اثر اقواله انه يهذي ويخلط في كلامه وكذلك المحموم والمريض وابلغ من هذا الصبي المراهق للبلوغ اذ هو من اهل الارادة والقصد الصحيح ثم لم يترتب على كلامه اثره وكذلك من سبق لسانه بالطلاق ولم يرده فانه لا يقع طلاقه وقد اتى باللفظ في حال الاختيار غير سكره ولكن لم يقصده والغضبان وان قصده فلا حكم لقصده في حال الغضب لما تقدم من الادلة الدالة على ذلك وقد صرح اصحابنا بان من كان جنونه لنشاف او برسام لا يقع طلاقه ويسقط حكم تصرفه ان كانت معرفته غير ذاهبة بالكلية ولا يضره ان يذكر الطلاق وانه اوقعه وما ذكرناه من دعاء النبي ربه ان يجعل سبه لمن سبه في حال غضبه صريح في انه مريد له اذ لو اراده واختار لم يسأل ربه ان يفعل بالمدعو عليه ضد ما دعا به عليه اذ لا يتصور ارادة ضدين في حالة واحدة وهذا وحده كاف في المسالة
فهذا ما ظهر في هذه المسألة بعد طول التأمل والفكر ونحن من وراء ا لقبول والشكر لمن رد ذلك بحجة يجب المصير اليها ومن وراء الرد على من رد ذلك بالهوى والعناد
والله المستعان وعليه التكلان وصلى الله على سيد المرسلين وخاتم النبيين وعلى اله وأصحابه وعترته وانصاره صلاة دائمة بدوام ملك الله عز و جل تم نسخها على يد حامد بن اديب التقي لقبا الاثري مذهبا في اواخر رمضان سنة 1327
● [ تم مُختصر كتاب ] ●
اغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان
تأليف : محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية
واما الاعتبار واصول الشريعة فمن وجوه : الاول : ان المؤاخده انما ترتبت على الاقوال لكونها ادلة على ما في القلب من كسبه وارداته
كما قال تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في ايمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم
فجعل سبب المؤاخذة كسب القلب وكسبه هو ارادته وقصده ومن جرى على لسانه الكلام من غير قصد واختيار بل لشدة غضب وسكر او غير ذلك لم يكن من كسب قلبه
ولهذا لم يؤاخذ الله سبحانه الذي اشتد فرحه بوجود راحلته بعد الاباس منها فلما وجدها اخطا من شدة الفرح وقال : اللهم انت عبدي وانا ربك فجرى هذا اللفظ على لسانه من غير قصد فلم يؤاخذه كما يجري الغلط في القران على لسان القارىء
ولكن قد يقال هذا قصد الصواب فاخطا فلم يؤاخذ اذا كان قصده ضد ما تكلم به بخلاف الغضبان اذا طلق فانه قاصد للطلاق
قيل لا كلام في الغضبان العالم بما يقول القاصد المختار لحكمه دفعا لمكروه
البقاء مع الزوجة وانما الكلام في الذي اشتد غضبه حتى الجاه الشيطان الى التكلم بما لم يكن مختارا للتكلم به كما يلجئه الى فعل ما لم يكن لولا الغضب يفعله
يوضحه الوجه الثاني وهو : ان الارادة فيه هو محمول عليها ملجأ اليه كالمكره بل المكره احسن حالا منه فان له قصدا وارادة حقيقة لكن هو محمول عليه وهذا ليس له قصد في الحقيقة فاذا لم يقع طلاق المكره فطلاق هذا اولى بعدم الوقوع
يوضحه الوجه الثالث وهو : ان الامر الحامل المكره على التكلم بالطلاق يشبه الحامل للغضبان على التكلم به فان المتكلم مكرها انما يقصد الاستراحة من توقع ما اكره به ان لم يباشر به او من حصوله ان كان قد باشره بشئ منه فيتكلم بالطلاق قاصدا لراحته من الم ما اكره به وهكذا الغضبان فإنه اذا اشتد به الغضب يألم بحمله فيقول ما يقول ويفعل ما يفعل ليدفع عن نفسه حرارة الغضب فيستريح بذلك وكذلك يلطم وجهه ويصيح صياحا قويا ويشق ثيابه ويلقي ما في يده دفعا لالم الغضب والقاء لحمه منه وكذلك يدعو على نفسه واحب الناس اليه فهو يتكلم بصيغة الطلب والاستدعاء والدعاء وهو غير طالب لذلك في الحقيقة فكذلك يتكلم بصيغة الانشاء وهو غير قاصد لمعناها ولهذا يأمر الملوك وغيرهم عند الغضب بامور يعلم خواصهم انهم تكلموا بها دفعا لحرارة الغضب وانهم لا يريدون مقتضاها فلا يمتثله خواصهم بل يؤخرونه فيحمدونهم على ذلك اذا سكن غضبهم وكذلك الرجل وقت شدة الغضب يقوم ليبطش بولده او صديقه فيحول غيره بينه وبين ذلك فيحمدهم بعد ذلك كما يحمد السكران والمحموم ونحوهما من يحول بينه وبين ما يهم بفعله في تلك الحالة
الوجه الرابع : ان العاقل لا يستدعي الغضب ولا يريده بل هو اكره شئ اليه
وهو كما قال النبي : جمرة في قلب ابن ادم اما رأيتم من احمرار عينيه وانتفاخ اوداجه
والعاقل لا يقصد القاء الجمرة في قلبه فهو ناشئ فيه بغير اختياره واذا كان هو السبب الحامل على المتكلم بالطلاق وغيره لم يكن ذلك ايضا مضافا الى اختياره وارادته وهذا كما ان ارادة السبب ارادة للمسبب فكراهة السبب وبغضه كراهة للمسبب
يوضحه الوجه الخامس وهو : انك تقول للغضبان اذا اشتد غضبه ففعل ما لم يكن يفعله او تكلم بما لم يكن يتكلم به قبل الغضب : هل اردت ذلك او قصدته ؟ فيحلف انه ما اراده ولا قصده ولا كان له باختيار ويحلف انه وقع بغير اختيار ولا تنكر هذا فانك تجده من نفسك وتحقيق الامر ان له فيه ارادة هو : محمول عليها حملة عليها الغضب فهي : كارادة المكره بل المكره ادخل في الارادة كما تقدم وهذا يدل على ان الغضبان اولى بعدم الوقوع من المكره
يوضحه الوجه السادس وهو : ان الخوف في قلب المكره كالغضب في قلب الغضبان لكن المكره مقهور بغيره من خارج والغضبان مقهور بغضبه الداخل فيه وقهر الاكراه يبطل حكم الاقوال التي اكره عليها ويجعلها بمنزلة كلام النائم والمجنون دون حكم الافعال فانه يقتل اذا قتل ويضمن اذا تلف فكذلك قهر الغضب يبطل حكم اقوال الغضبان دون أفعاله حتى لو قتل في هذه الحالة قتل أو أتنلف شيئا ضمنه هذا كله في الغضبان الذي يكره ما قاله حقيقة فاما من هو مريد له على تقدير عدم غضبه لاقتضاء السبب ذلك فليس من هذا الباب كمن زنت امراته فغضب فطلقها لانه لا يرى المقام مع زانية فلم يقصد بالطلاق اطفاء نار الغضب بل التخلص من المقام مع زانية فهذا يقع طلاقة فتأمل هذا الفرق فانه حرف المسالة ونكتتها وهذا بخلاف من خاصمته امرأته وهو يعلم من نفسه ارادة المقام معها على الخصومة وسوء الخلق ولكن حملة الغضب على ان شفي نفسه بالتكلم بالطلاق كسرا لها واطفاء لنار غضبه
يوضحه الوجه السابع وهو : ان الغضبان يفعل امورا من شق الثياب واتلاف المال وغير ذلك مما لو اكره حتى يتكلم بالطلاق لم ينفذ طلاقه ولغت اقواله فاذا فعل هو هذه الامور علم ان الذي الجأه اليها اعظم من الاكراه فإن المكره لو اكره بها لم يفعلها وهذا قد فعلها ان المقتضي لفعلها فيه اولى من اقتضاء الاكراه لفعلها والمكره لو فعل به ذلك كان مكرها فالغضبان كذلك وهذا واضح جدا
فإن قيل : المكره اذا تكلم بما اكره عليه دفع عنه الضرر والغضبان لا يدفع عنه بهذا القول ضررا فليس كالمكره
قيل لا ريب انهما يفترقان في هذا الوجه ولكن لا يوجب ذلك ان يكون الغضبان مختارا مريدا لما قاله او فعله بك اكره شئ اليه وهذا امر لا يمكن دفعه
فإن قيل : فما الحامل على ما يكره ويؤديه من غير ان يتوصل به الى ما هو احب اليه منه ؟
قيل لما كان الغضب عدو العقل وهو له كالذئب للشاة قل ما يتمكن منه الا اغتال عقله فقد ازاله الغضب واطفا ناره وهذا مقصود صحيح في نفسه لكن لما غاب عنه عقله قصد ازالة ذلك مما فيه ضرر عليه ليخفف عن نفسه ما هو فيه من البلاء ولولا ذلك لم يفعل ما لا يفعله في الرضا ولا تكلم بما لم يكن به فهو قصد ان يستريح ويسكن ويبرد غضبه بتلك الاقوال والافعال وان لم يدفع ذلك عنه بجملته تلك الشدة فانها تخفف وتضعف فاقتضت رحمة الشارع به ان الغي اقواله في هذه الحال ان تمكن ان لا يترتب عليها اثرها وتكون كأقوال المبرسم والمجنون الهاجر ونحوهما و اما الافعال فلا يمكن الغاء اثرها فرتب عليه موجب فعله
فإن قيل : فيلزمكم على هذا انه لوحلف في هذه الحال ان لا تنعقد يمينه
قيل قد قال بذلك جماعة من السلف والخلف واختاره من لايرتاب في امامته وجلالته وكان يقرن بالائمة الكبار اسماعيل بن اسحاق القاضي
فان قيل لكن المنقول عن الصحابة وجمهور التابعين والائمة الاربعة اعتبار نذر اللجاج والغضب وان تنازعوا في موجبه فاوجب مالك واهل العراق الوفاء به كنذر التبرر وخبر الليث بن سعد والشافعي واحمد بن حنبل بين فعله وبين فعله وبين كفارة اليمين ولم يقل احد منهم : انه لا ينعقد وانه لغو
وقد ذكر الله تعالى الكفارة في الايمان كلها ولم يحصل منها يمين الغضب دون يمين الرضا
قيل نعم هذا حق ولكن اليمين لما قصد صاحبها الحض او المنع كانت الكفارة رافعة لما حصل بها من الضرر بخلاف الطلاق والعتاق فانهما اتلاف محض لملك البضع والرقبة ولا كفارة فيهما فالضرر الحاصل بوقوعهما لا يندفع بكفارة ولا غيرها وكما انه يفرق في الاكراه بين نوع ونوع فالاكراه يبيح الاقوال عندنا وعند الجمهور وكل قول اكره عليه بغير حق فانه باطل وابو حنيفة يفرق بين نوع ونوع والاكراه على الافعال ثلاثة انواع . نوع لا يباح بالاكراه كقتل المعصوم واتلاف اطرافه ونوع يبيحه الاكراه بشرط الضمان كاتلاف مال المعصوم . ونوع مختلف فيه كالزنا والشرب والسرقة وفيه روايتان عن الامام احمد فما امكن تلافيه ابيح بالاكراه كالاقوال والاموال وما كان ضرره كضرر الاكراه لم يبح به كالقتل فانه ليس قتل المعصوم بحياة المكره اولى من العكس
واما الافعال كالقران يدل على رفع الاثم فيها . كقوله تعالى ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ان اردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فان الله من بعد اكراههن غفور رحيم
الوجه الثامن : ان النبي شرع للغضبان ان يقول : اعوذ بالله من الشيطان الرجيم وان يتوضا وان يتحول عن حالته فإن كان قائما فليقعد واذا كان قاعدا فليضطجع
قال : ان الغضب من الشيطان وان الشيطان من النار وانما تطفا النار بالماء فاذا غضب احدكم فليتوضا
وهذا يدل على انه محمول عليه من غيره وان الشيطان يغضبه ليحمله بغضبه على فعل ما يحبه الشيطان وعلى التكلم به وما يضاف الى الشيطان مما يكره العبد ولا يحبه فلا يؤاخذ به الانسان كالوسوسة والنسيان
كما قال فتى موسى لموسى وما انسانيه الا الشيطان ان اذكره فالله تعالى لا يؤاخذ بالوسوسة ولا بالنسيان اذ هما من اثر فعل الشيطان في القلب وقد اخبر النبي ان الغضب من الشيطان فيكون اثره مضافا اليه ايضا فلا يؤاخذ به العبد كاثر النسيان فإنه لو حلف ان لايتكلم بكذا فتكلم به ناسيا لم يحنث لعدم قصده وارادته لمخالفة ما عقد يمينه عليه وان كان قاصدا للكلام فانه لم يقع منه الا بقصده وارادته وهذه حال الغضبان فانه لم يقصد حقيقة ما تكلم به وموجبه بل جرى على لسانه كما جرى كلام الناسي على لسانه بل قصد الناسي للتكلم اظهر من قصد الغضبان ولهذا يقول الناسي : قصدت ان اقول كذا وكذا والغضبان يحلف انه لم يقصد
الوجه التاسع : ان المقصود في العقود معتبرة في عقدها كلها والغضبان ليس له قصد معتبر في حل عقدة النكاح كما ليس له قصد في قتل نفسه وولده واتلاف ماله فانه يفعل في الغضب هذا ويقول : هذا فاذا لم يكن له قصد معتبر لم يصح طلاقه
فإن قيل : هذا ينقص عليكم بالهازل فانه يصح طلاقه وان لم يكن له فيه قصد
قيل : الفرق بينهما : ان الهازل قصد التكلم باللفظ واراده رضا واختيار منه لم يحمل على التلفظ به وغايته ان لم يرد حكمة وموجبه وذلك الى الشارع ليس اليه فالسبب الذي اليه قد اتى به اختيارا وقصدا مع علمه به لم يحمل عليه والسبب الى المشرع ليس اليه فلا يصح اعتبار احدهما بالاخر وكيف يقاس الغضبان على المتخذ ايات الله هزؤا وهذا من افسد القياس ؟
الوجه ا لعاشر ان الغضب مرض من الامراض وداء من الادواء فهو في امراض القلوب نظير الحمى والوسواس والصرع في امراض الا بدان فالغضبان المغلوب في غضبه كالمريض والمحموم والمصروع المغلوب في مرضه والمبرسم المغلوب في برسامه وهذا قياس صحيح في الغضبان الذي قد اشتد به الغضب حتى لايعلم ما يقول واما اذا كان يعلم ما يقول ولكن يتكلم به حرجا وضيقا وغلقا لاقصدا للوقوع فو يشبه المبرسم والهاجر من الحمى من وجه ويشبه المكره القاصد للتكلم من وجه ويشبه المختار القاصد للطلاق من وجه فهو متردد بين هذا وهذا وهذا ولكن جهة الاختيار والقصد فيه ضعيف فإنه يعلم من نفسه انه لم يكن مختارا لما صدر منه من خراب بيته وفراق حبيبه وكونه يراه في يد غيره فان كان عاقلا لايختار هذا الا ليدفع به ما هو اكره اليه منه او ليحصل به ما هو احب اليه فاذا انتفى هذا او هذا لم يكن مختارا لذلك وهذا امر يعلمه كل انسان من نفسه فصار تردده بين المريض المغلوب والمكره المحمول على الطلاق وايهما كان فانه لاينفذ طلاقه
فان قيل الفرق بينهما ان المريض المغلوب لا يملك نفسه في الحال والمكره وان يملك نفسه لكنه لا يملك دفع المكروه عنه واما الغضبان فإنه يملك نفسه
كما قال النبي ليس الشديد بالصرعه ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب
قيل : من الغضب ما يمكن صاحبه ان يملك نفسه عنده وهو الغضب في مبادئه فإدا استحكم وتمكن منه لم يملك نفسه عند ذلك وكذلك الحزن الحامل على الجزع يمكن صاحبه ان يملك نفسه في اوله فاذا استحكم وقهر لم يملك نفسه وكذلك الغضب يمكن صاحبه ان يملك نفسه في اوله فاذا تمكن واستولى سلطانه على القلب لم يملك صاحبه قلبه فهو اختياري في اوله اضطراري في نهايته كما قال القائل : ... يا عاذلي والامر في يده ... هلا عذلت وفي يدي الأمر ...
وهكذا السكران سبب السكر مقدور له يمكنه فعله وتركه فإذا اتى بالسبب خرج الأمر عن يده ولم يملك نفسه عند السكر فاذا كان السكر الذي هو مفرط بتعاطي اسبابه ويقدر على ملك نفسه باجتنابها قد عذر الصحابة وغيرهم من الفقهاء صاحبة اذا طلق في هذه الحال مع كونه غير مغدور في تعاطي سببه فلان يعذر سكران الغضب الذي لم يفر مع شدة سكره على سكر الخمر اولى واحرى
الوجه الحادي عشر وهو ان من الناس من اذا لم ينفذ غضبه قتله غضب غضبه ومات اومرض او اغشي عليه كما يذكر عن بعض العرب ان رجلا سبه فاراد ان يرد على الساب فامسك جليس له بيده على فمه ثم رفع يده لما ظن ان غضبه قد سكن فقال : قتلتني رددت غضبي في جوفي ومات من ساعته فاذا نفذ مثل هذا غضبه بقتل او ظلم لغيره لم يعذر بذلك السكران واما اذا نفذ بقول فانه يمكن اهدار قوله وان لا يترتب اثره عليه كما اهدر الله سبحانه دعاءه و لم يرتب اثره عليه ولم يستجبه له ولهذا ذهب بعض الفقهاء الى انه لا يجلد القذف في حال الخصومة والغضب وانما يجلد به اذا اتى به اختيارا وقصدا لقذفه وهو قول قوي جدا ويدل عليه ان الخصم لا يعذر بجرحه لخصمه وطعنه فيه حال الخصومة بقوله : هو فاجر ظالم غاشم يحلف على الكذب ونحو ذلك :
ومن يحده في هذه الحال يفرق بين قذفه وطلاقة بان القدف حق لادمي وانتهاك لعرضه او قدحه في نفسه فيجري مجرى اتلاف نفسه وماله فلا يعذر فيه بالغضب لا سيما ولو عذر فيه بذلك لامكن كل قاذف ان يقول في حال الغضب فيسقط الحد بخلاف الطلاق فانه يمكن ان يدين فيما بينه وبين الله والحق لا يعدوه
والمقصود انه اذا تكلم بالطلاق دواء لهذا المرض وشفاء له باخراج هذه الكلمة من صدره وتنفسه بها فمن كمال هذه الشريعة ومحاسنها وما اشتملت عليه من الرحمة والحكمة والمصلحة ان لا يؤاخذبها ويلزم بموجبها وهو لم يلتزمه
الوجه الثاني عشر : ان قاعدة الشريعة ان العوارض النفسية لها تأثير في القول اهدارا واعتبارا واعمالا والغاء وهذا كعارض النسيان والخطأ والاكراه والسكر والجنون والخوف والحزن والغفلة والذهول ولهذا يحتمل من الواحد من هؤلاء من القول ما لا يحتمل من غيره ويعذر بما لا يعذر به غيره لعدم تجرد القصد و الارادة ووجود الحامل على القول ولهذا كان الصحابة يسال احدهم الناذر : في رضا قلت ذلك ام في غضب ؟ فان كان في غضب امره بكفارة يمين لانهم استدلوا بالغضب على ان مقصوده الحض والمنع كالحلف لا التقرب
وقد قال تعالى ياايها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون
فجعل عارض السكر مانعا من اعتبار قراءة السكران وذكره وصلاته كما
جعله النبي مانعا من صحة اقراره لما امر باستنكاه من اقر بين يديه بالزنا
وجعله مانعا من تكفير من قال له ولاصحابه : هل انتم الا عبيد لابي
وجعل الله سبحانه الغضب مانعا من إجابة الداعي على نفسه واهله
وجعل سبحانه الاكراه مانعا من كفر المتكلم بكلمة الكفر
وجعل الخطأ والنسيان مانعا من المؤاخذة بالقول والفعل
وعارض الغضب قد يكون اقوى من كثير من هذه العوارض فإذا كان الواحد من هؤلاء لا يترتب على كلامه مقتضاه لعدم القصد فالغضبان الذي لم يقصد ذلك ان لم يكن اولى بالعذر منهم لم يكن دونهم
يوضحه الوجه الثالث عشر ان الطلاق في حال الغضب له ثلاث صور احداها ان يبلغه عن امراته امر يشتد غضبه لاجله ويظن انه حق فيطلقها لاجله ثم يتبين انها بريئة منه
فهذا في وقوع الطلاق به وجهان اصحهما انه لا يقع طلاقه لانه انما طلقها لهذا السبب والعلة والسبب كالشرط فكانه قال ان كانت فعلت ذلك فهي طالق فاذا لم تفعله لم يوجد الشرط وقد ذكر المسالة بعينها ابو الوفاء ابن عقيل وذكر الشريف ابن ابي موسى في ارشاده فيما اذا قال انت طالق ان دخلت الدار بفتح الهمزة مرارا وهو يعرف العربية ثم تبين انها لم تدخل لم تطلق ولا يقال هو ها هنا قد صرح بالتعليل بخلاف ما اذا لم يصرح به فان هذا لا تأثير له فإنه قد أوقع الطلاق لعلة فاذا انتفت العلة تبينا انه لم يكن مريدا لوقوعه بدونها سواء صرح بالعلة او لم يصرح بها وغاية الامر ان تكون العلة بمنزلة الشرط وهو لو قال انت طلق وقال اردت ان فعلت كذا وكذا دين فيما بينه وبين الله تعالى وقد ذكر اصحاب الشافعي احمد فيما اذا كاتب عبده على عوض فاداه اليه فقال : انت حر ثم تبين ان العوض مستحق لم يعتق مع تصريحه بالحرية فالطلاق اولى بعدم الوقوع في هذه الصورة
الصورة الثانية ان يكون قد غضب عليها لامر قد علم وقوعه منها فتكلم بكلمة الطلاق قاصدا للطلاق عالما بما يقول عقوبة لها على ذلك فهذا يقع طلاقه اذ لو يقع هذا الطلاق لم يقع اكثر الطلاق فانه غالبا يقع مع الرضا 92 مكرر
الصورة الثالثة : ان لايقصد امرا بعينه ولكن الغضب حمله على ذلك وغير عقله ومنعه كمال التصور والقصد فكان بمنزلة الذي فيه نوع من السكر والجنون فليس هو غائب العقل بحيث لا يفهم ما يقول بالكلية ولا هو حاضر العقل بحيث يكون قصده معتبرا فهذا لا يقع به الطلاق ايضا كما لا يقع بالمبرسم والمجنون
يوضحه الوجه الرابع عشر ان المجنون والمبرسم والموسوس والهاجر قد يشعر احدهم بما قاله ويستحي منه وكذلك السكران ولهذا لم يشترط اكثر الفقهاء في كونه سكران ان يعدم تمييزه بالكلية
بل قد قال الامام احمد وغيره : انه الذي يخلط في كلامه ولا يعرف رداءه من رداء غيره وفعله من فعل غيره
والسنة الصريحة الصحيحة تدل عليه فان النبي امر ان يستنكه من اقر بالزنا مع انه حاضر العقل والذهن يتكلم بكلام مفهوم ومنتظم صحيح الحركة ومع هذا فجوز النبي ان يكون به سكر يحول بينه وبين كمال عقله وعلمه فامر باستنكاهه
والمقصود ان هؤلاء ليسوا مسلوبي التمييز بالكلية وليسوا كالعقلاء الذين لهم قصد صحيح فان ماعرض لهم اوجب تغير العقل الذي منع صحة القصد فلم يبق احدهم يقصد قصد العقلاء الذي مراده جلب ما ينفع ودفع ما يضر فلم يتصور احدهم لوازم ما تكلم به ولا غاب عقله عن الشعورية بل هو ناقص التصور ضعيف القصد والغضبان في حال غضبه قد يكون اسوا حالا من هؤلاء واشبه بالمجانين ولهذا يقول ويفعل مالا يقوله المجنون ولا يفعله
فإن قيل فهل يحجر عليه في هذه الحال كما يحجر على المجنون قيل لا والفرق بينهما ان هذه الحالة لا تدوم فهو كالذي يجن احيانا نادرا ثم يفيق فانه لا يحجر عليه نعم لو صدر منه تلك الحال قول عن غير قصد منه كان مثل القول الصادر عن المجنون في عدم ترتب اثره عليه ولا ريب انه قد يحصل للغضبان اغماء وغشي وهو في هذه الحالة غير مكلف قطعا كما يحصل ذلك للمريض فيزيل تكليفه حال الاغماء حتى ان بعض الفقهاء لا يوجب عليه قضاء الصلاة في هذه الحالة الحاقا بالمجنون
كما يقوله الشافعي واحمد يوجب عليه القضاء الحاقا له بالنائم
وابو حنيفة يفرق بين الطويل والزائد على اليوم والليلة فيحلفه بالمجنون وبين القصير الذي هو دون ذلك فيلحقه بالنوم
وقد ينكر كثير من الناس ان الغضب يزيل العقل ويبلغ بصاحبه الى هذه الحالة فإنه لا يعرف من الغضب الا ما يجد من نفسه وهو لم يعلم غضبا انتهى الى هذه الحالة وهذا غلط فان الناس متفاوتون في الغضب تفاوتا عظيما فمنه ما هو كالنشوة ومنه ما هو كالسكر ومنه ماهو كالجنون ومنه ما هو سريع الحصول سريع الزوال وعكسه ومنه سريع الحصول بطئ الزوال وعكسه
كما قسمه النبي الى هذه الاقسام
وقوى الناس متفاوته تفاوتا عظيما في ملك تقواهم عند الغضب والطمع والحزن والخوف والشهوة فمنهم من يملك ذلك ويتصرف فيه ومنهم من يملكه ذلك ويتصرف فيه
الوجه الخامس عشر ان الغضبان الذي قد انغلق عليه القصد والراي وقد صار الى الجنون والعارض اقرب منه الى العقل الثابت اولى بعدم وقوع طلاقه من الهازل المتلفظ بالطلاق في حال عقله وان لم يرده بقلبه وقد الغي طلاق الهازل بعض الفقهاء
وهو احدى الروايتين عن الامام احمد حكاها ابو بكر عبد العزيز وغيره وبه يقول بعض اصحاب مالك اذا قام دليل الهزل فلم يلزمه عتق ولا نكاح ولا طلاق
ولا ريب ان الغضبان اولى بعدم وقوع طلاقه من هذا
الوجه السادس عشر ان جماعة من اصحابنا لم يشترطوا في الجنون والمبرسم ان لا يكون ذاكرا لطلاقه
وان كان ظاهرنص احمد انه متى ذكر الطلاق لزمه فانه قال في رواية ابي طالب في المجنون يطلق فقيل له لما افاق انك طلقت امراتك فقال انا ذاكر اني طلقت ولم يكن عقلي معي فقال اذا كان يذكر انه طلق فقد طلقت . قال ابو محمد المقدسي وهذا هو المنقول عن الامام احمد فيمن كان جنونه لذهاب معرفته بالكلية وبطلان حواسه فأما من كان جنونه لنشاف اوكان مبرسما فإن ذلك يسقط حكم تصرفه مع ان معرفته غير ذاهبة بالكلية فلا يضره ذكر الطلاق ان شاء الله انتهى كلامه
معلوم ان الغضبان الممتلىء اسوا حالا ممن جنونه من نشاف او برسام واقل احواله ان يكون مثله
يوضحه الوجه السابع عشر وهو ان الموسوس لا يقع طلاقه
صرح به اصحاب ابو حنيفة وغيرهم
وما ذاك الا عدم صحة العقل والارادة منه فهكذا هذا
الوجه الثامن عشر : انه لم يقل احد ان مجرد التكلم بلفظ الطلاق موجب لوقوعه على أي حال كان بل لابد من امر اخر وراء التكلم باللفظ وطائفة اشترطت ان ياتي به في حال التكليف فقط سواء قصده او جرى على لسانه من غير سواء اكره عليه او اتى به اختيارا وهذا مذهب من يوقع طلاق المكره والطلاق الذي يجري على لسان العبد من غير قصد منه
وهو المنصوص عن ابي حنيفة في الموضعين
وطائفة اشترطت مع ذلك ان ياتي باللفظ مختار قاصدا له وهو قول الجمهور الذين لا ينفدون طلاق المكره
ثم منهم من اشترط مع ذلك ان يكون عالما بمعناه فان تكلم به اختيارا غير عارف بمعناه لم يلزمه حكمه وهذا قول من يقول لا يلزم المكلف احكام الاقوال حتى يكون عارفا بمدلولها وهذا هو الصواب
ومنهم : من اشترط مع ذلك ان يكون مريدا لمعناه ناويا له فان لم ينو معناه ولم يرده لم يلزمه حكمه وهذا قول من يقول : لا يلزم لصريح الطلاق النية وقول من لا يوقع الطلاق الهازل
وهو قول في مذهب الامام احمد ومالك في المسالتين فيشترط هؤلاء الرضا بالنطق اللساني والعلم بمعناه وارادة مقتضاه
ومنهم : من يشترط مع ذلك كون الطلاق مأوذنا فيه من جهة الشارع و هو قول من لا يوقع الطلاق المحرم وهو قول طائفة من السلف من الصحابة والتابعين و من بعدهم
وقال عمر بن عبدالسلام الخشني : حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبدالوهاب بن عبد المجيد الثقفي حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر انه قال : في الرجل يطلق امراته وهي حائض لا يعتد بذلك وحسبك بهذا الاسناد اذا صح
رواه محمد بن حزم قال : حدثنا يوسف بن عبدالله قال : حدثنا احمد بن عبدالله بن عبد الرحيم قال : حدثنا احمد بن خالد قال : حدثنا محمد بن عبدالسلام فذكره
وهذا مذهب افقه التابعين على الاطلاق سعيد بن المسيب حكاه عنه الثعلبي في تفسير سورة الطلاق
وهو مذهب افقه التابعين من اصحاب ابن عباس وهو طاوس قال عبدالرزاق عن جريج عن عبدالله بن طاووس عن ابيه : انه كان لا يرى طلاقا مما خالف وجه الطلاق ووجه العدة وكان يقول : وجه الطلاق يطلقها طاهرا من غير جماع واذا استبان حملها
وهذا مذهب خلاس بن عمرو قال ابن خزم : حدثنا محمد بن سعيد بن ساث قال : حدثنا عباس بن اصبع قال : حدثنا محمد بن قاسم بن محمد قال : حدثنا محمد بن عبدالسلام الخشني قال : حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا عبدالرحمن من مهدي قال : حدثنا هشام بن يحيى عن قتادة عن خلاس بن عمرو انه قال : في الرجل يطلق امراته وهي حائض فقال : لا يعتد بها
وهذا قول ابي قلابة قال ابن ابي شيبة : حدثنا عبدالرزاق عن معمر عن ابي قلابة قال : اذا طلق الرجل امراته وهي حائض فلا يعتد بها
وهذا اختيار ابن عقيل في كتابه الواضح في اصول الفقه صرح به في مسالة النهي يقتضي الفساد
وهو اختيار شيخ الاسلام ابن تيمية
وهو احد الوجهين في مذهب احمد
وقال ابو جعفر الباقر لا طلاق الا على بينة ولا طلاق الا على طهر من غير جماع وكل طلاق في غضب او يمين او عتق فليس بطلاق الا لمن اراد الطلاق والمقصود ان هؤلاء يشترطون في وقوع الطلاق اذن الشارع فيه ومالم يأذن فيه الشارع فهو عندهم لاغ غير نافذ
قال شيخ الاسلام وقولهم اصح في الدليل من قول من يوقع الطلاق الذي لم يأذن فيه الله وسوله ويراه صحيحا لازما
والمقصود ان احدا لم يقل ان مجرد التكلم بالطلاق موجب لترتب اثره على أي وجه كان
الوجه التاسع عشر ان هذا مقتضى نص احمد كما تقدم تفسيره الاغلاق في رواية حنبل بالغضب
وقال عبد الله ابنه في مسائلة سالت ابي عن المجنون اذا طلق في وقت زولان عقله . . . . ايجوز ؟ قال ابي : كل من كان صحيح العقل فزال عقله عن صحته فطلق فليس طلاقه بشىء
فهذا عموم كلامه وذاك خاصة فقد جعل تغير العقل عن صحته مانعا من وقوع الطلاق ولا ريب ان اغلاق الغضب بغير العقل عن صحته
الوجه العشرون : ان الفقهاء اختلفوا في صحة حكم الحاكم في الغضب على ثلاثة اقوال : وهي ثلاثة اوجه في مذهب احمد : احدها : لا يصح و لا ينفذ لان النهي يقتضي الفساد والثاني : ينفذ والثالث : ان عرض له الغضب بعد فهم الحكم نفذ حكمه وان عرض له قبل ذلك لم ينفذ
فان الحاكم يجب ان يكون عالما عدلا فمن نفذ حكمه قال : الغضب لايمنع العلم والعدل
فقد حكم النبي للزبير في شراج الحرة وهو غضبان
ومن لم ينفذ حكمه قال الغضب يمنعه كمال المقصود وحسن القصد فيمنعه العلم والعدل ولا يصح القياس على النبي فانه معصوم في غضبه ورضاه فكان اذا غضب لم يقل الا حقا كما كان في رضاه كذلك ومن فرق قال اذا علم الحق قبل الغضب لم يمنعه الغضب من العلم و حينئذ فيمكنه ان ينفذ الحق الذي علمه واذا غضب قبل الفهم لم ينفذ حكمه لامكان ان يحول الغضب بينه وبين الفهم وهؤلاء يحتجون بقضية الزبير وان النبي انما عرض له الغضب بعد فهم الحكومة والمقصود ان الغضب اذا اثر عند هؤلاء في بطلان الحكم علم ان كلام الغضبان غير كلام الراضي المختار وان للغضب تاثيرا في ذلك
الوجه الحادي والعشرون ان وقع الطلاق حكم شرعي فيستدعي دليلا شرعيا والدليل اما كتاب او سنة او اجماع او قياس يستوي فيه حكم الاصل والفرع وليس شىء منها موجودا في مسالتنا واذا شئت قلت الدليل اما نص او معقول نص وكلاهما منتف وان شئت قلت لو ثبت الوقوع لزم وجود دليله واللازم منتف فالملزوم مثله
والوجه الثاني والعشرون ان نكاح هذا مثبت بإجماع فلا يزول الا بالاجماع مثله وان شئت قلت : نكاحه قبل صدور هذا اللفظ منه ثابت بالاجماع والاصل بقاؤه حتى يثبت ما يرفعه
الوجه الثالث والعشرون : ان جمهور العلماء يقولون ان طلاق الصبي المميز العاقل لا ينفذ ولا يصح
هذا قول ابي حنيفة ومالك والشافعي واحدى الروايتين عن الامام احمد اختارها الشيخ ابو محمد وهو قول اسحق مع كونه عارفا باللفظ وموجبه بكلماته اختيارا وقصدا وله قصد صحيح وارادة صحيحة وقد امر الله سبحانه بابتلائه واختياره في تصرفاته
وقد نفذ صبر عمر به الخطاب وصيته
واعتبر النبي قصده واختياره في التخيير بين ابويه
فالغضبان الشديد الغضب الذي قد اغلق عليه باب القصد والعلم اولى بعدم وقوع طلاقه من هذا بلا ريب
فان قيل الغضبان مكلف وهذا غير مكلف لان القلم مرفوع عنه
قيل نعم الامر كذلك ولكن لا يلزم من كونه مكلفا ان يترتب الحكم على مجرد لفظة كما تقدم كيف والمكره مكلف ولا يصح طلاقه والسكران مكلف والمريض مكلف ولا يلزم من كون العبد مكلفا ان لا يعرض له حال يمنع اعتبار اقواله ونقص افعاله
الوجه الرابع والعشرون : ان غاية التلفظ بالطلاق ان يكون جزء سبب والحكم لا يتم الا بعد وجود سببه وانتفاء ما نعه وليس مجرد التلفظ سببا تاما باتفاق الائمة كما تقدم وحينئذ فالقصد والعلم والتكليف اما ان تكون بقيةاجزاء الكسب او تكون شروطا في اقتضائه او يكون عدمها مانعا من تاثيره وعلى التقادير الثلاثة فلا يؤثر التكلم بالطلاق بدونها وليس مع من اوقع طلاق الغضبان والسكران والمكره ومن جرى على لسانه بغير قصد منه الا مجرد السبب او جزؤه بدون شرطه وانتفاء مانعه وذلك غير كاف في ثبوت الحكم والله اعلم
الوجه الخامس والعشرون انه لو سبق لسانه بالطلاق و لم يرده دين فيما بينه وبين الله تعالى
ويقبل منه ذلك في الحكم في احدى الروايتين عن احمد الا ان تكذبه قرينه والرواية الاخرى يدين ولا يقبل في الحكم
وكذلك قال أصحاب الشافعي اذا سبق الطلاق الى لسانه بغير قصد فهو لغو ولكن لا تقبل دعوى سبق اللسان الا اذا ظهرت قرينة تدل عليه فقبلوا منه في الباطن دون الحكم الا بقرينة
وكذلك قال اصحاب مالك : من سبق لسانه الى الطلاق لم يقع عليه الطلاق قالوا : ويقبل في الفتوى
وابو حنيفة لا يرى سبق اللسان مانعا من وقوع الطلاق وعنه في سبق اللسان في العتق روايتان وقرر اصحابه بان المراة تملك بضعها لسبب يستوي فيه القصد وعدم القصد كالسكران والمكره والهازل وكالرضاع بالاتفاق فزوال البضع لا يختلف في سببه القصد وعدم القصد بخلاف العتق فان السبب الذي يملك به نفسه يختلف فيه القصد وعدمه وروى ابو يوسف عن ابي حنيفة التسوية بينهما ثم اختلف اصحابه فقالت طائفة هما سواء في الوقوع وقالت طائفة بل هما سواء في عدم الوقوع
والمقصود ان سبق اللسان الى الطلاق من غير قصد له مانع من وقوعه عند الجمهور
والغضبان اذا علم من نفسه ان لسانه سبقه بالطلاق من غير قصد جاز له الاقامة على نكاحه ويدين في الفتوى واما قبوله في الحكم فيخرج على الخلاف والاظهر انه ان قامت قرينة ظاهرة تدل على صحة قوله قبل في الحكم والغضب الشديد من اقوى القرائن ولا سيما فان كثيرا ممن يطلق في شدة الغضب يحلف بالله جهد يمينه انه لم يقصد الطلاق وانما سبق لسانه وحينئذ فالجمهور لا يوقعون عليه الطلاق كما صرح به اصحاب احمد والشافعي ومالك
وفي قوله في القضاء ثلاثة اقوال اصحها انه ان قامت قرينة ظاهرة على صحة قوله قبل والا فلا
● [ فصل ] ●وما يبين أن الغضبان قد يتكلم في الغضب بما لا يريده
ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله
يقول سمعت رسول الله يقول إنما أنا بشر وإني اشترطت على ربي عز و جل أي عبد من المسلمين شتمته أبو سببته أن يكون ذلك له زكاة وأجرا
وفي مسند الامام احمد من حديث مسروق عن عائشة قالت : دخل على النبي رجلان فاغلظ لهما وسبهما قالت فقلت : يارسول الله لمن اصاب منك خير ما اصاب هذان منك خير قالت فقال او ما علمت ما عاهدت عليه ربي عز و جل قلت ايما مؤمن سببته او جلدته او لعنته فاجعلهما له مغفرة وعافية
وفي الصحيحين من حديث ابي هريرة انه سمع النبي يقول اللهم ايما عبد مؤمن سببته فاجعل ذلك قربة اليك يوم القيامة
وفي بعض الفاظ الحديث انما انا بشر ارضى كما يرضى البشر واغضب كما يغضب البشر فايما مؤمن سببته او لعنته فاجعلها له زكاة
فلو كان النبي مريدا لما دعا به في الغضب لما شرط على ربه وساله ان يفعل بالمدعو عليه ضد ذلك اذ من الممتنع اجتماع ارادة الضدين وقد صرح بارادة احدهما مشترطا على ربه فدل على عموم ارادته لما دعا به في الحال الغضب هذا وهو النبي معصوم الغضب كما هو معصوم الرضا وهو مالك لفظه بتصرفه فكيف بمن لم يعصمه في غضبه وتمليكه ويتصرف فيه غضبه ويتلاعب الشيطان به فيه واذا كان الغضبان يتكلم بما لا يريده ولا يريد مضمونه فهو بمنزلة المكره الذي يلجا الى الكلام او يتكلم به باختياره ولا يريد مضمونه والله اعلم
فان قيل : ما ذكر ثم معارض بما يدل على وقوع الطلاق فان الغضبان اتى بالسبب اختيارا واراد في حال الغضب ترتب اثره عليه ولا يضر عدم ارادته له في حال رضاه اذ الاعتبار بالارادة انما هو التلفظ بخلاف المكره فانه محمول على التكلم بالسبب غير مريد لترتب اثره عليه وبخلاف السكران المغلوب عقله فإنه غير مكلف والغضبان مكلف مختار فلا وجه لالغاء كلامه
فالجواب : ان يقال ان اريد بالاختيار رضاه به وايثاره له فليس بمختار وان اردتم انه يوقع بمشيئته وارادته التي هو غير راض بها ولا باثرها فهذا بمجرده لا يوجب ترتب الاثر فان هذا الاختيار ثابت للمكره والسكران فانا لا نشترط في السكران ان لا يفرق بين الارض والسماء بل المشترط في عدم ترتب اثر اقواله انه يهذي ويخلط في كلامه وكذلك المحموم والمريض وابلغ من هذا الصبي المراهق للبلوغ اذ هو من اهل الارادة والقصد الصحيح ثم لم يترتب على كلامه اثره وكذلك من سبق لسانه بالطلاق ولم يرده فانه لا يقع طلاقه وقد اتى باللفظ في حال الاختيار غير سكره ولكن لم يقصده والغضبان وان قصده فلا حكم لقصده في حال الغضب لما تقدم من الادلة الدالة على ذلك وقد صرح اصحابنا بان من كان جنونه لنشاف او برسام لا يقع طلاقه ويسقط حكم تصرفه ان كانت معرفته غير ذاهبة بالكلية ولا يضره ان يذكر الطلاق وانه اوقعه وما ذكرناه من دعاء النبي ربه ان يجعل سبه لمن سبه في حال غضبه صريح في انه مريد له اذ لو اراده واختار لم يسأل ربه ان يفعل بالمدعو عليه ضد ما دعا به عليه اذ لا يتصور ارادة ضدين في حالة واحدة وهذا وحده كاف في المسالة
فهذا ما ظهر في هذه المسألة بعد طول التأمل والفكر ونحن من وراء ا لقبول والشكر لمن رد ذلك بحجة يجب المصير اليها ومن وراء الرد على من رد ذلك بالهوى والعناد
والله المستعان وعليه التكلان وصلى الله على سيد المرسلين وخاتم النبيين وعلى اله وأصحابه وعترته وانصاره صلاة دائمة بدوام ملك الله عز و جل تم نسخها على يد حامد بن اديب التقي لقبا الاثري مذهبا في اواخر رمضان سنة 1327
● [ تم مُختصر كتاب ] ●
اغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان
تأليف : محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية
اغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان
تأليف : محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية